Friday, 26 April 2024

هاييتي: دولة جيمي مشاوي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٧ بتاريخ ٢٥ أبريل ٢٠٢٤.

انهار في مارس الماضي توازن ضعف بين العصابات المسلحة والقوى الأمنية في عاصمة هاييتي بورتوبرنس لصالح الأولى واستطاع تحالف من العصابات بقيادة جيمي شيريزيه، الشهير بجيمي باربكيو أو جيمي مشاوي، أن يفرض سلطانه على العاصمة. فتح رجال العصابات أبواب السجون، وسيطروا على الميناء وأحرقوا مقار الشرطة والمحلات التجارية كما حاصروا المطار وشنوا حربا للنهب والسلب على الأحياء السكنية. هذه الفوضى عند جيمي مشاوي، الضابط السابق في القوات الشرطية الخاصة، هي عين التحرير، الذي قال هو هدف الثورة المسلحة على النظام القديم.

والنظام القديم عند جيمي مشاوي هو الفصل الأخير من تهافت طبقة الحكم في هاييتي والذي كانت بدايته اغتيال الرئيس جوفينيل موييز في يوليو ٢٠٢١ بيد فريق من المرتزقة ضمن مؤامرة طال فيها الاتهام زوجته حتى. بلغ رجل الأعمال موييز سدة الرئاسة بانتخابات كثرت فيها الطعون في نوفمبر ٢٠١٦، وهي انتخابات بديلة للانتخابات التي انعقدت في أكتوبر ٢٠١٥ وانتهت بخلاف مشهود على سلامة حسابها وتهم بالتزوير لصالح موييز حتى فرض المتظاهرون المحتجون على "الخج" إلغاءها بالمرة. 

اختار موييز قبل اغتياله بيومين آرييل هنري رئيسا للوزراء، لكن وقف بينه وبين المنصب سلفه كلود جوزيف بعون قادة الجيش الهاييتي، وكلود جوزيف هذا هو المتهم الأول في اغتيال موييز. انتقل السلطان لآرييل هنري بفضل مجموعة من الدبلوماسيين سموا أنفسهم المجموعة المحورية، أولاد قلبا، ضمت السفراء المعتمدين لكل من الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، كندا، فرنسا، ألمانيا واسبانيا في هاييتي إلى جانب ممثلي الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية في البلاد. اجتمع رأي هؤلاء أن آرييل هنري، السياسي المخضرم وجراح الأعصاب، هو الأنسب لرئاسة الوزراء وأجبروا كلود جوزيف على التراجع. وعد هنري أول عهده بعقد انتخابات جديدة في أقرب فرصة وتوصل في ١١ سبتمبر ٢٠٢١ إلى تفاهمات مع قادة الأحزاب وقوى سياسية مهاجرة من ضمنها اتفاق على تشكيل حكومة انتقالية بالتراضي بين الجميع وتعيين لجنة انتخابية مؤقتة مهمتها تنظيم انتخابات عامة آخر العام ٢٠٢٢. 

لكن سرعان ما عزل آرييل هنري أعضاء لجنة الانتخابات المتفق عليها من مواقعهم وأعلن تأجيل الانتخابات حتى إشعار آخر ثم أعلن حكومة جديدة في ٢٤ نوفمبر ٢٠٢١ بدون اعتبار لعهد ١١ سبتمبر ٢٠٢١. ثم عاد وجدد عهوده السياسية مع أحزاب معارضة وممثلين للمجتمع المدني في ٢١ ديسمبر ٢٠٢٢ واعدا بعقد الانتخابات في العام ٢٠٢٣ على أن تتولى حكومة منتخبة السلطة في فبراير ٢٠٢٤ ويقوم مجلس أعلى لشؤون الانتقال مكون من ثلاثة أفراد بالإشراف على الجهاز الحكومي والتعيينات في المناصب السياسية. 

أعلن هنري في سبتمبر ٢٠٢٢ تخفيض الدعم الحكومي للوقود وكانت النتيجة مضاعفة أسعاره للمستهلكين وسيل من الاحتجاجات الشعبية. تمكنت العصابات المسلحة بقيادة جيمي مشاوي خلال هذه الاحتجاجات من إغلاق الميناء الذي يستقبل الوقود المستورد وتوجه هنري إلى المجتمع الدولي يطلب العون بما في ذلك العون العسكري. تجددت أعمال العنف وازدادت خطورة بهجوم ضباط البوليس المتذمرين من زيادة أعداد القتلى في صفوفهم برصاص العصابات على مسكن هنري في يناير ٢٠٢٣ وكان وقتها في موقع آخر فسلم. غادر هنري هايتي إلى غايانا في ٢٥ فبراير ٢٠٢٤ ومنها إلى كينيا لإكمال مفاوضات طالت حول نشر ألف ضابط بوليس كيني في بورتوبرنس للمساعدة على حفظ الأمن وأجبرته العصابات التي استولت على المطار والعاصمة على طلب الأمان في بورتوريكو. 

