Saturday, 24 August 2024

واه يا عبد الودود: ماركس عند الحدود

هذا تلخيص بالعربية من ورقة الدكتور آدم هنيه والدكتورة رفيف زيادة "اضطراب مغزى الحدود: الهجرة والعرق والطبقة اليوم". صدرت في مجلة «المادية التاريخية»، م ٣١.٣ (٢٠٢٣)

تعرض الورقة للهجرة الدولية وطبيعة الحدود القومية من موقعي الطبقة والعرق. وتبدأ بشغل المرحوم ماركس عن الاجتماع القائم على إنتاج السلع وتبعات ذلك على مستوى الدولة السياسية والمواطنة ومن ثم الحدود والقومية، أي الصيغ الجغرافية للرأسمالية في مقابل التكوينات ما قبل الرأسمالية. ثم تنتقل إلى تكوين الطبقة والعرق في السوق الكوني المعاصر بالنظر إلى (١) حركة قوى العمل عبر الحدود وعمليات التكوين الطبقي، (٢) الهجرة وتحديد قيمة العمل، و(٣) العمل القسري وغير الحر.

يبدأ المؤلفان على سنة ماركس بتجمير مفهوم الحدود، وتمييز الشكل من المضمون، وهذا التمييز وإدراك الديالكتيك الرابط بين طرفيه ركن ركين من أركان ماركسية ماركس إذا جاز التعبير. يعتمد الأدب الخاص بالحدود تعريفا وظيفيا للحدود، والافتراض أنها موجودة لأنها تقوم بوظائف معينة في خدمة رأس المال (أو الدول الرأسمالية) فهي تخفض من قيمة قوى العمل، تقسم السكان، وتوفر قاعدة قومية للشوكة الدولية وما إلى ذلك. هذه هي وظائف الحدود، ولا غنى عنها في طريقة عمل الرأسمالية.

يفترض هذا التصور أن «شكل» الحدود نفسه كما يبدو لوعي السكان أمر بديهي كما القماشة التي تنطبع عليها تقسيمات العرق والطبقة. والقضية على سنة ماركس هي تمحيص هذا الشكل، والتساؤل لماذا اتخذت الرأسمالية الشكل الجغرافي لوحدات قومية ذات سيادة تحدها حدود وتنظمها ممارسات حدودية وأنظمة للمواطنة. وسنة ماركس في هذه المسألة تمييزه بين جوهر حقائق الاجتماع ومظاهرها المباشرة ومن ثم تاريخية الحدود. فالحدود كما انطبعت في الدولة الرأسمالية غير الحدود في التكوينات ما قبل الرأسمالية. وانتقد ماركس «المظاهر» أو «الظنون»، كما في بيت عبد الرحمن الريح "خالفت الطبيعة وتابعت الظنون" في درة الحقيبة المتأخرة "لو انت نسيت". وكشف الازيرق عن غتغتة هذه «المظاهر» على الطريقة الفعلية التي يعمل بها الاجتماع. ويخالف المرحوم ماركس في واقع الأمر ما استقر في خاطر اليسار الجزافي ويساريين جناح أم فكو من صدع بين «المادي» و«المثالي»، ومصدره قراءة مخاتلة، لا تنقصها البلادة، لاستعارة ماركس الشهيرة «القاعدة/البناء الفوقي»، الاستعارة التي طوحت بفطن قراء كثر للمرحوم ماركس. 


الحدود وتدليس الشكل القومي

يرتبط تجنيد العرق كتصنيف اجتماعي ارتباطا وثيقا بنشأة الدولة القومية التي تأسر أفرادا أحرارا بالنية، لكل منهم حقوق مواطنة ضمن حدود بينة هي مناط السيادة. وتمثل الفروقات العرقية وعقائد التفوق العرقي منذ القرن الخامس عشر قاعدة طموحات الدول القومية المتنافسة في سعيها لتأمين الجغرافية والموارد. ونشأ في هذا الخضم طيف واسع من التصنيفات الأخرى التي تتداخل والهوية العرقية السيادة، المواطنة، الإثنية، الجنسية، وما إلى ذلك، وكلها ترتبط في أصلها بتطور عالم يبدو ظاهرا مقسما بنظام دقيق بين دول قومية. والحدود في هذا السياق لا غنى عنها، فهي التي ترسم خريطة القوميات وكل التصنيفات الاجتماعية القائمة على الشكل القومي. فما هو هذا الشكل القومي؟ ما هذا الانطباع المرسل أننا نعيش في عالم يتكون من دول قومية ذات حدود قطعية؟ 

تثبت ورقة الدكتور هنية والدكتورة زيادة، لله درهما، مسألتين: الأولى أن الحدود تنشأ مباشرة من طبيعة الرأسمالية كنظام اجتماعي عصبه إنتاج السلع، والثانية أن هذا الانطباع هو في آخر الأمر تدليس آيديولوجي لحقائق اجتماعية، ومن ثم يطرح الكاتبان اضطراب مغزى الحدود في اتصال مع التكوين المشترك للعرق والطبقة.

