نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥٤ بتاريخ ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤.
أسلمت ولاء (٢٤ عام) في ستر ليلة السبت ٩ نوفمبر الماضي نفسا راضية مرضية إلى بارئها، ذلك في مستشفى كسلا التعليمي بعد أن ألمت بها حمى الضنك الحادة في غُميلة حربنا «العبثية». وحمى الضنك مرض فيروسي ينقله جنس البعوض المنزلي (Aedes aegypti) الأكثر انتشارا في العالم ضمن فيروسات مسببة لأمراض معدية أخرى منها الحمى الصفراء وحمى الشيكينغويا.
يبلغ طول فرد البعوضة المنزلية ٤ إلى ٧ ملمترات، تميزه علامات بيضاء على سيقانه وعلامة على الصدر في هيئة الربابة. يعيش ذكر البعوض هذا على الفاكهة أما إناثه فتسعى الدم، وضرورته إنضاج بيضها، وتبلغ مقصدها في دم الثدييات بتتبع مركبات كيمائية تفرزها أجسام الثدييات. وقد تخصصت إناث البعوض المنزلي في عض الإنسان تفضله على غيره من الثدييات بفضل تحول وراثي في مستقبل من مستقبلات حاسة الشم عندها رمزه Or4 يلتقط مركب روائحي اسمه السلكاتون يفرزه جسم الإنسان، والسلكاتون هذا إذن هو الطيب الذي يجذب أنثي البعوض المنزلي إلى البدن البشري (ك. مكبرايد وآخرون ٢٠١٤، مجلة «الطبيعة»، م ٥١٥: ص ٢٢٢-٢٢٧).
يتكاثر البعوض المنزلي حيث تتراكم النفايات، ويحبذ ضمن ما يحبذ اللساتك القديمة، فمنها تنبعث رائحة المركبات الكربونية التي تجذبه، وأغلب توالده في المياه الراكدة، بما في ذلك أغطية البراميل البلاستيكية فهي كربونية كاللساتك. وأشد مواقع توالده خطرا من حيث الكم في قرب البشر خزانات المياه البلاستيكية وأرضيات الحمامات. تنتشر إناث البعوض المنزلي في ساعات الفجر والغسق في المواقع الظليلة وداخل البيوت والغرف بغرض العض، تلتقي في هذه الساعات أهدافها البشرية بجذب السلكاتون.
يشفى معظم المصابين بحمى الضنك شفاءً تاماً بعد مردغة بالحمى والفتور وآلام العضلات لأسبوع أو نحو ذلك، تبقى في أبدانهم أجساما مضادا لفيروسها، إلا قليل فيهم كبار السن والرضع والمصابين بأمراض مزمنة يشتد بهم المرض، يفتك بصفائحهم الدموية وكريات دمهم البيضاء فتتناقص أعدادها أشد التناقص ويشيع في أبدانهم نزيف بنقص الصفائح ظاهر ومستتر. ومن الأصحاء قلة يحملون عوامل وراثية نادرة تزيد من خطر حمى الضنك عليهم زيادة معتبرة، من ذلك تنويعات وراثية في تكوين مستقبلات على أسطح الخلايا المناعية البدائية، أول حاجز صد ضد الميكروبات، ومنها صنف رمزه CD209 تتعرف به هذه الخلايا على فيروس الضنك لتبطل ضرره، لكن يثبط فعاليته هذا التنويع الوراثي فينفتح الباب للفيروس وشروره (م. كنعان وآخرون ٢٠٢٤، مجلة «العدوى والصحة العامة»، م ١٧: ص ٥٧٩-٥٨٧).
لربما بلغت مثل ولاء من خلال هذه العلاقات البيولوجية بين البيئة والبعوض والبشر كشفا باطنا خلا ظاهرها الميكانيكي، و"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" (البقرة: ٢٦). ولربما ألهمتها الاهتمام بجنس البعوض وبعلم الوراثة، الذي يسر للعارفين به إدراك مغزى السلكاتون. تخرجت الدكتورة ولاء حاتم سليمان لتوها، في سبتمبر الماضي، في كلية الطب، جامعة بحري الطريدة، وانشغلت ضمن مشاغل لها بمعنى الحياة وأشرقت نفسها بعد تجربة وتدبر بطيب خاطر وزهد أثيل فكتبت في ذلك: "وأنا مستلقية في سريري ليلا أشعر أن هذه الحياة ما هي إلا عقدة كبيرة لن تنفك، لكن وأنا أركب باص سفر في الخامسة صباحا وأرى كيف هذه الشمس تشرق بسلاسة وترمي بضوءها على الأرض، وكيف يمشي الناس وتهب الرياح على أغصان الشجر أقول إنها بسيطة جدا وأكاد أراها بساطا تمتد فيها الحقائق إلى كل الجهات!"
