الطالب كارل ماركس |
فيما يلي تعريب لخطاب فريد من المرحوم كارل ماركس إلى والده في ترير، وكان كارل وقتها في عمر التاسعة عشر طالبا في جامعة برلين. ظل الخطاب في حفظ أخت ماركس حتى بعد وفاته، وجادت به لابنة ماركس اليانور ابنة هذه العمة بعد أن نشرت اليانور ماركس إعلانا في الصحف وقتها تحث فيه كل من له مراسلات من المرحوم أن يجود بنسخة منها ضمن مجهودها جمع تراث والدها. احتفت اليانور بهذا الخطاب حينها كوثيقة ذات أثر يقترب فيها هذا النابغة من مفهومه الأثير "التناقض" وهو بعد حدث غض. ووجد طريقه إلى النشر مع مقدمة منها، ذلك بعد تردد، فماركس كان من الكارهين لطرح حياته الشخصية على الملأ، الأمر الذي عسر عليها قرار نشر خطابه الشخصي هذا لوالده.
كتبت اليانور في تقديم خطاب والدها الذي نشرته جريدة «العهد الجديد» الناطقة باسم الحزب الاشتراكي الألماني في العام ١٨٩٧: أرسلت لي قبل بضعة أشهر ابنة عمتي السيدة كارولين سميث هذا الخطاب الذي وجدته ضمن أوراق المرحومة والدتها سوفي، الأخت الكبيرة لكارل ماركس. كان ماركس نفسه حين ماتت والدته، ١٨٦٣، في ترير، ولكن ولحسن الحظ لم يكن يعلم شيئا عن بقاء هذا الخطاب وحفظه في حرز أخته، وإن كان يعلم لمزقه لا شك.
يزهر نثر المرحوم كارل ماركس في اللغة العربية ويتفتق، ويجعل من مهمة التعريب تحديا مجزيا، فمعانيه مما تقبله العربية سمتا وبلاغة، بل تكشف عنها العربية كشفا. لكن تراكبيه عسيرة مرتبكة، وهي معضلة تواجه كل قارئ لماركس سوى في النصوص التي تولاها غيره بالتحرير المُحِب كما فعلت زوجته جني فون وستفالن بنص «البيان الشيوعي» لزوجها وصديق عمره فردريك انجلز حتى صار بقلمها نصا قرآنيا أو يكاد إذا جاز التعبير. استعصى رغم المجهود كذلك نقل مفهوم «Geist» واشتقاقاته في الألمانية إلى لفظة عربية جامعة، والمفهوم من قضايا الترجمة من الألمانية عسيرة الحل.
كان كارل واحد من تسعة أطفال من صلب هنريته وهاينرش ماركس. نشأ في ترير الألمانية، أعرق مدن حوض الراين، مدينة غلبت عليها الكاثوليكية في بلد بروتستانتي في أغلبه في كنف أسرة يهودية تحولت إلى البروتستانتية في جيل واحد. كتب الشاعر العظيم غوته بعد زيارة لترير في العام ١٧٩٣ أنها مدينة مثقلة بالتاريخ لا تجد منه فكاكا، تقهرها الكنائس العظيمة والمباني التذكارية المخصصة للأبطال الدينيين والدير والصلوات. تعرض أهل ترير لنفحات حرية عندما ضمتها فرنسا إلى أراضيها في أعقاب حروب نابليون فتسربت إليها أفكار غير جرمانية على الإطلاق مثل حرية الصحافة والحقوق الدستورية وكذلك التسامح الديني. ظل هذا الأثر التنويري قائما في ترير التي عرفها كارل، والتي عادت إلى ولاية بروسيا الإمبراطورية قبل ثلاثة أعوام من ولادته في العام ١٨١٨.
كارل ود شيوخ، كان والده هاينرش، المولود هرشل، الابن الثالث للحبر ماير هاليفي ماركس، حاخام اليهود في ترير، وقد ورث ماير المنصب من نسيبه، وخلفه في المنصب ابنه الأكبر صموئيل، عم ماركس. والأحبار والحاخامات كثر في أسلاف ماير هاليفي، وبعض سلالتهم تعود إلى ديار بوهيميا (التشيك). وجدة كارل، زوجة ماير هاليفي، كذلك ابنة حاخام، والدها حبر ترير موسى لفوف، الذي ورث الموقع من أبيه جوشوا هيشيل لفوف واشتهر بنفوذه وصدوعه بالنصيحة. وهذا ورث المشيخة بدوره من أبيه آرون وهذا ورثها من أبيه موسى وهو من أهل لفوف في بولندا. واقع الأمر أن غالب حاخامات ترير منذ القرن السادس عشر كانوا من أسلاف كارل ماركس، والاسم نفسه ماركس لحن على الأصل موردخاي. أما والدة كارل هنريته فهي كذلك من أسرة ربانية، والدها اسحق بريسبرغ، حاخام نيمغن في هولنده، وغالب أسلافها لأبيها كذلك أحبار وكهان من أصول مجرية استقر بهم الحال في هولندا هربا من الاضطهاد، حتى أن اسمهم في الحقيقة اسم المدينة التي جاءوا منها أول أمرهم.
