هذا الجزء الثاني من كلمة عن ماركس والمسلمين. جاء في جزءها الأول اقتراح لتوطين عبارة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، والتي راجت عنه معتلة السياق، في قضايا عصره وأدبه. من ذلك نقل تعريبها من سياق الشعوب بمعنى القوميات إلى سياق غمار الناس المساكين كما في قصيدة هينريش هاينه وربطها كذلك بأمل الخلاص من الاضطهاد كما في عقيدة المهدي الإسلامية وعقائد مشابهة. يعرض الجزء الثاني من هذه الكلمة لمجهودات ماركس تعريف قراءه بتاريخ آخر لصراع القوى الأوروبية على ورثة الإمبراطورية العثمانية، يصدح فيه بصوت فريد لا يقبل بإطلاق الاستقطاب الديني "غصب كي" ويجرجر الكبرياء الدينية في جحور التاريخ.
ماركس العثماني
لم ينشغل ماركس في الذي كتب بالإسلام كمقولات عقدية، لكن انشغل بالمسلمين كما ظهروا على مسرح الصراع بين القوى الدولية. طال اهتمامه بالدولة العثمانية ضمن متابعته الدقيقة للحروب العثمانية الروسية التي دارت رحاها في ١٨٥٣-١٨٥٦ ثم في ١٨٧٧-١٨٧٨ وانعكس هذا الاهتمام في خطابات زوجته جيني. كتبت في ٢١ يناير ١٨٧٧: "زوجي مشغول هذه الأيام بالمسألة الشرقية ومأخوذ بحماس بهبة المحمديين (تقصد المسلمين) المشرفة والصلبة ضد الأفاكين المسيحيين ورسل الفظائع". جمعت ابنة ماركس الصغرى اليونور، وكانت شديدة البر بوالدها الشيخ وثورية ذات شأن، في ١٨٩٧ مقالات ماركس التي كانت تصدر كعمود دوري في صحيفة نيويورك ديلي تريبيون عن حرب شبه جزيرة القرم في ١٨٥٣-١٨٥٦ في مجلد عظيم من ٦٥٠ صفحة تحت عنوان "المسألة الشرقية". دافع ماركس في كتاباته الصحفية عن الدولة العثمانية ضد اعتداء روسيا القيصرية دفاعا شرسا من موقع العداء للإمبريالية الروسية والتسفيه لازدواجية المعايير الأوروبية. كتب في ٣٠ ديسمبر ١٨٥٣: "لا يمكن إنكار أن تركيا، الدولة الأضعف، أظهرت شجاعة حقيقية وحكمة سياسية تفوق كل من حليفتيها القويتين (بريطانيا وفرنسا). لقد وقفت تركيا شامخة في مستوى التحدي بينما تواضعت حليفتاها دون ذلك. رفضت تركيا مطالب خصمها التقليدي (روسيا)، ليس بعجرفة فارغة، لكن بجد وكرامة."
لكن ماذا كان محتوى دفاع ماركس عن العثمانيين؟ عبر ماركس من موقع الجاهل بالشرق إلى موقع العارف ببعض أموره بحافز حرب شبة جزيرة القرم. كتب في خطاب إلى صفيه فردريش انجلز في ١٨٥٣: "تبدو لي المسألة الشرقية برمتها كأنها رطانة (بعبارته اسباني)" وقال سيقرأ ما تيسر من الكتب عن تركيا وقد سمع أن نادي الأثناوم في لندن به عدد منها. شرح ماركس موقفه في طرف من خطاب كتبه إلى كارل ليبكنخت، الثوري الألماني، في ٤ فبراير ١٨٧٨: "نقف بحزم إلى جانب الأتراك لسببين: الأول لأنا درسنا الفلاحين الأتراك أي الأقوام الأتراك، وخلصنا إلى أنهم بلا منازع مثال ناصع القوة والاستقامة للفلاحين في أوروبا. والثاني أن هزيمة روسيا ستسرع من وتيرة التحول الاجتماعي في روسيا وبذا في أوروبا برمتها". قد يقول قائل إن ماركس كان يحدثه غرضه، لكن ماذا كان هذا الغرض؟ كتب ماركس قبلها بعدة أشهر، في سبتمبر ١٨٧٧، خطابا إلى فردريش سورج، ثوري آخر استقر به المقام في الولايات المتحدة الأميركية: "هذه الأزمة هي نقطة تحول في التاريخ الأوروبي. لطالما كانت روسيا تقف على حافة الانتفاضة، فكل عناصرها متوفرة. لقد درست الأوضاع من المصادر الروسية الأصلية، الرسمية وغير الرسمية (وصلتني بعضها من أصدقاء في بطرسبرج). عجلت ضربات الأتراك البواسل الموجهة ليس فقط نحو الجيش الروسي والمالية الروسية بل بشكل فردي وشخصي جدا نحو الأسرة الحاكمة التي تشكل قيادة الجيش (القيصر، وولي عهده وستة قادة من أسرة رومانوف) من الانفجار في روسيا بسنين. سيبدأ الانفجار كما تقول قواعد اللعبة بتحولات دستورية وخصومات معتبرة. إن أمهلتنا الطبيعة شيئا ما ربما عشنا لنشهد هذا العيد. أما الهراء الذي يقوم به الطلاب الروس هذه الأيام فهو عرض، لا يعني شيئا في حد ذاته، لكنه عرض؛ كل فئات المجتمع الروسي في حال تفسخ تام اقتصاديا وأخلاقيا وفكريا."