لم تتمسك الولايات المتحدة ممثلة عن مجموعة أولاد قلبا كثيرا بحليفها هنري وناشدته بحسب متحدث الخارجية الأميركية في ٦ مارس ٢٠٢٤ "المسارعة بالانتقال إلى هيكل حكم جامع ومتمكن يقوم على وجه السرعة بمساعدة البلاد على الاستعداد لبعثة متعددة الأطراف للعون الأمني"، وأكدت أنها لن تقدم له أي عون لمساعدته على العودة إلى البلاد. ردد اجتماع دول الكاريبي (كاريكوم) في جامايكا الحكم الأميركي على هنري بصوت إقليمي فأعلن الوكيل المحلي اعتزال المنصب ثم استقالة حكومته متى ما اتفق الأطراف ذوي المصلحة على مجلس انتقالي للحكم بتمثيل واسع، كما ورد في الصيغة الأميركية المعروفة. 

من جهته، ردد جيمي مشاوي، الذي بيده مصير العاصمة وأهلها، الوعيد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر وإبادة جماعية إذا ما عاد هنري إلى السلطة وطالب بضم شخصه إلى زمرة أصحاب المصلحة وفق العبارة الأميركية. قال رؤساء دول الكاريبي في نهاية قمتهم التي انعقدت في غياب هنري وفي حضور وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنهم يواصلون الجهود في البحث عن إطار سياسي صالح للانتقال السياسي يحقق المطلوب الأميركي في الإسراع بإكمال المهمة، قفل واحتفل. نال هذا الإعلان الرضى الأميركي فقالت الخارجية الأميركية أنها تساند "المقترح الذي تم إعداده بالتعاون بين كاريكوم [منظمة دول الكاريبي] وأصحاب المصلحة الهاييتيين للإسراع بتحقيق الانتقال السياسي عبر تشكيل مجلس رئاسي مستقل واسع التمثيل." وسيتشكل هذا المجلس الموعود من سبعة أعضاء كاملي الأهلية ومراقبين إثنين بما في ذلك ممثلين لعدد من التحالفات السياسية والقطاع الخاص ورجل دين واحد، وستكون مهمته الأولى الاستجابة للمطلوبات الملحة لشعب هاييتي بما يمكن من انتشار قوة لحفظ الأمن وتهيئة الظروف الملائمة لإجراء انتخابات حرة. 

قال جيمي مشاوي لمراسل سي إن إن في مارس ٢٠٢٤ أن هدفه هو تغيير النظام في هاييتي وبناء هايتي جديدة، مهمة جند لها خلاف رجال العصابات خارج السجون أربعة آلاف آخرين خرجوا لتوهم عنوة واقتدارا من أكبر سجنين في العاصمة. لم تتحقق لمشاوي الغلبة ضد خصوم من عالم العصابات بيسر فقد قاتل على رأس عصابته لعدد من السنين ضد جماعات مناوئة في معارك حضرية بلغ ضحاياها في العام ٢٠٢٣ فقط حوالي الخمسة آلاف نفس، معظمهم من غير المسلحين. ولمشاوي غبينة مع هنري بين أسبابها أن مشاوي كان صاحب حظوة عند موييز القتيل، وبلطج رجال مشاوي لصالح موييز وتوسعت رقعة سيطرتهم في العاصمة خلال فترة حكمه حيث كانت مهمتهم قمع المظاهرات المعادية له، بخاصة من مدن الصفيح. 

لكن اكتشف مشاوي بعد مقتل صفيه موييز أن هاييتي تحت حكم هنري وقعت في يد صفوة ثرية من أهل الحظوة علامتهم لونهم «الأخدر» الفاتح حتى القمحي بينما غالب أهل البلد من السود المظاليم، وحانت الساعة أن يتولوا أمرهم بيدهم. "أول ثورة نحتاجها هي ثورة في الذهن" فقد "حولت هذه الصفوة الناس إلى هُمّل تُبّع، ولا بد أن نحارب كل هذا، نحارب ونرفع وعي الناس، وهذا شغلنا في الأحياء الفقيرة." "نشرح للناس كيف ألقت بهم البلاد إل القاع، ومتى ما أدرك الناس أن الدولة هي المسؤولة عن أوضاعهم التي يعيشونها، لن يظل شخص واحد يريد أن تستمر هذه الأوضاع. إنها مسألة وقت." بل نسب مشاوي نفسه إلى مارتن لوثر كنغ وقال ثورته المسلحة ضد نظام هنري والنظام جملة قضيتها نصرة السود المستضعفين، لكن الفرق أنه يقاتل بالسلاح بينما عَفّ كنغ السلاح. 

