ص ش: هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟
م ج: بصراحة شديدة، أرى أن الأزمة في هذا السؤال بالذات، والذي يقبل ضمنا بأن صراع هويات جوهرى هو أس "البلاوي" السودانية، الأمر الذي يفارق تاريخنا الحي، ويسجن العباد والبلاد رهن تصورات آيديلوجية للهوية تجعل من مكونات البلاد الثقافية معسكرات للحرب. هذه التصورات صناعة متعلمة يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها في الأدب السياسي بغرض توفير مشروعية ثقافية لمشاريع سلطوية بالأساس، وتجد غذاءا لها التوتر الساكن ولا بد في تجاور مكونات ثقافية متعددة في جغرافية مشتركة ذات موارد متنافس عليها. إن الخلاصة المنطقية من تصور للأزمة السياسية قائم على الهوية هو القول بحرب الثقافات، بعضها شر والآخر خير، الأمر الذي لا مخرج منه سوى انتصار واحدة وهزيمة أخريات.
الأمر الأهم، والذي يود الصراخ حول الهوية أن يخفيه هو المفتاح المهمل للمعضلة السودانية – أي الاقتصاد السياسي لهذه الدولة وكيف تشكلت مكوناتها ومراكز قوتها وضعفها عبر التاريخ، لا سيما صدمتها والاستعمار وتبعات ذلك، ثم بالضرورة تبعات الاندماج في الرأسمالية المتأخرة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. من الطريف أن تجري مقارنة بين الأدب السياسي للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية والحركات المسلحة في دارفور، فستجد تباعدا في كل الأبواب سوى الاقتصاد، إذ ثمة إجماع على قبول حاكمية رأس المال. بالفعل، "هو الاقتصاد يا بليد"، كما يقول الأمريكان. لربما كان هذا الاتفاق على رأس المال هو سبب الأزمة!
الهوية على الدوام غير مكتملة وناقصة ومبتسرة. أنا أجد صعوبة شديدة في الاكتفاء بالثقافة العربية الإسلامية فلا بد لي على الدوام من تجاوزها والقفز فوقها، من محاربة علاقات الاضطهاد في داخلها، ومن لجم محدوديتها والاستنصار باللحظات الكونية فيها، الاستنصار بما فيها من استنارة ضد ما فيها من عنصرية، بلحظات الحرية فيها ضد التكبيل والقهر الملازم لعلاقات ومشاريع السلطة التي نشأت بداخلها. لكن بنفس القدر لا يمكن التسامح مع ما في ثقافة الدينكا، على سبيل المثال، من اضطهاد للمرأة أو من عنصرية أو رجعية اجتماعية بدعوى "التسامح الثقافي". ما أدعو إليه ليس اجتماع الثقافات كما نشهدها على صحن التسامح اللبيرالي وتشابك ممثليها فذلك يعني الاستسلام لسلطة كل ثقافة والقبول بها دون سؤال أو احتجاج، رجعية لا تغتفر، وإنما اجتماع الصراعات المشتركة داخل كل ثقافة بما يجمع بين المضطهدين على اختلاف هوياتهم المحتفى بها إذ لم تسعفهم في مواجهة مظالم حية. إن خط الصراع التحرري هو الذي يجمع المضطهدين والمستغلين عبر الثقافات المتباينة، الأجزاء التي لا مكان لها في كل ثقافة. ظني أن ما يجمع بين مطلقة فقيرة تبحث عن رزق أطفالها، في قرية في الجزيرة على سبيل المثال، في وجه عصبة من رجال يرعون تقاليد اجتماعية ثقيلة القيد وبين امرأة دينكاوية معدمة يتم تزويجها قسرا بسلطة الأعراف الأهلية تلقاء ريع يعود على عائليها هو أشد وأكبر مما يفرقهما بدعوى "الهوية". كذلك الذي يجمع بين راعي بقر من النوير سلب مرعاه لصالح شركة نفطية وبين فلاحي المناصير الذين فقدوا أراضيهم هو أثقل في ميزان التضامن من فروقات اللون والعرق والعنصر. إذن، المهمة ليست البحث عما يجمع الهويات المتباينة كوحدات ساكنة لا تاريخية وإنما كسر قدسية الهوية هذه بآلة التاريخ والاقتصاد السياسي ونسج ما يجمع بين الصراعات داخل كل وحدة ثقافية، هذا هو أفق التحرير. بهذا الأفق أدافع عن ديكتاتورية البروليتاريا وعنفها. دولة هؤلاء لا تتأسس بملكية النخب المتعلمة!