كان هاينرش ماركس وقت ولادة ابنه كارل محاميا في محكمة الاستئناف في ترير، وترأس لعدة أعوام نقابة المحامين في المدينة وصار بذلك علما من أعلامها، وإن لم يخض في الشؤون العامة سوى في حدود قضايا المهنة. ومهنة هاينرش كانت عالمه وتأمينه، وقد اتخذ قرار "التحول" من اليهودية إلى البروتستانتية لدواعي مهنية. والسبب أن قوانين نابليون منحت اليهود في إقليم الراين حقوقا عديدة لكن حاصرت نشاطهم التجاري بإجراءات تمييزية خاصة بهم فقط. كتب هاينرش ماركس عندما انتقلت الولاية على الراين من فرنسا إلى بروسيا إلى الحاكم العام في الإقليم متحدثا باسم الطائفة اليهودية يطلب منه إلغاء القوانين المطبقة حصرا على اليهود. لم يكترث الحاكم العام بطلب هاينرش ماركس وحصد اليهود في الحقيقة شر العالمين. صدر منشور في العام ١٨١٨ أبقى على القوانين النابليونية حتى أجل غير مسمى بينما صدر أمر حكومي آخر يقول إن الراين سيخضع كذلك للقوانين المطبقة في بروسيا منذ العام ١٨١٢. أقرت هذه القوانين حقوقا متساوية لليهود، تساويهم والمسيحيين، لكن استثنت من هذه المساواة العمل في الدواوين الحكومية وفي سلك القانون واشترطت لذلك إذنا ملكيا. قام رئيس المحكمة العليا فون سيث في العام ١٨١٦ بجولة في إقليم الراين تعرف خلالها على هاينرش ماركس وقرظ علمه الواسع وعطاءه، ولذا أوصى بالإبقاء على هاينرش ماركس ومسؤولين يهود آخرين في الخدمة. لكن اعترض وزير العدل على هذا القرار وكان من رأيه ألا مجال للاستثناءات. لذلك لم يجد هاينرش ماركس بدا من التحول عن اليهودية للحفاظ على قوت يومه. اختار هاينرش ماركس البروتستانتية ولم يكن عدد أتباعها في ترير الكاثوليكية يزيد على المئتين، وجرى تعميده بروتستانتيا في أواسط العام ١٨١٧، واتخذ يومها اسم هاينرش بدلا عن هرشل.
لم تنقطع والدة ماركس عن يهوديتها وظلت على عقيدتها حتى بعد تعميد أولادها في الكنيسة البروتستانتية ومنهم كارل في العام ١٨٢٤، وكان وقتها في سن التعليم. وسجلت المدرسة ديانة والدة ماركس "يهودية". لم تحسن والدة كارل ماركس الألمانية قط، وكانت خطاباتها مكتوبة بألمانية خام خالية من الضبط النحوي وعلامات الترقيم، بل ظلت غريبة في ترير تعيش روحيا مع أسرتها البعيدة في هولنده في لغة قومها اليديشية، وهي خلاس لغوي يتحدث بها يهود أوروبا نمت خلال القرنين العاشر والحادي عشر من أصل لغات عدة منها الآرامية والإيطالية والألمانية والفرنسية والعبرية. والأغلب أن هذه المرأة القلقة قليلة التعليم حافظت على تقاليد يهودية في دار هاينرش ماركس، هذا بخلاف الأخير الذي اعتنق بثقة أفكار التحرر الفرنسية من القرن الثامن عشر، وكان بعبارة حفيدته اليانور، ابنة كارل ماركس، "رجل فرنسي من القرن الثامن عشر يحفظ فولتير وروسو عن ظهر قلب. كتب ابن هرشل وهنرييته في مرحلة لاحقة: "يٌثقل تراث الأجيال التي خلت كما الجبال على عقول الأحياء".