خاض العثمانيون والروس بين العامين ١٦٨٣ و١٨١٣ ستة حروب حول السيطرة على البحر الأسود كان من تبعاتها تمدد السيطرة الروسية على أقاليم كانت عثمانية بما في ذلك شبه جزيرة القرم بعد انتصار الجيوش الروسية تحت إمرة كاثرين العظمى في حروب ١٧٦٨-١٧٧٤ و١٧٨٧-١٧٩٢. تحول ساحل البحر الأسود الشمالي والسهل الزراعي الواسع من خلفه إلى جبهة جديدة مربحة للتجارة في الحبوب، كانت أوتاد السيطرة الروسية عليه سلسلة من المدن بأسماء ذات جرس اغريقي منها أوديسا وخيرسون وماريوبول، جندت لها كاثرين العظمى المهاجرين الإغريق من الأناضول والقرم. استجاب الآلاف من الإغريق لدعوة كاثرين العظمى تحت العلم الروسي وحققوا قدرا من الثراء من التجارة في الحبوب والفراء بين البحر الأسود والشام. كان من آثار انتصار كاثرين العظمى على جيوش الباب العالي تهديد السيطرة العثمانية على الأقاليم البعيدة وتسرب السلطة من يد الدولة المركزية إلى الأعيان المحليين والمقاتلين المغامرين الذين وقعت عليهم مسؤوليات جمع الضرائب والتجنيد العسكري، بل صار بعض هؤلاء الأعيان بحلول القرن التاسع عشر سلاطين محليين يحكمون دويلات تتوزع بين اليمن والقوقاز وداخل الأناضول، من ذلك تواضع السيطرة العثمانية على البلقان، حيث ثار على طول الدانوب رؤوس عشائر صرب ضد السلطة العثمانية وتبع مثالهم أمراء حرب ألبان. انتشر ثلاثة ملايين من الاغريق في شريط واسع ممتد من الجزر اليونانية ثم قبرص وآسيا الصغرى حتى اسطنبول نفسها.