واقع الحال أن الإنتاج الرأسمالي لا هوية ولا حضارة له ولا ثقافة فهو مكتف بآلة السوق يعمل سنانه في كل هوية أو ثقافة ويحيلها إلى مادة للريع دون وجل، كانت تلك الإسلام أم الكونفوشوسية أم الافريقانية. لتقريب هذه الدعوى تأمل كيف افترق الشريكان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، في كل شئ ما عدا اتفاقهما السلس على اتصال استخراج البترول دون اعتبار لمصالح السكان الذين أهدرت الصناعة البترولية حقوقهم في الأرض والمعاش. في هذه الحالة لم تجد الهوية، نوير أم دينكا أم عرب مسيرية، الاهتمام المزعوم. بل يتصل التنازع على أبيى حتى مستوى محكمة العدل الدولية دون إشارة لوسيلة التشاور الشعبي التي انطمرت في أتون صراع هذين الفيلين، ولا شك أن معرفة المجتمعات المحلية بصراعهم وتفاهمهم وحدود مساكنهم ومراعيهم أفضل من المحكمين من بيروقراطيي الحكومة ناقصة اللوح أو الدارسين الأجانب ووارثيهم من الأفندية المحليين الذين ينظرون إلى هذه البقاع بعين الأنثروبولوجيا الاستعمارية. من وجهة النظر هذه طريف أن تنزل الصين منزلة حسنة في الخرطوم وفي جوبا كذلك، وتجد شركات البترول مقاعد متسعة في مؤتمر واشنطن بينما لا مكان لأصحاب الشأن. إن رعاية الثقافات السودانية مهمة نبيلة وضاغطة آلتها البحث العلمي النقدي والتدريس والتدوين، أما ما يجرى الآن بدعوى الثقافة والهوية، وأول ذلك مشروع الإسلاميين، فهو عين "الوعي الكاذب"، تدليس وتلبيس.
ص ش: كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟
ص ش: كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟
م ج: لا أفهم ما تعنيه بالاشكال المجتمعي السوداني التاريخي. أرى أن مصطلحات كهذه أقرب إلى "الشكوى" من الأحوال منه إلى فهمها، وهي عرض لاستكانة مرضية أدخلتنا فيها سنين الانقاذ المتطاولة، نرى فيها أنفسنا ضحايا عاجزين عن التحكم في مصائرنا أمام قوى أسطورية لا قبل لنا بها تكبر كل يوم في أذهاننا بينما تخور قوانا، اختصار هذه القوى آلة السوق. بالضرورة لا بد من القراءة، لكني أظنها القراءة في معنى المذاكرة والدرس طلبا للفهم بما يعيننا على التفوق على الهويات المستأسدة ولجم آيديلوجياتها، أول الأمر بشرح الاقتصاد السياسي وتنويره. السودان اليوم كمدخل الحوادث في المستشفى، كل شئ يدعو إلى العجلة. لكن، إن قال لك طبيب في الحوادث أنا لست متأكدا من التشخيص لكن على كل حال سأقوم بجراحة مستعجلة فلن تقبل بتدخله مهما كانت شدة آلامك. ظني أن السودان اليوم ملئ بجراحين مستعجلين، من بنيه ومن المتطفلين، لكن لا علم لهم بتشخيص مريضهم ولا بأي علاج يريدون له يزحمون جسده بالمسكنات ويقترحون جراحات لا يهتمون بتبعاتها. أما التفاؤل فضرورة معيشية في السودان، كل يوم أتفاءل أن تعود الموية المقطوعة.
