Friday, 28 August 2020

المرحوم عصام العريان: فصل في سيرة الإسلام الحركي


فارق المرحوم عصام العريان الحياة في يوم ١٣ أغسطس الماضي وهو حبيس لدى جزار مصر عبد الفتاح السيسي في سجن العقرب شديد الحراسة، طرف حصين من أرخبيل طرة سيئ السمعة. قال محامي العريان لإذاعة بي بي سي أن وفاة العريان كانت "طبيعية". حكم قضاة السيسي على الدكتور عصام العريان بالسجن المؤبد مرة فوق الأخرى في عدة قضايا بعد الانقلاب الذي أطاح بحكومة المرحوم محمد مرسي وكان العريان علما من أعلام جماعة الإخوان وحزبها وعضوا في الهيئة الاستشارية للرئيس محمد مرسي. أسلم العريان الروح يوما قبل الذكرى السابعة لمجزرة ميدان رابعة العدوية في ١٤ أغسطس ٢٠١٣ حين اقتص جهاز الدولة المصرية من مواطنيه بالقتل الجماعي. حاصرت قوى الأمن ميدان رابعة، وقالت في الدعاية الرسمية، أن غرضها كان فض الاعتصام الذي انتظم فيه، لكن "حدس ما حدس". 

نعت نقابة الأطباء المصرية عصام العريان، وقد كان من فرسانها، بجملة خجولة على حسابها في فيسبوك، قالت: توفي إلى رحمة الله الدكتور عصام العريان، أمين صندوق النقابة الأسبق، خالص العزاء لأسرته، ونسأل الله أن يتغمده برحمته الواسعة". لكن سرعان ما تراجعت النقابة عن نعيها المتواضع تحت ضغط زملاء المهنة والمواطنين، بحسب ما قال أمينها العام، ثم دفع الأمين العام باستقالته باعتباره المسؤول الأول عن كل ما يصدر عن النقابة مؤكدا أنه لم يكن على علم ولم يشارك في جريمة النعي هذه، فما آزرة النقابة إذن وما زمالة المهنة؟ 

انتخب العريان في العام ١٩٨٦ عضوا بمجلس إدارة نقابة الأطباء المصرية وكان مساعدا لأمينها العام. سيرة العريان قطف من نهضة الإسلام الحركي في مصر من هامش النظام السياسي إلى مركزه خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على يد جيل جديد من الإخوان المسلمين وطنوا أنفسهم على سلوك طريق العمل الجماهيري، ترجمت عنهم الدكتورة كاري روزفسكي ويكام في كتابها "حشد الإسلام: الدين والحركية والتحول السياسي في مصر" (٢٠٠٢). والكتاب تاريخ سياسي واجتماعي لنجاح العريان ومن والاه في جذب أجيال شابة من المتعلمين المصريين إلى سوح السياسة تحت ظل نظام قهري استبدادي. 

في السودان، صرح من يمثل المؤتمر الشعبي لقناة الجزيرة أن وفاة العريان في سجن السيسي جاءت من ضمن سلسلة التصفيات التي يمارسها النظام المصري ضد القيادات الإسلامية في السجون، وصمت. ولا غرابة، على خلاف العريان وجيله، صد الإسلاميون من صفه في السودان عن مسالك العمل الجماهيري وفضلوا عليها مغامرة جهاز الدولة بالتقية ثم بالانقلاب فذبحوا حركتهم الاجتماعية على محرابه من الوريد إلى الوريد. يطلب الإسلاميون اليوم العودة إلى مسرح السياسة من ذات باب المغامرة الذي غادروا منه تلاحقهم اللعنات. لكن "باب الريدة وانسد" احتشد عنده سواهم وشددوا الحراسة. يطرح كتاب روزفسكي ويكام دروسا من تجربة الإخوان المصريين من جيل العريان في الفوز بالألباب لا البنادق والتفوق على مكابح الدولة الاستبدادية بصبر وتؤدة. كما تقدم الكاتبة تفسيرا خلاقا لهذه النهضة من موقع إسلامي في مقابل الحصاد المتواضع للقوى العلمانية في هذا المضمار. 

