Monday, 18 November 2024

.. لا تطا الوردة الصبية

 نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد  ٥٤ بتاريخ ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤

أسلمت ولاء (٢٤ عام) في ستر ليلة السبت ٩ نوفمبر الماضي نفسا راضية مرضية إلى بارئها، ذلك في مستشفى كسلا التعليمي بعد أن ألمت بها حمى الضنك الحادة في غُميلة حربنا «العبثية». وحمى الضنك مرض فيروسي ينقله جنس البعوض المنزلي (Aedes aegypti) الأكثر انتشارا في العالم ضمن فيروسات مسببة لأمراض معدية أخرى منها الحمى الصفراء وحمى الشيكينغويا. 

يبلغ طول فرد البعوضة المنزلية ٤ إلى ٧ ملمترات، تميزه علامات بيضاء على سيقانه وعلامة على الصدر في هيئة الربابة. يعيش ذكر البعوض هذا على الفاكهة أما إناثه فتسعى الدم، وضرورته إنضاج بيضها، وتبلغ مقصدها في دم الثدييات بتتبع مركبات كيمائية تفرزها أجسام الثدييات. وقد تخصصت إناث البعوض المنزلي في عض الإنسان تفضله على غيره من الثدييات بفضل تحول وراثي في مستقبل من مستقبلات حاسة الشم عندها رمزه Or4 يلتقط مركب روائحي اسمه السلكاتون يفرزه جسم الإنسان، والسلكاتون هذا إذن هو الطيب الذي يجذب أنثي البعوض المنزلي إلى البدن البشري (ك. مكبرايد وآخرون ٢٠١٤، مجلة «الطبيعة»، م ٥١٥: ص ٢٢٢-٢٢٧). 

يتكاثر البعوض المنزلي حيث تتراكم النفايات، ويحبذ ضمن ما يحبذ اللساتك القديمة، فمنها تنبعث رائحة المركبات الكربونية التي تجذبه، وأغلب توالده في المياه الراكدة، بما في ذلك أغطية البراميل البلاستيكية فهي كربونية كاللساتك. وأشد مواقع توالده خطرا من حيث الكم في قرب البشر خزانات المياه البلاستيكية وأرضيات الحمامات. تنتشر إناث البعوض المنزلي في ساعات الفجر والغسق في المواقع الظليلة وداخل البيوت والغرف بغرض العض، تلتقي في هذه الساعات أهدافها البشرية بجذب السلكاتون. 

يشفى معظم المصابين بحمى الضنك شفاءً تاماً بعد مردغة بالحمى والفتور وآلام العضلات لأسبوع أو نحو ذلك، تبقى في أبدانهم أجساما مضادا لفيروسها، إلا قليل فيهم كبار السن والرضع والمصابين بأمراض مزمنة يشتد بهم المرض، يفتك بصفائحهم الدموية وكريات دمهم البيضاء فتتناقص أعدادها أشد التناقص ويشيع في أبدانهم نزيف بنقص الصفائح ظاهر ومستتر. ومن الأصحاء قلة يحملون عوامل وراثية نادرة تزيد من خطر حمى الضنك عليهم زيادة معتبرة، من ذلك تنويعات وراثية في تكوين مستقبلات على أسطح الخلايا المناعية البدائية، أول حاجز صد ضد الميكروبات، ومنها صنف رمزه CD209 تتعرف به هذه الخلايا على فيروس الضنك لتبطل ضرره، لكن يثبط فعاليته هذا التنويع الوراثي فينفتح الباب للفيروس وشروره (م. كنعان وآخرون ٢٠٢٤، مجلة «العدوى والصحة العامة»، م ١٧: ص ٥٧٩-٥٨٧). 

لربما بلغت مثل ولاء من خلال هذه العلاقات البيولوجية بين البيئة والبعوض والبشر كشفا باطنا خلا ظاهرها الميكانيكي، و"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" (البقرة: ٢٦). ولربما ألهمتها الاهتمام بجنس البعوض وبعلم الوراثة، الذي يسر للعارفين به إدراك مغزى السلكاتون. تخرجت الدكتورة ولاء حاتم سليمان لتوها، في سبتمبر الماضي، في كلية الطب، جامعة بحري الطريدة، وانشغلت ضمن مشاغل لها بمعنى الحياة وأشرقت نفسها بعد تجربة وتدبر بطيب خاطر وزهد أثيل فكتبت في ذلك: "وأنا مستلقية في سريري ليلا أشعر أن هذه الحياة ما هي إلا عقدة كبيرة لن تنفك، لكن وأنا أركب باص سفر في الخامسة صباحا وأرى كيف هذه الشمس تشرق بسلاسة وترمي بضوءها على الأرض، وكيف يمشي الناس وتهب الرياح على أغصان الشجر أقول إنها بسيطة جدا وأكاد أراها بساطا تمتد فيها الحقائق إلى كل الجهات!"

أدركت ولاء بعض هذا الإشراق بكنز الحب الذي قالت أحاط بها دُعاشه بين الأسرة والأهل والعشيرة فأطاعته، قومها في ود مدني السني وجزيرة الخير، حيث نشأت وسلكت المدارس، مدرسة البحوث ثم مدني الثانوية. والدتها الدكتورة أميرة أحمد على، معلمة اللغة الإنجليزية من أهل تنقاسي ومديرة إدارة الطلاب في تعليم الجزيرة، ووالدها المرحوم حاتم سليمان محمد سليمان من رحم العبابدة صاحب ورشة صيانة العربات في مدني، من قام لذكر تقواه وبياض يده أكثر من مجلس عزاء في ود مدني، بين مساكين أيامى ويتامى كان يبرهم سرا، حين فارق الدنيا في مارس ٢٠٢١. 

وولاء شاطرة؛ جاءت الخرطوم في العام ٢٠١٦ تسعى العلم في عمر ١٦ عام، طالبة في كلية الطب جامعة بحري. وكما نهلت من الحب في الأسرة بثته بين قومها الجدد في الكلية، فأزهر وأثمر، شجرة طيبة. وقام لنجدتها حين توعكت بحمى الضنك نفر غزير منهم، دفعتها، المقيم منهم والظاعن البعيد. وكان الأمل أن تشفى بجرعات خمس من سائل الأجسام المضادة عبر الوريد، وثمنها حوالي ٣٦٠٠ دولار أميركي تتناطح، تآزروا على جمعها بهمة وشغف فأصابوا المبلغ المطلوب في طرفة عين، تدفق بحبهم الخير، لكن سبق القدر التدبير. ومر المال من أيديهم صدقة لروحها الطاهرة إلى مرضى مستشفى كسلا، من كانت لتقف عليهم طبيبة خضراء العطايا بعلم نافع وبسمة كافية شافية. فمن أين جاء هذا الجيل بمثل هذا النبل في الزمالة والهمة في عسر ويسر؟ 

ولاء وصفها من «الجيل الراكب راس»، فازوا بفولاذ الإرادة من كدر الصراع الاجتماعي وطينه. انعجن عودهم في «العصيان المدني» عام ٢٠١٦ في وجه سلطان البشير صاحب حميدتي، وانصلب قائما في أعوام الثورة ٢٠١٨/٢٠١٩ وفتق مزهرا في الاعتصام المكين بخيال آخر، ثم تماسكوا الحزز في مقتلة فض الاعتصام ما لانت لهم قناة. وتجرعوا غصص الفترة الانتقالية لخائنها حمدوك، لم يلههم اللمع الكذوب، ثم قابلوا بحلوق جرَّحها الهتاف الرصاص المنهمر عليهم في عقابيل انقلاب البرهان/حميدتي ودورة حمدوك على نفسه في أكتوبر ٢٠٢١، دخل ومرق. ولما وقعت واقعة الحرب في أبريل ٢٠٢٣ خرج من صفهم مقاتلون يدفعون ضر الدعم السريع عن أهلهم بالبندقية ويدافعون، لله درهم. طال بولاء وصفّها بهذه البلايا التعليم الجامعي واستطال، ولم يدركوا ميس التخرج إلا في سبتمبر الماضي. شفشف الدعم السريع جامعة بحري التي تأتي ميزانيتها من وزارة التعليم العالي، بل والمدينة كلها؛ لكن قامت الجامعة كعهد وميثاق على العلوم بين أساتذة ودارسين وخريجين، بناؤها التضامن، أينما كانوا، في بورتسودان وكسلا وشندي وكوستي والقاهرة وجوبا. وهكذا أكملت ولاء وزميلاتها الدراسة وتخرجن وزغرد بهن الأمل، فبأي آلاء ربكما تكذبان. 

نظرت المرحومة ولاء مليا في انقلاب الحياة والموت وابتسمت ابتسامة عارفة زاهدة وهي بعد في الثانية والعشرين: "(...) ولا أريد الموت وقد ختمت ملذات الحياة رغم أن الله أمطرني بوابل عطاءه.. كل ما أري نفسي عليه هو فتاة أو امرأة تحت التراب لها من يحبونها كفاية ليؤانسوا وحشتي بالدعاء، تلك المحبة الساذجة دون أسباب، وأيضا تلك المحبة المسببة لأني فعلت الكثير أو القليل لشخص ما.. وعندما يودع الناس هذه الحياة بهلع أود توديعها بابتسامة عريضة." وقد كان، ودعت الحياة ولما تخض في ملذاتها إلا لمما، بابتسامة عريضة حفظتها قلوب أسرتها وأهلها وأصدقاءها وأناس لم يعرفونها أبدا، لكن بلغهم طيبها، انفتح باب ديرها بالموت، «فشممنا نفحة المسك من فم الشماس».  


أعانني في كتابة هذه الكلمة زميلات وصديقات للمرحومة ولاء، وعبرهن خال ولاء الدكتور فائز أحمد علي الذي تكرم بكلمة مسجلة وهو في مشاغل العزاء الذي قام في الرياض (السعودية). 


