Sunday, 23 June 2019

محمد مرسي شهيد الانتخاب

فارق الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي الحياة في قاعة محكمة السيسي السفاح يوم الإثنين الماضي ١٧ يونيو، غادر هذا العالم بعد ستة أعوام قضاها في تعذيب الحبس الانفرادي، منذ عزله بالانقلاب العسكري في ٣ يوليو ٢٠١٣. أوردت جريدة الأهرام، لسان حال الدولة المصرية، خبر وفاة الرئيس المنتخب باقتضاب شديد في صفحة الحوادث والإجرام، فهو في حساب الدولة متمرد عدو استحق الإعدام بتطفله الانتخابي على مقعدها الأول، وشرعيته لا يعتد بها بل ليست إلا وجها من تهافت الديمقراطية المصرية الموءودة ودليلا على عدم استعداد الجموع التي انتخبته لحقوقها، فقد وقع رأيهم في تقدير الدولة على الاختيار الخطأ. 
لم يشف سقوط مرسي ميتا في قاعة المحكمة غليل الدولة المصرية فمدت يدها إلى الجثة. أوصى مرسي بدفنه في مقابر أسرته بمسقط رأسه في قرية العدوة بمحافظة الشرقية. لكن الدولة رأت غير ذلك وقامت السلطات بدفنه في مقابر "الوفاء والأمل" في مدينة نصر التي تضم كبار زعماء الإخوان المسلمين في طرف منها اشتهر باسم مقبرة "المرشدين" تحت حراسة القوى الأمنية. عند الدولة المصرية مرسي الميت أخ مسلم حي، ومكانه بين مرشدي الإخوان المسلمين، فجواره المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر والخامس مصطفى مشهور والسابع محمد مهدي عاكف، الذي قضى هو أيضا في سجن السيسي عام ٢٠١٧. ظل مرسي الجثة في حبس الدولة لم تفرط فيه لكن أجازت لأفراد أسرته إلقاء نظرة أخيرة على الجثمان والوقوف على غسله والصلاة عليه خلف حائط السجن. 
لم أجد من أهم أعف في الخصومة مع مرسي من الاشتراكيين الثوريين، الفصيل اليساري المصري عالي الهمة، وقد سبقوا سواهم إلى تشخيص انقلاب السيسي في ٢٠١٣ بأنه عين الثورة المضادة وأن كان ستاره الدعائي مقارعة حكم الإخوان. نعى الاشتراكيون الثوريون مرسي باعتباره رئيس مصر المنتخب وليس خصم سياسي وكفى مع تأكيدهم على خلافهم مع جماعة الإخوان وفكرها. وصنفوا إعدامه الذي استمر لست سنوات ضمن الحملة الدموية التي يشنها السيسي منذ انقلابه على كل صوت مصري لا يسبح بحمده، إخوان وسواهم، منذ فض اعتصام رابعة في ١٤ أغسطس ٢٠١٣، يوم حصد سلاح الدولة أرواحا تزيد على ٦٠٠ من المعتصمين وأصاب الآلاف منهم. 
