Monday, 13 April 2020

عن ماركس الإزيرق: هل يمكن قراءة رأس المال؟

هذه آخر صورة معلومة لكارل ماركس التقطها إ. دوترتري في الجزائر
 يوم ٢٨ أبريل ١٨٨٢ قبل عام من وفاته وقد زارها للاستشفاء

١
سألت قارئة عن كتاب 'رأس المال' لكارل ماركس وكيف يمكن التعامل معه؟ الحقيقة أن 'رأس المال' كتاب مركب صعب القراءة كثير المطبات، وربما جاز تشبيهه بحارة من حارات أم درمان القديمة، زقاقات متداخلة كأنها شبكة صياد طال بها العهد، بعضها ينتهي إلى داخل حيشان واسعة وبيوت تفتح على بعضها عبر أبواب ضيقة لا يدركها إلا من سبق ومر بها، وطاقات صغيرة تفتح هي الأخرى على عوالم أخرى، ودروب تنتهي إلى أركان عمياء لا مخرج منها. بالإضافة إلى ذلك، لكتاب ماركس هذا طبقات متداخلة، فهو يبدو لي مرات كطبق الكسرة وقد داخَلَها الملاح بعد أن خرقت ست الدار وسطها خرقا لانسيابه، والقارئة مثلها كمثل من مدت يدها إلى طبق كسرة كثير الملاح تنال في كل قراءة لقمة من عدة طبقات وملاح يدهن بعضه الأصابع باللايوق اللزج. لذا لا يهم قارئة إن لم تحقق منه في أول قراءة كفايتها فهي كما 'الخواجية' التي تجرب طبق الكسرة بأم رقيقة أول مرة دون سابق تجربة في الأكل بالأصابع، وذلك في زحمة من الخلق.  تنزلق طبقات الكسرة من بين أصابعها ولا تجتمع عندها لقمة يُعتد بها وقد يثنيها الإحراج والخجل من تكرار التجربة والعيون تتربص بها إن لم تضحك في وجهها إحداهن. لم أذكر مثال الطفل وفضلت الخواجية الغريبة، لأن معظم قراء ماركس من عندنا يقرأون تعريبا أو ترجمة انجليزية لأصله في الألمانية كما أنهم في الغالب يقرأون ماركس في عمر الرشد وبعد أن تراكمت لديهم معارف وقراءات من مصادر شتى، لكن الأقرب أن معظمها لا يعتد بالديالكتيك ولا يلقي له بالا. أما ماركس فهو ملك الديالكتيك كملك المنقة أو ملك الأقاشي إن شئت، والديالكتيك عدة شغله. قد يُعجز قارئة ماركس 'الخواجية' هذا الديالكتيك أكثر من مادة الكتاب الاقتصادية. قد تجد قارئة ماركس مختصرا يسيرا لمقولات ماركس الاقتصادية عند شُرَّاح ومعلقين لكن عادة ما تغيب في هذه المنقولات فعالية منهجه في تقصى أي قضية فذلك مما يتكشف بقراءة ماركس بغير وسيط، كما تغيب مهارات أخرى للشيخ الإزيرق (وربما جازت كتعريب لكنيته - the Moor - وسط الأسرة والأصدقاء وتعني المغاربي أو الأندلسي وتفيد البشرة الداكنة نسبيا بالمقارنة مع الشحوب الأوروبي)، منها سخريته وجزالة عبارته وإحالاته المتواترة لمعارف عصره والأدب في كل ضروبه، وهي إحالات وإشارات غنية بالمعاني والصور التي تغيب نصا لكنها تثري منطق ماركس وخطابه، فهي مثل 'المونة' في البناء وبدونها لا يتماسك طوب ماركس ودُرَّابَه الكثير.  