حررت روزفكسي ويكام تاريخا دقيقا (مايكرو-تاريخ) لتجنيد الإخوان المسلمين في الأحياء الشعبية في هامش القاهرة الفقير. وقالت كانت المصلحة الذاتية مدخل العديد من خريجي الجامعات لدخول حوض الحركة الإسلامية بينما حفزهم الانخراط في شبكاتها الاجتماعية والمهنية على الالتزام الآيديولوجي والسياسي في صفها المعارض للسلطة القائمة. يسر لها بحثها الميداني أن تميز هذه المراحل فقالت تصاعد نشاط الوافدين إلى الحركة من قليل المخاطر إلى عظيمها كلما ترسخت لديهم عقيدة الحركة في أن النشاط من أجل التحول الديني "واجب" يستدعي التضحية. لم يكن استقبال الشباب المتعلمين لرسالة الحركة فقط نتاجا لجذب هذه الرسالة وتماسكها. لكن، وكما شرحت، يسرته ظروف خارجه عن الرسالة ذاتها من ضمنها أن دعوة الحركة الإسلامية ناسبت التجربة الحياتية والعقدية لهؤلاء الشباب؛ ومصداقية من تولوا بث هذه الرسالة وفعالية الوسائل التي انتهجوها؛ وتعزيز هذه الرسالة عبر مجموعات صغيرة على مستوى الأحياء لحمتها التضامن بين أفرادها. 

رصدت روزفسكي ويكام مدخل الإسلامي الناشئ إلى الحركة في النشاطات الثقافية والاجتماعية لمسجد الحي والجمعية الطلابية فقالت بدأت صلة بعضهم بالحركة عبر الانضمام إلى حلقة دراسية أو مرافقة جار أو صديق إلى طقس تعبدي خاص في عيد من الأعياد. وفسرت جاذبية هذه النشاطات قليلة الخطر بقلة القنوات المتاحة خارج المنزل والمدرسة للتداخل بين الأفراد من جيل واحد. وفرت حلقة الدرس أو العبادة مجالا لا غبار عليه في مجتمع محافظ لالتقاء الخريجين من الجنسين خارج المنزل يبعث على الاحترام لا الريبة. كذلك وصفت روزفسكي ويكام تداخل أنماط التجنيد هذه مع العلاقات الشخصية بين الجيران والأقارب والأصدقاء فهي اعتمدت على تعضيد روابط اجتماعية موجودة لا القطيعة معها.

لذا لم يستهجن أهل الحي انخراط الخريجين في هذه الشبكات بل اعتبروها ملمحا من ملامح الحياة المحلية خاصة وقد أتاحت لناشئة الإسلاميين مجالا آمنا للنشاط الاجتماعي والثقافي لا يتعلق بمضمار السياسة شديد الخطر. ساعد على ذلك أن هذه العلاقات مثلت كذلك رابطة تضامن يجد فيها الناشئ من الدائرة المحيطة به من يعينه على إيجاد وظيفة أو تأشيرة عمل وربما فتحت أمامه سكة التوظيف في قطاع الأعمال الإسلامي أو يسرت له قرضا أو هبة من مال المساجد أو خدمة من عيادات الحركة الإسلامية. فوق ذلك، وسعت شبكة الحركة الإسلامية فرص الزواج لمن انخرطوا في هذه الشبكات وشهد الأقران بحسن أخلاق المرشحين للزواج نساء ورجالا وجندوا لذلك علاقات امتدت إلى خارج الحي وخارج القاهرة كذلك. شكل كل ذلك لحمة تضامن بين الإخوان والأخوات وعزز من ثقة الأفراد في أنفسهم فتحولوا بعبارة روزفكسي ويكام من خريجين متواضعي المهارات تضاءلت أمامهم الفرص الاقتصادية إلى جنود متآخين في سكة الإصلاح الإسلامي. 

هدمت روزفسكي ويكام ببحثها مبنى نظرية "غسيل الدماغ" التي تولت كبرها مؤسسات الدولة المصرية وبعض صفوة مصر الليبرالية لتفسير نهضة الحركة الإسلامية وسط الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى لكنها جاءت بقرينة ضغط الأقران لكشف الجوانب القسرية في نفاذ دعوة الإسلاميين الإصلاحيين من أمثال عصام العريان. وميزت في هذا الإطار بين النشاط التربوي والإصلاحي للإخوان المسلمين والتكتيكات العنيفة والدموية للتيارات الإسلامية المقاتلة. كما أعادت الاعتبار في رصدها لانتقال الناشئ الإسلامي من حيز النشاط الاجتماعي الآمن نسبيا إلى المجال السياسي المباشر بالمشاركة في الانتخابات النقابية والنيابية والمظاهرات والاعتصامات السلمية حيث ينتظره خطر الدولة البوليسية إلى وازع باطني في نشاط الإسلاميين الإصلاحيين. وقعت روزفسكي ويكام على هذا المعنى من مقارنة مع حركة الحقوق المدنية في أميركا وقالت استطاعت حركة الإخوان المسلمين في دعوتها أن تعزز وسط من انضموا إليها العقيدة في واجب مدني يلزم كل مسلم بالمشاركة في مهمة الإصلاح الإسلامي غض النظر عن مكاسب ومخاطر هذا النشاط. قالت حرر قرار الالتزام بطريق الدعوة الخريج في أحياء القاهرة الفقيرة من الرعب الوجودي حول موقعه الهامشي وفرصه الضئيلة وقدم له معنى متعاليا للحياة وغرض يعتز به إذ تعاظمت جاذبية الخطاب الإسلامي تحت ظروف اقتصادية واجتماعية انسدت فيها سبل التقدم الذاتي.