على كل حال، استطاع هاينرش ماركس تدبير شؤونه وراكم ما سمح له فوق عمله في المحاماة، أن يصبح مالكا لحقل من العنب في ترير. تشهد خطاباته على حسن تدبير للمال، وهو رب لأسرة من تسعة أطفال. كان كارل الثالث في الترتيب. مات أخوه الكبير موريتز ديفيد بعد ٤ أعوام من ولادة كارل، وصار بذلك الابن الأكبر، وبينهما أخت كارل ماركس الكبيرة سوفي التي تزوجت محاميا في هولنده وانتقلت معه إلى ماسترخت. مات كذلك أخوين وأختين بمرض السل في سن مبكرة، وتبقت أخته لويس التي تزوجت رجلا هولنديا انتقلت معه إلى كيب تاون في جنوب افريقيا، واميليا التي تزوجت مهندسا وظلت في ترير.
حكت عَمّات اليانور، ابنة كارل ماركس، لابنة أخيهم أن كارل كان طفلا شيطانا يقودهن كما الحصين عبر طريق منحدر في ترير بأقصى سرعة ويصر أن يطعمهن كعكا يصنعه من عجين متسخ بأيدي أقذر لكن قبلوا كل هذا منه، جري الحصين وأكل الطين، لأنه كان حكاياً، وكان جزاء صبرهن أن يقص لهن من قصصه الشيقة. تعلم هذا الطفل الشقي في الدار حتى عمر الاثني عشرة سنة ثم دخل المدرسة الثانوية في ترير، حيث تلقى تعليما حديثا تشرب فيه مفاهيم عصر التنوير ومزاوجتها بين الدين والعقل على أساس من تعاليم كانط. وقع كارل الصبي تحت تأثير مدرس التاريخ وصديق الأسرة هوغو فتنباخ، المدرس المناضل الذي قاد مظاهرة للمطالبة بحرية الصحافة في العام ١٨٣٢ حصد منها رقابة البوليس السري الذي اقتحم المدرسة ليجد منشورات ممنوعة ومطبوعات ساخرة معادية للحكومة عند الطلاب. كتب الطالب كارل ماركس في آخر سنين تعليمه المدرسي، وهو في عمر السابعة عشر، مقالا عن الاختيارات المهنية ضمنه هذه الجملة: "لا يمكننا في كل حال اختيار المهنة التي توافق مطلبنا، فعلاقاتنا الاجتماعية قد تشكلت بدرجة من الدرجات قبل أن نتمكن من تحديدها."
تصاعدت حركة حقوقية في ترير في تلك السنين حركت حتى ساكن هاينرش ماركس، قارئ فولتير وروسو، الذي لم يفارق حائط الطاعة قط. ألقى هاينرش ماركس المحامي خطبه في مأدبة عامة حض فيها ملك البلاد المفدى فردريك وليم الثالث على إجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية تليق بمقام حاكم عادل بصير، الأمر الذي جر عليه اهتمام البوليس. أنكر هاينرش في محضر التحقيق كل ما قاله في المأدبة، وأقنع المحققين أن الغنماية تاكل عشاه. ترك هذا السلوك الخانع أثرا كثيفا على العلاقة بين الوالد هاينرش والولد كارل، وقتها في عمر السادسة عشر، صارت لاحقا أزمة مستعرة تحت غطاء خطابات رقيقة مهذبة متبادلة بين الإثنين منها الخطاب التالي. ارتعد هذا المحامي، الذي كانت حياته كلها تقية في تقية، من شراسة عقل ابنه وحماسة إرادته، وحثه على ضبط نفسه واحترام كبار القوم وسادتهم، أي التلاؤم مع مطلوبات المجتمع كما هو قائم، وكان لكارل رأي آخر.
///
برلين، ١٠ نوفمبر ١٨٣٧
والدي الغالي،
ثمة لحظات في الحياة تقف كشواهد على زمان مضى وتؤشر كذلك بتحديد نحو وجهات جديدة.
نشعر في ساعات الانتقال هذه بقسر أن نتأمل بعين الفكر الماضي والحاضر حتى ندرك موقعنا الحقيقي. بل يحب التاريخ نفسه ساعات التأمل هذه ويستجمع نفسه فيها ما يجعلها تبدو كميقات تراجع أو ركود بينما هي في الواقع اتكاءه لإدراك ما يعتمل بداخلها، ساعات لانشغال الفكر بنفسه.