Wednesday, 13 November 2024

أب عديلات الليلنا أو اناكوميسلياشي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥٣ بتاريخ ٧ نوفمبر ٢٠٢٤

نشرت جريدة البيان الإماراتية في العام ٢٠٠٣ كلمة مضيئة للمرحوم محمد إبراهيم نقد عنوانها «المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول إلى شاهد زور»، كانت مفتاحا من مفاتيحه التي غمض على بعضنا وقتها لأي قفل صنعت، حتى جاء ضحى الغد وبرزت عورتنا «رحط أمك». وكتب محمد في كلمته محذرا من الخلعة أمام «المجتمع المدني» الذي جاء جديدا في عقد التسعينات كأنه إعادة اختراع العجلة أو في عبارته «التهاب الغدة النكافية» وكان عندنا «أب عديلات» متعدد الأشكال والصور، وجرد المرحوم محمد منها: "الجمعيات الأدبية، الأندية الرياضية الثقافية الاجتماعية، أندية الخريجين، أندية العمال، الأحزاب السياسية، الحركة النقابية، حركات المزارعين والطلبة والنساء والشباب، اتحاد الصحفيين، اللجان الشعبية للدفاع عن الحريات، اللجان القومية للتضامن مع شعب مصر، كينيا، العراق، الكنغو، الروابط الأدبية في عطبرة وسنار وكوستي والأبيض ومدني، التجمع النقابي، التجمع الوطني الديمقراطي، مجالس الآباء والأمهات، الروابط القبلية والإقليمية، تضامن قوى الريف، اتحاد الكتاب، الجمعيات الخيرية." 

لكن ميز المرحوم محمد ما جد على مخدة «المجتمع المدني»، فهو على عكس «أب عديلات» الليلنا، نسيج في شبكة مراكز ومؤسسات عالمية داعمة ممولة؛ نقل المرحوم محمد عن الدكتور حيدر إبراهيم قوله: "انحرف كثير من المنظمات عن أهدافه وأصبح ميدانا لصراعات داخلية قائمة على أسس ذاتية وشخصية، وهي خصومات لا ديمقراطية في الأسباب ووسائل إدارة الصراع، تميزه هذه المنظمات بصراع المكانة والوجاهة والامتيازات المادية والمعنوية. وغالبا ما تتحول ديمقراطية هذه المنظمات إلى تحكم شلة نافذة تستولي على فائض القيمة المتمثلة في المال والسفر والعلاقات العامة، انها حضرية ونخبوية، وهذا يعني أن العضوية محصورة وقليلة التأثير، أولويات الممولين قد تؤثر في تحديد الأولويات الوطنية والمحلية، بالإضافة إلى أساليب العمل التي يتوقعها الممول حرمت المنظمات من ابتداع طرائق جديدة، الوضع الحالي لمنظمات المجتمع المدني لا يبشر بمستقبل واعد."

وضرب المرحوم محمد لهذا الجنس مثلا اجتماعا لمنبر المجتمع المدني لجبال النوبة والنيل الأزرق انعقد في نوفمبر ٢٠٠٢ في فندق في كمبالا بدعوة من منظمة عموم إفريقيا وترتيب منظمات العدالة الإفريقية لحقوق الإنسان وتمويل وكالة التنمية الدولية البريطانية، وتساءل المرحوم محمد من هم مندوبو المنبر وما هي المنظمات التي انتدبتهم وقد تعذرت مشاركة طرف من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي منعت كذلك منظمات المجتمع المدني العاملة في مناطق سيطرتها من الحضور. 

جاء المرحوم محمد كذلك مما قرأ بمبادئ قيل إنها تحكم نشاط المنظمات غير الحكومية فهي بحسب هذه النصوص: "تزول نشاطها في حير محدود، وليس لها دور سياسي مباشر؛ لا تعنى بتغيير الحكومات، أنما تضغط كيما تحترم الحكومات حقوق الإنسان؛ ممنوعة بحكم تكوينها وقانون تسجيلها من الفعل السياسي والتغيير السياسي؛ يلتزم العاملون فيها الحياد والابتعاد عن النشاط الحزبي أو الحزبي الصارخ؛ يلتزم مركز المنظمة التمويل وكورسات التدريب ومرتبات المتفرغين." وقارن هذه الأوجه للحيادية بمنفستو ليبرالي جديد في الواقع شهدت عليه مجلة الإكونومست. وجاء كذلك من مجلة الإكونومست بحقيقة أن منظمة أوكسفام تلقت من الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي في العام ١٩٩٩ حوالي ٢٤ مليون جنيه إسترليني من جملة ميزانيتها البالغة وقتها ٩٨ مليون جنية إسترليني، وتعتمد من مجموع ١٢٠ منظمة غير حكومية كبرى رصدت الإكونومست مالها ١١١ منظمة كليا على الحكومات، فهي إذن ليست منظمات "غير حكومية" بأي معنى دقيق. وعند الإكونومست، صوت الرأسمالية الناضجة منذ العام ١٨٤٣، العلة أن المراكز الرأسمالية أوكلت لهذه المنظمات مهمة مهام رعاية المعيشة، أو قل إعادة إنتاج قوى العمل، في الهامش الكوني. ذلك في محل الدولة التي قامت لتفكيك حواجزها الجمركية وقوامتها المالية والاقتصادية صامولة صامولة جيوش وبنوك وصناديق استثمارية ومنظمات مجتمع مدني دينها الليبرالية الجديدة. 

بعض أصول كلمة المرحوم محمد في أصيل الاتحاد السوفييتي وهو يترنح ترنحه الأخير حتى انحلال وثاقه في أواخر العام ١٩٩١. ولم تغب عنه بطبيعة حال شخصية «المنشق» من العالم السوفييتي التي اندثرت مع اندحاره، وكان شغلها أن ترثه، والله خير الوارثين. عادت الدكتورة شيلا فتزباتريك، مؤرخة الاتحاد السوفييتي المرموقة، إلى هذه الشخصية في كلمة من وحي كتاب للدكتور بنجامين ناتانز في عدد أكتوبر من «عرض لندن للكتب». و«المنشق» السوفييتي مولود للربيع السوفييتي الذي أعقب الحقبة الستالينية، نجم لامع في السماء الغربية بل طاهر مقدس متى أعلن مظاهرته للنظام السوفييتي لكن قليل الشعبية وسط مواطنيه السوفييت، بالكاد يعرفونه، أو مواطنيه من روس ما بعد الاتحاد السوفييتي. وجاء ناتانز بإحصاء من العام ٢٠١٣ يقول لم يتعرف سوى واحد من كل خمسة مواطنين روس على أي من مشاهير المنشقين السوفييت من حقبة الحرب الباردة. وكانوا بحسب ناتانز وما عرفته عنهم الدكتورة فيتزباتريك شخصيات مخالفة وذوي عقائد مكينة وإن لم تكن على الدوام منطقية، تحفزهم خصومة غريزية أو تكاد مع السلطات السوفييتية لكن ليس الأميركية أو الغربية بطبيعة الحال، أشهر طباعهم وإن عرفوا أنفسهم كديمقراطيين تسفيههم التام لرأي عامة الناس، وتصيدهم الصراع مع السلطات تصيدا بصورة صبيانية وعلى كل حال شديدة الصفوية، ملؤهم الثقة بالنفس والتأفف من سنن من حولهم، وشاغلهم قضايا الكون، فما مطابخ موسكو الضيقة دي، تقوم منظماتهم السياسية لتفشل فليس من طبع أحدهم العمل الجماعي بحق، اختفوا من سجل التاريخ يوم اختفى الاتحاد السوفييتي. لم يقبل ناتانز نسب «المنشق» إلى تراث الانتلجنسيا الروسية الراديكالية ما قبل الثورة البلشفية. وقال بينما توجهت الانتلجنسيا الراديكالية في القرن التاسع عشر إلى الشعب شغلها التحريض وسطه اكتفى المنشق بالحديث إلى من يشاركونه الرأي في حلقات خاصة، كانت مدار عالمه. ومتى خرج إلى العالم خرج برسالة إلى الصحافة الغربية. من ذلك ما شهدت الدكتورة فتزباتريك في موسكو السبعينيات، قالت تكرر مشهد وقوف مجموعات صغيرة من جنس «المنشق» بغرض الاحتجاج عند مكتبة لينين يحملون بوسترات تنادي بالحرية وحقوق الإنسان، لكن باللغة الإنجليزية، جمهورهم كاميرات مراسلي الصحافة الغربية، ومتى ما حضر هؤلاء والتقطوا الصور إياها انفض السامر. فضل هذا الجنس السياسي تسمية نفسه «اناكوميسلياشي»، مفكر مستقل من غير التيار السائد، والله بدي الجنة. 

Wednesday, 30 October 2024

لحن الحياة منك

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥١ بتاريخ ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٤

نشر نفر كريم من أطباء السودان وعلمائه في لانست، عمدة المجلات الطبية البريطانية، في ٢٤ سبتمبر الماضي، تعليقا قصيرا أثبتوا فيه هول مصاب شعوب السودان في الحرب القائمة، وجاءوا بالأرقام التي تتداولها المنظمات الدولية عن القتل والمسغبة والمرض والتهجير والاغتصاب والتعذيب وخراب الزرع والإنتاج. ونقلوا ضمن ما نقلوا عن مدير منظمة الصحة العالمية، الذي زار بورتسودان في سبتمبر، أن المنظمة لم تستطع تأمين سوى ٢٤٪ من التمويل الذي طلبته لمجابهة الأزمة الصحية في البلاد. اقترح هذا النفر الكريم ذوي التجربة والخبرة في الخدمة الصحية العامة وعلوم سريرية ذات صلة، منها طب الأطفال وطب النساء والولادة والأمراض المعدية وطب المناطق الحارة والجراحة، خطة محيطة لمجابهة الاحتياجات الإنسانية العاجلة والتهيئة للتعافي طويل الأمد. 

الخطة المقترحة ذات أهداف قابلة للقياس حول سبع مسائل: التغطية الإعلامية الدولية الضنينة للحرب، النزوح واللجوء، الماء غير الآمن ونظافة البيئة، تهديد المجاعة، انهيار البنى التحتية للرعاية الصحية، العنف الجنسي المرتبط بالصراع، ضعف العون الإنساني الدولي. وقالوا إن محاولات مجابهة الحاجات الصحية العاجلة لا بد أن تتصل بجهود إعادة الإعمار بعد نهاية الصراع في سياق واحد لتحقيق تعافي مستدام. 