نقلت الكاتبة عن محدثيها من الخريجين شكوى متكررة من "أزمة الأخلاق" في مصر، وكانت هذه عبارتهم لوصف "الاغتراب" الذي ألم بهم في محيط اجتماعي شديد التناقض بين فقر مدقع وثراء فاحش. قال بعضهم لشرح هذه الأزمة: في هذه البلد القوي يأكل الضعيف والغني يأكل الفقير. تواترت من حولهم فضائح فساد المسؤولين الكبار وأسرهم وقصص تجار المخدرات المحصنين بعضوية البرلمان. فاتت بعضهم فرص التوظيف لصالح من أهم أقل كفاءة وأنجع واسطة كما شهدوا بيع الامتحانات في المدارس لمن يستطيع الدفع مقدما ونجاة الأثرياء حتى من مخالفات المرور في مقابل بطش البوليس الأْعمى بالمساكين. نشأ الخريجون، في رصد الكاتبة، على تصور أنهم صفوة اجتماعية بفضل تعليمهم، وخاب ظنهم بانقطاع الصلة بين الكفاءة وفرص الصعود الاجتماعي بعلة تدهور نموذج اقتصاد الدولة تحت ضربات التقشف الحكومي والخصخصة المتسارعة منذ عصر "الانفتاح" الساداتي.

تضعضعت قيمة الشهادات الجامعية في سوق العمل مع التحول نحو اقتصاد السوق وتعززت إلى جانبها أهمية العلاقات الاجتماعية والموقع الطبقي. وجد الخريجون من أدنى الطبقة الوسطى الذين تعذر عليهم تعلم لغة أجنبية أو إحسان مهارات الكومبيوتر أنفسهم خارج دائرة المنافسة في سوق العمل الجديد، كما زادت غربتهم في مقابل نظام سياسي يطغى عليه السياسيون من سمت غربي وكبار الضباط ممن أداروا ظهورهم لمعاناة الحشود الشعبية. انتخبت روزفسكي ويكام من مقابلاتها مثال فئة من شباب الإسلاميين الذين لم يكتفوا فقط بنموذج الحكم الراشد الذي بشرت به حركة الإخوان المسلمين في مقابل هذه المظالم وإنما جهدوا لاستنباط تصورات أكثر راديكالية للعدالة الاجتماعية بوحي من تجربة الثورة الإيرانية ومن بين أعلامها المرحوم علي شريعتي، صاحب "التشيع الأحمر". وجه شريعتي رمحا جذريا ضد الملكية الخاصة واعتبر جوهر الإمامة في التحول من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة وتصور مجتمع الإمامة أو الأمة توحيديا وخاليا من الطبقات. 

اعتمد شريعتي العبارة اللاهوتية على سكة الإصلاح الديني وقدم نقدا حاذقا للمدينة الحديثة، للمتروبول الاستعماري وفروعه في العالم الثالث، مستلهما من الماركسية والوجودية قضايا الصراع الطبقي والامبريالية والاغتراب والاستهلاك. إجمال أعمال شريعتي في شاغلين، خارج وداخل، نقد الماضي وترويج المستقبل، الأول نقده للمدارس والفلسفات والآيديولوجيات الغربية ومن ضمنها الماركسية، أي كل بدائل الإسلام التي واجهها في مهجره، كما هو مبذول في كتابه "الماركسية وترهات غربية أخرى: نقد إسلامي" (١٩٨٠). أخذ شريعتي على المدارس العلمانية خفة يدها في اقتباس المضامين الدينية السامية وابتذالها في حجاجها الداخلي، وهذا ربما جوهر مأخذه على الماركسية التي قال استلفت صورا ومفردات ومضامين من القاموس الديني وضرب مثلا بالإنسان كصانع للحياة في محل الإله والخلاص النهائي ضمن التاريخ بدلا عن غيب الآخرة. أما الركن الثاني فنقده للتجربة الدينية الإسلامية في كتابه "سوسيولوجيا الإسلام" (١٩٧٩)، وفيه يخاطب المسلمين في إيران بلغة الإصلاح الديني ويدعو بشغف إلى استعادة العقيدة والالتزام والانضباط الذاتي في هيئة أقرب إلى البروتستانتية. 