٢
'رأس المال' في الحقيقة مخطوطة طويلة غير مكتملة فماركس لم يكمل صياغة المجلد الأول حتى، وهو الجزء الوحيد الذي عاش ليراه منشورا، أما الثاني والثالث فصاغهما وحررهما فردريك انجلز من مخطوطات كارل ماركس بعد وفاته. أعاد ماركس كتابة عدة فصول في المجلد الأول مع كل طبعة وكتب في كل مرة مقدمة جديدة وفي نهاية حياته كان مستعدا لتمزيق الكتاب كله وكتابته من جديد. لذلك 'رأس المال' ليس كتابا مكتمل الصياغة حسن التحرير وذلك أحد أسباب عُسره الأسطوري. لذلك ربما، أهمية 'رأس المال' ليست بالضرورة في خلاصاته فقط، على نصاعة معظمها، لكن في منهج ماركس، الذي هو بتعبير اليوم متعدد العلوم ومتزاوجها (multidisciplinary/intersectional) فمن نظر في ثبت مراجع ماركس، وكان قارئا صبورا وكاتبا حريصا عفيف القلم، وجد كتبا ودراسات ووثائق في كل العلوم الانسانية والطبيعية من الأنثربولوجيا حتى الكيمياء الصناعية والأحياء الدقيقة، بما في ذلك علوم استجدت في عصر ماركس وألزم نفسه بالتعلم منها كمثل الجيولوجيا والكيمياء العضوية ونظرية النشوء والارتقاء. كان ماركس بالدرجة الأولى جامع معرفة عظيم وتميز بقدرة هائلة على أن يكشف علاقات وينسج أخرى بين ضروب شتى من المعارف والعلوم في سبيل أن يفهم الإنسان وعالمه، كل ذلك بعدة الديالكتيك وكانت أداته الفلسفية للتكثيف والتجريد قصد الوصول إلى تصورات كلية تنهض على أساس معارف ملموسة للعالم. كتاب رأس المال هو جانب من مشروع ماركس الكلي، الذي لم يكتمل، والكتاب نفسه جمع مسودات كُتبت في أزمان مختلفة وخضعت لدرجات متفاوتة من الفحص والتحرير، بعضها هو نفسه غير مكتمل. سوى ذلك دخلت متن رأس المال خطابات كان ماركس كتبها لأصدقاء ومحاورين يعالج فيها قضية أو أخرى أو يخطط لذلك أو يشرح مسألة ما. لذلك تجد في هذا الكتاب العظيم أثرا من أرق الليالي الطوال ومتاعب الكاتب مع المصادر ومع الوثيقة ومع الترجمة (كان ماركس يقرأ بجانب لغته الألمانية الأم الفرنسية والانجليزية بإجادة الكاتب، كتب بالفرنسية النصوص التي باتت تعرف بمخطوطات باريس ١٨٤٤ وبالانجليزية مقالاته الصحفية في نيويورك ديلي تربيون، كما تعلم الروسية في عمر متأخر ووفر له تعليمه المدرسي معرفة باللغات الأوروبية القديمة اللاتينية والاغريقية) ومع الصياغة ومع تنظيم النص وتدبير انسيابه من قضية إلى أخرى. 
٣
ماذا يمثل هذا الجزء المكتوب من 'رأس المال' إذن؟ هو محاولة كارل ماركس الباسلة لإدراك المجتمع الرأسمالي بكامله في حال حراكه وتطوره. اجترح ماركس في هذا السبيل نسيج من المفاهيم المتصل بعضها ببعض وفاز فعلا إذا ما عُدنا إلى تشبيه شبكة الصيد أعلاه بلآلئ لا حصر لها هي مطلب قارئة 'رأس المال' وعليها الصبر على تعقيد هذه الشبكة وأحيانا فوضاها الخلاقة لتصل إلى مطلبها. بدأ ماركس الانشغال بالاقتصاد في باريس وكتب وقتها ما بات يعرف باسم 'المخطوطات الاقتصادية الفلسفية' أو 'مخطوطات باريس' (١٨٤٤). تُشكل هذه المخطوطات في الحقيقة لبنة من لبنات 'رأس المال' وطبقة باطنية من طبقات مشروعه الكبير. لكن الطريق إلى 'رأس المال' لم يكن متيسرا، وأكبر محطاته لا شك الكراسات السبع المعروفة ب Grundrisse  - اللفظة الألمانية التي تعني أسس أو خطوط عريضة وكانت عنوان ماركس الجامع لها وتعريبه 'أسس نقد الاقتصاد السياسي'، مقارنا بعنوان 'رأس المال' الجانبي 'نقد الاقتصاد السياسي'. هذه المخطوطات غير المنقحة وغير المكتملة والتي لم يعدها صاحبها للنشر أصلا هي دِغال فكر ماركس لا شك وكتاب 'رأس المال' بالمقارنة فسحة فيها، وضعها في الخزانة عام ١٨٥٨ ولم تجد طريقها إلى النشر حتى العام ١٩٣٩. اشتبك ماركس في Grundrisse مع قضاياه الرئيسة، رأس المال والعمل والإنتاج وعلاقاته والسلعة والتوزيع والتكنولوجيا والتراكم البدائي وأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية والشروط اللازمة للنهوض الثوري، وانتخب من هذه الكراسات ما أعاد صياغته في 'رأس المال'. 'الأسس' هي أوسع ما كتب ماركس من حيث القضايا والمواضيع فهي تضم من جهة تراكيب فلسفية معقدة ومن أخرى معادلات حسابية استعان بها صاحبها لفض أسرار الرأسمالية. كتب ماركس لأصدقائه في آخر العام ١٨٥٧ يعد بقرب اكتمال مبادئ نقده للاقتصاد السياسي وكتب في منتصف ١٨٥٨ يقول العقدة أن المخطوطة بحالها جبة درويش ومعظم ما كتبت حتى الآن موقعه السليم في آخرها، ثم كتب في آخر ١٨٥٨ يقول نجحت في شرح تصور للعلاقات الاجتماعية بطريقة علمية، كتب وقتها أن المحتوى قد اكتمل لكن تبقت الصياغة ولم يجد طريقا بعد للأسلوب المناسب. اختار ماركس عند هذه المحطة أجزاء من المخطوطات نقحها وارتضى صياغتها وأسلوبها ونشرها منفصلة كجزء أول عام ١٨٥٩ تحت عنوان "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، لم تر الأجزاء التالية التي وعد بها ماكينات الطباعة أبدا وتقع على عاتق من طلبتها مهمة استكشاف 'الأسس' بحثا عن معاني ماركس. 