جاء هؤلاء النفر العزيز إلى الكارثة القائمة بعبارة مهنية دمثة، وسلسلة من الإجراءات التي يمكن القيام بها وقياس فعالية تنفيذها، مسألتهم فيها ترميم وإصلاح نظم المياه والمراحيض والعون الغذائي واستعادة الإنتاج الزراعي وترميم منافذ الخدمة الصحية وتشغيل العاملين في القطاع الصحي وتدريبهم وغير ذلك من أوجه الحياة. الافتراض المضمر لتحقيق جميع هذه الأهداف بطبيعة الحال هو استعادة الأمن. ورصد النفر الكريم هذا الشرط بعبارة «ممرات آمنة» للنازحين واللاجئين و«مواقع آمنة» لخدمة من تعرضوا للعنف الجنسي، وتفادوا خلا ذلك الخوض في عقدة الحرب، وامتثلوا بذلك لحياد مهنتيهم في الأخذ بأسباب الحياة حيث توفرت، لحن الحياة، وصمتوا عن سواها، وأحسنوا بذلك وما ضروا. لم يرد العارض الحربي إلا في موقع وحيد، وذلك في ذكرهم لتأثير التغطية الإعلامية على قرارات صانعي السياسات واستعداد الطرفين المتحاربين للتفاوض. 

لكن، كيف ينفذ هذا الشرط الغائب؟ جاءت على كل حال إجابة ظاهرة من اللاجئين في فيصل القاهرية، ومن جمهور في كسلا ودنقلا والفاشر وعطبرة والدامر وبورتسودان والأبيض، احتشدوا محتفلين مستبشرين بالتقدم العسكري للقوات المسلحة في مسارح حرب الخرطوم. سقم بفرحهم متحدث الدعم السريع فقال «فلول» صرف. وسقمت متحدثة «تقدم» السابقة فكتبت «أفراح بني معلوف»، كناية عن البهائم. وكتب آخر العقدة في الذي بين أولاد البحر وأولاد الغرب من غبينة، فأخرج من حيث لا يدري كيكل ونفره من البحر والمشتركة ونفرهم من الغرب ليصفو له طرفا التناقض. وسقم كذلك الزعيم في «تقدم»، خالد عمر يوسف، بهذه الأفراح، واعتمد معسكرين، أنصار الحرب وأنصار السلام، وتفسيرهما بالسابقات معارضي «تقدم» وأنصارها. جعل الأفراح من شأن أنصار الحرب، وقال شاهت نفوسهم بالأهوال وعملتهم بذلك «ما بتسير».  

لا يغيب عن القارئة الفطنة أن ثوب كل قياس فات يقصر عن تغطية عورة حربنا «العبثية»، وقد وقعت ودخلت «كل دار، كل ممشى». فكم من «فلولي» يحارب تحت رايات الدعم السريع، والدعم السريع كان ضلعا عظيما في هندسة «الفلول» الأمنية، وكم من «ثوري» يقاتل في صفوف القوات المسلحة، و«مورال» المشتركة في الدفاع عن الفاشر المحاصرة منذ شهور لا يضاهيه «مورال». الحرب أقصى درجات الصراع الاجتماعي، بعبارة ماو زيدونغ، وليس ثمة جبل يأوي إليه من يطلب اعتزالها المجيد فلا يبلغه طوفانها، فما حسبتها إذن؟ لن نبلغ تمام هذا الحساب على طريقة «الإجابة الصحيحة» و«كل ما سبق». لكن نفوسا في الجنينة والفاشر والضعين وود النورة والحلفايا وأم درمان وسواها على امتداد البلاد تنتظر في سفينة نوح أن تحلق بومة منرڤا، بومة الحكمة، عند الغسق، وقتما تنجلي المعركة، لتعرف بأي ذنب قتلت.  

Friday, 4 October 2024

يدكم خليها تكون قصيرة شوية

جاء دكلان ولش، مراسل نيويورك تايمز الأول في افريقيا، وزميله كرستوف كوتي، للمرة الثانية بالثابتة في شأن المدد الحربي الإماراتي لمقاتلي الدعم السريع تحت ستار العون الإنساني وبقماشة الهلال الأحمر الإماراتي، وذلك في عدد الجريدة ٢١ سبتمبر الجاري. وسبق وجاء وزميلاه كوتي واريك شميدت بطرف من هذا العون الحربي العام الماضي في عدد ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣.

حال الحول على هذا المدد الكريم من الإماراتيين لآلة القتل والنهب التي أخرجت أثقالها في حضر السودان وريفه. رصد وولش وكوتي في تقريرهما الأخير أركان جريمة حرب إماراتية بشهادة   متحدث اتحاد الصليب والهلال الأحمر توماسو ديلا لونغا عن إرسال الاتحاد فريقا إلى تشاد للتقصي حول الأمر في ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، فعركس الإماراتيون ورفضوا دخول الفريق إلى "المستشفى الميداني" في أم جرس التشادية لأسباب أمنية. كما قال مسؤول في منظمة الهجرة الدولية لمراسلي التايمز: "يستغل الإماراتيون الهلال الأحمر كغطاء لنقل السلاح إلى مليشيا ترتكب الفظائع راهنا في دارفور."

ربما بلغ صوت مراسل النيويورك التايمز ولش، الخواجة الآيرلندي، أبعد من صوت اللاجئ السوداني الذي وجه حديثا ظاهرا إلى الوزيرة الإماراتية لانا زكي نسيبه، خلال زيارتها في منتصف سبتمبر الجاري لمستشفى تشادي لاستعراض كرم بلادها، فقال للسيدة الوزيرة ما هماه شي: "تعلمون جيدا أنتم اليد الأيمن في إيقاف الحرب وأنتم اليد الأيمن في اشتعال الحرب في السودان. لذلك ده مطلبنا. من الآن لا بنطلب أكل، لا بنطلب شراب، لا بنطلب لبس، لا بنطلب تعليم، لا بنطلب صحة، لا بنطلب مسكن. لأن الشعب التشادي ما قَصّر، وفروا لينا الحاجات دي كلها، الشعب التشادي وفر لينا الحاجات دي كلها. قاعدين في بيوتهم، وبناكل معاهم وبنشرب معاهم، وبنلبس معاهم، وكل شي معاهم. بس دايرين منكم، بس لو دايرين تكرمونا وقفوا لينا الحرب في السودان ده. تاني ما دايرين أي حاجة. وقفوا لينا الحرب الفي السودان ويدكم خليها تكون قصيرة شوية. جزاكم الله خير."

والصوت ومداه، وما يُسمع وما يُذاع وما يُعتد به وما يُطمس في موقعه، ما يُؤخذ به وما يُهمل، دالة للشوكة، لا للحقيقة. ومن ذلك حقيقة حرب رأس مال حكام الإمارات على شعوب السودان، سيان فيها الوكيل لشيوخ الإمارات والمقاوم لبأسهم، المُنْفَنِس والقائم، فالحرب على كليهما. لا تبلغ هذه الحقيقة اللوغاريثمات الدولية للشوكة سوى كفضيحة تُوارى في غبار الكلام الماسخ عن ضرورة وقف العدائيات والتصدي للمأساة الإنسانية، حرب تتنكر كسلام. ويبلغ شِعر الشوكة أقصى الكهانة في مثل الذي صدر من البيت الأبيض في مناسبة زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الإمارات العربية المتحدة، ولقائه الرئيس بايدن. أمن القائدان بحسب بيان البيض الأبيض على أن الشراكة الدفاعية الاستراتيجية بين بلديهما قائمة وديناميكية، وعبرا عن قلقهما العميق من الأثر المأساوي للعنف في السودان على الشعب السوداني والبلاد المجاورة، وأكدا ألا حل عسكري للصراع في السودان، وأمنا على موقفهما الثابت حول ضرورة العمل الملموس والعاجل لتحقيق وقف مستمر للعدائيات؛ العودة إلى العملية السياسية والتحول إلى حكم يقوده المدنيون. وأضافا أن الأولوية الآن هي لحماية المدنيين، بخاصة النساء والأطفال وكبار السن، فعلى من يتهكمان؟ هل على اللاجئ الذي أشار بسبابته إلى سحت الهلال الأحمر الإماراتي لسان حاله: الله الغني. 

Saturday, 24 August 2024

واه يا عبد الودود: ماركس عند الحدود

هذا تلخيص بالعربية من ورقة الدكتور آدم هنيه والدكتورة رفيف زيادة "اضطراب مغزى الحدود: الهجرة والعرق والطبقة اليوم". صدرت في مجلة «المادية التاريخية»، م ٣١.٣ (٢٠٢٣)

تعرض الورقة للهجرة الدولية وطبيعة الحدود القومية من موقعي الطبقة والعرق. وتبدأ بشغل المرحوم ماركس عن الاجتماع القائم على إنتاج السلع وتبعات ذلك على مستوى الدولة السياسية والمواطنة ومن ثم الحدود والقومية، أي الصيغ الجغرافية للرأسمالية في مقابل التكوينات ما قبل الرأسمالية. ثم تنتقل إلى تكوين الطبقة والعرق في السوق الكوني المعاصر بالنظر إلى (١) حركة قوى العمل عبر الحدود وعمليات التكوين الطبقي، (٢) الهجرة وتحديد قيمة العمل، و(٣) العمل القسري وغير الحر.

يبدأ المؤلفان على سنة ماركس بتجمير مفهوم الحدود، وتمييز الشكل من المضمون، وهذا التمييز وإدراك الديالكتيك الرابط بين طرفيه ركن ركين من أركان ماركسية ماركس إذا جاز التعبير. يعتمد الأدب الخاص بالحدود تعريفا وظيفيا للحدود، والافتراض أنها موجودة لأنها تقوم بوظائف معينة في خدمة رأس المال (أو الدول الرأسمالية) فهي تخفض من قيمة قوى العمل، تقسم السكان، وتوفر قاعدة قومية للشوكة الدولية وما إلى ذلك. هذه هي وظائف الحدود، ولا غنى عنها في طريقة عمل الرأسمالية.