وضربة البداية أعسر شغل ماركس وجوهرة بناءه: «شكل» السلعة كقولك "حركة في «شكل» وردة". وينفع القارئة في موضوع «الشكل» أو «المظهر» أو «الظنون» قوله تعالى "إن بعض الظن إثم". وإدراك تحولات «شكل» الوردة فتح من فتوحات ماركس لكنه ليس فتح حصري، فمثله عند المرحوم عبد الرحمن الريح: "أيام كنت ساذج كنت راقي وحنون، تغريك العواطف وتشجيك الفنون، أما الآن فصرت تقول الحب جنون." وعتب المرحوم عبد الرحمن على المحبوبة تحولها عن محتوى الحب كعاطفة وذوق إلى مظهره كجنون. وقصيدة المرحوم عبد الرحمن الريح، درس في الديالكتيك، تصلح موضوعا لكورس المرشحين في حزبنا رد الله غربته. ومثل ذلك اكتفاء اليساريين جناح أم فكو بنبذ المسيد كمظهر اجتماعي رجعي في ظنهم وغربتهم عنه كمعسكر لإعادة إنتاج التربال ومسكن للاقتصاد القيمي، شيلني وأشيلك، عندك خت ما عندك شيل، كمثل غربتهم عن الدين، تجريد الاجتماع وضامن هذا الاقتصاد القيمي في الزمان والمكان، "روح عالم لا روح فيه" بعبارة الإزيرق، في مجتمع لما ينقطع عن منابته قبل الرأسمالية. 

على كل حال، لب شغل ماركس هو تمييز الجديد في مجتمع يقوم على تعميم التبادل السلعي في مقابل التبادل السلعي العرضي والمحدود جغرافيا في المجتمعات ما قبل الرأسمالية. على خلاف صيغ الاجتماع البشري ما قبل الرأسمالية حيث تنظم الحياة الاجتماعية علاقات قسر وإذعان مباشرة يتقابل الناس في المجتمع الرأسمالي كأفراد مستقلين ملاك سلع. ولأن البشر كائنات اجتماعية تتطلب العلاقة بينهم وبين الطبيعة وإعادة إنتاج أنفسهم توزيعا للعمل الاجتماعي بمقادير محددة. ووسيلة التوزيع لهذه المقادير تحت شروط تعميم الإنتاج السلعي تبادل نتائج عملنا، أي السلع، فيما بيننا. وعقدة المجتمع الرأسمالي هي أن ملاك السلع الأفراد يتخذون القرارات الخاصة بالإنتاج، متى وكيف تنتج السلع، وباستطاعة المجتمع رغم ذلك تنظيم توزيع العمل الاجتماعي بمقادير محددة بما يضمن   بما تيسر استمراره. وهدف شغل المرحوم ماركس الأساس كان الإجابة على سؤال كيف وكيف؟ ولذا بدأ شغله بالطبيعة المزدوجة للسلعة، فهي موضوع للنفع، تأكلها وتشربها وتلبسها وتسكر بها، وهي كذلك حاملة لمقدار معين من العمل الاجتماعي المجرد. ومن ذلك خلص إلى مفهوم «القيمة» كمنفلة لتنظيم توزيع وقت العمل الاجتماعي المجرد، الوقت الذي يستغرقه انتاج سلعة ما. 

وعند المرحوم ماركس الرأسمالية ليست مجتمع قائم على التبادل وكفي إنما هو مجتمع قائم على «استغلال» قوة العمل. ومعظمنا لا يملك سوى «قوة العمل» هذه كسلعة يعرضها باستمرار في سوق الله أكبر. ولذا انتهى المرحوم ماركس إلى أن طبيعة العمل البشري تحت نير الرأسمالية مزدوجة الحرية: معظمنا حر من وسائل الإنتاج، أي خلو منها، لا نستطيع إليها سبيلا، ومعظمنا كذلك أحرار أن نبيع قوة عملنا كما يناسبنا. وشرط الحرية الثانية استبعاد القسر المباشر من عملية الإنتاج. وإن كان الواقع يكذب هذه الحرية الصورية. فالرأسمالية لا تستغني عن هيئات ودرجات متفاوتة من العمل القسري، بما في ذلك العمل المنزلي الذي يقيد حرية المرأة، ويحبسها في روتين بليد جنن لينين.

كذلك يتصل ملاك وسائل الإنتاج، البرجوازية ست الاسم، ببعضهم البعض كأحرار متساوين في تبادل السلع، كما لا تنبع السلطة السياسية مباشرة من الامتيازات العرفية. لكنه مجتمع يقوم على الهيمنة الطبقية ورباطه صيغ من التنظيم الاجتماعي والشوكة التي تؤمن حقوق الملكية الخاصة وعمليات التبادل. أين القوة السياسية إذن؟ تتشكل هذه في المجتمع الرأسمالي، وهذه ميزته، خارج مدار العلاقة بين رأس المال وقوة العمل في مجال مستقل هو السياسة، وهذا «مظهر»، مظهر المفاصلة بين المجال السياسي والمجال الاقتصادي. القضية الرئيسة مما سبق أن بين «شكل السلعة» ونشأة الشخوص كمواطنين في التجريد (بدون اعتبار للعمل الذي يقوم به أي منهم أو موقعه الموروث أو الاعتباري، أفندي ولا شيخ حلة، جده حامد أب عصا أو جده جنيد) ضمن دول ذات سيادة رباط وثيق. وتقوم المفاضلة الظاهرية بين المجالين السياسي والاقتصادي على تجريد البرجوازي والعامل كمواطنين متساوين ظاهرا لكل منهم ذات الحقوق، ظاهر الأمر، ضمن الحدود التي تسيطر عليها الدولة السياسية.

تنشأ من هذا الرباط التصنيفات الاجتماعية المختلفة التي تعبر عن الانتماء القومي أو الارتباط بجغرافية ما ومن ثم دولة ما - المواطنة، العرق، الإثنية، الجنسية وما إلى ذلك. والوطن بهذا المعنى تكريس للتمايز بين المواطن والأجنبي، نحن وهم. نحن من هنا والجماعة ديل من زحل. من ناحية أخرى، الوطن جرافة لتدمير التصنيفات الرجعية والامتيازات القديمة، هو مجال صيانة حقوق المواطنة. فحقيقة الانتماء مجلبة لمنافع أخرى (بالمقارنة مع غير المنتمين)، وقاعدة المساواة الظاهرة بين مواطنين. والتعبير عن حقوق المواطنة مجالها قانون تضمنه قوة الدولة التي تبسط سيادتها على جغرافية معينة وتقيم شخوص الأفراد كرعايا لهذه القوة المجردة.