٤
هل يمكن قراءة 'رأس المال' إذن؟ نعم لكن لا بد من الدبارة وقد أصبحت قراءة 'رأس المال' في حد ذاتها موضوعا للبحث والتأمل، على سبيل المثال كتاب الفيلسوف الفرنسي لويس آلتوسير 'قراءة رأس المال' (١٩٧٠) ومؤخرا كتاب ديفيد هارفي 'المرشد إلى كتاب ماركس رأس المال' (٢٠١٠)، هذا إلى جانب الآلاف من الملخصات والتفسيرات والمباحث التي تتناول كتاب 'رأس المال' بصورة أو أخرى إن لم يكن مئات الآلاف متى ما أخذنا في الاعتبار ما صدر في المكتبة السوفييتية، كان ذلك في الاتحاد السوفييتي أو في الدول الاشتراكية الأخرى ناهيك عن الصين الشعبية.  
٥
يبدأ ماركس كتاب 'رأس المال' بالفصل المشهور والشاق عن السلعة وهي نقطة انطلاق تحليل ماركس الأولى وأساس كل تشخيصه للمجتمع الرأسمالي. يفقد عدد كبير من قراء ماركس أعصابهم عند هذا الحد وتصدهم أمثلة ماركس الحسابية عن القمح والكتان فيولون الأدبار وتنتهي مغامرتهم مع ماركس قبل أن تبدأ وإن احتفظوا بإعجابهم الغامض به وهللوا بالماركسية صباح مساء. لذلك، جاز ربما والنصيحة من آلتوسير، ألا تبدأ قارئة ماركس بالقسم الأول عن السلعة والنقد وإنما بالقسم الثاني من الكتاب 'تحول النقد إلى رأس مال'. يمثل هذا الجزء الثاني قلب الكتاب في الواقع وفيه يستعرض ماركس مفهومه لفائض القيمة وأساس الاستغلال الطبقي في المجتمع الرأسمالي. من هذا الموقع الاستمرار في القراءة يسير نسبيا فالقسم الثالث 'فائض القيمة المطلق' والرابع 'فائض القيمة النسبي' يتصلان بالثاني ويفصلان فيه. ينجم فائض القيمة المطلق عن ساعات العمل وفائض القيمة النسبي عن زيادة الإنتاجية عبر تجنيد التكنولوجيا. الجزء الخامس من الكتاب 'فائض القيمة المطلق والنسبي' تكثيف للقسمين الثالث والرابع ولا ضرورة ملزمة لقراءته في هذه المرحلة. الطريق من القسمين الثالث والرابع ممهد نحو القسم السادس عن الأجور. يجابه ماركس في هذا القسم من الكتاب دعاوى الرأسماليين أن الأجور التي يتلقى العمال هي قيمة ما يبذلون من عمل ويفحص بدقة الأجور وتركيبها وأنواعها، زمانية ومقطوعية. ما يخلص إليه ماركس في هذا القسم هو أن الأجور أو سؤال مستوى المعيشة هو آخر الأمر قضية صراع طبقي ولا صلة له بإنتاجية العمل والأرباح التي يجنيها الرأسماليون. 