قارن الاشتراكيون الثوريون بين محاكمات مرسي المميتة والدلال الذي أحاطت به الدولة مبارك وحبيب العادلي وآخرين من كارها، برأتهم جميعا بينما حمل مرسي ذنب الانتخاب كصليب حتى مات به، ودعوا إلى تشكيل جبهة عريضة لإنقاذ آلاف المعتقلين في السجون المصرية مهددين جميعا بمصير مرسي أكان ذلك بالحبس الانفرادي أو الإهمال الطبي، بلغ عددهم بحسب تقديرات حقوقية الستين ألفا. يواجه الإخوان في مصر بذلك تهديد التصفية، المصير الذي أعده النميري للشيوعيين السودانيين بعون مصري في أعقاب انقلاب ١٩٧١ وقبلهم المصير الذي حكم به سوكارنو على الحزب الشيوعي الاندونيسي بعون أميركي في ١٩٦٥-١٩٦٦. اتهم جنرالات الجيش الاندونيسي وعلى رأسهم سوكارنو الشيوعيين بعد أن انفض الحلف بين الإثنين بالإعداد لانقلاب عسكري وأجهزوا عليهم في حملة دموية منهجية حصيلتها أرواح ما لا يقل عن ٥٠٠ ألف لم ينهض منها الشيوعي الإندونيسي بعدها وقد كان في ١٩٦٥ حزبا جماهيريا عضويته تفوق الثلاثة ملايين. 
في الخرطوم، أم زعيم المؤتمر الشعبي إبراهيم السنوسي ومن خلفه الطيب مصطفى ومحمد علي الجزولي الصلاة على مرسي في جامع السيدة سنهوري. قال السنوسي في كلمة بعد الصلاة أن مرسي مات شهيدا وجريمته أنه جاء للحكم بالديمقراطية. لم تنعقد في عقل السنوسي، دع عنك حديثه، المقارنة بين شهادة مرسي المنتخب وبين شهادة مواطني بلاده الذين سقطوا برصاص جهاز الدولة في الأشهر القليلة الماضية في طلب الحرية، ولم يجد في هذه ولا في تلك العبرة. ومن أولى بالعبرة من الإسلاميين الذين زينت حركتهم لنفسها الطريق إلى الحكم بلانقلاب العسكري واختارت قمع الخصوم والسياسة الحربية سننا حتى تبضعت شيعا ورفضها الناس بالكلية لسان حالهم شعار الثورة "أي كوز ندوسو دوس". أما الطيب مصطفي، فهو مثله وأبواق الدعاية المصرية، لم تمنعه حرمة الموت عن التبكيت على الخصوم السياسيين، بل نادى جهارا المجلس العسكري لفض اعتصام القيادة وسفك الدم لا ديمقراطية ولا ما تدعون. 
يعيد موت مرسي في محكمة السيسي السؤال عن الديمقراطية وجدواها عند صفوة سياسية لا ترى منها سوى نتائج الانتخابات ولا تعطي كثير قيمة لوعدها الجذري في تمكين الناس من حكم أنفسهم، الوعد الذي كان مدخل الشيوعيين السودانيين إلى تزكية الديمقراطية البرلمانية على عثراتها كطريق لنصرة الكادحين في طلب الاشتراكية. خالف حزب عبد الخالق بهذا الموقف صراحة عقيدة الرفاق السوفييت في الديمقراطية الموجهة التي يديرها حزب طليعي وديكتاتور مرشد كما يتفق ودفع ثمن ذلك من عزيز الحياة كما الرفاق في غابات الملايو. 