 

توطين «شكل السلعة» في جغرافيات 

بطبيعة الحال لم يتم توطين «شكل السلعة» في وحدات جغرافية ضربة لازب وفي كل مكان مرة واحدة. دفعت عوامل أزمة الإقطاع المتطاولة والحروب المتعددة والصراع الاجتماعي الحاد في أوروبا الغربية نحو بزوغ الصيغ القومية وظهور تصنيف المواطن/الأجنبي، سمة الانتماء القومي. جرى هذا التحول بطريقة متباينة زمانيا ومكانيا على مدى السوق العالمي، وارتبط تعزيز الانقسام بين المواطن والأجنبي ارتباطا وثيقا بالعرق كحد للاختلاف بحيث تطابق الانتماء القومي مع هوية اثنية أو لغوية أو عرقية معينة. وقد تباين تعزيز هذا الانقسام واختلف عبر جغرافية السوق العالمي. وقام هذا الارتباط بين الانتماء القومي والهوية العرقية على سوابق في التاريخ الأوروبي، منها عقيدة التفوق العرقي للجيوش المسيحية التي حاولت التخلص من الحكم الإسلامي في الأندلس في القرن الثالث عشر، والامبراطوريات الاستعمارية وفرض حدود قومية على الجهات التي خضعت للسيطرة الأوروبية. ونشأت عن كل ذلك تقسيمات عرقية وسمت هؤلاء الناس وأولئك بأنهم غير أحرار. واتصل كل ذلك مع ترتيب هرمي لتقسيمات ثانوية داخل الحدود القومية للأمم التي وقعت تحت نير السيطرة الغربية، تقسيمات على أساس الهويات الإثنية والطائفية والطبقية. خلاصة الأمر، أن بزوغ الدول الرأسمالية ترافق مع اتجاه للتمييز وليس للتسوية، لتعزيز الفروقات المناطقية والثقافية في صورة فروقات «عرقية».

وللمرحوم ماركس في هذه المسألة مبضع، تتميز به الأفكار والتقسيمات الذهنية التي نتوسل بها فهم العالم عن العلاقات الاجتماعية الداخلة في تكوين الرأسمالية كنظام اجتماعي الأساس فيه تعميم الإنتاج السلعي. ومهارة المرحوم ماركس لا تكمن كما في الابتذال الدارج في تأسيس قوامة اقتصادية ينتصب فيه «المادي» على «المثالي» كما قد تشي بذلك استعارة القاعدة والبنية الفوقية وإنما في نفي إمكانية عزل «المثالي» كمجال للواقع يفارق «المادي» أول الأمر. ونقد ماركس للمثالية في كتابه «الآيديولوجيا الألمانية» بمثابة مقارعة للمثالية ألا سبيل لتمييز المادي عن المثالي، فإنكار ماركس للمثالي إنكار أولي لاستقلاله عن «المادي». وتركيز ماركس وانجلز في «الآيديولوجيا الألمانية» على هذا الفصال بين الوعي والأفراد الذين هم بشخوصهم وظروفهم قاعدة هذا الوعي، وبذلك «المثالي» مستحيل موضوعيا. 

بهذا المنظور فإن المفاهيم التي نتفكر بواسطتها في العالم الدولة والقانون والعرق والحدود والانتماء القومي.. الخ هي أشكال الوردة التي يبدو فيها العالم لناظرنا، وفاعليتها حقيقية لا شك لأن هذه المفاهيم تدفعنا وتحفز أعمالنا. لكن الواجب ألا نقع في فخ أن هذه الأشكال، هذه «المظاهر»، كما في أغنية المرحوم محمد أحمد عوض المعروفة، مستقلة عن ذواتنا كبشر، وفيها يلوم المحبوبة تفضيلها المظاهر من زينة الدنيا الزائلة على محبته الأكيدة. وهي إذن صيغ مفاهيمية تعبر بفعالية اجتماعية عن الظروف والعلاقات المحيطة بنمط تاريخي من أنماط الإنتاج، أشكال مثالية تتجلى عبرها لوعينا العلاقات المادية التي يقوم عليها مجتمعنا. وأي تصور سوى ذلك هو في واقع الأمر تحنيط وتأبيد لهذه الأشكال باعتبارها تمثيل مستقل للواقع الموجود فعلا. 

فوق ذلك، لا تعكس هذه الأشكال المفاهيمية عند المرحوم ماركس الواقع الاجتماعي والسلام، لكنها تطفف في ذلك، وهذه هي قضية نقد ماركس للاقتصاد السياسي؛ وهي الإطار الذي يضع فيه المرحوم ماركس المساواة المزعومة بين الأفراد في مقابل تعميم شكل السلعة. وعند المرحوم ماركس الحرية المزدوجة للعمل والمساواة الظاهرة بين أصحاب السلع لا تعنى بالضرورة استقلال المجال السياسي عن المجال الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي. لكن يبدوان كذلك نتيجة لعلاقات الملكية الأساس التي تسم المجتمع الرأسمالي وما تطمسه من استغلال واقع فعلا ومكنون في شكل السلعة والسلطة التي تتمتع بها البرجوازية في المجتمع. فالتحرر السياسي وأسه الفرد الحر قضائيا صاحب الحقوق المتساوية يطمس حقيقة الدولة كصيغة من صيغ الحكم الطبقي، الصيغة التي تولت كبرها البرجوازية لتنظيم سلطانها على المجتمع. 