٦
من هنا تصل قارئة 'رأس المال' جوهرة الكتاب، القسم السابع عن تراكم رأس المال والثامن عن التراكم البدائي. يتطرق ماركس في القسم السابع بالتفصيل إلى نزعة الرأسمالية تحويل فائض القيمة إلى رأس مال دون هوادة في دورات متوالية كأنها "كرة الثلج" بعبارته. يستعرض ماركس هذا القانون الثابت للرأسمالية بمثال تراكم رؤوس الأموال في بريطانيا خلال الأعوام ١٨٤٦ إلى ١٨٦٦. من هذا القسم الطريق معبد نحو كتاب لينين 'الإمبريالية، أعلى مراتب الرأسمالية' (١٩١٧) وفيه يبين لينين أنه ومنذ نهاية القرن التاسع عشر اتخذت إعادة إنتاج رؤوس الأموال الصيغة الامبريالية وفيها اندمج رأس المال المصرفي والصناعي لينشأ رأس المال المالي (finance capital) الذي تولى مهمة الاستغلال المتهيج والمباشر لكل العالم عن طريق الاستعمار وتبعاته، الحروب الاستعمارية والحروب بين الدول الإمبريالية. أما القسم الثامن والأخير من الكتاب فيضم مناقشة ماركس الضافية للتراكم البدائي وهي العملية المفتاحية في نشأة الرأسمالية وكذلك العملية المستمرة للاختراق الرأسمالي في جغرافيات اجتماعية كانت في كنف الكفاية المعيشية ولم ينل منها التسليع. يفض ماركس في هذين الفصلين الأخيرين من رأس المال "التدليس" الذي يلف رأس المال ويكشف خباياه وخطاياه وقراءاتهما تأخذ بلباب الذين أتوا ماركس بشكوى الاستعمار والهيمنة الامبريالية. يجندل ماركس الخطاب البرجوازي حول نشأة رأس المال، الخطاب الذي يرد هذه النشأة إلى الاجتهاد والبذل وفضائل الادخار والعصامية الفردية. في مقابل هذا التدليس الذي يتكرر صداه في سير رجال وسيدات الأعمال حتى اليوم يشرح ماركس أن نشأة الرأسمالية كنظام اجتماعي في الدول الأوروبية كانت نتيجة تراكم عظيم للمال في يد أسر تجارية كبرى وأن هذا التراكم كان خلاصة قرون من البلطجة والغزو والنهب والقتل الوحشي والجماعي لشعوب بحالها حيث حط الاستعمار الاستيطاني. كتب ماركس في الفصل ٢٤ 'ما يسمي بالتراكم البدائي': "إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أميركا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو الهند الشرقية ونهبها، وتحويل افريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن كل ذلك يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. وتؤلف هذه العمليات المدرة للريع العناصر الرئيسة للتراكم البدائي. ثم جاءت في أعقابها الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية متخذة من الكرة الأرضية ساحة لها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن اسبانيا، واتخذت أبعادا هائلة في حرب انجلترا ضد اليعاقبة، ولا تزال مستعرة في حروب «الأفيون» ضد الصين، وهلمجرا."
٧
بهذا تكون قارئة ماركس قد خبرت ما يكفي من أسلوبه وتقنيته الفكرية لاستيعاب القسم الأول وفتوحه الديالكتيكية، السلعة وما أدراك ما السلعة. يدشن ماركس كتاب 'رأس المال' بالجملة الثرية التالية: "تبدو ثروة المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي وكأنها تكدس هائل من السلع، والسلعة المفردة هي الشكل الأولي لهذه الثروة، وعليه لا بد لبحثنا من أن ينطلق من تحليل السلعة". يختار ماركس كلمة "تبدو" فهو يقول منذ البداية أن الأمر ليس كما يبدو عليه وظاهر السلعة، أي سلعة، يخفي باطنا عميقا ومعقدا، هي ما يجري خلف ستار الإنتاج الرأسمالي. في هذه الجملة الأولى أشار ماركس إلى أولى المتقابلات التي تشكل عدة شغله الديالكتيكي، الشكل والمضمون. ستلتقي قارئة ماركس في صفحات هذا الكتاب الباسل شخصيات شكسبير وحبكاته وعباراته منثورة في الصفحات وستلتقي بالزاك وجوتة وشيلي والإغريق، فلاسفة وشعراء وأمراء، وكذلك الأحاجي والأساطير ومصاصي الدماء والذئاب الضارية والساحرات، هذا إلى جانب المفكرين السياسيين وعلماء الاقتصاد السياسي والأنثربولوجيا والصحفيين وبطبيعة الحال الفلاحين والعمال والسخرة والرقيق والمضطهدين من كل سحنة ولون. قراءة سعيدة!

استفدت في هذه الكلمة إلى جانب 'رأس المال' لكارل ماركس ، المجلد الأول، كارل ديتز فرلاغ، برلين، طبعة ٢٠٠٩ و'أسس الاقتصاد السياسي' لكارل ماركس، كارل ديتز فرلاغ، برلين، طبعة ١٩٧٤ من كتاب سفن-إريك ليدمان 'عالم للفوز به: حياة وأعمال كارل ماركس'، دار فرسو، لندن، ٢٠١٨ وكتاب ديفيد هارفي 'المرشد إلى كتاب ماركس رأس المال'، دار فرسو، لندن، ٢٠١٠ وكتاب لويس آلتوسير وإتيين باليبار 'قراءة رأس المال'، دار فرسو، لندن، ٢٠٠٩ وكتاب لينين 'الإمبريالية، أعلى مراتب الرأسمالية' [١٩١٧]، أعمال مختارة، المجلد الأول، دار التقدم، موسكو، ١٩٦٣.  