يلقى قارئ هذا الكتاب علي شريعتي الرحالة العائد من سياحة فكرية، من جمع في أسفاره أدوات شغل جديدة يريد توظيفها كمعاول ثورية في المحيط الإسلامي وقد ظن أنه برأها من أدران صانعيها بنار الإيمان. يبشر شريعتي بالقرآن كمورد لنظرية ثورية تدور حول الهجرة والتوحيد. الهجرة عند شريعتي مصدر كل حضارة أما التوحيد فبابه إلى الكليات. يقول شريعتي إن التوحيد لا يقتصر على توحيد الإله لكن يشمل توحيد كل الموجودات مع الإله، وحدة الآن والأبد، الشهود والغيب. بالمقابل، لا يقتصر الشرك على تعدد الألوهية وإنما هو "تصور للعالم يعتبر الوجود جمع متناقض ومتباين يشتمل على أقطاب متضاربة واتجاهات متناقضة ورغبات متناثرة لا رباط لها ورهانات وطبائع وأغراض وإرادات شتى. التوحيد يرى الكون امبراطورية والشرك يراه نظام إقطاعي". 

يستعرض علي شريعتي ثنائيات من تراث الاستنارة الغربي قال لا يقبلها التوحيد: الروح والجسد، الحاكم والمحكوم، النبيل والوضيع، المنطق والعاطفة، وحتى الخير والشر؛ ويضيف إليها ثنائيات ماركسية: الرأسماليون والبروليتاريا، الصفوة والجمهور؛ وأخرى ثقافية: العرب وغير العرب، الفرس وغير الفرس، ويردها كلها إلى منبت الشرك. يشد الانتباه من مفهوم شريعتي للشرك سمتان لنظرية الاجتماع الليبرالية: تصور للطبيعة البشرية بأنها سبك غير متسق للرغبة والعقل، وتصور للمجتمع بأنه ساحة تنازع بين مجموعات متباينة، وكل ذلك عند شريعتي خطأ يجافي مطلب التوحيد. عند شريعتي لا قوام يعتد به لتعدد القيم والمعاني والأمشاج ولا فروقات. نفى الاختلاف وقال هو نتيجة العجز عن رؤية الحقيقة الوحيدة الذي تستحق الاعتبار، وحدة الحياة البشرية تحت حكم الرحمن الرحيم. 

انتهت حياة هذا المفكر الخلاق عام ١٩٧٧ في عمر ٤٣ سنة على سرير مستشفى في ساوثهامبتون البريطانية، وقد صارت له منفى بعد حبس انفرادي دام ١٨ شهرا في قبضة زبانية شاه إيران. مات شريعتي لكن ظل فكره يرفد تيارا راديكاليا في الثورة الإيرانية لم يحقق الغلبة على التيار المحافظ الذي صارت له الدولة، لكنه ما انحسر بالكلية أيضا. لم يكن الدكتور حسن الترابي من الذين يحسنون إثبات المصادر ونسب الأفكار والمعاني، لذا لا تجد ذكرا ظاهرا لعلي شريعتي في كتبه العديدة، لكن مفهوم التوحيد عند الترابي وكذلك مفهوم الأمة، على الأقل على مستوى النظرية والصياغة، يطابق في كثير ذات المفهوم عند شريعتي. عاصر الترابي علي شريعتي في باريس، درس الأخير في جامعة باريس ونال منها الدكتوراة عام ١٩٦٤ ثم عاد إلى إيران كمثل ما فعل الترابي الذي عاد إلى السودان في ١٩٦٤. تعرف علي شريعتي في تلك الفترة على حركة التحرير الجزائرية وترجم فرانتز فانون إلى الفارسية والتقى جان بول سارتر كما استمر نشاطه المعارض لحكم من دوائر المهاجرين والطلاب الإيرانيين كما كان علما من أعلام جمعيات الطلاب المسلمين في البلاد. 

انتهت رحلة شريعتي التي بدأت بفضح المظالم وتهيئة الإسلام لنصرة المستضعفين، من أهداهم أعمال فرانتز فانون مترجمة إلى الفارسية، إلى تأملات غنوصية في وحدة الإنسان والإله. ما كانت هذه التأملات لتشفي صدر الخريج العاطل عن العمل في حواري القاهرة الفقيرة الذي جذبته بالمقابل شدة شريعتي في مواجهة المظالم الطبقية، محلية إيرانية وكونية. لكن لم يكن باستطاعة كتب شريعتي أن تشرح مصر للعاطل الشاب الذي صوب نظره إلى مثل عصام العريان. انشغل على شريعتي باجتماع الإسلام، أما العريان وزملاؤه فكان شاغلهم الأول حشده. لم تقع الحركة الإسلامية على تفسير اجتماعي لفقر الشابات والشباب الذين دخلوا صفها أفواجا، كما لم تجترح خطة لمجابهة هذه المظالم الطبقية التي ساقت إليها مساكين طموحين بصورة هيكلية. أعادت حركة العريان على جمهورها صورا مختلفة من حجة "أزمة الأخلاق" ورشحت للإجابة على المسألة الاجتماعية التكافل والصدقة والزكاة وليس كما في شريعة شريعتي الراديكالية هدم مبنى الملكية الخاصة والتبشير بذمة الجماعة. 