من جهة أخرى، لا يجوز آن تنتهي هذه الحجة عند محطة أن هذه المفاهيم التي نستعين بها لفهم العالم خاطئة بمعنى أننا نخطئ في شهودنا العالم. فالعالم في واقع الأمر يبدو أنه يعمل وفق هذه المفاهيم ويتبعها سلوكنا، فضبطها على هذه الوجهة المعينة دالة للقوانين والمؤسسات الاجتماعية التي نؤسس، ونسعى في واقع الأمر لتصويب الأمور متى وجدنا أن حقوق مواطنتنا عرضة للانتهاك. لكن، لا يجوز أن نجعل ظاهر الواقع في محل الواقع نفسه، وإلا لكانت كل العلوم مما لا داعي له بعبارة المرحوم ماركس. تبدو لنا هذه المفاهيم كما يبدو السراب يحسبه الظمآن ماءً، نراها لكنها تخادع، تستر حقيقة أنها صيغ فكرية تعبر عن «علاقات أولية» لشكل السلعة. ونستثمر في فعاليتها التفسيرية وعلاقات السببية التي تصل بينها باعتبارها قوى مستقلة منفصلة عن البشر المشهودين. وعليه نفشل في كشف حقيقة أن هذه المظاهر تحجب المحتوى الفعلي لعلاقات الملكية الأولية.

ومن آثار تأبيد الدولة في الوعي بما في ذلك مفاهيم المواطنة والسيادة ذلك الميل العميق لتصور الجغرافيات التي تحيط بها الحدود القومية كوحدات متعينة منفصلة تحيط في داخلها بعلاقات اجتماعية حسنة الترتيب. ولذلك يطغى في الحياة اليومية تصور الحدود القومية كقطع الأحجية المصورة، وحدات منفصلة مكتملة سابقة للكل، والكل جماعها، ولكل منها خصائص باطنية تقوم بمعزل عن الكل المحيط. وبذلك نرى الوحدات القومية كحقائق أولية والتكوين الاجتماعي (الأممي) كنتيجة تنشأ عن العلاقات التبادلية بين هذه الوحدات. وبهذه الطريقة نضع المظهر في موضع المخبر، ونتصور ما هو في الحقيقة «علاقة» موجودا قويما وبذلك تغيب عن ناظرنا واحدية الكل. 

وللمرحوم ماركس تخريج فلسلفي لهذا الانزلاق النظري، فهو ملك «العلاقات الباطنية» وعنده العلاقات بين الموجودات (وكذلك المفاهيم) ليست برانية، خارجية عنها، وإنما جوانية، بل هي ما يشكل جوهرها. وأي مسألة خاضعة للدراسة عند المرحوم ماركس هي جملة علاقات تداخلها جوانيا كجوهر فيها تلك الأطراف منها التي نميل أن نراها برانية عنها ترتبط بها بطرف قصي. والموجودات إذن عند المرحوم ماركس ليس مكتفية بنفسها، قديمة، مستقلة، ذاتية، لكنها في الواقع الأمر تتكون عبر العلاقات التي تصلها ببعضها البعض، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هذه العلاقات لا تقوم برانية عن الموجودات، بل هي داخلة فيها، جوانية، ومن جوهر طبيعتها. وسبيل المرحوم ماركس هو اكتشاف هذه العلاقات المتعددة بين الموجودات وحركة هذه العلاقات عبر الزمان والمكان بدلا عن اعتبار موضوعات الدراسة وحدات بناء مستقلة كل واحدة منها عن الأخرى، يمكن المقارنة بينها لكن تظل في أسها منعزلة عن بعضها البعض. 

وبهذا التصور فالوحدات القومية هي المظهر الملتبس للواقع الاجتماعي الموجود فعلا، ويفرض علينا سبيل المرحوم ماركس إدراكها كعناصر متصل بعضها ببعض لنظام كلي هو السوق العالمي، ذو المحتوى العالمي والمظهر القومي. وعلينا إذن الانتقال من ثنائية القومي والعالمي إلى اعتبار واحدية السوق العالمي والعلاقات المتبادلة بداخله وهو سوق تقوم فيها دول متعددة تتمايز بينها بالشوكة.

 

الحدود، الهجرة والتكوين الطبقي 

تتكشف بمنظار ماركس إذن وظيفة الهجرة العابرة للحدود في السوق العالمي، فهي وسيلة السوق التي تغرف بها البلدان المكونة للأحزمة الأكثر ثراءً من الاقتصاد العالمي من "جيش العمل الاحتياطي" ما تحتاجه قوة عمل، مدربة وغير مدربة، مهنية ويدوية، رسمي وكيري. وجيش العمل الاحتياطي بعض من فائض السكان حول العالم، حوض واسع من المادة البشرية القابلة دوما للاستغلال بثمن بخس يغرف منه رأس المال بحسب الضرورة تبعا لمده وجزر تراكمه.

والطابع الملموس لهذه الحركة التراكمية شأن تاريخي شديد التنوع بحسب كل قطاع اقتصادي وكل إقليم بشري. والنقطة الرئيسة أن حركة قوى العمل عبر العالم تهدم كل آزرة قومية لمنابت الطبقات العاملة وتكوينها. الهجرة إذن بمنظور المرحوم ماركس عملية للتكوين الطبقي، اقتران للعمل من جهة ما في العالم مع رأس المال في جهة أخرى. ودونك على سبيل المثال اغتراب الخليج العربي الذي اقترنت به قوة من أقاليم آسيا وافريقيا مع رأس المال في قطاعات الخدمات والإنشاءات والإنتاج الغذائي. بهذا المعنى الهجرات باطنة في تكوين الدول الرأسمالية. من ذلك في التاريخ البريطاني ازدواج التمدد الامبريالي وموجات متتالية من الهجرة التي أذنت بتجنيد قوميات ومجموعات مستضعفة بعينها في جيش العمل، مثل العمال من جزر الكاريبي وعاملات النسيج البنغلاديشيات والعمال اليهود ومؤخرا العمال من الاتحاد الأوروبي، وما هذه الهجرات سوى حركة فائض السكان - فائض قوة العمل - من حول العالم إلى بريطانيا. وتكرر مثل هذا النمط في دول أوروبية أخرى وفي المستعمرات الاستيطانية.