Wednesday, 8 April 2020

صباح العام التالي على الثورة - حوار مع مجموعة قدام، منصة لليسار الجذري في السودان وجنوب السودان

بعد عام علي سقوط نظام البشير وتسعة أشهر علي تشكيل الحكومة الانتقالية لا يزال طريق الانتقال في السودان متعثرا. اجتماعيا، لا زالت الدوافع التي حدت بالسودانيين الخروج إلى الشوارع  شاهرين سلميتهم ومطالبين بحقهم في معيشة أكثر يسرا وعدلا وكرامة لازالت هذه الدوافع كما هي من ارتفاع مضطرد في أسعار السلع والخدمات الأساسية فضلا عن ندرتها. سياسيا، لم تترجم استحقاقات الاتفاق السياسي مع المكون العسكري لتصبح واقعا ملموسا فلا اكتملت هياكل السلطة الانتقالية ومؤسساتها ولا التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تحقق العدالة  وتقتص ممن قتل بنات السودان وأبناءه ونهبهم وأفقرهم. للحديث عن سودان ما بعد الثورة وحكومتها الانتقالية وسياساتها وقواها السياسية وانحيازاتها الاجتماعية يمينها ويسارها حاورنا الكاتب والباحث مجدي الجزولي فكانت المساجلة التالية: 
خرجت الجماهير في ثورة ضد سياسات التقشف، أسقطت حكومة وأتت بغيرها والمفارقة هنا أن حكومة الثورة الآن تبشر بالمزيد من سياسات التقشف والإفقار، برأيك ما الذي اوصلنا إلى هذه المفارقة؟ 
هذه صياغة ممتازة - ثورة دافعها التقشف تأتي بحكومة ثورة تبشر بالمزيد من التقشف - لسؤال معقد يجب أن يأخذ موقعه السليم في قلب المناقشات الدائرة حول الثورة. وهنا أسمح لي أن أساعد المناقشة بمصطلح التدليس كتعريب mystification والمصطلح من قاموس ماركس. يوظف ماركس هذا المصطلح في ثلاثة معاني، منها تزوير الوقائع التاريخية عن طريق التبشير بصياغات مغايرة لذات الوقائع تُصَانِع القوى المهيمنة وتُوافِق مصالحها. مثال ذلك سرد ماركس لتاريخ نشأة الرأسمالية كتاريخ من الاستكشاف والاحتلال والاستغلال الغربي للعالم بالمقارنة مع التدليس الذي تقوم به البرجوازية التي تصور نشأة الرأسمالية كسيرة من العمل الشاق والادخار الأوروبي. 
كيف يساعدنا هذا المفهوم إذن؟ 
كان الاحتجاج على التقشف بالفعل محركا أساسيا من محركات الثورة لكن لم يجد ذلك ترجمة تذكر حتى في الدعاية التي بشرت بها الهيئات الفئوية والسياسية التي تولت التعبير عن مطالب الثورة. فضلت هذه القوى تصوير الثورة كساعة لنهضة الوطنية وكفى، زينت بياناتها الفصيحة بالأدب القومي من ديوان مؤتمر الخريجين، أقصد بصياغات أدبية للوطن، وهنا موضع التدليس الأساس. صورت هذه القوى الثورة ساعة للوطن كمحل لجماعة عضوية مترابطة ومتآخية وصورت استعادة الوطن كمسألة رهينة بالتخلص من طاغوت عمر البشير وكفى. بذلك، استوى الصراع كتضاد بين الجماعة الوطنية التي استعادت حسب تصوير هذه القوى لُحمتها المفقودة بالثورة وبين جماعة "الكيزان" الخارجة على هذه الرابطة الوطنية. يغيب في هذا التدليس القومي الصراع الاجتماعي الذي هو محل سؤالك، وهو صراع أحسن تصويره المسطول في النكتة حيث قال أن أقصى أمانيه "سحبة" في عالم زين كما تصوره الدعاية. يطال التدليس ضمن ما يطال التناقضات التي تتمايز بها الطبقات الاجتماعية، فالتصور القومي علي طريقة مؤتمر الخريجين وعلى سنته تجمع المهنيين، لا يميز بين عاملة الموسم في كنابي أم كراع التي تعمل ١٢ ساعة في اليوم ويؤرقها ارتفاع سعر جركانة الماء وبين مورد القمح العظيم الذي تتدفق أرباحه مدرارا بفضل الدولار الجمركي؟ 
هل من الممكن أن يؤدي رفع الدعم وإجراءات التقشف إلي إسقاط الحكومة الحالية ومن ثم إلى انقلاب أو انهيار الشراكة الحالية ؟
القوى المدنية في الحكم ليست على اتفاق حول هذه القضية وأصبح الدعم مسألة صراعية بالدرجة الأولى. تعذر على القوى التي ترفض رفع الدعم أن تقترح برنامجا اقتصاديا بديلا متماسكا وتورطت في حرب كلامية مع وزير المالية بدت فيها غير منطقية ومتناقضة وأحيانا طفولية. العقدة ربما أن حتى هذه القوى التي ترفض رفع الدعم أعجزها تصور طريق يعتد به للتطور الاقتصادي بالتقشف أو بدونه فبدت كأنها لا تطالب بشئ سوى الحفاظ على الوضع القائم، بجانب أحاجي تبدأ بلفظة "استعادة" كمثل استعادة مشروع الجزيرة واستعادة السكة حديد واستعادة سودانير كأن عجلة تاريخها تدور إلى الخلف. من موقعه يطرح وزير المالية خطة بينة للتخلص من رفع الدعم على المحروقات والقمح في مقابل زيادة في الدعم النقدي المباشر للأسر "الفقيرة" بعبارته. هذه روشتة معلومة لصندوق النقد والبنك الدوليين وقد سلخ كل من وزير المالية البدوي ورئيس الوزراء حمدوك القسط الغالب من حياتهما المهنية في التبشير بها في القارة الافريقية، فهي عند الإثنين الحبة السوداء تشفى كل داء. 