منشأ التناقض ربما أن الفقر والعطالة في الحواري من جهة وفرص الاستثمار وتراكم أرباح الأعمال من جهة أخرى يصدران من ذات المنبع. بشرت حركة الإخوان بالتوحيد عبادة لكن انفطر توحيدها عند باب الأرزاق ودخلها الشرك بمفهوم شريعتي من حيث دخلها المكسب. استقبلت جماعة الإخوان النظام الليبرالي الجديد كما استقر في مصر مبارك بحماس وقد نشأت وسطها طبقة من رجال المال والأعمال لا يشغلها مصير الحارة الفقيرة وأهلها سوى كمحل للتقوى، أي كجغرافيا بشرية لدرء السيئات بالصدقات، حسنات مضاعفة. انحصر نقد الجماعة لتمدد علاقات السوق على السنة الليبرالية الجديدة في حدود التنديد بالفساد، أي في حدود تشخيص "أزمة الأخلاق"، واكتفت بالنيوليبرالية التقية، إذا جازت العبارة، تشبيك الدين والأعمال والصدقات. 

لا غرو إذن أن سلطة الإخوان قصيرة العمر لم تنحرف قيد أنملة عن عقيدة السوق هذه ولو بالنية.  بل تراجعت حكومة هشام قنديل عن تذمر جمهور الإخوان من سكان الحواري من الخصخصة وآلامها وطرحت هدفا طويل المدى يقول بخصخصة وتسليع خدمات التعليم والصحة عبر شراكات بين القطاعين العام الخاص، ولا بد جرت مسابح وسال لعاب. كما لم يتهيأ للحكومة فرض نظام ضريبي تصاعدي، سبقها السيف، لكنها لم تحدث نفسها به حتى. توجهت حكومة قنديل إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول قرض جديد قدره حوالي ٥ مليار دولار وتشمل شروطه مزيد من التقشف وزيادة أسعار المحروقات والخدمات العامة. أحكم هذه الوجهة رجل الأعمال الأول في الجماعة ومرشحها الأصيل للرئاسة، خيرت الشاطر، الذي أعلن لوسائل إعلام غربية كبرى في ٧ يوليو ٢٠١١ أن الجماعة "تؤمن بدور عظيم جدا للقطاع الخاص" وتسعى لتجذب "أكبر قدر ممكن من الاستثمارات" وستوظف هذه الاستثمارات في الصناعة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات.

قرظ المركز المصري للدراسات الاقتصادية، هو مركز محافظ يبشر باقتصاد السوق، توجهات جماعة الإخوان الاقتصادية وأعلن: "تفهم جماعة الإخوان المسلمين الاقتصاد وتبدو رؤيتهم على الطريق الصحيح". جعل الإخوان في الحكم هدف سياستهم الاقتصادية الأول هو تقليص العجز في الإنفاق الحكومي كما يطلب صندوق النقد وأصدر الرئيس مرسي قرارا تجاوز فيه البرلمان بفرض ضريبة قيمة مضافة تناقصية لزيادة العائد الضريبي. أعلنت حكومة قنديل أن التغييرات الضريبية تطال فقط التبغ والكحول والسلع الكمالية لكنها امتدت في حقيقة الأمر لتشمل ضروريات الغذاء والسكن والنقل والعلاج. كل ذلك جرى بارتباك ظاهر، فهدف الإخوان كما يبدو كان تعزيز مقبولية حكومتهم لدى المؤسسات المالية الدولية. 

كان قوام تفسير الإخوان للثورة المصرية التي قذفت بهم إلى صدر المسرح السياسي أنها ردة فعل على سنين الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي الطويلة على يد مبارك وسدنته، أنها كانت احتجاج على تنفيذ خرب لسياسات السوق في نسخة الليبرالية الجديدة وكفى. فاتهم لكن درس عظيم من حواري القاهرة ومن شريعتي النبيل، أن في اجتماع الإسلام كذلك غصة من الملكية الخاصة، وأن الثورة المصرية في وعدها التاريخي كانت مفتاحا لدورة ثورية جديدة ورفضا جماهيريا باسلا لنهش السوق في لحم الحياة ودعوة لعالم جديد ولجمهورية جديدة في تضاد تام مع أباطرة السوق وقواه، تقاة كانوا أم فجرة. لو سئل المرحوم علي شريعتي لقال فارقوا التوحيد ودخلهم الشرك، وحدوه! 