يكرر مشاوي في مقابلاته الصحفية العديدة: "لست لصا، ولست متورطا في الاختطاف، ولست مغتصبا، أنا فقط أخوض حربا اجتماعية." واقع الأمر، بدأ مشاوي مهنته الجديدة كزعيم عصابة بعد تورطه وهو بعد ضابط في البوليس عام ٢٠١٨ في مقتلة كبيرة في حي لا سالين بلغ قتلاها فوق السبعين ومغتصبات سبع وأربعمائة دار محترق. وتهيأ له بالسيطرة على أعظم عشوائيات بورتو برنس التحكم بالشوارع التي تحيط بالعاصمة وبالدرجة الأولى بإمدادات الوقود. جعل مشاوي من هذه السيطرة ريعا مدرارا تعاظمت به قوته العسكرية. فهو رجل عصابات ورجل أعمال وصاحب يد سخية كذلك، يعرفه أهل العشوائيات كمحسن يتكفل بمصاريف المدارس عن الأسر الأرق حالا، بيده عذابهم وبيده كذلك نجاتهم. 

انقطعت عاصمة هاييتي بورتو برنس عن العالم منذ سيطرت عليها العصابات تحت إمرة مشاوي وحولتها إلى "سجن كبير" بحسب صحفي مرموق ظل مرابطا في موقع آمن جنوب العاصمة. تبخرت هياكل الحكم والنظام، أي نظام، وحولت العصابات وسط العاصمة إلى هياكل محترقة وأكوام من الركام. أعلنت النشرة الحكومية التي تصدر تحت ولاية الأمم المتحدة يوم ١٢ أبريل ٢٠٢٤ قيام مجلس رئاسي انتقالي من تسعة أعضاء، سبعة مكتملي الأهلية يحق لهم التصويت، كما في المقترح الأميركي، يتولى مهام قيادة الدولة حتى انتخاب رئيس في تاريخ أقصاه ٧ فبراير ٢٠٢٦. استبعد المجلس من عضويته جيمي مشاوي باعتبار العقوبات الأممية المفروضة عليه، وقالت النشرة الحكومية كذلك باستبعاد كل مدان أو متهم في جريمة وكل مناوئ لانتشار قوة أمنية دولية في هاييتي من الانتخابات، أصابع متعددة تشير إلى مشاوي وصفه. بل وضع أولاد قلبا شرطا لعضوية المجلس الموافقة المسبقة على القوة الأمنية الكينية المنتظرة. 

جاءت ردة فعل مشاوي على هذه الإعلان بين المظلومية والإرهاب، قال عن المجلس إنه خبث غير شرعي من النظام السياسي الفاسد ونده لجنوده: "اقطعوا رؤوسهم وأحرقوا ديارهم"، شعار اختلسه من شعارات حرب استقلال هاييتي أواخر القرن الثامن عشر حتى النصر في يناير ١٨٠٤، الحرب التي صارت بها هاييتي أول دولة في العالم تبطل الرق إبطالا تاما. وشعار الثورة الذي اختلسه مشاوي يعود إلى جان جاك ديسالين، أول زعيم لهاييتي المستقلة، القائد العسكري الذي تآمر مع الفرنسيين لإبعاد بطل الثورة الأول توسان لوفرتر، الكاتب والمثقف، ولما تحقق له ذلك انقلب على الفرنسيين بقوة وهزم جيش نابليون. وتاريخ هاييتي المبكر نزاع بين هذا وذاك: لا لا لا، وي وي وي!

Tuesday, 16 April 2024

أصوات تحت الحصار: مستورة والحمد لله

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٥ بتاريخ ١٥ أبريل ٢٠٢٤.

تُسطّر التقارير الإنسانية الدولية الحرب كحد قاطع بين ضحايا وناجين، ينغ ويانغ، أرقام تتراكم من القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين والمغتصبات والمعتقلين والجوعى وغير ذلك من تقاسيم الهلاك والأذى. وجمع هذه الأرقام وترتيبها وعرضها صناعة بيروقراطية بحالها، هي بعض شغل المنظمات الإنسانية الدولية، صناعة نشأت من القوامة الحديثة على الأجساد، وتشمل تعريف هذه الأجساد ودمغها وقياسها وتصنيفها وفرز الصالح منها من الطالح. وقاعدة هذا القياس والتبويب في كل حال حرث قوة العمل، هل تبقى منها شيء في الجسد المتضرر يدر فائض القيمة أم انقطع ودخلت حساب الخسارة؟ أم هي كلها من فائض قوة العمل التي لا لزوم لها في حقيقة الأمر والواجب محاصرتها حيث هي حتى لا تتسرب إلى سوق عمل محروس بالديدبان فتفسد ميزان عرضه وطلبه. 