نشأت ضمن هذه الحركات المعارضة للسلطة العثمانية أخويات سرية وسط التجار الإغريق في أوديسا التي صارت مركزا تجاريا ضاجا بالحركة منذ اعتمادها ميناءً للتجارة الحرة في ١٧٩٤، بالدرجة الأولى في القمح، أبرزها جمعية الصداقة التي كان هدفها تحرير الجزر اليونانية من سلطة العثمانيين، الأمر الذي تحقق بحرب الاستقلال اليونانية في ١٨٢١ وإعلان الجمهورية الأولى في ١٨٢٢. كان رد فعل الباب العالي على التحدي اليوناني مرتبكا. زار رجال البلاط المكتبات بحثا عن تفسير لما يتهدد سلطانهم من تفكك ووجدوا بعضا من ذلك عند ابن خلدون، فيلسوف التاريخ من القرن الرابع عشر، والذي قال تنشأ الامبراطوريات وتزدهر ثم تتدهور في دورة متكررة بعلة الشوكة البدوية ثم الخمول الحضري. أعلن السلطان محمود الثاني في صيف ١٨٢١ مستلهما ابن خلدون: "تجرأ الكفار على التمرد لأنهم عرفوا أن الحكام والمسؤولين العثمانيين يستغرقهم الفسوق.. ولا طاقة لهم لرد الفعل". أمر السلطان رجاله بوقف التدهور وإعادة التعرف على جذورهم البدوية و"سعي الخيول بدلا عن إهدار المال في الشالات الفاخرة". لكن لم يستطع اكتشاف السلطان محمود لحكمة ابن خلدون وقف هذه الدورة الخلدونية إذا جاز التعبير بل صار مصير الأقاليم العثمانية والدولة العثمانية برمتها عنوانا في العلاقات الدولية – "المسألة الشرقية". جذبت ماركس خصيصة البأس البدوي التي قرظها السلطان العثماني، ما قد يقع في دائرة الظنون الاستشراقية، وانعكس ذلك في رسائله الأسرية. كتب مثلا خطابا من الجزائر التي زارها مستشفيا في عام حياته الأخير: "إن العرب البدو (وقد تهافت أمرهم في كثير من شؤونهم لكنهم ما زالوا يحتفظون بخصائص صلدة تربوا عليها من خلال صراعهم من أجل البقاء) يذكرون أنه خرج من بينهم في وقت ماء فلاسفة عظام وعلماء...إلخ بينما يسفههم الأوروبيون في الوقت الحاضر لجهلهم."
أقليات دينية في عينكم
لم يمنع هذا الغشاء الاستشراقي ماركس الصحفي من أن يرصد بحساسية نادرة وسط معاصريه نفاق ومكر القوى الأوروبية المتصارعة على ورثة الجاه العثماني والنفاذ بجرأة إلى أحابيل المطامع الامبريالية التي تسربلت بالدعوة إلى تحرير الأقليات الدينية في الأقاليم العثمانية من سلطان المسلمين الجائر، وهذا بعض مما تفوز به قارئة "المسألة الشرقية".
كان ماركس ثبط منذ وقت بعيد صوت التعميم بغير علم بالوقائع في فكره، وضرب لذلك مثلا بالإسلام في كتابه الآيديولوجيا الألمانية (كتبه في ١٨٤٥ – ١٨٤٦) الذي عرض فيه لتصوراته الباكرة حول المفهوم المادي للتاريخ وفرز كومه من "شباب حول هيغل". كتب ماركس ضمن نقد طويل وساخر للتصورات الفردانية التي نادى بها ماكس شتيرنر، بطل الشباب الهيغلي، في كتابه "الفرد وما له" (صدر في ١٨٤٤) ما يلي: "بحسب سانشو [ماكس شتيرنر] فإن فرادة وأصالة وخصوصية تطور كل فرد لا تشمل كل نشاطات الإنسان (...) وهذه الفرادة، في عرف سانشو، لا تنطبق في مسائل العقائد الدينية والسياسية، رغم أنه من الجلي أن بين كل المؤمنين بالإسلام لا يؤمن واحد منهم بذات الطريقة التي يؤمن بها غيره، وبهذا المعنى فإن كل منهم فريد." سخر ماركس من ماكس شتيرنر فدبجه بلقب القديس ماكس وكذلك باسم سانشو، يقصد شخصية سانشو بانشيز في رواية ميغيل دي سيرفانتز "دون كيشوت"، وهو المزدوج الديالكتيكي للبطل دون كيشوت، مساعد حلة في عبارة القائد مني مناوي، فلاح قصير بكرش ناتئ، عظيم الشهية، فاحش اللسان لكنه عارف بحكمة الحياة اليومية يحول دون تورط سيده الفارس النبيل في مغامرات انتحارية. أخرج الكاتب بصوته أمثالا ناصحة وحكما مرسلة. لكن للإنصاف، ربما تسرب من شتيرنر إلى ماركس مفهوم "الطيف" في افتتاحية المانفستو الشيوعي (صدر في فبراير ١٨٤٨) الباهرة: "ثمة طيف انتاب أوروبا – طيف الشيوعية"!