استفدت في هذه الكلمة بالدرجة الأولى من كتاب كاري روزفكسي ويكام (٢٠٠٢) "حشد الإسلام: الدين والحركية والتحول السياسي في مصر"، وكذلك كتب علي شريعتي المذكورة في المتن وكتاب حسن الترابي "التفسير التوحيدي، الجزء الأول" (٢٠٠٤) وكتاب برشت دي سميت (٢٠١٦) "غرامشي في ميدان التحرير: الثورة والثورة المضادة في مصر" ومقال هبة خليل (٢٠١٩) "الليبرالية الجديدة بيد الدولة على الطاولة: الاقتصاد السياسي لمصر ما بعد الثورة"، مجلة الاقتصاد السياسي الإفريقي. 





Wednesday, 19 August 2020

Sunday, 28 June 2020

نحنا مع الحكومة: الثورة مبارية الزلط - مجدي الجزولي وإدوارد توماس

نُشر أصل هذه الكلمة بالانجليزية في مدونة مجلة الاقتصاد السياسي الافريقي Review of African Political Economy. ترجمها إلى العربية محمد عبد العزيز عطية.

انقضى أكثر من عام على الأحداث التاريخية التي أطاحت بحكم عمر البشير في أبريل ٢٠١٩. استطاعت الحركة الثورية في السودان في جولة ثانية أن تلوي ذراع  جنرالات البشير حتى أجبرتهم على القبول بترتيبات متنازع عليها لمشاركة السلطة مع تحالف قوى الحرية والتغيير وهو تحالف عريض من خصوم البشير. مثل الحصار الفعَّال الممتد لأشهر، والذي قام به آلاف المتظاهرات اللواتي نصبن الخيام حول القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، تقليصا لمساحة المناورة المتاحة لجنرالات البشير وفي ذات الوقت محاولة جرئية لإعادة اختراع السياسية لعصر جديد، لما ينبلج مكتملا بعد. 

كانت مجزرة الثالث من يونيو ٢٠١٩ هي الرد المشترك لقوي الجهاز القسري الجيش والبوليس والأمن والميليشيا - أي كامل المؤسسة الأمنية في السودان - على هذه المطالب الشعبية الجريئة. هجمت مع بزوغ فجر ذلك اليوم أعداد هائلة من القوات العسكرية التي ترتدي الأزياء العسكرية لقوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية وشرطة مكافحة الشغب (1) على المتظاهرات المخيمات لحراسة الثورة فقتلت كما تيسر لها. انتشل الأحياء جثث القتلى من مجرى النهر، تخللها الرصاص واعتقلها القتلة بكتل خرسانية علها تغيب إلى الأبد (2). هزت إفادات وتقارير الاغتصاب الوعي والوجدان العام فأطبق عليها بستر الصمت (3). كانت مجزرة الثالث من يونيو لحظة التعميد لجيل جديد في نار وسيف قوى السلطان. 

لذا، لا يستغرب أن صارت ذكرى الثالث من يونيو ميدانا للتنافس بين شركاء الحكم الذين ورثوا السيطرة على جهاز الدولة. ينشد الجميع بذكرى الثالث من يونيو، الضباط العظام والسياسيون الطامحون ورجال المليشيا والأمن، ويطنبون في مدح الشهداء وتمجيد مأثرتهم. استطاع البعض حتى أن يقتلع دمعة من قاع عينه أمام عدسات الكاميرات مع موسيقى خلفية مناسبة. بالرغم من كل هذه التقوى، تبقى الرواية الرسمية للأحداث ملتبسة ومتناقضة، فلا عدد القتلى والمختفين قسريا معلوم منضبط ولا هوياتهم جميعا محققة، كما تظل المسؤولية قيد التشكيك تحوم حولها نظريات المؤامرة وأطرفها ربما عقيدة الطرف الثالث التي يسعى سياسيون عظام للترويج لها.

تم تكوين لجنة تحقيق في المجزرة  بقرار من رئيس الوزراء الانتقالي في أكتوبر ٢٠١٩ (4)، وقد مُنحت اللجنة فترة ٣ أشهر للفراغ من عملها تم تجديدها منذها. يرأس هذه اللجنة  محام مرموق له سجل من صف حقوق الإنسان وتضم في عضويتها ممثلين لوزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات؛ أي ذات الجهات المتهمة بإراقة الدماء. صرح رئيس اللجنة مؤخرا بأنه غير مُلزم بأي جدول زمني للإفصاح عن نتائج التحقيق، وقال أيضاً أنه لن يتم الإفصاح عن النتائج للرأي العام بأي حال من الأحوال وإنما سيتم تسليمها إلى السلطات القضائية (5). كما هو متوقع، يبدو شأن لجنة التحقيق في أحداث ٣ يونيو ٢٠١٩، كغيرها من اللجان العديدة الموكلة بالتحقيق في أحداث عنف الدولة خلال فترة العام ونصف الماضية، طغت عليها وظيفة التسويف والتدليس البيروقراطي.