يصبح الفرد في مثل هذه الساعات شاعريا، فكل تحول في جانب منه كمثل شدو البجع، وفي جانب آخر استهلال قصيدة عظيمة تروم موقفا في ألوان فاقعة وإن مشوشة. ورغم ذلك نريد أن ننصب شاهدا على ما كان وانقضى علنا نستعيد بذلك في عالم الشعور ما دَرَسَ في عالم الأعمال، وهل من موقع لمثل هذا النصب أشرف من قلب الوالدين، أرق حَكَمين وأقرب شريكين، شمس الحب التي تدفئ نارها جوف مساعينا. هل من عذر مستحق لكل ما هو منكر أو معيب أكثر من اتخاذ هيئة ضرورة ملزمة. كيف يمكن ولو لبرهة صد التهمة أن ضلال النفس ولعبة الصدف المقيتة من فعل قلب سقيم.
مر عام على وجودي هنا وها أنا ذا ألقي نظرة على ما كان من أحوال، فاسمح لي يا والدي الحبيب أن أجيب على خطابك من «إمس» [اسم مدينة في إقليم الراين]، أعرض عليك ما كان من أمري وكيف أرى الحياة، فهي عندي تعبير عن عزم روحي يتبدى في كل وجه، في العلوم والفن، والحياة الشخصية.
نشأ حولي عالم جديد وقتما فارقتكم، عالم من الحب، حب غارق في الشغف وخال من الأمل. لم أجد من رحلتي إلى برلين، التي يممت شطرها وأنا غَرِدٌ طروب، تحثني تراويح الفكر الطبيعي، ويضرم في صدري لهب بتوق الحياة، سوى صقيع. لا بل عكرت نفسي أيما تعكير، فالصخر الذي رأيت لم يكن أكثر صلادة أو صمدية من مشاعر نفسي، والمدن العريضة لم تكن أكثر حيوية من دمي، وطاولات الحواني لم تكن أغنى أو أعسر هضما من تراكيب الخيال التي أروض، والفن لم يكن حتى يقترب من جمال جني [يقصد محبوبته وزوجته لاحقا جني فون فستفالن].
قطعت وقت وصلت برلين ما كان لي من صلات، وعزفت عن الزيارات واللقاءات وانغمست بكلياتي في العلوم والفنون.
بطبيعة الحال كان أول إنشائي بعد الحالة الروحية التي كنت فيها الشعر المقفى، وكان ذلك الأقرب والألطف، لكن كان بعلة تكويني ونموي حتى ذلك الحين شعرا مثاليا صرفا. وكما هو حبي صار شاغل فني، جنتي، بعدا مستحيلا. تشوش كل ما هو واقعي، وسرح كل ما هو مشوش، هجاء الحاضر، مشاعر فاردة لا هيئة لها، غير ذي جذر في الطبيعة، كأنما اقتطع من شبح القمر، على النقيض التام مما هو كائن أو يجب أن يكون، تأملات بلاغية بدلا عن أفكار شاعرية. لكن ربما اتسمت قصائد الدواوين الثلاثة التي أرسلتها إلى جني بشيء من دفء الشعور والشوق إلى الزخم، وربما توق عريض لا حدود له تشكل في أكثر من هيئة وصار به قرض الشعر اطراحا.
ولا يبلغ الشعر ولا يجوز له سوى أن يكون انشغالا جانبيا. واجبي أن أدرس القانون لكن استبد به طلب مجاهدة الفلسفة. وارتبط هذا بذاك فتلقفت من جهة هينيكوس وثيبوو والمصادر كما التلميذ، بغير شوكة نقدية، فترجمت أول مجلدين من القانون الروماني القديم إلى الألمانية، ومن جهة أخرى طفقت أبحث عن فلسفة للحقوق في غور هذا الحقل. أنشأت كمقدمة لهذه الترجمة بعض الفقرات الميتافيزيقية وواصلت مسعاي اللئيم هذا حتى بلغت القانون العام، عمل من حوالي ٣٠٠ صفحة.
برز هنا بالدرجة الأولى التقابل بين الواقع والمأمول، التقابل الذي يسم المثالية، عطب مضر نجم عنه التقسيم الخاطئ التالي. جاء أولا ما نعته بميتافيزيق القانون، أي المقولات الأولى والتأملات وتعريف المفاهيم منعزلة عن القانون فعلا وكل تمثلات القانون، كما يتطرق لها فيشته، لكنها عندي أحدث وأفرغ مضمونا. وفي ذلك، كانت الهيئة غير العلمية للدوغمائية الرياضية، حيث يراوح المرء حول المسألة، يجادل يمنة ويسرة، دون أن تنبلج كقضية حية، كانت من البداية عائقا أمام إدراك الحقيقة. يتيح المثلث للرياضي أن ينشئ ويثبت، لكن يظل المثلث محض خيال في الفراغ، لا يتطور إلى ما هو غير ذلك. لا بد أن يضع المرء هذا المثلث بإزاء أشياء أخرى، فيتخذ المثلث عندها مواقع جديدة، وهذا الاختلاف الناجم عن تحول ذات الأشياء في المواقع هو ما تصدر عنه علاقات وحقائق جديدة. في المقابل، يجب في حال التعبير الملموس عن مفاهيم حية كما القانون والدولة والطبيعة، وكل الفلسفة، رصد تقلب الموضوع في تطوره الباطني ولا يصح فرض تقسيمات اعتباطية، بل يجب ترك التناقضات المبطنة في منطق كل مسألة تطرح نفسها حتى تتحقق وحدتها الذاتية.