ميز ماركس بين ثلاثة أقاليم عثمانية كبرى، توابع تركيا في افريقيا وسمى مصر وتونس، تركيا الآسيوية وتركيا الأوروبية. اختار مصر في الإقليم الأول وقال تخضع لبريطانيا في واقع الأمر. وعن الثاني قال هو مركز الثقل التركي ومصدر جند الإمبراطورية العثمانية وقوتها، لا تشذ فيه سوى فلسطين ووديان لبنان المسيحية لأنها تقع في عين الاهتمام الأوروبي. أما عظم المسألة الشرقية في رأي ماركس فهو تركيا الأوروبية، يقصد شبه الجزيرة جنوب الدانوب التي تقطنها شعوب متفرقة، ١٢ مليون من البشر تحت سيطرة مليون من الأتراك. لم يقبل ماركس بهذه الثنائية هكذا وطلب تمحيصها فكتب أنه لا يمكن بجد الزعم أن الأتراك يشكلون الطبقة الحاكمة في تركيا لأن علاقات القوى الاجتماعية في الأقاليم التركية أعقد من ذلك، بل مختلطة كما اختلاط الأجناس فيها. التركي بحسب الظروف المحلية مزارع ومالك صغير وتاجر وإقطاعي رجعي في أدنى صور الإقطاع وأكثرها تخلفا وإداري مدني وجندي. لكنه في كل هذه الهيئات والمواقع الاجتماعية ينتمي إلى القومية المختارة، فهو لوحده من يحق له حمل السلاح، وأعلى المسيحيين مقاما عليه أن يخلي الطريق لأدني من يقابله من المسلمين. ثم أضاف تحول نبلاء السلاف في البوسنة والهرسك إلى الإسلام بينما ظل العامة على النصرانية والحكم في هذا المقاطعة للبوسني المسلم الذي يتساوى مع التركي من دينه.
كتب ماركس أن مصدر قوة الأتراك في أوروبا بخلاف جيش الاحتياط من أتراك آسيا هو جمهور القسطنطينية (تشغل محل بلدية في اسطنبول المعاصرة) وبعض المدن الكبيرة الأخرى. هذا جمهور بالأساس تركي لكن رزقه بيد رأسماليين مسيحيين ويحرس بغيرة شديدة تصور للتفوق وحصانة ملموسة من العقاب متى ما أفرط، هي امتيازاته بفضل الإسلام بالمقارنة مع المسيحيين. أما بقية القوميات في أوروبا العثمانية فأقلية منهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي تكتب بالحرف اللاتيني والغالبية من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تكتب بالحرف السيريلي، الأمر الذي ثبط من نمو هوية قومية سلافية في كامل هذه الجغرافية. قد لا يستطيع أحدهم في بلغراد أن يقرأ كتابا في لغته الأم بل قد يستنكر حرفها المخالف ويعتبره "رطانة" لكنه يستطيع بيسر أن يقرأ كتابا طبع في موسكو باللغة الروسية لتقارب الأبجديتين ولاعتماد الروسية على الأبجدية الأصيلة. لا يتوفر أغلب السلاف من أتباع الكنيسة الشرقية حتى على الإنجيل أو كتب الصلاة في لغاتهم الأم لأن في عقيدتهم أن ثمة قداسة وأصالة في الذي تطبعه موسكو أو سانت بطرسبرج. استخلص ماركس من هذا الورطة اللغوية ما صار لاحقا على يد بنديكت آندرسون علما في نشأة القومية على أساس تخيل هوية مشتركة من مادة المطبوعات. كتب ماركس: رغم كل مجهودات أنصار الهوية السلافية فإن الصربي أو البلغاري أو البوسني أو السلوفيني يتعاطف قوميا ويلتقي ويتبادل ثقافيا مع الروسي أكثر منه مع السلافي الجنوبي الذي يدين بالكاثوليكية الرومانية رغم اشتراكهما في لغة واحدة. يتوق السلافي من أتباع الكنيسة الشرقية إلى سانت بطرسبرج راجيا عودة المسيح لتحريره من كافة الشرور. القسطنطينية عند السلافي الأرثوذكسي هي المدينة الملكية بامتياز إذ ينشد فتحها على يد القيصر الأرثوذكسي القادم من الشمال لاستعادة الدين الحق كما كان عليه الحال على العهد البيزنطي قبل أن يستولي عليها العثمانيون. اتخذت روسيا في حربها على تركيا العثمانية أحوال رعايا الدولة العثمانية من المسيحيين الأرثوذكس منصة هجوم وطالبت بالولاية على كل أتباع الكنيسة الشرقية تحت السلطان العثماني. وزادت المطالب الروسية لتشمل في ١٨٥٣ حقا حصريا يمنع تدخل الباب العالي في تعيين أو صرف رؤوس الكنيسة الشرقية في القسطنطينية والقدس والإسكندرية وسواها إلا في حال الخيانة العظمى ضد روسيا وشرط موافقة قيصر روسيا، أي شرخ سيادة الباب العالي بالمرة.