يفترض هذا التصور أن «شكل» الحدود نفسه كما يبدو لوعي السكان أمر بديهي كما القماشة التي تنطبع عليها تقسيمات العرق والطبقة. والقضية على سنة ماركس هي تمحيص هذا الشكل، والتساؤل لماذا اتخذت الرأسمالية الشكل الجغرافي لوحدات قومية ذات سيادة تحدها حدود وتنظمها ممارسات حدودية وأنظمة للمواطنة. وسنة ماركس في هذه المسألة تمييزه بين جوهر حقائق الاجتماع ومظاهرها المباشرة ومن ثم تاريخية الحدود. فالحدود كما انطبعت في الدولة الرأسمالية غير الحدود في التكوينات ما قبل الرأسمالية. وانتقد ماركس «المظاهر» أو «الظنون»، كما في بيت عبد الرحمن الريح "خالفت الطبيعة وتابعت الظنون" في درة الحقيبة المتأخرة "لو انت نسيت". وكشف الازيرق عن غتغتة هذه «المظاهر» على الطريقة الفعلية التي يعمل بها الاجتماع. ويخالف المرحوم ماركس في واقع الأمر ما استقر في خاطر اليسار الجزافي ويساريين جناح أم فكو من صدع بين «المادي» و«المثالي»، ومصدره قراءة مخاتلة، لا تنقصها البلادة، لاستعارة ماركس الشهيرة «القاعدة/البناء الفوقي»، الاستعارة التي طوحت بفطن قراء كثر للمرحوم ماركس. 


الحدود وتدليس الشكل القومي

يرتبط تجنيد العرق كتصنيف اجتماعي ارتباطا وثيقا بنشأة الدولة القومية التي تأسر أفرادا أحرارا بالنية، لكل منهم حقوق مواطنة ضمن حدود بينة هي مناط السيادة. وتمثل الفروقات العرقية وعقائد التفوق العرقي منذ القرن الخامس عشر قاعدة طموحات الدول القومية المتنافسة في سعيها لتأمين الجغرافية والموارد. ونشأ في هذا الخضم طيف واسع من التصنيفات الأخرى التي تتداخل والهوية العرقية السيادة، المواطنة، الإثنية، الجنسية، وما إلى ذلك، وكلها ترتبط في أصلها بتطور عالم يبدو ظاهرا مقسما بنظام دقيق بين دول قومية. والحدود في هذا السياق لا غنى عنها، فهي التي ترسم خريطة القوميات وكل التصنيفات الاجتماعية القائمة على الشكل القومي. فما هو هذا الشكل القومي؟ ما هذا الانطباع المرسل أننا نعيش في عالم يتكون من دول قومية ذات حدود قطعية؟ 

تثبت ورقة الدكتور هنية والدكتورة زيادة، لله درهما، مسألتين: الأولى أن الحدود تنشأ مباشرة من طبيعة الرأسمالية كنظام اجتماعي عصبه إنتاج السلع، والثانية أن هذا الانطباع هو في آخر الأمر تدليس آيديولوجي لحقائق اجتماعية، ومن ثم يطرح الكاتبان اضطراب مغزى الحدود في اتصال مع التكوين المشترك للعرق والطبقة.

وضربة البداية أعسر شغل ماركس وجوهرة بناءه: «شكل» السلعة كقولك "حركة في «شكل» وردة". وينفع القارئة في موضوع «الشكل» أو «المظهر» أو «الظنون» قوله تعالى "إن بعض الظن إثم". وإدراك تحولات «شكل» الوردة فتح من فتوحات ماركس لكنه ليس فتح حصري، فمثله عند المرحوم عبد الرحمن الريح: "أيام كنت ساذج كنت راقي وحنون، تغريك العواطف وتشجيك الفنون، أما الآن فصرت تقول الحب جنون." وعتب المرحوم عبد الرحمن على المحبوبة تحولها عن محتوى الحب كعاطفة وذوق إلى مظهره كجنون. وقصيدة المرحوم عبد الرحمن الريح، درس في الديالكتيك، تصلح موضوعا لكورس المرشحين في حزبنا رد الله غربته. ومثل ذلك اكتفاء اليساريين جناح أم فكو بنبذ المسيد كمظهر اجتماعي رجعي في ظنهم وغربتهم عنه كمعسكر لإعادة إنتاج التربال ومسكن للاقتصاد القيمي، شيلني وأشيلك، عندك خت ما عندك شيل، كمثل غربتهم عن الدين، تجريد الاجتماع وضامن هذا الاقتصاد القيمي في الزمان والمكان، "روح عالم لا روح فيه" بعبارة الإزيرق، في مجتمع لما ينقطع عن منابته قبل الرأسمالية. 

على كل حال، لب شغل ماركس هو تمييز الجديد في مجتمع يقوم على تعميم التبادل السلعي في مقابل التبادل السلعي العرضي والمحدود جغرافيا في المجتمعات ما قبل الرأسمالية. على خلاف صيغ الاجتماع البشري ما قبل الرأسمالية حيث تنظم الحياة الاجتماعية علاقات قسر وإذعان مباشرة يتقابل الناس في المجتمع الرأسمالي كأفراد مستقلين ملاك سلع. ولأن البشر كائنات اجتماعية تتطلب العلاقة بينهم وبين الطبيعة وإعادة إنتاج أنفسهم توزيعا للعمل الاجتماعي بمقادير محددة. ووسيلة التوزيع لهذه المقادير تحت شروط تعميم الإنتاج السلعي تبادل نتائج عملنا، أي السلع، فيما بيننا. وعقدة المجتمع الرأسمالي هي أن ملاك السلع الأفراد يتخذون القرارات الخاصة بالإنتاج، متى وكيف تنتج السلع، وباستطاعة المجتمع رغم ذلك تنظيم توزيع العمل الاجتماعي بمقادير محددة بما يضمن   بما تيسر استمراره. وهدف شغل المرحوم ماركس الأساس كان الإجابة على سؤال كيف وكيف؟ ولذا بدأ شغله بالطبيعة المزدوجة للسلعة، فهي موضوع للنفع، تأكلها وتشربها وتلبسها وتسكر بها، وهي كذلك حاملة لمقدار معين من العمل الاجتماعي المجرد. ومن ذلك خلص إلى مفهوم «القيمة» كمنفلة لتنظيم توزيع وقت العمل الاجتماعي المجرد، الوقت الذي يستغرقه انتاج سلعة ما. 

وعند المرحوم ماركس الرأسمالية ليست مجتمع قائم على التبادل وكفي إنما هو مجتمع قائم على «استغلال» قوة العمل. ومعظمنا لا يملك سوى «قوة العمل» هذه كسلعة يعرضها باستمرار في سوق الله أكبر. ولذا انتهى المرحوم ماركس إلى أن طبيعة العمل البشري تحت نير الرأسمالية مزدوجة الحرية: معظمنا حر من وسائل الإنتاج، أي خلو منها، لا نستطيع إليها سبيلا، ومعظمنا كذلك أحرار أن نبيع قوة عملنا كما يناسبنا. وشرط الحرية الثانية استبعاد القسر المباشر من عملية الإنتاج. وإن كان الواقع يكذب هذه الحرية الصورية. فالرأسمالية لا تستغني عن هيئات ودرجات متفاوتة من العمل القسري، بما في ذلك العمل المنزلي الذي يقيد حرية المرأة، ويحبسها في روتين بليد جنن لينين.

كذلك يتصل ملاك وسائل الإنتاج، البرجوازية ست الاسم، ببعضهم البعض كأحرار متساوين في تبادل السلع، كما لا تنبع السلطة السياسية مباشرة من الامتيازات العرفية. لكنه مجتمع يقوم على الهيمنة الطبقية ورباطه صيغ من التنظيم الاجتماعي والشوكة التي تؤمن حقوق الملكية الخاصة وعمليات التبادل. أين القوة السياسية إذن؟ تتشكل هذه في المجتمع الرأسمالي، وهذه ميزته، خارج مدار العلاقة بين رأس المال وقوة العمل في مجال مستقل هو السياسة، وهذا «مظهر»، مظهر المفاصلة بين المجال السياسي والمجال الاقتصادي. القضية الرئيسة مما سبق أن بين «شكل السلعة» ونشأة الشخوص كمواطنين في التجريد (بدون اعتبار للعمل الذي يقوم به أي منهم أو موقعه الموروث أو الاعتباري، أفندي ولا شيخ حلة، جده حامد أب عصا أو جده جنيد) ضمن دول ذات سيادة رباط وثيق. وتقوم المفاضلة الظاهرية بين المجالين السياسي والاقتصادي على تجريد البرجوازي والعامل كمواطنين متساوين ظاهرا لكل منهم ذات الحقوق، ظاهر الأمر، ضمن الحدود التي تسيطر عليها الدولة السياسية.

تنشأ من هذا الرباط التصنيفات الاجتماعية المختلفة التي تعبر عن الانتماء القومي أو الارتباط بجغرافية ما ومن ثم دولة ما - المواطنة، العرق، الإثنية، الجنسية وما إلى ذلك. والوطن بهذا المعنى تكريس للتمايز بين المواطن والأجنبي، نحن وهم. نحن من هنا والجماعة ديل من زحل. من ناحية أخرى، الوطن جرافة لتدمير التصنيفات الرجعية والامتيازات القديمة، هو مجال صيانة حقوق المواطنة. فحقيقة الانتماء مجلبة لمنافع أخرى (بالمقارنة مع غير المنتمين)، وقاعدة المساواة الظاهرة بين مواطنين. والتعبير عن حقوق المواطنة مجالها قانون تضمنه قوة الدولة التي تبسط سيادتها على جغرافية معينة وتقيم شخوص الأفراد كرعايا لهذه القوة المجردة.