أما سؤالك عن الانقلاب،  يميل ميزان القوى في الشراكة مع الوقت لصالح القوى العسكرية وحلفائها وقد لا تحتاج لانقلاب بأغنية وشعار على الإطلاق ما دامت الحكومة المدنية غير قادرة أو غير راغبة في منازعة الجيش والمليشيا السيطرة على الجيوب المربحة في الاقتصاد فمن مصلحة الجيش والمليشيا أن تستمر الحكومة المدنية كغطاء لحكمها ما دامت تضمن استمرار مصالحها دون أن تتأثر بالهوى الجماهيري. في الحقيقة، وجه الخطورة أن تصبح القوى السياسية المدنية مجرد واجهة لحكم الجيش والمليشيا، أى أن تتولى ذات موقع المؤتمر الوطني في عهد البشير المتأخر.
وهذه الوضعية الشائكة هي ما تعود جذورها لطبيعة الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية بطبيعة الحال... الذي يرى الكثيرون أنه ترجمة لتوزنات قوى بين قوى المركب العسكري الأمني وحلفاءه الخارجيين وقوى الشارع ،وتجنبا لسيناريوهات أصعب تكلفة وأكثر لا-يقنية.. إلي أي مدى تتفق ؟ 
يعود بالدرجة الأولى إلى توازن القوى ساعتها كما ذكرت، لكن ما أجد صعوبة في قبوله هو هذا التلويح بسيناريوهات أصعب تكلفة إلخ. هذا في الحقيقة تهديد مبطن للحركة الجماهيرية وإرهاب لا أكثر. ما هو السيناريو الأكثر تكلفة على وجه التحقق؟ ربما الإفقار المنظم لعامة الناس لصالح مراكمة الأرباح في يد رأس المال التجاري. هذا هو العنف الهيكلي والمستمر والذي لا ينقطع. يطابق التلويح بالإرهاب والسيناريوهات الأكثر تكلفة مخاوف الطبقة الوسطى من تحول حاسم في علاقات القوى الاجتماعية وبذلك تجد نفسها في حقيقة الأمر تقف إلى جانب رأس المال التجاري في مطالبته بإعادة الأمور إلى نصابها عبر حل وسط ما، أى عودة كل شئ إلى ما كان عليه. هذه الحجة كانت في قلب دعاية الطبقة السياسية للجم مطامح القوى الجماهيرية التي أخذت في بلورة مواقف تقدمية بخصوص توزيع الثروة الاجتماعية. والمسألة الاجتماعية في واقع الأمر تقع موقع القلب من مطالب القوى الشعبية التي أطاحت بسلطان البشير؛ وواجهت منذ البداية دعاية مضادة كانت صيغتها التساؤل البذئ، هل الثورة ثوري رغيف أم ثورة وعي؟
أشرت سابقا إلى الطريقة التي يتم بها تصوير الصراعات الاجتماعية في السودان قبل وأثناء وبعد الثورة السودانية باعتباره صراعا بين شعب يصور كما لو كان كلا واحدا ومتجانسا غير قابل للتمايز في مواجهة جماعة مارقة هم الكيزان من قبل القوي المدنية كما انتقدت ضمنيا القوي السياسية المناهضة للتقشف ولم تنجح في تطوير بدائل متماسكة وقابلة للحياة تحل محل السياسات النيوليبرالية ...بالاضافة لهذين المعضلتين ما الذي ينقص اليسار السوداني حتي يصبح جديرا حقا بالدفاع عمن يفترض به ان يدافع عنهم؟
من السهل نقد اليسار السوداني من هذا الباب، لكن من المهم ألا يتحول هذا النقد إلى تبكيت مجاني، فاليسار عبر العالم يواجه هذه المعضلة، أي طرح بديل متماسك وقابل للحياة لسياسات التقشف وطرح صيغ تنظيمية صالحة للصراع الطبقي، بدرجات متفاوتة من الفشل. خذ كمثال المتاهة التي وجد فيها حزب سيريزا اليساري في اليونان نفسه بعد وصوله إلى الحكم حتى استسلم أمام القوى الأوروبية العظمى ليفرض ذات السياسيات التي نشأ لمقاومتها أو التعقيدات التي عطلت حزب بوديموس في اسبانيا بعد أن ولج العمل النيابي أو الهزيمة التي حاقت بحزب العمال تحت قيادة جيريمي كوربين في الانتخابات البريطانية الأخيرة وهو يبشر بمانفستو أساسه مقاومة التقشف بسياسات بديلة. في كل، كان العامل المشترك، ولعل مثال سيريزا هو الأبرز، هو أن القوى الرأسمالية تعاقب بشراسة كل من يتجرأ على مناهضتها بقوة شعبية ظاهرة حتى لو تطلب ذلك تعطيل الإرادة الديمقراطية لناخبين أكفاء بصورة أو أخرى. 