عاب ماركس على دبلوماسية أوروبا الغربية وأميركا جهلها بتركيا العثمانية سوى الانطباعات الأسطورية من مثل "ألف ليلة وليلة" وقال عدموا أي معرفة جادة بأحوال البلاد واجتماعها ومؤسساتها، واكتفوا بمؤامرات البلاط العثماني وما ينقله لهم طابور خامس من الإغريق. قارن ماركس ذلك بما تيسر لروسيا القيصرية بحكم آسيوية روسيا في عموم أحوالها ومؤسساتها وعادات أهلها. وأضاف أن تسعة أعشار رعايا الدولة العثمانية الأوروبيين يعتقدون في ديانة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية كما الروس والروسية تقارب لغات سبعة ملايين من السلاف الواقعين تحت سلطان الباب العالي. بث الروس بحسب ماركس المئات من العملاء في تركيا يبشرون وسط الإغريق الأرثوذكس بالقيصر الروسي باعتباره رأس الكنيسة الشرقية وحارس حوضها، كما يبشرون وسط السلاف بأن قيصر روسيا هو منقذ كافة الشعوب السلافية وسيدها الطبيعي الذي سيقودها إلى النصر على العثمانيين والغلبة في أوروبا. تولى رجال الكنيسة الأرثوذكسية الترويج لهذه الأفكار وأثمرت ضمن ما أثمرت التمرد الصربي في ١٨٠٩ والثورة اليونانية في ١٨٢١ ولم يكن المال الروسي عن الواقعتين ببعيد، بل كتب ماركس كان النفوذ الروسي في الخلفية في كل واقعة واجه فيها الباشوات العثمانيون عصيانا على سلطانهم في الأقاليم الأوروبية. عدد ماركس ما فازت به روسيا بفضل هذا النفوذ، كتب حثت الصرب على التمرد، وساعدت اليونان على الاستقلال، وضمت إليها مولدافيا وأجزاء من أرمينيا، بينما وقفت كل من إنجلترا وفرنسا على الرصيف تتفرجان سياستهما "الحفاظ على الوضع القائم". علق ماركس أن هذه تقية رخيصة، خاصة والصحافة البريطانية تضرب الطبول لتفكيك الدولة العثمانية وطرح أقاليمها للتقسيم بقرائن عنصرية كمثل رأي جريدة التايمز اللندنية أن "الأتراك لا يصلحون كعرق لحكم هذا الجزء الجميل من أوروبا".