تبع ذلك الجزء الثاني حول فلسفة الحقوق، أي بحسب رأيي وقتها فحص تطور الأفكار في القانون الوضعي الروماني كأنما تطور الأفكار في القانون الوضعي (ولا أقصد بذلك في شأن تعريفاته المحضة) يمكن أن يكون أمرا مختلفا عن تطور مفهوم الحقوق الذي تضمنه الجزء الأول.
قسمت هذا الجزء بدوره إلى فصلين، نظرية الحقوق مفهوما وموضوعا، بحيث تشمل الأولى المفاهيم المحضة للنظام النظري في تتابعها وعلاقاتها ببعض كما تقسيمها وإحاطتها، ويشمل الثاني في المقابل المحتوى، تكاثف الشكل في مضمون. واشتركت بذلك والسيد فون سافيني في خطأ وجدته لاحقا في كتبه العلمية عن الملكية مع الفرق أنه يسمي التعريفات المفاهيمية «الموقع الذي يتخذه هذا المبدأ أو ذلك في النظام الروماني (المصطنع)» ويسمي التعريفات الموضوعية «تعاليم الوضعيات التي أقر الرومان لها مفهوم ثابت» بينما فهمت من ناحيتي تحت باب الهيئة بنائية صياغات المفهوم وتحت باب الموضوع السمات الضرورية لهذه الصياغات. والخطأ الذي وقعت فيه ظني أنه يمكن ويجب أن يتطور هذا منفصلا عن ذلك، الهيئة منفصلة عن الموضوع، وبذلك انتهيت إلى سكرتير صاحب أدراج وليس إلى هيئة، أدراج أفرغت فيها الرمل.
والمفهوم ما هو سوى وسيط بين الشكل والمضمون. ولا بد في طرح فلسفي للحقوق أن يقترن الأول بالأخير، فالشكل لا يجوز سوى أن يكون دالة للمضمون. وبذلك وصلت إلى تقسيم ييسر عرض المسألة وتصنيفها لكن أهدرت بذلك روح القانون وكنهه. كل القانون مقسم ما بين المقترن وغير المقترن بعقد. لتوضيح ذلك صممت هذا الجدول حتى التقسيم إلى الحق العام الذي أعرض له تحت باب الشكل:
(1) الحق الخاص
(أ) حول الحق الخاص المشروط بعقد
(ب) حول الحق الخاص غير المشروط بعقد
(أ) حول الحق الخاص المشروط بعقد
أ. القانون المدني
ب. قانون الملكية
ج. قانون الملكية الخاصة
أ. القانون المدني
١. عقد معاوضة
٢. عقد ضمان
٣. عقد تبرع
١. عقد المعاوضة
٢. عقد شراكة. ٣. عقد إيجار
٣. عقد الإيجار:
١. ما دام يختص بالخدمات. ٢. أ عقد الإيجار فعلا (ليس في معنى الإيجار الروماني أو إيجار الأرض). ب. تفويض
٢. ما دام يختص بالاستخدام
أ) استخدام الأرض (لكن ليس في المعنى الروماني المحض)، ب) السكن المنزلي (في المنزل الخاص، ولاحقا في منزل الغير).
٢. من عقود الضمان
١. عقد التحكيم
٢. عقد التأمين
٣. من عقود التبرع
٢. عقد تأييد.
١. كفالة. ٢. فضالة
٣. عقد هبة
١. هبة. ٢. وعد
ب. قانون الملكية
١. عن عقد معاوضة
٢. تبادل في معناه الأصلي
١. تبادل فعلي. ٢. قرض (ربوي). ٣. بيع
٢. من عقود الضمان
مساومة
٣. من عقود التبرع
٢. إعارة. ٣. إيداع
لكن، لماذا أصر على تحبير الصفحات بأمور صرت إلى رفضها. يطغى التقسيم الثلاثي على كل النص الذي كتبته بتعقيد مرهق، كما أسأت استغلال المفاهيم الرومانية حتى أحشرها حشرا في نظريتي، لكن فزت من جهة أخرى بتصور عام عن مادة الدراسة، بل وبحبها بطريقة أو أخرى.