أما خارج أوروبا فقد كانت حركة البشر الكبرى عبر الحدود القومية بعلة الحروب أو الأزمات الأخرى هي كذلك عنصرا داخلا في عملية تجنيد العمال والتكوين الطبقي. ويشكل هؤلاء النازحون المبعدون بغض النظر عن حقوقهم وأوضاع تشغيلهم قسطا من قوة العمل في بلدان عديدة اليوم. يشكل اليوم اللاجئون السوريون أعظم كتلة نازحة من البشر في العالم، وجد بعضهم أنفسهم في لبنان والأردن وتركيا، وصاروا يشكلون نسبة مقدرة من سكان هذه البلاد بالإضافة إلى موجات سابقة من النازحين (الفلسطينيين بالدرجة الأولى)، ١٠٪ من سكان الأردن، ٢٥٪ من سكان لبنان. والنازحون بذلك جزء من «جيش الاحتياط» العامل في هذه البلاد، والهجرة بهذا التقدير لبنة من لبنات التكوين الطبقي. 

ومتى ما عرضنا للهجرة كطرف في عملية التكوين الطبقي تبين الدور الحاسم للحدود في تعيين فئات العمال وحصارها وتشكيل العلاقات بينها. وغرض رأس المال في هذه المسألة مزدوج، فهو من ناحية يطلب حبس قوة العمل في موقعها ومن أخرى يحتاج إلى تحريكها من موقع إلى آخر. والحدود بهذا المعنى وبحسب القيود المختارة التي تفرضها على صنوف الحركة البشرية تعمل كمصفى دائب التغير يضبط وقع وسرعة وعدد ونوع المهاجرين، يقيد حركة هذه المهاجرة ويستقبل تلك إلى داخل الأراضي الوطنية. الحدود إذن متعددة الأغراض انتخابية وتخلق بفرضها هذا القيد السيادي وحل ذاك وبفاعلية المهاجرين أنفسهم أجناسا متباينة من العمال. 

اختصار ما سبق أن جيش الاحتياط من العمال صار جيشا كونيا، جيشا أمميا. لكن ليست هي الحدود التي تخلق هذا الجيش الاحتياطي الأممي، بل والسنة من المرحوم ماركس علاقة رأس المال والعمل التي تجعل من سكانا بعينهم فائضا بشريا. وهذه عملية دائبة التحول منابتها العواقب المتباينة للتراكم الرأسمالي على المستوى العالمي. ومتى ما طلبت الدارسة التعرف عليها بجد وجبت الإحاطة بتواريخ الاستعمار والامبريالية والتركيز العالمي لرأس المال والحروب والأزمات السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك. والحدود تتوسط بصورة أو أخرى بين جوانب من تمثلات الرأسمالية الكونية وتؤطر توزيع فائض السكان بين التكوينات القومية والعلاقات بينها.

 

تلبيس القومية

يقودنا المعنى الذي بلغناه مع ماركس للحدود إلى تلبيس القومية كشكل، وهي جذر تصوراتنا الراهنة عن الحدود. فالقوميات أو التكوينات القومية وفقا لتصور المرحوم ماركس ليست مخازن مغلقة للناس تحبس بداخلها علاقات اجتماعية خاصة، بل لا ينشأ الشكل القومي لقوة العمل سوى بالعلاقات التي تقوم بين التكوينات القومية، العلاقات بين بعضها البعض. وهذه العلاقات جوانية في تكوين القومية. فالرأسمالية البريطانية على سبيل المثال، وبريطانيا تشغل موقعا في قمة الهرم العالمي للدول، تمتد علاقاتها عبر العالم. وهذه العلاقات جوانية في تكوين فائض العمالة على المستوى العالمي، كما يساهم فائض العمالة العالمي هذا في تكوين الرأسمالية البريطانية، ولذلك قانون: "نحن هنا لأنكم هنالك." أو بعبارة ستوارت هول: "أنا السكر في قعر كوب الشاي البريطاني." وعلى ذلك قس.

فالهجرة بهذا المعنى عملية اقتلاع وشفشفة وبالتالي تكوين طبقي وهي من تبعات الطريقة التي تعيد بها الرأسمالية تكوين نفسها على المستوى العالمي. ولا سبيل إذن لإدراك مبنى الهجرة بغير الاعتبار في تبعات الامبريالية، السالف منها والمعاصر. فالشفشفة على مستوى العالم خلاصة ما تفعله الولايات المتحدة وبريطانيا في أصقاع الأرض، كان ذلك بالعنف الحربي أو بالوسائل "السلمية" المتعددة التي يفرض بها المركز الامبريالي الهياكل المالية والسياسية للسوق العالمي، فما الحرب إذن وما السلام؟ صاغ المرحوم ماركس هذا المعنى بعبارته الصريحة: "إن تراكم الثروة في هذا القطب يقابله تراكم الشقاء وعذاب الكدح والجهل والبربرية والبهدلة في القطب الآخر." ويقدح المرحوم ماركس المعنى في ذهن القارئة، لو كنتم تتفكرون، قدحا؛ وقدحه يكشف معنى حركة البشر عبر الحدود اليوم، ليس سبهللية وإنما حركة مشروطة بتراكم رأس المال وتراتب النظام الدولي.