يداخل المنطق الناظم للصناعة الإنسانية المنطق الناظم للشوكة في الدول الكبرى ولهذا الظل المشترك بين الإثنين اسم هو العقيدة في «المسؤولية عن الحماية»، الصيغة المعاصرة لعبء الرجل الأبيض وقوامته. لذلك قد ينتهي شاغل إنساني كبير إلى حملة حربية كبيرة، لا للحرب إلى نعم للحرب الأكبر. وأقرب مثال معاصر الحرص المعلن على مصير أهل بنغازي خلال الانتفاضة الليبية في فبراير ٢٠١١ الذي كانت ترجمته في قاموس «المسؤولية عن الحماية» قرارا من مجلس الأمن الدولي (القرار ١٩٧٣) في ١٧ مارس ٢٠١١ يخول الدول الكبرى شن حملة حربية على ليبيا، وحدث ما حدث. وهو ذات المجلس الذي لا يعنيه مقتل أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف فلسطيني في قطاع غزة بالآلة الحربية الصهيونية خلال الستة أشهر الماضية، بمعدل واحد من كل سبعين شخصا في القطاع. 

لا غرو إذن أن الباب مفتوح على مصراعيه بين الوظائف العليا في المنظمات الإنسانية الدولية وبين مواقع المسؤولية السياسية في الدول الغالبة. انقلب الطبيب برنارد كوشنير، أحد مؤسسي منظمة «أطباء بلا حدود» ومنظمة «أطباء العالم» وزيرا لخارجية فرنسا (٢٠٠٧-٢٠١٠) في عهد رئاسة نيكولاس ساركوزي، واشتهر بحماس تبشيره بما يسمى "التدخل الإنساني»، فضرب الطبول للحرب على العراق وأنذر من موقعه كوزير خارجية إيران بحرب وشيكة ما ظلت خارج بيت الطاعة الغربي. كما تحولت سامانثا باور من سفيرة للولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة (٢٠١٣-٢٠١٧) إلى مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في ٢٠٢١، وكانت صعدت الدرج السياسي عبر الصحافة الحربية في حروب يوغوسلافيا لتشغل مواقع المسؤولية في إدارات حقوق الإنسان في الحكومة الأميركية خلال عهد الرئيس أوباما، ولها يُنسب إقناع أوباما بالتدخل الحربي في ليبيا. 

لا تقع لذلك قارئة التقارير الإنسانية عن الحروب على معنى للأرقام التي تتراكم سوى السعادة بالنجاة أو الذنب بها، خاصة وهي تقرأ في الغالب من موقع لا يطالها فيه الأذى الحربي الذي يخلّف مثل هذه الأرقام أو في اتصال بشغل هذا الضرب من الصناعة، صناعة الإنسانية الدولية، وما يحيط بها من مؤسسات دولية وبيروقراطية ودبلوماسية. تتحايل مثل هذه التقارير على عقمها الشعوري بالصورة والرواية، خاصة إذا كان الغرض ما يسمى في عرفها «المناصرة». وتختار في الغالب صورا لعذاب الأفراد ومعاناتهم، بصرية وسردية، تعرضها كلحم دميم، مثلها مثل سحجات وكدمات متحدث «تقدم» التي قال لا يقوم الدليل «الإكلينيكي» على اغتصاب النساء إلا بها.

سرعان ما يثلم مثل هذا الترخص في عرض المعاناة بغير حوض حيوي من الاجتماع والثقافة ليصبح بورنوغرافيا حربية، قد تغري مشاهدتها لكن لا تورث عبرة ولا معنى. مدار البورنوغرافيا الحربية جسد الضحية المكشوف، لحمها العاري من أثر الجوع أو الاغتصاب أو اختراق الرصاص أوالقصف والحريق وصنوف لا تنتهي من الأذى. ووسيلتها، صورة وسردا، خبطا فوتوغرافيا، يؤبد لحظة سقوط الضحية ويكبت السابق واللاحق من الأجندة. فالضحية اسم في محل الرمز وعمر وإثنية ودين، أي هوية - خاصة إذا كانت هذه مسألة «المناصرة» - وجرح خرج ولم يعد أوصافه كالآتي...الخ. وكلما أوغل مثل هذا الجنس الفوتوغرافي، صورة وسردا، في التفاصيل كلما اقتم سطحه، تظليل دوكو لا يكشف سوى ربما حركة شبحية، والعلة ربما ديالكتيك الجاني والضحية الذي بين قطبيه الجناية.