بان لي في نهاية القسم بالقانون المدني خطل كل ما أنشأت، والذي يقارب التصميم الكانطي [من كانط]، ثم يخالفه في التنفيذ، كما بان لي استحالة الكشف عن حقيقة أي أمر دون الفلسفة. عليه، جاز لي أن ألقي بنفسي في حضن الفلسفة وأنشئ نظاما ميتافيزيقيا جديدا، أدرك بنهايته، منقادا، خبال هذا النظام وخبال كل مساعي السابقة.
في كل ذلك، حرصت على نقل مقتطفات من كل الكتب التي قرأت، وجعلت ذلك عادة لي، فنقلت من "لاوكون" من لسنغ، و"إرفين" من سولغر، وتاريخ الفن لفنكلمان، والتاريخ الألماني من لودنس، هذا بالإضافة إلى ملاحظات نقدية وتعليقات. بجانب ذلك، ترجمت كتاب تاسيتس "جرمانيا" وكتاب أوفيد "تريستريا" كما بدأت بتعلم الإنجليزية والإيطالية مباشرة من كتب اللغة والقواميس، وإن لم أحقق أي تقدم. قرأت كذلك كتاب كلاين عن القانون الجنائي وجميع أوراقه المنشورة، وكل ما استجد من الأدب، وإن وقع ذلك عرضا.
بحثت في آخر الفصل الدراسي مرة أخرى عن ملاهي الاستغراق وألحان التهكم، لكن أدركت حتى في ديواني الذي أرسلته إليكم، أن المثالية تطل برأسها عبر فكاهة مصطنعة ("سكوربيون وفلكس") ودراما فانتازية ("أولانم")، حتى تسيطر بالكلية وتنقلب فنا شكليا خالصا خال من القضايا الملهمة ومن الأفكار الحية.
رغم ذلك، هذه القصائد الأخيرة هي الوحيدة التي أفقت فيها، كما بعصا سحرية وآآخ! أي ضربة كاسرة كانت، إلى حقيقة أني بعيد كل البعد عن ملكوت الشعر الحقيقي، يبرق لي من المدى كما قصر الجنية، وتناثر كل ما أنشأت هباءً.
استبد بي الشعر في ليالي الفصل الدراسي الأول وأنا مشغول بهذه الشؤون المختلفة. وخبرت صراعات داخلية عديدة ومحفزات خارجية، فلم أخرج منها بكثير من الكسب وأهملت في هذا السبيل الطبيعة والفن والعالم وصددت أصدقاء. يبدو أن بدني نفسه انشغل بهذه التأملات، ونصحني طبيب بالسياحة في البلاد. لذلك ولأول مرة قمت بجولة عبر المدينة حتى البوابة ثم إلى شترالوف. لم أدرك أنني سأنضج هناك من هيئة الهزال الشاحب التي كنت فيها إلى صلابة البدن وتماسكه.
سقطت ستارة، وتهاوى أقدس أقداسي وصار لا بد من تتويج آلهة جديدة.
انتقلت من المثالية التي طعمتها وللمناسبة بعناصر من كانط وفيشته إلى البحث عن الفكرة في الواقع نفسه. إن كانت الآلهة قطنت سابقا فوق الأرض فقد صارت الآن في مركزها.
كنت قرأت متفرقات من الفلسفة الهيغلية فلم أطرب للحنها المتحجر المشوه، وأردت أن أغوص مرة أخرى في بحرها لكن بقصد الوصول إلى أن طبيعة العقل ضرورية وملموسة ومستحقة كما الطبيعة البدنية. لم أعد راغبا في ممارسة فنون الوقوف عند الأسوار بل أردت الخروج باللآلئ الصافية إلى وضح النهار.
كتبت حوارا من ٢٤ صفحة: "كليانثس، أو مبتدر الفلسفة وتطورها الضروري". وحدت في هذا الحوار لدرجة من الدرجات بين الفن والعلم، وقد افترقا بالكلية. قمت لأمرى سواحا مهرولا، وأنشأت عرضا فلسفيا ديالكتيكيا للألوهية وكيف تتبدى مفهوما في الدين والطبيعة والتاريخ. ومقولتي الأخيرة هي مبتدر النظام الهيغلي. تعرفت لهذا العمل بدرجة من الدرجات على العلوم الطبيعية، على شلنغ وعلى التاريخ، وكانت كتابته علة لصداع لا ينتهي، كتبته بصورة [كلمة غير واضحة في النص الأصلي] (كان يفترض أن يكون منطقا جديدا) بحيث تعذر على استعادة زمامه مجددا. هذا هو طفلي الأعز، رعيته بضوء القمر، وحملني كإنذار كاذب إلى حرز العدو.