فما العرق إذن؟ يتصل العرق اتصالا مباشرا بدور الحدود الباطني في عمليات التكوين الطبقي المتباينة، فبها ينشأ العرق كهيئة للتدافع بين قوى العمل المتنافرة جغرافيا. والعنصرية بهذا التصور هيئة لتدليس الواقع الاجتماعي الذي سبق بيانه: صنمية المواطنة والدولة القومية، ولهذه العنصرية صور شتى، منها في الدعاية الليبرالية الغربية عبارات «التعدد الثقافي» و«التسامح» و«احترام التعدد»...الخ. وجميعها تستبطن هوية معيارية (أوروبية بيضاء) وغيرها تعدد. وبذلك يعاد تكوين الطبقات العاملة كأقوام متباينة منقسمة على نفسها. وليست هذه ظاهرة حديثة، بل هي من خلقة الرأسمالية التي صنفت كل قاطن خارج الغرب كمخالف عرقي بقياس المواطن المعياري الذي ينتمي إلى الداخل الرأسمالي، ضمن حدود الدولة الرأسمالية. وفي كل صور العنصرية يصعد شبح «المهاجرة» كمنتهكة للبيضة القومية، والمهاجرة غير الشرعية فوق ذلك درجات فهى تجسيد هذا الانتهاك لحما ودما.

 

الحدود، العرق، وقيمة قوة العمل:

أجسامنا ليه جسمين 

الهجرة تحت سلطان الرأسمالية إذن عملية للتكوين الطبقي عرقية السمت، فما دور الحدود والعرق في تعيين قيمة قوة العمل؟ تتحدد قيمة قوة العمل عند المرحوم ماركس، مثلها وأيما سلعة أخرى، بوقت العمل اللازم لإنتاج هذه السلعة ومن ثم إعادة إنتاجها. وما ذاك سوى وسائل المعيشة اللازمة لحياة قوة العمل وتجديدها. وعليه، فقيمة قوة العمل، وليس سعرها، دالة لعاملين إثنين: التغيير في وسائل المعيشة أو التغيير في قيمتها. ولذا كتب المرحوم ماركس أن عناصر تاريخية ومعنوية تدخل في تعيين قيمة قوة العمل وهذه بعبارته وقف "بمستوى الحضارة الذي بلغته البلاد" و"الظروف ومن ثم العادات والتوقعات التي رافقت نشأة طبقة العمال الأحرار." أثارت تعليقات المرحوم ماركس هذا سيلا مستمرا من الأسئلة والقضايا في الأدب الخاص بالطبقة العاملة وشؤونها، ومن ذلك، هل يصح تعيين قوة العمل سلعة، ولأي درجة يحدد الصراع الطبقي قيمة العمل، وهل هذا عامل مستقل عن عملية الإنتاج نفسها، والعلاقة بين العمل المنتج وغير المنتج، أي الداخل مباشرة في إنتاج السلع والعمل وغير الداخل فيه؟ وخلاف ذلك علاقات القوة داخل البيوت التي هي موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل.

والقضية التي تطرحها علينا الهجرة الانفصام بين موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل وموقع بيع قوة العمل، الانفصام الذي تتوسطه الحدود ويكوي بميسمه جسم العاملة المهاجرة من البلد «أ» إلى البلد «ب» وقلبها. يشمل حساب الوقت الاجتماعي اللازم لإنتاج قوة العمل لعاملة في بلدها الأم «أ» مصارف عديدة، التعليم والتدريب والرعاية الصحية والبنى التحتية وتكلفة إعادة الإنتاج الاجتماعي من معيشة وتربية وما إلى ذلك. لكنها متى هاجرت إلى البلد «ب» لا تنتقل معها هذه التكلفة. ويرث رأس المال في البلد «ب» العاملة المهاجرة دون أن يتكلف وقت العمل الاجتماعي العظيم الذي داخل تكوينها. وتبلغ البلاد الجديدة «ب» جاهزة، تكلفة قوة عملها في واقع الأمر أقل من متوسط تكلفة قوة عمل العاملة المماثلة التي نشأت في ذات البلد. وانتقالها من «أ» إلى «ب» نقل مباشر للثروة، الدعم السلعي المذموم في أدب الصندوق والبنك الدوليين، من البلد «أ» إلى رأس المال في البلد «ب»، لكن السلعة هذه المرة قوة العمل لا البنزين. ويماثل هذا النقل للثروة المتجسدة في العاملة المهاجرة من البلاد الأفقر إلى البلاد الأغنى في واقع الأمر استخراج المواد الخام وربا الديون وما إلى ذلك، شفشفة. 