أدركت ولاء بعض هذا الإشراق بكنز الحب الذي قالت أحاط بها دُعاشه بين الأسرة والأهل والعشيرة فأطاعته، قومها في ود مدني السني وجزيرة الخير، حيث نشأت وسلكت المدارس، مدرسة البحوث ثم مدني الثانوية. والدتها الدكتورة أميرة أحمد على، معلمة اللغة الإنجليزية من أهل تنقاسي ومديرة إدارة الطلاب في تعليم الجزيرة، ووالدها المرحوم حاتم سليمان محمد سليمان من رحم العبابدة صاحب ورشة صيانة العربات في مدني، من قام لذكر تقواه وبياض يده أكثر من مجلس عزاء في ود مدني، بين مساكين أيامى ويتامى كان يبرهم سرا، حين فارق الدنيا في مارس ٢٠٢١.
وولاء شاطرة؛ جاءت الخرطوم في العام ٢٠١٦ تسعى العلم في عمر ١٦ عام، طالبة في كلية الطب جامعة بحري. وكما نهلت من الحب في الأسرة بثته بين قومها الجدد في الكلية، فأزهر وأثمر، شجرة طيبة. وقام لنجدتها حين توعكت بحمى الضنك نفر غزير منهم، دفعتها، المقيم منهم والظاعن البعيد. وكان الأمل أن تشفى بجرعات خمس من سائل الأجسام المضادة عبر الوريد، وثمنها حوالي ٣٦٠٠ دولار أميركي تتناطح، تآزروا على جمعها بهمة وشغف فأصابوا المبلغ المطلوب في طرفة عين، تدفق بحبهم الخير، لكن سبق القدر التدبير. ومر المال من أيديهم صدقة لروحها الطاهرة إلى مرضى مستشفى كسلا، من كانت لتقف عليهم طبيبة خضراء العطايا بعلم نافع وبسمة كافية شافية. فمن أين جاء هذا الجيل بمثل هذا النبل في الزمالة والهمة في عسر ويسر؟
ولاء وصفها من «الجيل الراكب راس»، فازوا بفولاذ الإرادة من كدر الصراع الاجتماعي وطينه. انعجن عودهم في «العصيان المدني» عام ٢٠١٦ في وجه سلطان البشير صاحب حميدتي، وانصلب قائما في أعوام الثورة ٢٠١٨/٢٠١٩ وفتق مزهرا في الاعتصام المكين بخيال آخر، ثم تماسكوا الحزز في مقتلة فض الاعتصام ما لانت لهم قناة. وتجرعوا غصص الفترة الانتقالية لخائنها حمدوك، لم يلههم اللمع الكذوب، ثم قابلوا بحلوق جرَّحها الهتاف الرصاص المنهمر عليهم في عقابيل انقلاب البرهان/حميدتي ودورة حمدوك على نفسه في أكتوبر ٢٠٢١، دخل ومرق. ولما وقعت واقعة الحرب في أبريل ٢٠٢٣ خرج من صفهم مقاتلون يدفعون ضر الدعم السريع عن أهلهم بالبندقية ويدافعون، لله درهم. طال بولاء وصفّها بهذه البلايا التعليم الجامعي واستطال، ولم يدركوا ميس التخرج إلا في سبتمبر الماضي. شفشف الدعم السريع جامعة بحري التي تأتي ميزانيتها من وزارة التعليم العالي، بل والمدينة كلها؛ لكن قامت الجامعة كعهد وميثاق على العلوم بين أساتذة ودارسين وخريجين، بناؤها التضامن، أينما كانوا، في بورتسودان وكسلا وشندي وكوستي والقاهرة وجوبا. وهكذا أكملت ولاء وزميلاتها الدراسة وتخرجن وزغرد بهن الأمل، فبأي آلاء ربكما تكذبان.
نظرت المرحومة ولاء مليا في انقلاب الحياة والموت وابتسمت ابتسامة عارفة زاهدة وهي بعد في الثانية والعشرين: "(...) ولا أريد الموت وقد ختمت ملذات الحياة رغم أن الله أمطرني بوابل عطاءه.. كل ما أري نفسي عليه هو فتاة أو امرأة تحت التراب لها من يحبونها كفاية ليؤانسوا وحشتي بالدعاء، تلك المحبة الساذجة دون أسباب، وأيضا تلك المحبة المسببة لأني فعلت الكثير أو القليل لشخص ما.. وعندما يودع الناس هذه الحياة بهلع أود توديعها بابتسامة عريضة." وقد كان، ودعت الحياة ولما تخض في ملذاتها إلا لمما، بابتسامة عريضة حفظتها قلوب أسرتها وأهلها وأصدقاءها وأناس لم يعرفونها أبدا، لكن بلغهم طيبها، انفتح باب ديرها بالموت، «فشممنا نفحة المسك من فم الشماس».
أعانني في كتابة هذه الكلمة زميلات وصديقات للمرحومة ولاء، وعبرهن خال ولاء الدكتور فائز أحمد علي الذي تكرم بكلمة مسجلة وهو في مشاغل العزاء الذي قام في الرياض (السعودية).