عطل اليسار السوداني منذ أمد نقده لما يسمى في أدبيات الحزب الشيوعي "طريق التطور الرأسمالي" في محطة "الرأسمالية الطفيلية" وتعذر عليه دمج هذا النقد حتى في خطابه السياسي سوى بالهتاف ضدها. فوق ذلك، انقطعت الصلات التي كان الحزب الشيوعي قد وطدها بالطبقة العاملة أو بحركة المزارعين ووقف مشدوها أمام العنف الريفي في أطراف السودان ليكرر مقولات الاضطهاد الثقافي والعنصري دون أن يلج إلى باطنها في الاقتصاد السياسي. كذلك وقف مشدوها أمام التحولات العظيمة في المدينة السودانية منذ النزوح العظيم إلى الحواضر في عقابيل المجاعة الكبرى التي ضربت حزام الساحل الافريقي كله ومن ضمنه كردفان ودارفور والبحر الأحمر عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥. وجميع ذلك صدى عنيف ودموي للاختراق الرأسمالي الذي فرض التسليع بالحديد والنار على مجتمعات كانت حتى عهد قريب في كفاية الاقتصاد المعيشي على طريقة "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع" ووجدت نفسها في معمعان التراكم البدائي من حيث لا تحتسب. صدقت الأرجوزة الشعبية هذا المعنى بتبجيل رأس المال التجاري وممثليه بعبارة سهلة ممتنعة: "حنان ما بدوها رمتالي.. حنان إلا تاجر إجمالي". كذلك، لم يجد اليسار ما ينتصر به في كراساته القديمة لهضم التحولات في علاقات رأس المال على مستوي الإقليم، أقصد بذلك، واقع أن البرجوازية السودانية كمثيلتها المصرية وكذلك الأردنية واللبنانية وغيرها في المنطقة العربية صارت رهينة لرأس المال الخليجي يعتمد بقاؤها عليه ولذلك تبعات سياسية، بعضها ظاهر في تقلبات وتناقضات الفترة الانتقالية والنزاعات اليومية بين أطراف الحكم وأفراده، صلاح مناع وأحمد ربيع ولجنة التمكين وطاقم رئيس الوزراء الخ. 
هذه القضايا ليست مسائل للمماحكة النظرية والسلام، هذه قضايا ال praxis إذا أجزت لي الاستعانة بمفهوم آخر من قاموس ماركس ويقصد به الفكر الذي يرفد من الواقع ليعين على تغييره. ما أريد قوله، للخلاصات النظرية بخصوص هذه القضايا تبعات مباشرة في الصراع الاجتماعي تدليسا كان أو وعيا كاذبا إن أردت أو فتحا ثوريا. 
على سبيل المثال، متى ابتدرت بفكرة الجماعة الوطنية الموحدة والمتجانسة انتهيت إلى نفي الصراع الاجتماعي وتصوير الاقتصاد الوطني كقائمة للموارد المهملة التي لم يحسن سابقوك استغلالها أو ساحة للفرص المهدرة. من هذه المقدمة يتوطد التصور الليبرالي للاقتصاد الذي يسكنه أغنياء أحسنوا الاستفادة من الفرص التي أتيحت لهم بفضل الشطارة والدبارة وفقراء ضعفاء فشلوا في هذه المهمة. يتصل هذا التصور من ثم بالخطط التي تطرحها، فالجماعة الوطنية واجبها أن تتنادى للبذل كما في صندوق "القومة ليك يا وطني" بحمية قومية لكن يطوي الصمت التدابير المعلومة لإدارة الثروة الاجتماعية عن طريق نظام ضريبي تصاعدي وضريبة يعتد بها على رؤوس الأموال. 