 

توطين «شكل السلعة» في جغرافيات 

بطبيعة الحال لم يتم توطين «شكل السلعة» في وحدات جغرافية ضربة لازب وفي كل مكان مرة واحدة. دفعت عوامل أزمة الإقطاع المتطاولة والحروب المتعددة والصراع الاجتماعي الحاد في أوروبا الغربية نحو بزوغ الصيغ القومية وظهور تصنيف المواطن/الأجنبي، سمة الانتماء القومي. جرى هذا التحول بطريقة متباينة زمانيا ومكانيا على مدى السوق العالمي، وارتبط تعزيز الانقسام بين المواطن والأجنبي ارتباطا وثيقا بالعرق كحد للاختلاف بحيث تطابق الانتماء القومي مع هوية اثنية أو لغوية أو عرقية معينة. وقد تباين تعزيز هذا الانقسام واختلف عبر جغرافية السوق العالمي. وقام هذا الارتباط بين الانتماء القومي والهوية العرقية على سوابق في التاريخ الأوروبي، منها عقيدة التفوق العرقي للجيوش المسيحية التي حاولت التخلص من الحكم الإسلامي في الأندلس في القرن الثالث عشر، والامبراطوريات الاستعمارية وفرض حدود قومية على الجهات التي خضعت للسيطرة الأوروبية. ونشأت عن كل ذلك تقسيمات عرقية وسمت هؤلاء الناس وأولئك بأنهم غير أحرار. واتصل كل ذلك مع ترتيب هرمي لتقسيمات ثانوية داخل الحدود القومية للأمم التي وقعت تحت نير السيطرة الغربية، تقسيمات على أساس الهويات الإثنية والطائفية والطبقية. خلاصة الأمر، أن بزوغ الدول الرأسمالية ترافق مع اتجاه للتمييز وليس للتسوية، لتعزيز الفروقات المناطقية والثقافية في صورة فروقات «عرقية».

وللمرحوم ماركس في هذه المسألة مبضع، تتميز به الأفكار والتقسيمات الذهنية التي نتوسل بها فهم العالم عن العلاقات الاجتماعية الداخلة في تكوين الرأسمالية كنظام اجتماعي الأساس فيه تعميم الإنتاج السلعي. ومهارة المرحوم ماركس لا تكمن كما في الابتذال الدارج في تأسيس قوامة اقتصادية ينتصب فيه «المادي» على «المثالي» كما قد تشي بذلك استعارة القاعدة والبنية الفوقية وإنما في نفي إمكانية عزل «المثالي» كمجال للواقع يفارق «المادي» أول الأمر. ونقد ماركس للمثالية في كتابه «الآيديولوجيا الألمانية» بمثابة مقارعة للمثالية ألا سبيل لتمييز المادي عن المثالي، فإنكار ماركس للمثالي إنكار أولي لاستقلاله عن «المادي». وتركيز ماركس وانجلز في «الآيديولوجيا الألمانية» على هذا الفصال بين الوعي والأفراد الذين هم بشخوصهم وظروفهم قاعدة هذا الوعي، وبذلك «المثالي» مستحيل موضوعيا. 

بهذا المنظور فإن المفاهيم التي نتفكر بواسطتها في العالم الدولة والقانون والعرق والحدود والانتماء القومي.. الخ هي أشكال الوردة التي يبدو فيها العالم لناظرنا، وفاعليتها حقيقية لا شك لأن هذه المفاهيم تدفعنا وتحفز أعمالنا. لكن الواجب ألا نقع في فخ أن هذه الأشكال، هذه «المظاهر»، كما في أغنية المرحوم محمد أحمد عوض المعروفة، مستقلة عن ذواتنا كبشر، وفيها يلوم المحبوبة تفضيلها المظاهر من زينة الدنيا الزائلة على محبته الأكيدة. وهي إذن صيغ مفاهيمية تعبر بفعالية اجتماعية عن الظروف والعلاقات المحيطة بنمط تاريخي من أنماط الإنتاج، أشكال مثالية تتجلى عبرها لوعينا العلاقات المادية التي يقوم عليها مجتمعنا. وأي تصور سوى ذلك هو في واقع الأمر تحنيط وتأبيد لهذه الأشكال باعتبارها تمثيل مستقل للواقع الموجود فعلا. 

فوق ذلك، لا تعكس هذه الأشكال المفاهيمية عند المرحوم ماركس الواقع الاجتماعي والسلام، لكنها تطفف في ذلك، وهذه هي قضية نقد ماركس للاقتصاد السياسي؛ وهي الإطار الذي يضع فيه المرحوم ماركس المساواة المزعومة بين الأفراد في مقابل تعميم شكل السلعة. وعند المرحوم ماركس الحرية المزدوجة للعمل والمساواة الظاهرة بين أصحاب السلع لا تعنى بالضرورة استقلال المجال السياسي عن المجال الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي. لكن يبدوان كذلك نتيجة لعلاقات الملكية الأساس التي تسم المجتمع الرأسمالي وما تطمسه من استغلال واقع فعلا ومكنون في شكل السلعة والسلطة التي تتمتع بها البرجوازية في المجتمع. فالتحرر السياسي وأسه الفرد الحر قضائيا صاحب الحقوق المتساوية يطمس حقيقة الدولة كصيغة من صيغ الحكم الطبقي، الصيغة التي تولت كبرها البرجوازية لتنظيم سلطانها على المجتمع. 

من جهة أخرى، لا يجوز آن تنتهي هذه الحجة عند محطة أن هذه المفاهيم التي نستعين بها لفهم العالم خاطئة بمعنى أننا نخطئ في شهودنا العالم. فالعالم في واقع الأمر يبدو أنه يعمل وفق هذه المفاهيم ويتبعها سلوكنا، فضبطها على هذه الوجهة المعينة دالة للقوانين والمؤسسات الاجتماعية التي نؤسس، ونسعى في واقع الأمر لتصويب الأمور متى وجدنا أن حقوق مواطنتنا عرضة للانتهاك. لكن، لا يجوز أن نجعل ظاهر الواقع في محل الواقع نفسه، وإلا لكانت كل العلوم مما لا داعي له بعبارة المرحوم ماركس. تبدو لنا هذه المفاهيم كما يبدو السراب يحسبه الظمآن ماءً، نراها لكنها تخادع، تستر حقيقة أنها صيغ فكرية تعبر عن «علاقات أولية» لشكل السلعة. ونستثمر في فعاليتها التفسيرية وعلاقات السببية التي تصل بينها باعتبارها قوى مستقلة منفصلة عن البشر المشهودين. وعليه نفشل في كشف حقيقة أن هذه المظاهر تحجب المحتوى الفعلي لعلاقات الملكية الأولية.

ومن آثار تأبيد الدولة في الوعي بما في ذلك مفاهيم المواطنة والسيادة ذلك الميل العميق لتصور الجغرافيات التي تحيط بها الحدود القومية كوحدات متعينة منفصلة تحيط في داخلها بعلاقات اجتماعية حسنة الترتيب. ولذلك يطغى في الحياة اليومية تصور الحدود القومية كقطع الأحجية المصورة، وحدات منفصلة مكتملة سابقة للكل، والكل جماعها، ولكل منها خصائص باطنية تقوم بمعزل عن الكل المحيط. وبذلك نرى الوحدات القومية كحقائق أولية والتكوين الاجتماعي (الأممي) كنتيجة تنشأ عن العلاقات التبادلية بين هذه الوحدات. وبهذه الطريقة نضع المظهر في موضع المخبر، ونتصور ما هو في الحقيقة «علاقة» موجودا قويما وبذلك تغيب عن ناظرنا واحدية الكل. 

وللمرحوم ماركس تخريج فلسلفي لهذا الانزلاق النظري، فهو ملك «العلاقات الباطنية» وعنده العلاقات بين الموجودات (وكذلك المفاهيم) ليست برانية، خارجية عنها، وإنما جوانية، بل هي ما يشكل جوهرها. وأي مسألة خاضعة للدراسة عند المرحوم ماركس هي جملة علاقات تداخلها جوانيا كجوهر فيها تلك الأطراف منها التي نميل أن نراها برانية عنها ترتبط بها بطرف قصي. والموجودات إذن عند المرحوم ماركس ليس مكتفية بنفسها، قديمة، مستقلة، ذاتية، لكنها في الواقع الأمر تتكون عبر العلاقات التي تصلها ببعضها البعض، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هذه العلاقات لا تقوم برانية عن الموجودات، بل هي داخلة فيها، جوانية، ومن جوهر طبيعتها. وسبيل المرحوم ماركس هو اكتشاف هذه العلاقات المتعددة بين الموجودات وحركة هذه العلاقات عبر الزمان والمكان بدلا عن اعتبار موضوعات الدراسة وحدات بناء مستقلة كل واحدة منها عن الأخرى، يمكن المقارنة بينها لكن تظل في أسها منعزلة عن بعضها البعض. 

وبهذا التصور فالوحدات القومية هي المظهر الملتبس للواقع الاجتماعي الموجود فعلا، ويفرض علينا سبيل المرحوم ماركس إدراكها كعناصر متصل بعضها ببعض لنظام كلي هو السوق العالمي، ذو المحتوى العالمي والمظهر القومي. وعلينا إذن الانتقال من ثنائية القومي والعالمي إلى اعتبار واحدية السوق العالمي والعلاقات المتبادلة بداخله وهو سوق تقوم فيها دول متعددة تتمايز بينها بالشوكة.

 

الحدود، الهجرة والتكوين الطبقي 

تتكشف بمنظار ماركس إذن وظيفة الهجرة العابرة للحدود في السوق العالمي، فهي وسيلة السوق التي تغرف بها البلدان المكونة للأحزمة الأكثر ثراءً من الاقتصاد العالمي من "جيش العمل الاحتياطي" ما تحتاجه قوة عمل، مدربة وغير مدربة، مهنية ويدوية، رسمي وكيري. وجيش العمل الاحتياطي بعض من فائض السكان حول العالم، حوض واسع من المادة البشرية القابلة دوما للاستغلال بثمن بخس يغرف منه رأس المال بحسب الضرورة تبعا لمده وجزر تراكمه.

والطابع الملموس لهذه الحركة التراكمية شأن تاريخي شديد التنوع بحسب كل قطاع اقتصادي وكل إقليم بشري. والنقطة الرئيسة أن حركة قوى العمل عبر العالم تهدم كل آزرة قومية لمنابت الطبقات العاملة وتكوينها. الهجرة إذن بمنظور المرحوم ماركس عملية للتكوين الطبقي، اقتران للعمل من جهة ما في العالم مع رأس المال في جهة أخرى. ودونك على سبيل المثال اغتراب الخليج العربي الذي اقترنت به قوة من أقاليم آسيا وافريقيا مع رأس المال في قطاعات الخدمات والإنشاءات والإنتاج الغذائي. بهذا المعنى الهجرات باطنة في تكوين الدول الرأسمالية. من ذلك في التاريخ البريطاني ازدواج التمدد الامبريالي وموجات متتالية من الهجرة التي أذنت بتجنيد قوميات ومجموعات مستضعفة بعينها في جيش العمل، مثل العمال من جزر الكاريبي وعاملات النسيج البنغلاديشيات والعمال اليهود ومؤخرا العمال من الاتحاد الأوروبي، وما هذه الهجرات سوى حركة فائض السكان - فائض قوة العمل - من حول العالم إلى بريطانيا. وتكرر مثل هذا النمط في دول أوروبية أخرى وفي المستعمرات الاستيطانية.