ربما انكشفت حقيقة مجزرة الثالث من يونيو عند الاعتبار في التحدي الذي فرضه موسم الثورة السودانية بطموحه وعزيمته الظاهرة على عموم النادي السياسي، أو قوى المؤسسة السودانية إذا جاز التعبير. طرحت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ الأسئلة الصواب حول السلطة السياسية، طبيعتها وأصحابها وخضوعها للمساءلة وقدمت الإجابة عبر اختراع "لجنة المقاومة" على مستوى الحي السكني (6). "لجنة المقاومة" صيغة نضالية جديدة شكلاً ومضموناً، وهي بؤرة عمومية مفتوحة على الشارع لصناعة السلطة الشعبية خارج إطار جهاز الدولة، وقد أثبتت جدارتها بما يفوق مرحلة التجريب والاختبار في القدرة على التعبئة السياسية والاحتجاج خلال موجة التظاهرات التي أطاحت بحكم البشير. كما أنها استطاعت منذ ذلك الحين أن تقسم وتستحوذ على وتمارس ما تيسر من السلطة المحلية. لذا، "لجنة المقاومة" هي ربما هدية التجربة الثورية السودانية الحديثة إلى العالم بما هي محاولة لاستعادة المدينة ومواردها التي أصابها التسليع الفج وصارت مسرحا للاصطدام الكوني بين مطلوبات الاجتماع البشري الأولية، الحق في السكن والطعام والخدمات الضرورية، وواقع مراكمة الأرباح (7). الأقرب أن القليل فقط من مناضلات اللجان اطلعن على أفكار هنري ليفيبفر من ستينات القرن الماضي، لكن ممارستهن ترجمة حية لنداءه "الحق في المدينة (8).

تحدت ثورة ديسمبر٢٠١٨ النظام الاجتماعي أيما تحد واخترق رمحها الطويل لبرهة هيكل السلطان الأبوي. في هذا السياق تم تداول ونشر الصور الخاطفة للنساء وهن يتقدمن صفوف المظاهرات بشكل واسع في شتى دوائر الإعلام العالمية وكسبن مكانا في حركته العجولة. ولكن بعيداً عن اقتصاد المشاهد هذا علقت الثورة في ساعة دفقها ذاك السلطان الأبوي لأصحاب الجلاليب المخضرمين، شيوخ الدين ورجالات الرأي العام وعظام الأفندية، وخرج على هذا السلطان جيل من النساء والرجال يستكشف آفاقا جديدة للانعتاق كانت بعدا مكتوما في الحياة اليومية . صرخ الجيل في وجه شيوخ الدين وأنزلهم من علياء المنابر وتحرش بالمعلمين الرجعيين في ساحات المدارس وواجه الآباء بشبهة الاستكانة كما لفظ بغير استئناف السياسي تلو الآخر بتهمة التواطؤ مع الاستبداد. 

تداخل هذان المستويان من الصراع، السياسي والاجتماعي، مع الدافع المحوري لحركة الاحتجاج والتي كانت في قاعدتها ردا على نظام من التقشف الاقتصادي في عبارة إسلامية تعثر حتى طاح. أفرخت عمليات متصلة من التحول النقدي والتسليع وأنماط وحشية من الاستغلال ترجمتها كانت دورات من الحروب والسلب في الأرياف و الثراء الفاحش والإملاق المميت في الحواضر التناقضات التي سمحت باستمرار حكم البشير لسنين طويلة ثم فرضت تهاوي سلطانه وقتما تعذر عليه إدارتها. 

أعلنت ثورة ديسمبر خصمها المباشر في هيئة كادر الحركة الإسلامية ضعيف الذمة المالية. لذا ربما ساوت الحكومة الانتقالية في دعايتها السياسية بين مطلب "تفكيك النظام" وبين نتف موظفين من شيعة البشير من جهاز الدولة البيروقراطي ومصادرة أموال حزب المؤتمر الوطني وعناصره وواجهاته.. الخ. صوب المتظاهرون غضبهم نحو معلم ظاهر للاستبداد في هيئة "الكوز"، وهي هيئة "تلاقيط" منتخبة من الفقه الإسلامي والآيديولوجيا العنصرية للطبقات المالكة في السودان النيلي وعقيدة التحديث الاستعمارية انفرطت فعاليتها كخطاب للهيمنة.  

طفى إلى السطح وسلطة البشير في مغيبها نحوٌ منافس للسلطان عناصره لمع ريادة الأعمال وبرق الاستثمار والفعالية الإكلينيكية للإدارة البشرية والتصميم الديجيتالي اللعوب والمرائي مبثوث وأعراف ليبرالية، وفاق هذا النحو في جذبه كحامل للتحديث دراب الإسلاميين ثقيلي الظل. بل سحرت نجاحات نماذج نيوليبرالية للسلطان في تركيا وماليزيا ألباب الإسلاميين أنفسهم وأنفضوا عن نموذجهم الماثل يلومون مواطنيهم على فقدان الجلد أمام ابتلاء التحديث. تحولت اللحى المبذولة إلى شرائط أنيقة القص، اقتصد الإسلاميون في الوضوء والصلاة وقد تولى عنهم كهان الصوفية الجديدة العبادة والتقوى. 