فقدت القدرة على التفكير لعدة أيام لشدة الضيق، وجلت في الحديقة كالمعتوه عند ماء نهر السبريه القذر، الماء الذي "يغسل النفس ويصفي العكر" أو كما قال. بل انضممت إلى فريق صيد مع مالك الدار، ثم أسرعت إلى برلين وفي بالي أن أحضن كل من ألتقي في طرف الشارع.
خضت بعدها بوقت قصير في دراسات مفيدة، درست "الملكية" لسافني، ثم القانون الجنائي لكل من فيورباخ وغرولمان، "معاني الكلمات" لفون كرامر، الفقه القانوني الروماني لصاحبه فينينغ-انغنهايم والعقيدة الفقهية الرومانية لصاحبه موهلنبروخ، وما زلت منكب عليها، كما قرأت متفرقات للسيد لاوترباخ، ثم الإجراءات المدنية وفوق ذلك القانون الكنسي. وقد اقتربت من إكمال دراسة "الجامع في القانون" لفون غراتيان ونقلت عنه ملخصات. كذلك أكملت قراءة الملحق و"المؤسسات" من لانسلوتي. من ثم ترجمت قسطا من بلاغة أرسطو وقرأت "الحجج العلمية" للسيد بيكون من فيرلام ذائع السيط، وانشغلت كذلك بكتاب ريماريس "حول الغرائز الفنية للحيوانات، والذي أطلت فيه التفكير بمتعة. كذلك خضت في القانون الألماني، لكن فقط إلى حدود المرور على وثائق الاستسلام للملوك الفرانكيين والخطابات البابوية إليهم. اعتللت كما سبق وكتبت لك والدي العزيز لشدة انزعاجي من مرض جني ومن هدر مجهوداتي الفكرية التي لا طائل منها ثم بسبب الضيق الشديد كوني جعلت وجهة نظر مقيتة بالنسبة لي مثلا يحتذى. ثم ما إن تعافيت حتى أحرقت كل القصائد التي كتبت وكل خطط القصص الخ وذلك بأثر توهمي أن في مقدرتي اعتزال كل ذلك، ولما أقدم حتى الساعة دليلا على عكس ذلك.
تعرفت خلال فترة اعتلال صحتي على هيغل من البداية إلى النهاية كما تعرفت على طلابه. واستطعت من خلال عدة لقاءات مع أصدقاء في شترالوف أن أدخل ناديا للدكاترة يضم عددا من المحاضرين وأقرب أصدقائي في برلين، الدكتور روتنبرغ. تعرفت في الحجاج والنقاش الذي دار في النادي على العديد من وجهات النظر المتعارضة، وأسرت نفسي بذلك بسلاسل الفلسفة المعاصرة التي رمت الإفلات منها. صمتت الأصوات الرنانة من حولي وسيطرت علي لوثة تهكم، وكيف لا بعد كل ما جرى من نفي لمجهوداتي وتمحيص، أضف إلى ذلك انقطاع جني، فلم أجد موئلا حتى حققت بعضا من الحداثة والموقف العلمي المعاصر عبر إنتاج متهافت مثل "الزيارة".. الخ
اعذرني والدي الغالي إن لم أستطع في هذه السطور رصد كل ما وقع في الفصل الدراسي الأخير بوضوح وتفصيل وغمضت بعض الجوانب فذلك من شدة شوقي أن أتحدث عن الحاضر.
أرسل إلى السيد شاميسو إشارة غير مهمة على الإطلاق، يخبرني فيها أنه "يؤسفه القول إن المجلة لا يمكنها الاستفادة من مساهماتي وقد صدرت طبعتها منذ فترة طويلة." ابتلعت القصاصة من شدة الضيق. أما بائع الكتب فيغاند فقد أرسل مسودتي إلى الدكتور شميدت، صاحب دار نشر المخزن العجيب للجبن الطيب والأدب العَيّب، تجد خطابه مرفقا، لكن لم يرد الأخير حتى الآن. وعلى كل، لن أتنازل عن هذه المسودة أبدا، خاصة وقد وعد بعض مشاهير الفن من المدرسة الهيغلية بوساطة من الأستاذ الجامعي باور، صاحب الموقع المقدم وسطهم، وكذلك زميلي الدكتور روتنبرغ، تعاونهم في المسألة.