أما خارج أوروبا فقد كانت حركة البشر الكبرى عبر الحدود القومية بعلة الحروب أو الأزمات الأخرى هي كذلك عنصرا داخلا في عملية تجنيد العمال والتكوين الطبقي. ويشكل هؤلاء النازحون المبعدون بغض النظر عن حقوقهم وأوضاع تشغيلهم قسطا من قوة العمل في بلدان عديدة اليوم. يشكل اليوم اللاجئون السوريون أعظم كتلة نازحة من البشر في العالم، وجد بعضهم أنفسهم في لبنان والأردن وتركيا، وصاروا يشكلون نسبة مقدرة من سكان هذه البلاد بالإضافة إلى موجات سابقة من النازحين (الفلسطينيين بالدرجة الأولى)، ١٠٪ من سكان الأردن، ٢٥٪ من سكان لبنان. والنازحون بذلك جزء من «جيش الاحتياط» العامل في هذه البلاد، والهجرة بهذا التقدير لبنة من لبنات التكوين الطبقي. 

ومتى ما عرضنا للهجرة كطرف في عملية التكوين الطبقي تبين الدور الحاسم للحدود في تعيين فئات العمال وحصارها وتشكيل العلاقات بينها. وغرض رأس المال في هذه المسألة مزدوج، فهو من ناحية يطلب حبس قوة العمل في موقعها ومن أخرى يحتاج إلى تحريكها من موقع إلى آخر. والحدود بهذا المعنى وبحسب القيود المختارة التي تفرضها على صنوف الحركة البشرية تعمل كمصفى دائب التغير يضبط وقع وسرعة وعدد ونوع المهاجرين، يقيد حركة هذه المهاجرة ويستقبل تلك إلى داخل الأراضي الوطنية. الحدود إذن متعددة الأغراض انتخابية وتخلق بفرضها هذا القيد السيادي وحل ذاك وبفاعلية المهاجرين أنفسهم أجناسا متباينة من العمال. 

اختصار ما سبق أن جيش الاحتياط من العمال صار جيشا كونيا، جيشا أمميا. لكن ليست هي الحدود التي تخلق هذا الجيش الاحتياطي الأممي، بل والسنة من المرحوم ماركس علاقة رأس المال والعمل التي تجعل من سكانا بعينهم فائضا بشريا. وهذه عملية دائبة التحول منابتها العواقب المتباينة للتراكم الرأسمالي على المستوى العالمي. ومتى ما طلبت الدارسة التعرف عليها بجد وجبت الإحاطة بتواريخ الاستعمار والامبريالية والتركيز العالمي لرأس المال والحروب والأزمات السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك. والحدود تتوسط بصورة أو أخرى بين جوانب من تمثلات الرأسمالية الكونية وتؤطر توزيع فائض السكان بين التكوينات القومية والعلاقات بينها.

 

تلبيس القومية

يقودنا المعنى الذي بلغناه مع ماركس للحدود إلى تلبيس القومية كشكل، وهي جذر تصوراتنا الراهنة عن الحدود. فالقوميات أو التكوينات القومية وفقا لتصور المرحوم ماركس ليست مخازن مغلقة للناس تحبس بداخلها علاقات اجتماعية خاصة، بل لا ينشأ الشكل القومي لقوة العمل سوى بالعلاقات التي تقوم بين التكوينات القومية، العلاقات بين بعضها البعض. وهذه العلاقات جوانية في تكوين القومية. فالرأسمالية البريطانية على سبيل المثال، وبريطانيا تشغل موقعا في قمة الهرم العالمي للدول، تمتد علاقاتها عبر العالم. وهذه العلاقات جوانية في تكوين فائض العمالة على المستوى العالمي، كما يساهم فائض العمالة العالمي هذا في تكوين الرأسمالية البريطانية، ولذلك قانون: "نحن هنا لأنكم هنالك." أو بعبارة ستوارت هول: "أنا السكر في قعر كوب الشاي البريطاني." وعلى ذلك قس.

فالهجرة بهذا المعنى عملية اقتلاع وشفشفة وبالتالي تكوين طبقي وهي من تبعات الطريقة التي تعيد بها الرأسمالية تكوين نفسها على المستوى العالمي. ولا سبيل إذن لإدراك مبنى الهجرة بغير الاعتبار في تبعات الامبريالية، السالف منها والمعاصر. فالشفشفة على مستوى العالم خلاصة ما تفعله الولايات المتحدة وبريطانيا في أصقاع الأرض، كان ذلك بالعنف الحربي أو بالوسائل "السلمية" المتعددة التي يفرض بها المركز الامبريالي الهياكل المالية والسياسية للسوق العالمي، فما الحرب إذن وما السلام؟ صاغ المرحوم ماركس هذا المعنى بعبارته الصريحة: "إن تراكم الثروة في هذا القطب يقابله تراكم الشقاء وعذاب الكدح والجهل والبربرية والبهدلة في القطب الآخر." ويقدح المرحوم ماركس المعنى في ذهن القارئة، لو كنتم تتفكرون، قدحا؛ وقدحه يكشف معنى حركة البشر عبر الحدود اليوم، ليس سبهللية وإنما حركة مشروطة بتراكم رأس المال وتراتب النظام الدولي.

فما العرق إذن؟ يتصل العرق اتصالا مباشرا بدور الحدود الباطني في عمليات التكوين الطبقي المتباينة، فبها ينشأ العرق كهيئة للتدافع بين قوى العمل المتنافرة جغرافيا. والعنصرية بهذا التصور هيئة لتدليس الواقع الاجتماعي الذي سبق بيانه: صنمية المواطنة والدولة القومية، ولهذه العنصرية صور شتى، منها في الدعاية الليبرالية الغربية عبارات «التعدد الثقافي» و«التسامح» و«احترام التعدد»...الخ. وجميعها تستبطن هوية معيارية (أوروبية بيضاء) وغيرها تعدد. وبذلك يعاد تكوين الطبقات العاملة كأقوام متباينة منقسمة على نفسها. وليست هذه ظاهرة حديثة، بل هي من خلقة الرأسمالية التي صنفت كل قاطن خارج الغرب كمخالف عرقي بقياس المواطن المعياري الذي ينتمي إلى الداخل الرأسمالي، ضمن حدود الدولة الرأسمالية. وفي كل صور العنصرية يصعد شبح «المهاجرة» كمنتهكة للبيضة القومية، والمهاجرة غير الشرعية فوق ذلك درجات فهى تجسيد هذا الانتهاك لحما ودما.

 

الحدود، العرق، وقيمة قوة العمل:

أجسامنا ليه جسمين 

الهجرة تحت سلطان الرأسمالية إذن عملية للتكوين الطبقي عرقية السمت، فما دور الحدود والعرق في تعيين قيمة قوة العمل؟ تتحدد قيمة قوة العمل عند المرحوم ماركس، مثلها وأيما سلعة أخرى، بوقت العمل اللازم لإنتاج هذه السلعة ومن ثم إعادة إنتاجها. وما ذاك سوى وسائل المعيشة اللازمة لحياة قوة العمل وتجديدها. وعليه، فقيمة قوة العمل، وليس سعرها، دالة لعاملين إثنين: التغيير في وسائل المعيشة أو التغيير في قيمتها. ولذا كتب المرحوم ماركس أن عناصر تاريخية ومعنوية تدخل في تعيين قيمة قوة العمل وهذه بعبارته وقف "بمستوى الحضارة الذي بلغته البلاد" و"الظروف ومن ثم العادات والتوقعات التي رافقت نشأة طبقة العمال الأحرار." أثارت تعليقات المرحوم ماركس هذا سيلا مستمرا من الأسئلة والقضايا في الأدب الخاص بالطبقة العاملة وشؤونها، ومن ذلك، هل يصح تعيين قوة العمل سلعة، ولأي درجة يحدد الصراع الطبقي قيمة العمل، وهل هذا عامل مستقل عن عملية الإنتاج نفسها، والعلاقة بين العمل المنتج وغير المنتج، أي الداخل مباشرة في إنتاج السلع والعمل وغير الداخل فيه؟ وخلاف ذلك علاقات القوة داخل البيوت التي هي موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل.

والقضية التي تطرحها علينا الهجرة الانفصام بين موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل وموقع بيع قوة العمل، الانفصام الذي تتوسطه الحدود ويكوي بميسمه جسم العاملة المهاجرة من البلد «أ» إلى البلد «ب» وقلبها. يشمل حساب الوقت الاجتماعي اللازم لإنتاج قوة العمل لعاملة في بلدها الأم «أ» مصارف عديدة، التعليم والتدريب والرعاية الصحية والبنى التحتية وتكلفة إعادة الإنتاج الاجتماعي من معيشة وتربية وما إلى ذلك. لكنها متى هاجرت إلى البلد «ب» لا تنتقل معها هذه التكلفة. ويرث رأس المال في البلد «ب» العاملة المهاجرة دون أن يتكلف وقت العمل الاجتماعي العظيم الذي داخل تكوينها. وتبلغ البلاد الجديدة «ب» جاهزة، تكلفة قوة عملها في واقع الأمر أقل من متوسط تكلفة قوة عمل العاملة المماثلة التي نشأت في ذات البلد. وانتقالها من «أ» إلى «ب» نقل مباشر للثروة، الدعم السلعي المذموم في أدب الصندوق والبنك الدوليين، من البلد «أ» إلى رأس المال في البلد «ب»، لكن السلعة هذه المرة قوة العمل لا البنزين. ويماثل هذا النقل للثروة المتجسدة في العاملة المهاجرة من البلاد الأفقر إلى البلاد الأغنى في واقع الأمر استخراج المواد الخام وربا الديون وما إلى ذلك، شفشفة. 