ينطبق هذا التقدير على كل صنوف العمل المهاجر، الماهر وغير الماهر، الشرعي وغير الشرعي، فسلاسل القيمة لا تعتل بأسباب وكيفيات الهجرة متى وقعت. والقضية بهذا التصور تفوق اللت والعجن حول «نزيف العقول» فالعقدة ليست في كسب أو خسارة المهاجرة المعينة والبلد التي هاجرت إليها، بل في حقيقة الحدود الفاصلة بين منشأ العمل وموقع بيعه وبالتالي حصاد فائض العمل. والحدود القومية بهذا التصور على سنة المرحوم ماركس مُعامل حدي لحصاد القوة العمل. وتتدثر هذه الفروقات القومية في قيمة قوة العمل بثوب العرق والنوع، بل هي معطونة فيهما. فالعمال من هنالك يستحقون ثمنا أقل من العمال من هنا، فهم في آخر الأمر يتوقعون ثمنا أقل، وإنه لمن حسن حظهم أنهم وجدوا عملا على الإطلاق. تتخذ إذن هذه الفروقات الجغرافية في قوة العمل هيئة آيديولوجية عنوانها العرق. وهذه الهيئة ليست مسخا آيديولوجيا وكفى فهي واقعة حقة، فنحن نميل لرؤية العالم بهذه الطريقة والعرق فعلا يسم الفروقات في قيمة العمل. فالعامل البنغلاديشي في الخليج العربي يستحق في التصور الدارج ويتلقى أجرا أقل من مثيله المصري والمصري يستحق ويتلقى أقل من مثيله السعودي، والخادمة المنزلية من جنوب السودان في ديار الخرطوم التي كانت تستحق وتتلقى أجرا أقل من مثيلتها الحبشية. لكن هذه الهيئة رغم فعاليتها تدليس آيديولوجي للواقع الاجتماعي، فهي تعتمد صلة سببية بين التبعة الوراثية وقيمة قوة العمل في محل العلاقات الاجتماعية التي تحدد هذه القيمة، وتجعل ما هو عرضي جوهرا. وبذلك فأن قبول هذه الهيئة الآيديولوجية على ما هي عليه دون تمحيص لا يخدم سوى تأبيد واقع الحال. 

يتكشف إدغام التصنيفات العرقية والحدود وقيمة قوة العمل في برامج هجرة العمالة المؤقتة، وغرضها تشغيل العمال من البلد «أ» لفترات محدودة بذمة مخدمين في البلد «ب» على أن يعودوا أدراجهم إلى بلد منشأهم بانتهاء عقود استخدامهم. ولهذه البرامج تاريخ طويل متصل بالعرق والعنصرية، من ذلك العمال المسخرين الذين طال استخدامهم في الإمبراطورية البريطانية بعد الإلغاء الرسمي للعبودية في منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك برامج «العمال الضيوف» التي انتقلت بها قوى عمل واسعة من شمال افريقيا وتركيا إلى أوروبا الغربية في عقابيل الحرب العالمية الثانية. وقد تجددت هذه البرامج في السنين الأخيرة في مثل استخدام اسبانيا للعمال المغاربة الموسميين في حصاد الفواكه واستخدام كندا للعمال الموسميين المكسيك في زراعة الخضر، بل بلغ الحساب أن فاقت أعداد العمال المهاجرين المؤقتين أعداد أقرانهم الدائمين.

تمثل دول الخليج العربي الست على المستوى الكوني أعظم حيازات استخدام العمالة المهاجرة المؤقتة على الإطلاق، فغالبية قوى العمل هم من المهاجرين المؤقتين. وبذلك ليست وظيفة الحدود كمُعامل حدي لغرف قيمة قوة العمل هوبلي خصلة أوروبية أو أميركية، بل هو سلاح رأسمالي. يلعب تصنيف «المواطن» في دول الخليج العربي دورا محوريا في هذا التمييز بين «ديل» و«ديكا»، فالمواطنة ميزة لفئة حصرية من القاطنين في مقابل جمهور غالب من قوة العمل محبوس في تصنيفات العرق والنوع، «الزول» و«الصديق» وهلم جرا. ويتجسد في هذه التصنيفات تشريع استرخاص قيمة قوة العمل المهاجر في الخليج. لا يقوم هذا الاسترخاص فقط على الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج العاملة المهاجرة تاريخا بل كذلك على التطبيق المعاصر لقيمة قوة العمل المهاجر على أساس الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل المهاجر في بلد المنشأ. تتلقى العاملة المهاجرة من الهند إلى دبي على سبيل المثال أجرا يماثل تكلفة إعادة إنتاج هذه العاملة وأسرتها في بلد منشأها الهند، وليس في دبي. تتكشف مادية هذه العلاقات في الاقتصاد العالمي في حجم تحويلات المغتربين العابرة للحدود التي يدور حولها معاش حوالي واحد مليار شخص في العالم، واحد من كل سبعة من أهل الأرض، إما مرسلة أو متلقية. والعرق بهذا المعنى هيئة آيديولوجية للانفصام بين هناك وهنا، منشأ المهاجرة وموقع عملها، في وعينا؛ و«التحويلة» تجسيد مادي للوحدة الموضوعية بينهما، أجسامنا ليه جسمين، أو كما قال.

 

الهجرة، القسر والعمل «غير الحر» 

يقع الفصام بين المهاجرة وبين أرض بعينها، وبالتالي بين مبنى من العلاقات الاجتماعية، في قلب انتقالات القيمة المتنوعة موضوع شغلنا. يبدو في ظاهر الأمر أن لهذا الفصام عددا من الأسباب المباشرة الحرب، الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، العنت البيئي وهلم جرا. لكن لا يصح الاستنتاج أن ثمة تمايز بين صنفين من الهجرة، القهرية والاقتصادية. فلحركة اللاجئين عبر الحدود عللا مباشرة عنيفة لكن هذا العنف واقع كذلك بعلة الشفشفة الكونية والتحول النيوليبرالي. والحق أن هذه العلل تتصل ببعضها البعض؛ والتمييز بين أسباب دافعة وأسباب جاذبة على مستوى الفرد أو البلاد تمييز مستحيل لا يقوم إلا في التجريد، ومثل ذلك مثل عقيدة «العمل الحر». ومقال المرحوم ماركس في هذه المسألة عظيم البيان، فالعمل المأجور يبدو في هيئته طوعي لكنه في محتواه قهري، وعلى ذات المنوال حركة العاملين عبر الحدود تبدو ظاهرا حركة حرة لأفراد مخيرين لكن محتواها تسيير بجبر رأس المال. 