Monday, 17 June 2019

يوميات الثورة المضادة: ما برضى شيتا يقلبو

شعت التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي يوم الأحد ١٦ يونيو بصور عمر البشير في أحسن هندامه يحيط به الجند في رفقة آمنة من سجن كوبر إلى نيابة مكافحة الفساد في العمارات حيث وجهت له النيابة تهما بموجب مواد قانونية تتعلق بحيازة النقد الأجنبي والثراء الحرام والحصول على هدية بطريقة غير قانونية. نقلت وكالة الأخبار الرسمية سونا أنه تم توجيه التهم إلى البشير بحضور ممثلي الدفاع عنه وفيهم أحمد إبراهيم الطاهر ومحمد الحسن الأمين وهاشم أبو بكر الجعلي جزاهم الله عن العدالة خير الجزاء. حملت البشير المتهم في رحلته القصير بين كوبر والعمارات عربة رباعية الدفع بيضاء كجلبابه الناصع، لا تقل رفاها عما اعتاد عليه وهو على سدة الرئاسة. 
تلقى جهاز الدولة القسري زعيمه السابق بوجهه الناعم، بالإجراءات، بينما قابل المعتصمين الذين لم يخدشوا حياء القانون بجرم سوى الحياة بالعقوبة الناجزة، القتل خارج إطار القانون. البشير الذي استنفذ كتالوج الجرائم حتى لم يعد للشيطان ما يوسوس له به دخل وخرج من النيابة بكرامة المتهم البريء حتى تثبت إدانته يتقافز حوله الزبانية وضحاياه أحياء وأموات لا يمكن إحصاءهم، فما العدل يا ترى؟ كنا على عهد اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان حدثنا أنفسنا بالعدالة الانتقالية واجتهد بيننا كمال الجزولي المحامي في تخريج صيغة سودانية لهذا المنهج في طلب النجاة الجماعية من الظلم متخيرا من تجارب الشعوب الأخرى ما قد يسعفنا في هذا السبيل. نُحرت العدالة الانتقالية ضمن ما نُحر من وعود السلام الشامل عند أقدام السلطة إذ ركل الشريكان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ميزانها ولما ينصب بعد. 
خرج منا عمر البشير الفرد وترك فينا دولته الأمنية وفن حكمه، فن ورث صاحب المليشيا الفريق أول حميدتي صيغته الأصفى. استقبل حميدتي في يوم صورة الرئيس رجالات الإدارة الأهلية والزعامات القبلية من كافة جهات البلاد ضيوفا عنده، منامهم في معرض الخرطوم الدولي الذي تحولت صالاته إلى ديوان عظيم. خاطب حميدتي ضيوفه حيث انتهى البشير، كسلطان ناجز الوعد يطلب النصرة. قال حميدتي لضيوفه أنه حريص على تشكيل الوزارة في أسرع وقت ممكن خوف الفراغ في مركز السلطة واتهم جهات لم يسمها بتوريط قواته في مجزرة القيادة فقال كانت فخا كما لوح بالتراجع عما انتهت إليه المفاوضات مع قوى الحرية والتغيير ليعد رجالات الإدارة الأهلية بمقاعد برلمانية ومكرمات نافذة متى نصروه. كان حميدتي قد اجتمع بأطراف من الإدارات الأهلية في ٤ مايو الماضي حيث أشار وقتها إلى ضرورة مشاركة "الجميع" كون "الشعب" السوداني هو الذي أحدث التغيير وانحازت إليه القوات المسلحة. 
كسابقه البشير، يتدثر حميدتي بصيغة شعبوية من الوطنية لحشد قاعدة للحكم من مواقع الرجعية الريفية. لم يكتشف حميدتي في هذا الخصوص جديدا فقد جرب قبله الاستعمار الإنجليزي في آخر عهده أن ينشئ تحت رعايته حزبا للنظار والعمد والمشايخ على يد إبراهيم بدري، الحزب الجمهوري الاشتراكي الذي عده الناظر إبراهيم مادبو وسيلة لصون مصالح الإدارات الأهلية في مقابل حلف الأفندية والسيدين، علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي. موقف النظار اختصره الشاعر محمود الفكي في قوله الفكه: ناظر العموم مادبو الحكم الثنائي بحبه، ما برضى شيتا يقلبو. 
يريد الفريق حميدتي تأديب المدينة السودانية، وقد خرجت لمقاومة الدولة الأمنية، بصف ريفي، المليشيا من جهة والبطريركية القبلية من أخرى، ذلك تحت راية بونابارتية إذا جاز التعبير. والمقصود نابليون الثالث، لويس بونابارت الذي اقتنص الحكم في فرنسا بالقوة العسكرية في العام ١٨٥١ في أعقاب ثورة ١٨٤٨ التي أطاحت بحكم لويس فيليب ودشنت عصرا من الصراع الطبقي المفتوح كان أوجه انتفاضة يونيو التي حصد فيها الجيش أرواح الثوار الراديكاليين من عمال باريس عند المتاريس. تصدى لويس بونابارت لفتوح ١٨٤٨ بالانقلاب العسكري تحت شعار "الدين والأسرة والملكية هم الأساس الأبدي للنظام الاجتماعي" وقاعدة اجتماعية ريفية قوامها الملاك الزراعيين وصغار الفلاحين المتضررين من ارتفاع الأسعار وأصحاب الحوانيت، أو كما قال ماركس في تحليله المانع للأزمة الثورية في ١٨٤٨ وما انتهت إليه. عند ماركس لم تستطع أي من الطبقات الاجتماعية فرض إرادتها السياسية، لذا لم تمثل ديكتاتورية بونابارت أيا من الطبقات الثلاث الرئيسة التي خاضت الثورة، البرجوازية والبروليتاريا والبرجوازية الصغيرة، بل مثلت قوة جهاز الدولة القسري في حد ذاته واستقلاله البادي عن المجتمع وسيطرته عليه.