الآن والدي العزيز بخصوص السؤال عن مسار مهني في الإدارة، فقد تعرفت منذ وقت قصير على مراقب [ضريبي] اسمه شميدتهينر، ونصحني بالتحويل إلى هذا المسار كقانوني بعد امتحان الإجازة الثالث. والحق، وافقني هذا الرأي، فأنا أفضل القانون على كل علوم الإدارة. قال لي هذا الرجل أنه وغيره من دائرة القضاء البلدية في مونستر صاروا مستشارين بعد ثلاثة أعوام. وليس الأمر صعبا، بطبيعة الحال مع العمل الجاد، فالدرجات الوظيفية هنا ليست كما في برلين أو في أماكن أخرى ثابتة لا تتزحزح. وتنفتح إذا استطاع المرء لاحقا من موقع المستشار تحصيل درجة الدكتوراة فرص أيسر، من ذلك التعيين كأستاذ فوق العادة كما السيد غيرتنر في بون، والذي كتب كتابا متواضعا حول نظم القوانين الإقليمية ولم يعرف عنه سوى أنه من مدرسة القانونيين الهيغلية. لكن والدي العزيز الغالي ألا يمكن مناقشة كل ذلك معك شخصيا. يدفعني حال إدوارد وحال أمي ومعاناتها وتوعكك، مع دعائي أن يكون أمرا عارضا، إلى الأمل في الإسراع إليكم، بل الإسراع إليكم ضرورة. لو لا شكوكي في أنك قد تحجب موافقتك على سفري هذا لكنت بينكم الآن.
صدقني، والدي العزيز المحبوب، لا تحثني أي مصلحة ذاتية (مع أني سأسعد كل السعادة برؤية جني مجددا)، لكن تشغلني فكرة لا يجوز أن أفصح عنها. حقيقة الأمر سيكون سفري أمرا صعبا علي، لكن كما تقول وحيدتي جني الحلوة تتهافت هذه الاعتبارات أمام الإيفاء بواجبات مقدسة.
من فضلك والدي الغالي، ومهما كان قرارك لا تعرض هذا الخطاب أو على الأقل هذه الصفحة منه على أمي الملاك. ربما استعادت هذه المرأة العظيمة عافيتها وقامت إلى شأنها إذا وصلت بغير سابق إنذار.
كتبت الخطاب إلى أمي قبل فترة طويلة من وصول خطاب جني الحبيبة، وربما كتبت لذلك بغير وعي مني عن كثير من الأمور غير المناسبة.
أملي أن ينقشع الغمام الذي تراكم في سماء أسرتنا عن قريب، وأن أصيب فضل أن أعاني معكم وأبكي معكم وربما أن أثبت من موقع القرب منكم الحب اللامتناهي والعميق الساكن الذي أكنه لكم دون أن أوفق في التعبير عنه. وأملي يا والدي العزيز المحبوب أبدا أن تغفر لي حيث أخطأ قلبي كما يبدو مرارا وتكرارا وقد أذهله الروح المكابد، آخذا في الاعتبار تحولات نفسي وتقلباتها، وأملى أن تبلغ عن قريب تمام العافية، وعندها أستطيع أضمك إلى قلبي وأفصح لك عن كل ما يجيش بخاطري.
ابنك المحب أبدا كارل.
اعذرني والدي الغالي على خطي غير المقروء وأسلوبي الركيك، اقتربت الساعة من الرابعة صباحا، واحترقت الشمعة كلها إلا قليل وعيناي كأن بهما غشاوة. استبد بي القلق ولا أظن بمقدوري تهدئة هذه الأرواح الهائجة حتى لقاءكم الحبيب.
استحلفتك، وصل سلامي لجني، حبيبتي الحلوة الباهرة. قرأت خطابها للمرة الثانية عشر واكتشف في كل مرة محاسن جديدة. وهو بأي اعتبار نظرت، بما في ذلك الأسلوب، أجمل خطاب من امرأة يمكن أن يخطر لي على بال.
///
الخطاب من كارل ماركس وفردريك انجلز – الأعمال الكاملة. المجلد ٤٠. دار كارل ديتز للنشر. برلين. ١٩٧٣. ص ٣-١٠. اعتمدت في كتابة المقدمة على سيرتين لكارل ماركس: كتاب ازايا برلين "كارل ماركس: حياته وبيئته“ (صدرت طبعته الأولى في ١٩٣٩) وكتاب ديفيد مكليلان "كارل ماركس: سيرة" (صدرت طبعته الأولى في ١٩٧٣)، بالإضافة إلى سيرة اليانور ماركس، ابنة كارل ماركس الصغرى، بقلم يفون كاب (صدرت طبعته الأولى في ١٩٧٢).