ص ش: ما هي تصوراتكم لحل أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم؟
م ج: في تراث اليسار هنالك عبارة "حل سلمي ديموقراطي" أستنجد بها للرد على هذا السؤال الصعب. لا أملك خارطة طريق، لكن ظني أن الصراع في دارفور ليس صراعا واحدا. هنالك مستوى حرب أهلية بين الأبالة والفور يعود تاريخها القريب إلى نهاية الثمانينات، وتدور بالدرجة الأولى حول حقوق الأرض تبعا لتدهور بيئي منهك وسياسات دولة ريعية، بالإضافة على عوامل جيوسياسية تختص بالصراع بين ليبيا وتشاد في محتوى الحرب الباردة. المدخل الديموقراطي لهذا المستوى من الصراع يختص بإصلاح علاقات الأرض في دارفور على أساس المواطنة، الأمر الذي لن يتم دون تفاوض الأطراف المعنية مباشرة من فور وأبالة. ولقد قدمت جولة لجنة الحكماء الأفارقة الأخيرة في الاقليم برئاسة ثابو امبيكي الدليل على أهمية وواقعية هذه المقاربة. جدير بالذكر أن صراع الأرض في دارفور قد امتد ليفتح جبهات قتال أهلي خارج محور الفور والأبالة، وذلك بين مجموعات البقارة المختلفة جنوب الاقليم. من ثم أصبح التصور العرقي للصراع – عرب وزرقة – صرخة حرب لا تعين على فهم الموضوع. والدلائل تشير إلى أن قضية الصراع هي بالأساس نظم الأرض الموروثة في الاقليم وطرفاه بهذا الفهم القبائل ذات الدار من جهة والقبائل التي لا دار لها من أخرى. من هنا تنبع أهمية ما أصطلحت عليه الحركة السياسية بالحوار الدارفوري الدارفوري.
المستوى الثاني هو الصراع المسلح بين الحكومة المركزية وبين الحركات المسلحة، الأولى جندت لصالح حملتها العسكرية مقاتلين من القبائل غير ذات الدار، بالدرجة الأولى الرزيقات الأبالة وحلفائهم من تشاد والساحل، والثانية ساهمت بالترويج أن تصبح دارفور موضوعا للسياسة المحلية في الولايات المتحدة الأميركية والعواصم الأوروبية. هذا الصراع يتغذى من الحرب الأهلية في دارفور، لكنه كذلك يطرح قضايا هي في صلب مسألة البناء الوطني وتخص ديموقراطية توزيع وإدارة الثروة القومية والمشاركة في السلطة المركزية. لا أتصور امكانية حل مستدام لمستوى من الصراع دون الآخر والدليل على ذلك مآل اتفاقية أبوجا.
ص ش: هل ترى أي غياب في القيادة السياسية الوطنية المجمع عليها والقادرة على وضع التصورات الفكرية لما ينبغي أن يكون عليه واقع الدولة السودانية؟
م ج: ليس بالضرورة، إذا فهمت السؤال لا أظننا في حاجة إلى ديكتاتور حكيم آخر يضع التصورات الفكرية أو ما شابه. حوجتنا ليست خلق الإجماع وإنما تجويد الصراع وإحسانه وتفكيك سيطرة العسكر على الدولة وفضح زيف الحلول العسكرية. ما نحتاج إليه هو إعادة اكتشاف السياسة المدنية واعادة الاعتبار لقوى الجمهور وقضاياه. الشاهد أن السياسة السودانية قد تدهورت إلى سياسة صالونية، وهو مآل ناجم عن العجز عن تثوير القضايا الحية للجماهير سوى باسم الهويات. مقابل ذلك أن يكون هدف العمل السياسي تمليك الناس قضاياهم وشحذ قواهم عبر التنظيم الفعال. ليس من المهم أن نتوحد تحت قيادة واحدة، فهذا من ضلال فكر الحزب الواحد والتصور الأخروي لمخلص فرد ملهم، لكن المهم اكتشاف ما يجمع الصراعات الجزئية ويبعث خيال سياسي يعيد الثقة في قدرة الجماهير على صناعة المستقبل. القيادة لا تسقط على الجماهير من السماء بل تتشكل وتكتسب مشروعيتها من داخل حركة هذه الجماهير. لن نعدم القيادة إذا استوى خط الصراع.