ينطبق هذا التقدير على كل صنوف العمل المهاجر، الماهر وغير الماهر، الشرعي وغير الشرعي، فسلاسل القيمة لا تعتل بأسباب وكيفيات الهجرة متى وقعت. والقضية بهذا التصور تفوق اللت والعجن حول «نزيف العقول» فالعقدة ليست في كسب أو خسارة المهاجرة المعينة والبلد التي هاجرت إليها، بل في حقيقة الحدود الفاصلة بين منشأ العمل وموقع بيعه وبالتالي حصاد فائض العمل. والحدود القومية بهذا التصور على سنة المرحوم ماركس مُعامل حدي لحصاد القوة العمل. وتتدثر هذه الفروقات القومية في قيمة قوة العمل بثوب العرق والنوع، بل هي معطونة فيهما. فالعمال من هنالك يستحقون ثمنا أقل من العمال من هنا، فهم في آخر الأمر يتوقعون ثمنا أقل، وإنه لمن حسن حظهم أنهم وجدوا عملا على الإطلاق. تتخذ إذن هذه الفروقات الجغرافية في قوة العمل هيئة آيديولوجية عنوانها العرق. وهذه الهيئة ليست مسخا آيديولوجيا وكفى فهي واقعة حقة، فنحن نميل لرؤية العالم بهذه الطريقة والعرق فعلا يسم الفروقات في قيمة العمل. فالعامل البنغلاديشي في الخليج العربي يستحق في التصور الدارج ويتلقى أجرا أقل من مثيله المصري والمصري يستحق ويتلقى أقل من مثيله السعودي، والخادمة المنزلية من جنوب السودان في ديار الخرطوم التي كانت تستحق وتتلقى أجرا أقل من مثيلتها الحبشية. لكن هذه الهيئة رغم فعاليتها تدليس آيديولوجي للواقع الاجتماعي، فهي تعتمد صلة سببية بين التبعة الوراثية وقيمة قوة العمل في محل العلاقات الاجتماعية التي تحدد هذه القيمة، وتجعل ما هو عرضي جوهرا. وبذلك فأن قبول هذه الهيئة الآيديولوجية على ما هي عليه دون تمحيص لا يخدم سوى تأبيد واقع الحال. 

يتكشف إدغام التصنيفات العرقية والحدود وقيمة قوة العمل في برامج هجرة العمالة المؤقتة، وغرضها تشغيل العمال من البلد «أ» لفترات محدودة بذمة مخدمين في البلد «ب» على أن يعودوا أدراجهم إلى بلد منشأهم بانتهاء عقود استخدامهم. ولهذه البرامج تاريخ طويل متصل بالعرق والعنصرية، من ذلك العمال المسخرين الذين طال استخدامهم في الإمبراطورية البريطانية بعد الإلغاء الرسمي للعبودية في منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك برامج «العمال الضيوف» التي انتقلت بها قوى عمل واسعة من شمال افريقيا وتركيا إلى أوروبا الغربية في عقابيل الحرب العالمية الثانية. وقد تجددت هذه البرامج في السنين الأخيرة في مثل استخدام اسبانيا للعمال المغاربة الموسميين في حصاد الفواكه واستخدام كندا للعمال الموسميين المكسيك في زراعة الخضر، بل بلغ الحساب أن فاقت أعداد العمال المهاجرين المؤقتين أعداد أقرانهم الدائمين.

تمثل دول الخليج العربي الست على المستوى الكوني أعظم حيازات استخدام العمالة المهاجرة المؤقتة على الإطلاق، فغالبية قوى العمل هم من المهاجرين المؤقتين. وبذلك ليست وظيفة الحدود كمُعامل حدي لغرف قيمة قوة العمل هوبلي خصلة أوروبية أو أميركية، بل هو سلاح رأسمالي. يلعب تصنيف «المواطن» في دول الخليج العربي دورا محوريا في هذا التمييز بين «ديل» و«ديكا»، فالمواطنة ميزة لفئة حصرية من القاطنين في مقابل جمهور غالب من قوة العمل محبوس في تصنيفات العرق والنوع، «الزول» و«الصديق» وهلم جرا. ويتجسد في هذه التصنيفات تشريع استرخاص قيمة قوة العمل المهاجر في الخليج. لا يقوم هذا الاسترخاص فقط على الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج العاملة المهاجرة تاريخا بل كذلك على التطبيق المعاصر لقيمة قوة العمل المهاجر على أساس الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل المهاجر في بلد المنشأ. تتلقى العاملة المهاجرة من الهند إلى دبي على سبيل المثال أجرا يماثل تكلفة إعادة إنتاج هذه العاملة وأسرتها في بلد منشأها الهند، وليس في دبي. تتكشف مادية هذه العلاقات في الاقتصاد العالمي في حجم تحويلات المغتربين العابرة للحدود التي يدور حولها معاش حوالي واحد مليار شخص في العالم، واحد من كل سبعة من أهل الأرض، إما مرسلة أو متلقية. والعرق بهذا المعنى هيئة آيديولوجية للانفصام بين هناك وهنا، منشأ المهاجرة وموقع عملها، في وعينا؛ و«التحويلة» تجسيد مادي للوحدة الموضوعية بينهما، أجسامنا ليه جسمين، أو كما قال.

 

الهجرة، القسر والعمل «غير الحر» 

يقع الفصام بين المهاجرة وبين أرض بعينها، وبالتالي بين مبنى من العلاقات الاجتماعية، في قلب انتقالات القيمة المتنوعة موضوع شغلنا. يبدو في ظاهر الأمر أن لهذا الفصام عددا من الأسباب المباشرة الحرب، الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، العنت البيئي وهلم جرا. لكن لا يصح الاستنتاج أن ثمة تمايز بين صنفين من الهجرة، القهرية والاقتصادية. فلحركة اللاجئين عبر الحدود عللا مباشرة عنيفة لكن هذا العنف واقع كذلك بعلة الشفشفة الكونية والتحول النيوليبرالي. والحق أن هذه العلل تتصل ببعضها البعض؛ والتمييز بين أسباب دافعة وأسباب جاذبة على مستوى الفرد أو البلاد تمييز مستحيل لا يقوم إلا في التجريد، ومثل ذلك مثل عقيدة «العمل الحر». ومقال المرحوم ماركس في هذه المسألة عظيم البيان، فالعمل المأجور يبدو في هيئته طوعي لكنه في محتواه قهري، وعلى ذات المنوال حركة العاملين عبر الحدود تبدو ظاهرا حركة حرة لأفراد مخيرين لكن محتواها تسيير بجبر رأس المال. 

عليه، الفصام بين المهاجرة وأرضها ظل للفصام بين العاملة ووسائل المعيشة والإنتاج. ولا يصح هذا الاستنتاج على مستوى الإفهام فقط، فلطالما كانت حركة العاملين عبر الحدود هي الهيئة التي يتخذها إطلاق قوى العمل من الارتباط بالأرض، تحريرها للاستغلال الرأسمالي والدفع بها في دوائر سوقه. ومثل ذلك تجارة الرقيق من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر والتي كانت واقع الأمر عملية واسعة شديدة العنف والقسوة للفصام بين قوى العمل ووسائل عيشها وتحويل جيوش من الناس إلى منتجين للسلع الاستهلاكية في السوق العالمي. تزامن هذا العنف الكوني مع انتقال الفلاحين الأوروبيين من الزراعة المعيشية إلى سوق العمل المأجور. وتكررت هذه الدورة من السلب في هيئة عقود العمل الجبرية بعد الإلغاء الرسمي للرق في العام ١٨٣٣. وبها تم الفصام بين الفلاحين من جنوب آسيا وأرضهم، وتحولت هذه الكتلة من العاملين كذلك إلى إنتاج السلع الاستهلاكية في أصقاع الإمبراطورية البريطانية. وخرجت من هذه الحركة للعالمين تكنولوجيات عديدة للهجرة استبقت التكنولوجيات المعاصرة أو أذنت بها، منها جواز السفر. 

تداخلت حركة البشر هذه واختراع التصنيفات العرقية؛ بل تعود أصول العرق، فكرة «العرق» في هيئتها الحديثة، إلى هذه الحركة العنيفة للبشر عبر الحدود، الحركة التي تحسب ضمن منابت الرأسمالية. وتتكشف بهذا التصور جوانب أخرى من اتصال هجرة العمل ذات السمت العرقي مع شكل وردة «القيمة». تكشف تواريخ هذه الحركة كيف يضاعف الاقتلاع الملموس من الوطن من القابلية لعلاقات رأسمال وعمل جبرية. في هذا الباب، ميز أصحاب المزارع الاستعمارية اقتلاع الأرقاء من أوطانهم كعامل من العوامل الدافعة لقسرهم على العمل. فإنباتهم في حوض علاقات اجتماعية جديدة خلو من ستر أسرهم وعلاقات اجتماعهم في أوطانهم كان عاملا حاسما في كسر مقاومتهم لأنماط العمل الرأسمالية.  والحق كما بين المرحوم ماركس أن كل صور العمل الرأسمالي جبرية بدرجة تقل أو تزيد، والهجرة عامل يعزز هذا الطابع الأولي للعلاقة بين العمل ورأس المال. خلاصة هذه العمليات المتداخلة هو تقليل سعر عمل المهاجرة المعرفة بعرقها (بالمقارنة مع غير المهاجرة) من جهة، ومن جهة أخرى تفتيت التجربة الطبقية في أي سياق قومي.

 

خلاصة 

انتهى شغلنا وماركس حول الحدود إلى أن عقائد العرق والعنصرية ليست وسيلة انتهازية بيد الصفوة السياسية لتقسيم جمهور العاملين وتجييش الدعم الشعبي لليمين وإعادة تكوين الرأسمالية وكفى، وإن تيسر بمعرفة هذه الوسيلة الكشف عن فعالية العرق في السياسة اليومية. ما يحجبه هذا التصور هو منابت التصنيفات العرقية في التدليس الذي يسم الشكل القومي. تتعلم القارئة من المرحوم ماركس معنى باطنا لنشأة التصورات البرجوازية عن المواطنة، والدولة السياسية الحديثة، والفصل الظاهر بين المجالين السياسي والاقتصادي. ويتكشف من هذا المعنى الباطن ضلال تصورنا الدارج عن تقسيم العالم إلى وحدات قومية، وقاعدته الذهنية صورة صنمية للدولة وحدودها، اللات والعزى. ويساهم التحول عن هذا المنظور إلى منظور العاملة المهاجرة في فض هذه الصنمية وكشف خواءها بما في ذلك التصور الدارج عن الإسار القومي لقوى العمل. فحركة العمل المهاجر جوانية في التكوين القومي وركن فيه. تمثل الهجرة، ولا شك، حركة ملموسة للناس واقتلاعا لهم من حيز اجتماعي إلى آخر، لكنها تؤكد من جهة أخرى تزامن العمليتين، التشكيل القومي والاقتلاع الاجتماعي، فبينهما وحدة ديالكتيكية. 