نقل ماركس عن التايمز ترويجها المتكرر لحملة صليبية جديدة تطيح ببقايا "الساراسين". والكلمة للتسفيه، تعود إلى القرون الوسطى الأوروبية استعملها الرومان والإغريق لوصف سكان الأقاليم العربية على حدودهم – بادية الشام وسيناء، ثم توسع استعمالها ليشمل أهل الصحراء العربية واستقر في القرون الوسطى في محل المسلم، بخاصة العدو المسلم في الحروب الصليبية. وأصل الكلمة بحسب بعض من فسرها من سرق وسارق. مثل الساراسين في القرون الوسطى الأوروبية في وجه من الوجوه صورة الآخر الشيطاني، مضاد الفارس الصليبي المغوار. كتب ماركس أن غرض بروباغاندا التايمز ما هو سوى تهيئة الرأي العام لتلك اللحظة التي تتحقق فيها الفقرة الرئيسة من وصية بطرس الأعظم، قيصر روسيا من ١٦٨٢ حتى وفاته في ١٧٢٥ وشائد نهضتها الأوروبية، بالسيطرة على البسفور. كذلك تأفف ماركس من احتفال الصحافة الليبرالية في بريطانيا بتركيا العثمانية باعتبارها كما إنجلترا دولة رعاية حميدة يهنأ فيها الجميع بحرية العبادة والتجارة. نقل ماركس عن الديلي نيوز تخوفها من تدمير التجارة عبر البحر الأسود وتهديد التجارة البريطانية مع تركيا التي هي في حساب الجريدة أكبر حجما من التجارة مع النمسا وروسيا مجتمعتين. كتب ماركس أن ازدهار التجارة عبر البحر الأسود ليس كسبا تركيا خالصا وتساءل "من التجار في تركيا؟" ليجيب ليس الباشوات الأتراك فشأنهم المغالاة في فرض الرسوم والضرائب بقوة جهاز الدولة وإنما طبقة وسطى من الإغريق والأرمن والسلاف الذين توطنوا الموانئ على البحر الأسود. وأضاف بطريقته التهكمية "استبعد جميع الأتراك من أوروبا ولن تعتل التجارة لأي سبب"! بهذا التقدير، كتب ماركس أن الباشوات الأتراك لم يتبق في يدهم سوى احتكار القوة ولا بد من التخلص منهم، لكن هذا لا يعني أن يحل محلهم الروس والنمساويون.
جرد ماركس لسانا لاذعا لفضح مباطن الاستكبار الأوروبي بالدين، ومن ذلك تعليقه على مناقشات مجلس العموم البريطاني في فبراير ١٨٥٤ بخصوص الصرف على الحربية على خلفية "المسألة الشرقية". نقل ماركس عن النائب كوبدن قوله إن اللوم واقع على فرنسا في هذه الورطة، لأن فرنسا من ابتدرت ابتزاز الباب العالي باسم رعاياه من المسيحيين الكاثوليك ثم اتبعت روسيا هذه السنة باسم الأرثوذكس. قال كوبدن بحسب نقل ماركس: "لا يمكن في واقع الحال أن تتحقق المساواة للمسيحيين تحت السلطان التركي مع أقرانهم المسلمين إلا بالتخلي الكامل عن قانون القرآن". علق ماركس: "لنا أن نسأل السيد كوبدن إن كان في الاحتمال تحقيق المساواة بين العمال في هذه البلاد وبين أمثاله في وجود كنيسة الدولة الرسمية وقوانين إنجلترا"! قال كوبدن أن عدم رضا المسيحيين في تركيا عن أحوالهم ينذر بتمرد واسع، وكتب ماركس: "ألا تسود حالة من عدم الرضا وسط جميع شعوب أوروبا عن حكوماتهم وطبقاتهم السائدة تنذر هي كذلك بثورة عامة". اتبع ماركس تقنية تتكرر عنده في شأن الإسلام، فهو يرد الاستكبار الاستشراقي إلى أصحابه "عكس ما إنك" بوسيلة أسلمة الكنيسة الإنجليزية والتشريع "العلماني". يقول لسان حال ماركس كيف يتجرأ رجال الحكم في إنجلترا على إدانة العثمانيين وفيهم الكنيسة الانجليكانية، كنيسة الدولة الرسمية، يقوم عليها طائفة من علماء الدين يبشرون بقرآن انجليكاني. وقدل شيخي لي رباعتو مهيل!
يتبع.
استفدت في هذه الكلمة من:
Engels, Friedrich, and Marx, Karl. Marx and Engels Correspondence. United States, International Publishers, 1968.
Marx, Karl. The Eastern Question. United Kingdom, Taylor & Francis, 2014.
Mazower, Mark. The Greek Revolution: 1821 and the Making of Modern Europe. United Kingdom, Penguin Books Limited, 2021.
Engels, Friedrich, and Marx, Karl. The German Ideology. United Kingdom, Lawrence & Wishart, 1970.
Stirner, Max. Der Einzige und sein Eigentum. Germany, Hofenberg, 2016.
Anderson, Benedict. Imagined communities. United Kingdom, Verso, 2006.
Cohen, Jeffrey Jerome. "On Saracen enjoyment: Some fantasies of race in late medieval France and England." Journal of Medieval and Early Modern Studies 31.1 (2001): 113-146.