ص ش: الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل السياسي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟
م ج: بطبيعة الحال، أنا لا أميل إلى التشاؤم المستسلم ولا إلى جلد الذات، بل أؤمن أن بمقدور الحركة السياسية أن تستعيد عافيتها من خلال الصراع السياسي وبأدواته، والأحزاب نفسها ليست كما ساكنا لا يأتيه التاريخ. إن التغييرات الطبقية التي تعصف بالسودان تملي على الأحزاب نفسها تغييرات في الفكر والقيادة، إن عجزت عنها انطمرت. مثال ذلك أن في قيادة حزب الأمة يوم سيدات من نساء الأنصار يفرضن بوجودهن تحولات معتبرة في رؤى حزب الأمة تجعله أقرب إلى اليسار الليبرالي منه إلى اليمين الديني، بل لم يعد بالضرورة يمثل رأس المال شبه الاقطاعي، إذ انسحبت البرجوازية السودانية منه إلى المؤتمر الوطني وتدهورت الأسس الاقتصادية التي كانت تقوم عليها سيطرته شبه الكلية على الريف وأصبح لزاما عليه أن يعلي نداء العدالة الاجتماعية وهو يقترب مرة أخرى من قواعده الموروثة. بل لا بد من الإقرار أن السيد الصادق المهدي بجهاده في شريعة الأنصار يريد بطريقة أو أخرى أن يقترب من قضايا اجتماعية تخص غمار الناس لا أسيادهم، وقد وقد جاءت هذه الانتباهة إلى قضايا "التعمير" بدفع التحول الحادث في الاقتصاد السياسي للبلاد، ولورثة حزب الأمة. ولعل في اجتهاد السيد الصادق لمح تحرري خاصة في شأن مستضعفين قدامى من النساء وغير المسلمين، لمح أهم ما فيه أنه يأتي من قلب كتلة طالما حسبها المثقفون قلعة رجعية.
ص ش: الإستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما يخص وحدة السودان، وإذا قدر للجنوب الإنفصال هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟
م ج: انفصال جنوب السودان هو المناقض الموضوعي لفكرة السودان الجديد، فالانفصال حل يقضي باستحالة الحل. لا خيال سياسي في القبول بالانفصال كملجأ من الأزمة الوطنية، إنما هزيمة أمام المنطق القائد للسودان ابن الاستعمار، أو قل انتصار هارولد ماكمايكل على جوزيف قرنق. في التحولات التي طرأت على قضية الجنوب، خاصة بعد حملات التسعينات المتتالية وما ترافق معها من خطاب سياسي للطرفين المتحاربين، بما في لك مسألة تجديد الرق، أصبح من غير المقبول سياسيا التنويه إلى خطة الاستعمار في المنطقة ومساعي الامبريالية ومخالبها، وهو باب ما استوفاه البحث بعد ولا وجد ما يكفيه من تدقيق ونظر. التفكير السليم في واقعة الاستعمار وما نجم عنها ملغوم بالنزاع السياسي الراهن، الجبهة الإسلامية جعلت من مقولة الاستعمار تكأة لتصوير كل مواجهة مع دولتها رجس من عمل شيطان أجنبي، والحركة الشعبية تطهرت من خيال "اشتراكي" و"تحرري" جعلها هدفا للغضب الامبريالي خلال عهد النميري، حيث وقفت الولايات المتحدة موقفا معارضا لجهاد الحركة الشعبية وفضلت عليها حليفها في السلطة. بانهيار الاتحاد السوفييتي تغيرت قواعد اللعبة واقتربت الحركة من "البنج" في واشنطن. اليوم يبدو أن تحولا دوليا جديدا يجعل من الحركة الشعبية الشريك السوداني الأصغر لواشنطن التي تغازل المؤتمر وطني علنا بعد زواج متعة امتد منذ ضربة مصنع الشفاء "التأديبية" التي حملت اسم اليد الطولى غير المتناهية (Operation Infinite Reach) عام 1998، وتجدد واستقر خلال حرب الرئيس بوش الإبن ضد الإرهاب بعيد واقعة 11 سبتمبر 2001.
لا يمكن النظر إلى قضية الاستفتاء باعتبارها تمرين في عد الأسواط، وشاهد ذلك الأقرب الصراع الدائر الآن بين طرفي اتفاقية السلام الشامل حول القانون الحاكم للاستفتاء، أيشارك فيه الجنوبيون الذين يقطنون شمال السودان أم لا؟ ونتيجته أرهن بالأغلبية البسيطة 50% زائدا واحد أم 75% زائدا واحد؟ ما نشهد طفح من بطن السياسة الغريق، فالصراع حول الاستفتاء يدور أغلبه في واشنطن، ونتيجته، باستمرار المحددات السياسية الراهنة، تحددها الخلاصة التي تصل إليها الإدارة الأميركية بفراغها من مراجعة سياستها نحو السودان. بل يمكن القول أن الاستفتاء حول مستقبل السودان في هذا "الدرداق" من تاريخنا ما بعد الاستعمار تمرين غير وطني. هذا لا يعني الطعن في حق تقرير المصير لجنوب السودان، لكن كما يشهد الصراع حول قانون الاستفتاء، مصير من، ولصالح من؟ إجابة هذا السؤال عند باقان أموم على الأقل، مصير دولة الحركة الشعبية في جنوب السودان ولصالح قيادتها السياسية وحلفها الدولي، المالي منه والسياسي وكذلك "الإنساني"، منظمات طوعية ودوائر أكاديمية وشبه ذلك.