ويساعدنا ديالكتيك المرحوم ماركس الحاد في قطع شأفة الحدود كصنم وبالتالي تفجير تصور الحدود كمخازن قومية. وهي في واقع الأمر برازخ عبور لفائض السكان النسبي من جغرافية إلى أخرى بحسب متطلبات السوق الرأسمالي. والعلاقات بين فائض قوة العمل في هذه الجهة من الحدود أو الأخرى باطن في التكوين الطبقي ضمن أي حيز قومي. فوق ذلك تخدم الحدود غرض فرز العلاقات الاجتماعية وتحديد مستويات معيشة قوى العمل المعتادة ومتطلبات إعادة إنتاجها لصالح استخلاص فائض القيمة وزيادة الربحية، وبذلك لا يمكن موضوعيا الفصل بين العلاقات الاجتماعية داخل هذا التكوين القومي وذاك، فكل مشروط بالآخر. وكل ساعة أزمة فرصة لغرف فائض قوة العمل المهاجر، شفشفتها، وحركتها من جغرافية إلى أخرى شرط لهذه الشفشفة الكونية.

انتهى.

 

والدك حسن محارب، غفير برج الحمام

Thursday, 4 July 2024

عبثيْةْ، بت الكلب

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٦ بتاريخ ٢٧ يونيو ٢٠٢٤.

جوشوا كريز، خلود خير ورجاء مكاوي، السودان يتضور جوعا، مجلة «عرض نيويورك للكتب»، ٢٣ يونيو ٢٠٢٤.

صدر هذا المقال في مجلة «عرض نيويورك للكتب»، مجلة رصينة حسنة التحرير، وقضيته الأولى إقامة الدليل على أن أهل السودان على باب الله، جوعى تقطعت بهم السبل في أوار حرب هم فيها ضحايا وكفى. ولذا لا قوامة لهم على أنفسهم وإن حملوا السلاح للقتال والدفاع عن أنفسهم وانصلب تربالهم للزراعة بما تيسر وفاحت بني كربو في قيزان خلاويهم للسائل والمحروم وقامت وسطهم لجان طوارئ ومطابخ جماعية؛ ومهمة المجتمع الدولي هي إنقاذهم، وأن لم يقم بهذه المهمة فشل مرة وأخرى وأدمن الفشل.

وطن الُكُّتّاب الثلاثة هذه الخلاصة في تاريخ للحرب واقتصاد الغذاء والجوع بين يدي الدولة وريثة الاستعمار، دولة ٥٦. أحسن الُكُّتّاب عرض هذا التاريخ من التفاضل في الشبع والجوع بين حواضر السودان وأريافه لكن زاغ عنهم تشخيصه، فردوا أمره إلى حكم "طبقة ضيقة من النخب العربية ذات القاعدة في السودان النيلي"، وجعلوا بذلك العرق محل الطبقة الاجتماعية. وهذا زعم مستقر في الأكاديميا الغربية عن السودان، المفاصلة فيه بين «عرب» ظالمين و«غير عرب» مظلومين وعلى الباغي تدور الدوائر. وتكررت في المقال كلمة عرب ١٢ مرة بأكثر من معنى، فطغمة الحكم الضيقة في حوض النيل عرب، والجنجويد من أهل دارفور عرب، والعرب في الإمارات العربية عرب. ولا تمييز في المقال لهذه الانزلاقات في مدلول «آراب»، فكله صابون.

لهذا السهو عن تمايز الطبقة الاجتماعية عن العرق تبعات، فمتى ما كان مدار الصراع العرق والثقافة انسد الطريق أمام الحل التقدمي وانفتح الأفق أمام التطهير العرقي. وهي القضية التي وقف لها المرحوم عبد الخالق محجوب منافحا عن "أحفاد الزبير باشا" في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥ ومن تبع خطته من بعد ذلك بإحسان. فقال لحقهم التاريخ واستفادوا الدروس والعبر ونشأت وسطهم منظمات تقدمية ديمقراطية بما في ذلك الحزب الشيوعي. بل قبل حتى جون قرنق ببعض هذا المعنى فالخصم عنده في مانفستو الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لعام ١٩٨٣ "طبقة بيروقراطية متبرجزة" نسبها في الاقتصاد الاستعماري. أما غير العرب فهم لموم من أقوام مختلفة لا ينشغل الُكُّتّاب كثيرا بتمايزهم كقولهم قرى غير العرب حول الفاشر. لا تحيط شفرة عرب وغير عرب بحرابة السودان الحالية، ولذلك لم يجد الُكُّتّاب بدا من تعطيلها على وجه السرعة، وإن ابتدروا بها شغلهم، فقالوا أججت الحرب التي اندلعت في الخرطوم الانقسامات العرقية حول الأرض والسلطة ولذلك انقطعت الصراعات بين العرب وغير العرب في جنوب وغرب كردفان عن المعركة حول الخرطوم أو كادت، هذه غير تلك. ولم يأت الُكُّتّاب بطبيعة الحال على ذكر صراعات عرب وعرب كمثل حرب السلامات والهبانية المستمرة أو صراعات داخل جماعة عربية واحدة كمثل حرب بيوت المسيرية على بابنوسة أو اعتزال المحاميد من شيعة موسى هلال حلف الماهرية وآل دقلو، فمن أعرب من غيره؟

انتقل الُكُّتّاب من العرض الممتاز لاقتصاد الشبع والجوع الذي صدروا به المقال مباشرة إلى هندسة الشوكة فكتبوا أن السودان خلو من أي حكم يعتد به، بل "لا توجد دولة تستحق الاعتبار" في رأيهم، زايلي وزايل نعيمكي. وعلقوا هذا الحكم العظيم على مشجب "أصدقاء سودانيين" يتحدثون عن "وطن ممزق إلى مزع تديرها جماعات مسلحة مختلفة." لكن لم يصل الُكُّتّاب ما ابتدروا حول اقتصاد الشبع والجوع باقتصاد الحرابة القائمة، فهي حرب في تصويرهم من مرض السودان بنفسه وخلاص كده. اكتفى الُكُّتّاب في هذا الباب بنسبة كل طرف من طرفي الحرب إلى حليف اقليمي فكتبوا حالف الجيش مصر وحالف الدعم السريع الإمارات العربية المتحدة. وقد سبق الدكتوران مارك دفيلد ونيكولاس ستوكتون إلى كشف جوانب من هذه الصلات بين اقتصاد الغذاء والحرابة القائمة في السودان (مجلة «عرض الاقتصاد السياسي الافريقي»، م ٥١، ع ١٧٩، ٢٠٢٤) واسطتها سوق رأسمالية للماشية، ترد من بادية كردفان ودارفور وتتلقفها مدن الخليج العربي، تبلع جب وجب.

ما الخلاصة إذن؟ عند الُكُّتّاب الثلاثة "السودان خلو من الدولة ذات السيادة"، وشرحهم لها أن القوات المسلحة السودانية فقدت الشرعية الدستورية بالانقلاب في ٢٠٢١ ومن ثم علق الاتحاد الافريقي عضوية السودان، وعلى كل حال يسيطر الجيش بالكاد على نصف السودان. والسيادة التي يقصدها الُكُّتّاب إذن وظيفة تتحقق بالرضا الإقليمي والدولي وقد انتهى أمرها بالحرابة الدائرة الآن. عاقبة هذا التعريف للسودان كخلاء خال من الدولة ومن السيادة ولو تبهدلت هو طرح فضاءه وأرضه وأهله للسلطان الدولي. وهذا ما انتهى إليه المقال، تكأته في ذلك عقيدة غير منطوقة في قوامة «المجتمع الدولي» على غير الدولي، أي قوامة الدول الكبرى على سواها. وهي عقيدة يعود نسبها إلى «عبء الرجل الأبيض» القَيّم على أوباش متوحشين في خلاء افريقيا وآسيا لما يكملوا مطلوبات السيادة، وأضعف الإيمان وضعهم تحت الانتداب.

يقترب الُكُّتّاب من هذا التصور كل الاقتراب، فنصيحتهم للأمم المتحدة إن كانت فعلا تريد إشباع جوعى السودان أن تتحلل من كل اعتبار للسلطات في بورتسودان، وهي عندهم عين القوات المسلحة السودانية، وتنقل مركز عملياتها الإنسانية من بورتسودان إلى عاصمة في الإقليم، ورشحوا لذلك نيروبي، بحيث لا تقع تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية. ومن ثم يمكن للأمم المتحدة أن تؤسس مراكز عمليات عابرة للحدود في تشاد وجنوب السودان ويمكنها أن تتفاوض مباشرة مع القوى المحلية بما في ذلك الدعم السريع. وللأمم المتحدة إن أرادت أن تحتفظ بموقع في بورتسودان لإدارة المعونات الموجهة إلى مناطق سيطرة القوات المسلحة. وقال الُكُّتّاب لن تقوى السلطات على طرد الأمم المتحدة فالحاجة عظيمة للمعونات الإنسانية في مناطق القوات المسلحة السودانية والوضع الاقتصادي بائس. بماذا ينصح الُكُّتّاب إذن إن كان للسلطات رأي آخر؟ استغربت هذا الحماس للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية من جوشوا كريز، وقد تصدى بحذق لكشف اقتصادها السياسي في جنوب السودان، وجاء هذه القضية بحجة قوية وبيان في أكثر من مقال وكلمة بعناوين مثل «مأزق الملاك: إذا كان العمل الإنساني سياسيا، فما سياسته؟» (مجلة بافلر، ع ٧١، نوفمبر ٢٠٢٣). لكن، حربنا "عبثية"، عرب وما عرب.