عليه، الفصام بين المهاجرة وأرضها ظل للفصام بين العاملة ووسائل المعيشة والإنتاج. ولا يصح هذا الاستنتاج على مستوى الإفهام فقط، فلطالما كانت حركة العاملين عبر الحدود هي الهيئة التي يتخذها إطلاق قوى العمل من الارتباط بالأرض، تحريرها للاستغلال الرأسمالي والدفع بها في دوائر سوقه. ومثل ذلك تجارة الرقيق من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر والتي كانت واقع الأمر عملية واسعة شديدة العنف والقسوة للفصام بين قوى العمل ووسائل عيشها وتحويل جيوش من الناس إلى منتجين للسلع الاستهلاكية في السوق العالمي. تزامن هذا العنف الكوني مع انتقال الفلاحين الأوروبيين من الزراعة المعيشية إلى سوق العمل المأجور. وتكررت هذه الدورة من السلب في هيئة عقود العمل الجبرية بعد الإلغاء الرسمي للرق في العام ١٨٣٣. وبها تم الفصام بين الفلاحين من جنوب آسيا وأرضهم، وتحولت هذه الكتلة من العاملين كذلك إلى إنتاج السلع الاستهلاكية في أصقاع الإمبراطورية البريطانية. وخرجت من هذه الحركة للعالمين تكنولوجيات عديدة للهجرة استبقت التكنولوجيات المعاصرة أو أذنت بها، منها جواز السفر. 

تداخلت حركة البشر هذه واختراع التصنيفات العرقية؛ بل تعود أصول العرق، فكرة «العرق» في هيئتها الحديثة، إلى هذه الحركة العنيفة للبشر عبر الحدود، الحركة التي تحسب ضمن منابت الرأسمالية. وتتكشف بهذا التصور جوانب أخرى من اتصال هجرة العمل ذات السمت العرقي مع شكل وردة «القيمة». تكشف تواريخ هذه الحركة كيف يضاعف الاقتلاع الملموس من الوطن من القابلية لعلاقات رأسمال وعمل جبرية. في هذا الباب، ميز أصحاب المزارع الاستعمارية اقتلاع الأرقاء من أوطانهم كعامل من العوامل الدافعة لقسرهم على العمل. فإنباتهم في حوض علاقات اجتماعية جديدة خلو من ستر أسرهم وعلاقات اجتماعهم في أوطانهم كان عاملا حاسما في كسر مقاومتهم لأنماط العمل الرأسمالية.  والحق كما بين المرحوم ماركس أن كل صور العمل الرأسمالي جبرية بدرجة تقل أو تزيد، والهجرة عامل يعزز هذا الطابع الأولي للعلاقة بين العمل ورأس المال. خلاصة هذه العمليات المتداخلة هو تقليل سعر عمل المهاجرة المعرفة بعرقها (بالمقارنة مع غير المهاجرة) من جهة، ومن جهة أخرى تفتيت التجربة الطبقية في أي سياق قومي.

 

خلاصة 

انتهى شغلنا وماركس حول الحدود إلى أن عقائد العرق والعنصرية ليست وسيلة انتهازية بيد الصفوة السياسية لتقسيم جمهور العاملين وتجييش الدعم الشعبي لليمين وإعادة تكوين الرأسمالية وكفى، وإن تيسر بمعرفة هذه الوسيلة الكشف عن فعالية العرق في السياسة اليومية. ما يحجبه هذا التصور هو منابت التصنيفات العرقية في التدليس الذي يسم الشكل القومي. تتعلم القارئة من المرحوم ماركس معنى باطنا لنشأة التصورات البرجوازية عن المواطنة، والدولة السياسية الحديثة، والفصل الظاهر بين المجالين السياسي والاقتصادي. ويتكشف من هذا المعنى الباطن ضلال تصورنا الدارج عن تقسيم العالم إلى وحدات قومية، وقاعدته الذهنية صورة صنمية للدولة وحدودها، اللات والعزى. ويساهم التحول عن هذا المنظور إلى منظور العاملة المهاجرة في فض هذه الصنمية وكشف خواءها بما في ذلك التصور الدارج عن الإسار القومي لقوى العمل. فحركة العمل المهاجر جوانية في التكوين القومي وركن فيه. تمثل الهجرة، ولا شك، حركة ملموسة للناس واقتلاعا لهم من حيز اجتماعي إلى آخر، لكنها تؤكد من جهة أخرى تزامن العمليتين، التشكيل القومي والاقتلاع الاجتماعي، فبينهما وحدة ديالكتيكية. 

ويساعدنا ديالكتيك المرحوم ماركس الحاد في قطع شأفة الحدود كصنم وبالتالي تفجير تصور الحدود كمخازن قومية. وهي في واقع الأمر برازخ عبور لفائض السكان النسبي من جغرافية إلى أخرى بحسب متطلبات السوق الرأسمالي. والعلاقات بين فائض قوة العمل في هذه الجهة من الحدود أو الأخرى باطن في التكوين الطبقي ضمن أي حيز قومي. فوق ذلك تخدم الحدود غرض فرز العلاقات الاجتماعية وتحديد مستويات معيشة قوى العمل المعتادة ومتطلبات إعادة إنتاجها لصالح استخلاص فائض القيمة وزيادة الربحية، وبذلك لا يمكن موضوعيا الفصل بين العلاقات الاجتماعية داخل هذا التكوين القومي وذاك، فكل مشروط بالآخر. وكل ساعة أزمة فرصة لغرف فائض قوة العمل المهاجر، شفشفتها، وحركتها من جغرافية إلى أخرى شرط لهذه الشفشفة الكونية.

انتهى.

 

والدك حسن محارب، غفير برج الحمام