ص ش: هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الإثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟
م ج: التيارات والأفكار الجهوية والإثنية وليدة تناقض في الاقتصاد السياسي للدولة السودانية، فهي بالأساس تعكس مطالب القوميات والمناطق غير ذات الحظوة في الاندماج ضمن مركز السلطة السياسية والاقتصادية وتطرح شروطا لهذا الاندماج. ما لا يجد اعتبارا كثيفا في مساعيها هو أن الشرخ بين مركز وهامش نتاج لاقتصاد سياسي لا يعنيها درسه أو تبديله، فهي بعبارة عهد تحررنا الوطني مشغولة بالتحرير لا التعمير. دليل ذلك ما ألم بحركات دارفور من تفرق وشتات رغم الهدف المشترك، سطح هذا التشتت التنازع القبلي، وهي مقولة فاسدة واستعمارية الظل حين توصف بها صراعات حول مكاسب الحداثة وأولها الدولة، وعمقه آلة الاقتصاد السياسي التي تقسم حين تدمج. فالمؤتمر الوطني نجح بمكاسب الإدماج في دولته أن يفرق من جمعهم السلاح والنضال المشترك، البعض يرى في هذا الدمج السريع منتهى نضاله السياسي والآخر ينتظر ربما كسبا أكبر. ولعل في وقائع مفاوضات أبوجا ومنتهاها بجذب مني أركو مناوي وطرد عبد الواحد درس لمن يريد تقصي هذا الديالكتيك.
ص ش: فكر الاحزاب والتنظيمات السياسية: هل يتحمل نتيجة الفشل السياسي، أم أن قواعد هذه الاحزاب تتحمل أسباب ضمور هذه الأحزاب ما أدى إلى فشل قياداتها؟
م ج: الفكر وتدابيره ليس شأنا ابداعيا فرديا، بل هو وحدة ديالكتيكية ووقائع الصراع المادية، لذا لا يمكن الفصل صوريا بين الفكر وبين الحوادث السياسية والاجتماعية. الأرشد وأنت تتحدث عن الأحزاب أن تنظر إلى التركيب الاجتماعي وتحولاته. من هذا المدخل ربما يمكن النظر إلى التحول في المصالح والمقاصد الدافعة للأحزاب السياسية، ومن ثم الحكم عليها بالفشل أو الفلاح في تحقيق أهداف المجموعات المكونة والداعمة لها. أرى أن الحكم "البطانية" بفشل الأحزاب السياسية وفشل قياداتها مخرج سهل – يعجب المثقفين – لكنه لا يفيد كثير في الفهم، فهم بلادنا وما يحدث فيها.
ص ش: أيهم أقوى تاريخيا في تجربة دولة ما بعد الاستقلال: صراع الهوامش الجغرافية مع الدولة المركزية، أم صراع الآيدلوجيا والدولة؟
م ج: كأنك في سؤالك تعفي حركات "الهامش" من شبهة الآيديولوجيا، وتعفي كذلك الدولة "الديموقراطية" من شبهة الآيديولوجيا، ما لا أوافقك فيه. لذا الجواب على سؤالك، نعم بالتأكيد.
ص ش: المثقف سوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟
ص ش: المثقف سوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟
م ج: لا أفهم من تعني بالمثقف السوداني، فهم كثير متعدد. في تراث اليسار احتفال بالمثقف الثوري صاحب الالتزام العضوي بمصالح غمار الناس. هؤلاء سابقون ولاحقون قوم علينا التزام جانبهم والتعلم منهم، من نجاحاتهم ومن كبواتهم، سنوا سننا حميدة واجبة الاتباع، وأخطأوا أخطاءا تليق بالكبار فيها دروس وعبر واجبة التأمل. أما العلاقة بين السلطة والمثقف فدعني أحيلك إلى أوراق مؤتمر اتحاد الكتاب الأخير فيه "زوادة" لتقصي هذا الموضوع.