Sunday, 16 June 2019

مضى كشهاب.. إلى الأبد

كتب شينوا أشيبي في نعيه الطويل لمقاتلى الحرية في حرب بيافرا "كانت هنالك بلاد" عن مقتل صديقه الشهيد كريستوفر أوكيغبو عبارة عن الموت تلهب الضمير بجزالتها. قال شينوا أشيبي عن كريستوفر الذي فاز منه بنظرة أخيرة، ولم يكن يعدها وقتها الأخيرة، في خراب شقة أصابتها قذيفة للجيش النيجيري في عاصمة جمهورية بيافرا الوليدة، أينوقو، ضمن جمهور من المتعاطفين هبوا للعون:  "فزت بالكاد بنظرة منه في ذلك الحشد، ثم مضى كشهاب إلى الأبد". سقط أوكيغبو في أغسطس ١٩٦٧ قتيلا بعد أسابيع من لقاء الشقة ذاك في معركة بالقرب من مدينة نسوكا الجامعية، سقط الشاعر والمدرس والوراق في عمر الخامسة والثلاثين وهو يقاتل عن حرية بيافرا في المدينة التي اكتشف فيها صوته الشعري. كان أوكيغبو شديد الحب لابنته حتى اشتهر حبه هذا وسط الأصدقاء والمعارف، وكان له في ملاعبة الأطفال إبداع وفن فتعلق به ابن أشيبي ذو الثلاثة أعوام كأنه في عمره. عندما صارح أشيبي ابنه بخبر وفاة أوكيغبو رد الصغير: "يا أبتي، لا تتركه يموت"، العبارة التي اختارها أشيبي عنوانا لديوان أشعار في نعي أوكيغبو الشهيد.
كيف ننعى الحياة إذن والقتلى ما زالوا يهتفون بحب الحياة، يهتفون في وجه الطاغية لا يكترثون حتى بموتهم. حصد جهاز الدولة القسري في صباح ٢٩ رمضان أرواح المعتصمين كأنهم صيد في برية ثم تلجلج في مسؤولية القتل كأن من سقطوا عند التروس مضرجين بالدماء اقتلعوا البنادق من قاتليهم وصوبوها نحو أنفسهم منتحرين. ساق جنرالات المجلس لأنفسهم الأعذار فقالوا استفزنا المعتصمون بالهتاف والسخرية والنكتة، استفزونا بالأعلام والشعارات. وزاد صاحب المليشيا، محمد حمدان دقلو، أن من المعتصمين من استل ذكره ولوح به لجنودنا. لم يقصد الجنرالات إذن فض الاعتصام وكفى، فذلك كان ممكنا بقوة بوليسية مدربة على فض الحشود، لكن كان قصدهم كسر الإرادة التي ساقت المعتصمين إلى معمل الحرية الذي مثله الاعتصام بالإرهاب الفتاك. انتقم الجنرالات بالقتل والسحل والاغتصاب طمعا في استرداد ما ظنوه "هيبة الدولة" وقد كشف المعتصمون بنشاطهم اليومي سرها الوضيع، أنها هيكل لحراسة مصالح الطبقة الحاكمة، لا ترعى وطنا ولا تمثل شعبا. 
هز المعتصمون هيكل الدولة مرة فضحى ثلاثي الجيش والمليشيا والأمن كما غنى له صديق متولي في رائعته "حبيناك يا برهان وحبيناك يا حميدتي وحبيناك يا دمبلاب" بعميده عمر البشير. لكن اختبر المعتصمون أن الدولة ليست إلها شاخصا من عل بل شبكة مصالح استطاعوا في غمرة تناقضاتهم ورغما عنها أن يبعثوا حياة جديدة في استقلال عنها بالتنظيم والعمل المشترك. في الحقيقة، أكثر ما استفز جنرالات الجيش هو هذه الحرية، الحرية التي شكل من مضغتها المعتصمون الأمن والسلامة والطعام والعلاج والأدب والفن واللهو والسعادة، كل ذلك بمعزل عن قسر الدولة. مثل الاعتصام من هذا الباب جمهورية مضادة، ليس فقط بإزاء جنرالات المجلس العسكري ولكن كذلك بإزاء الطبقة السياسية التي تعذر عليها ترجمة إرادة الحرية هذه إلى سياسة صالحة وتقاصرت عزائمها عن الذين مضوا أحرارا كأنهم الشهب إلى الأبد.