كيف تعرض إذن صحافة دافعها الحب والتضامن الأذى الحربي دون أن تتدهور إلى بورنوغرافيا للضحايا؟ اكتشفت الأستاذة ملاذ عماد في بابها "أصوات تحت الحصار" ربما بفطرتها النسوية سهلا ممتنعا في هذه المسألة، لا تعرض فيه خلق الله كضحايا عراة من المعنى وإنما تذيع عنهم جهودهم البطولية لامتلاك زمام أمرهم في وجه قوى جبارة وذلك بعبارتهم ونحوهم وبلاغتهم دون تدخل من ناحيتها ولا تعليق. فهي تحجب حتى أسئلتها التي تفتح بها باب الكلام، ربما "كيف، تمام؟" و"عاملين شنو مع الاشتباكات؟"، وتترك الميكروفون مباشرة ودون تسويف لأصحاب الشأن. فوق ذلك لا تعرض من هويات أبطالها شيئا، إلا ما يتسرب خلسة في سياق لقاء أخوان في الإنسانية، جنس امرأة ورجل أو مهنة. تذيع الأستاذة ملاذ عماد أصوات يومية من جغرافية حربية، وتُخرِص بذلك النزع البورنوغرافي - ده منو؟ ماله؟ - لتحل محله أشاير الحياة النابضة. لا تقابل قارئة "أصوات تحت الحصار" أبطال الحرب هؤلاء في حبس الجاني والضحية في انتظار أن ينفجر الرأس برصاصة أو ينهد الدار على الأبدان بدانة أو تنهتك النفوس بعنف مغتصب في تلك البرهة الفوتوغرافية وإنما تقابلهم في سعيهم الحياة وجريان الزمن. تقابلهم القارئة في سوق الشعبية بشتروا كيلو لحمة عادي وصافي من الهادي بي خمسة وستة ألف، أو في بيوتهم وكت يكون في دانات كثيرة وبعملوا قراصة بسكر أو في المواصلات بين الحلة والصينية السوق المركزي أو في مداخل مستشفى الرازي والفؤاد وقد أغلقت أبوابها دون مرضاهم وصارت محتكرة لجنود الدعم السريع لا غير. حتى قتلى "أصوات تحت الحصار" لم تنقطع حياتهم بغير غرض فهم أسياد عربات الكارو الذين قبض عليهم الدعامة وقتلوهم لكسرهم الحصار على الفتيحاب بنقل المواد التموينية من الجبل عبر العشرة. 

والحرب التي تنقلها "أصوات تحت الحصار" ليست حربا عبثية بين جنرالين وكفى كما في التصوير الكاريكاتوري الرائج، لكنها مقاومة من أجل الحياة تدور في الأفران والدكاكين والطواحين والجزارات والأجزخانات والتكايا، يبدأ فيها اليوم بتدوين المدفعية مع صلاة الصبح ويمر عادي جدا أحيانا، المحلات فاتحة والبضاعة متنوعة، والناس تتحرك عادي لحد المغرب، يسعى فيه عساكر الجيش أرزاقهم أحيانا بالبيع والشراء. فوق ذلك تكشف "أصوات تحت الحصار" عن قماشة مشتركة بين أبطالها حيثما كانوا، في مدن العاصمة وفي الأبيض وبابنوسة والجنينة والضعين والفاشر وود مدني وغيرها، في مقابل الموت الذي يتهددهم، موت الاجتماع، موت الحلة والأهل والأسرة والدفعة والأصدقاء بالدرجة الأولى ثم موت الفرد، قماشة ستر. ذلك في مواجهة قوة للموت المجاني، "رديت حتموت، اتلاءمت حتموت، قاويتهم في عربية لا غينمة ولا اتلايقت حتموت، كذبت عليهم حتموت، اتلولوت حتموت." ومن قماشة الستر هذه أحسن ما في "أصوات تحت الحصار"، ترجمتها للأمل كممارسة يومية، ليس هبة بين يدي دلالي سوق السياسة أو حربا أخرى تصدر أوامرها مثل سامانثا باور لكن همة للجماعة، "طلع العيش، والناس طحنتو وانتهت، الفول حيكون طالع الأيام الجاية والقمح اتزرع الحمد لله قبل الضرب دا يبدأ."