تسود الخطاب العام حاليا نغمة ساخطة علي الأحزاب السياسية  يسارها ويمينها ومعادية لها أحيانا من قبل الكثير من "الشباب" خاصة... في الوقت نفسه تبدو الحاجة ملحة لصيغة تنظيمية ما تستوعب الإمكانيات (potential) و الأسئلة الإجتماعية التي فتحتها ثورة ديسمبر، في رأيك ما هو المخرج من هذه المعضلة ؟
ما تصف جانب من تشخيص الأزمة السياسية، "القديم في سكرات الموت والجديد في مخاض الولادة، وفي هذا الانتقال تتعدد الأعراض المرضية". هذه العبارة مأخوذة من قاموس غرامشي وقد تعين على طرح الأسئلة الصحيحة في ساعة التحول الطويلة هذه. ما يتداعى هو النظام السياسي الذي خلف الدولة الاستعمارية وتقسيمات العمل بين أطرافه من حيث علاقتها العضوية بالقوى الطبقية التي تمثلها. على سبيل المثال، لم يعد حزب الأمة هو ممثل رأس المال الزراعي الأول ولا الحزب الاتحادي الديمقراطي ممثل رأس المال التجاري الأول في البلاد كما لم يعد الجيش صنيع الدولة الاستعمارية يحتكر القوة الحربية، كل ذلك مقروءا مع التحولات الاجتماعية العميقة والمتسارعة في صلة مع الاختراق الرأسمالي والانتقال العنيف من الاقتصاد المعيشي إلى الاقتصاد السلعي لمجتمعات بحالها. أما ما يلم يولد بعد فهو الصيغ التي تتساءل عنها، لكن التاريخ لا يتعطل على الإطلاق وإن تعطل إدراكنا له، وشرط الإدراك السليم هو تقصى الحقيقة بأي ثمن. في هذا الشأن يسعفنا غرامشي مرة أخرى وهو القائل أن ننطق بالحق وأن نتحرى الحق معا هو عمل شيوعي، عمل ثوري بامتياز. لماذا أصر على ضرورة هذه المعرفة، لأنه بدونها نقع في التدليس، من ذلك مثلا الحديث عن "الشباب" كجماعة سياسية أو فاعل سياسي موحد، وهو كمثل الحديث عن الشعب والجماعة الوطنية، غتغتة تستدعي الأجوبة الخطأ. 
ماذا طرحت ثورة ديسمبر من أسئلة إذن؟ 
تطرح بقوة السؤال عن السلطة لمن؟ ونشأت لبرهة في هذا السياق سلطة مزدوجة، أولى محلها جهاز الدولة القسري وثانية مضادة محلها الحركة الجماهيرية والأشكال التنظيمية التي نشأت عنها، وفي مقدمتها لجان المقاومة. يتصل ذلك بمدى سلطات الجهاز القسري للدولة وحدود نفوذه، وقد كانت ديسمبر ساعة "أدبة" للجهاز القسري تلقى فيها ضربات شعبية متتالية هددت مشروعيته وهيمنته. هذا السؤال أجابت عليه القوى السياسية بصيغة التحالف الراهن وتولى سياسيون ومثقفون حاذقون مهمة تسويق هذا التحالف بأنه أفضل ما يمكن تحقيقه وليس بالإمكان أفضل مما كان ما دام الهدف المشترك هو التخلص من طاغوت عمر البشير، وقد كان. يظهر عوار هذا المنطق المحافظ إذا قارنته بما كان يروج له البشير نفسه والأرض تميد تحت أرجله بقوله أن مصير اليمن وسوريا ليس ببعيد عن السودان ولذا فالشيطان الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه.. الخ. تطرح ديسمبر بقوة، وفي اتصال مع السؤال الأول، قضية الثروة الاجتماعية وتنظيم الاقتصاد، لصالح من؟ وهذا ما تحاول الحكومة الانتقالية، كذلك عبر جوغة من المثقفين والدعائيين، طمسه بعزل قضية دعم السلع الاستهلاكية عن سياقها وتصويرها الجند الوحيد في شبكة اقتصادية معقدة هي في واقع الأمر التبادل العضوي بين جهاز الدولة ورأس المال التجاري ومراكز رأس المال الإقليمية. كذلك تطرح سؤالا حادا ولا مناص منه عن العلاقات القهرية في الحياة اليومية، كان ذلك في علاقات النساء والرجال أو السلطات الأبوية داخل الأسرة، أو التفويض الأبوي للأساتذة في المدارس أو السلطة الروحية لرجال الدين الخ. في كل ذلك أجابت ديسمبر بممارسات غيرية تحررية، وجدت التعبير عنها في الحياة اليومية داخل ميدان الاعتصام فكأنما كان طيفا من المستقبل أو بصياغة أفضل بابا لبعد مثبط في الحياة اليومية، بعد تحرري جنيني تقمعه هذه السلطات المتراكبة، لكنه والحمد لله مد لها لسانا طويلا. هذا إن أردت فار ماركس الحفار، كشف بوذه كما فهل في الثورة المصرية، أم الثورات في عصرنا.