حقيقة الأمر أن اندغام السوق والمسجد استهلك غرضه لما اخترق التسليع كل مجال حتى رعشة الورع في ليالي التراويح الرمضانية. لم يعد الإسلام السياسي على طريقة "فلترق كل الدماء" ملائما لتسويق الأنماط الأكثر حذقا للاختراق الرأسمالي بعد أن أدى وظيفته في قبض الموارد بنار الحرب وتحرير الأرض من سكانها في جغرافيات كانت في كنف الاقتصاد المعيشي. بعبارة أخرى، فجر المحتوى قفص الشكل. ركل أساطين السوق، لوردات رأس المال التجاري وموردي القمح وملوك العقارات والدولار ومصدري الذهب والقطعان، ركلوا هيئة "أب جيقة" واتخذوا محلها هيئة رائد الأعمال الأنيق في اتساق مع مطلوبات دوائر رأس المال الإقليمية والحلقات الكبرى للرأسمالية الكونية. ليست الخرطوم دبي على شاطئ النيل بأية حال لكن مجرى النيل في هذه الخريطة يصب في ميناء دبي. 

ما رفعت الحكومة الانتقالية حتى الآن قدمها من "الأبنس" الذي كان يشغله قدم البشير إلا لماما، لكنها أعادت تعبئة سياسات اقتصادية شغلت باله في ثوب عقائد التنمية الدولية. ابتدرت الحكومة الانتقالية التخلص من الدعم الموجه لخبز القمح والوقود (9) باجتراح تسعيرة مزدوجة للسلعتين: مدعومة نادرة أو معدومة وتجارية أقل ندرة. كما شرعت في التخطيط لمشروع للدعم النقدي المباشر للأسر "الضعيفة" تحت إشراف برنامج الغذاء العالمي (10)، هو امتداد لخطة حكومة البشير في الهندسة الاجتماعية وسط استحسان دولي عارم. يجوز التساؤل الشكوك إن كان تعميق التورط النقدي والتسليع هو الإجابة على أزمات السودان. على كل، تشير البراهين من معسكرات النازحين في دارفور إلى أن التحويلات المالية المباشرة ذات أثر مضاد إذ تفاقم من أسعار المحاصيل الغذائية وتؤجج تقلبات السوق (11). إلى ذلك ساهمت زيادة عظيمة في مرتبات القطاع العام، الأعلى ربما في تاريخ البلاد، في تصاعد التضخم والزيادات المتتالية لأسعار السلع (12). بلغة الدولار، ارتفع الحد الأدني للأجور من حوالي ٨ دولار إلى حوالي ٦١ دولار أمريكي في الشهر. يأمل وزير مالية الحكومة الانتقالية أن يجابه الركود الاقتصادي الذي تفاقم بسبب تدابير الحظر الصحي المصاحب للوقاية من وباء كورونا عبر تحفيز الإنفاق الاستهلاكي (13).

بالمقارنة، كانت الحكومة أقل استعدادا لدعم المنتجين وتجاهد للاستيلاء على محصول القمح من المزارعين في الولاية الشمالية وولاية الجزيرة عبر سعر احتكاري ثابت تم تحديده بعد مفاوضات في مارس ٢٠٢٠، تظلم المزارعون وقت الحصاد من أن السعر الحكومي دون سعر السوق (14) وقد بلغ سعر السوق بعدها ٣٠٪ أكثر من سعر الحكومة (15). فرض الولاة العسكريون في ولايتي الجزيرة والشمالية قرارا بمنع بيع وشراء ونقل القمح خارج ولايتيهما (16، 17) وفقاً لقانون الطوارئ بهدف إنفاذ الاحتكار الحكومي ونشر جهاز المخابرات قوة خاصة لتأمين حصاد القمح (18).

يصعب على الحكومة أن ترتد عن انحيازاتها، وعبارة حكومة تستخدم عادة بأشكال متعددة وحذقة لتعبر عن هياكل السلطة: الجيوش والشرطة، البيروقراطيين و قوى المال. زار وفد من مجلس الوزراء والمجلس السيادي قرية صغيرة في أقصى دارفور بالقرب من حدود افريقيا الوسطى والتقى بعض أهلها فقال شيخ مسن مخاطبا رجالات الدولة: "نحنا مع الحكومة ومؤيدين للرئيس البشير"؛ لم يأته بعد نبأ تغيير السلطان في الخرطوم كما يبدو. كتب صحفي رافق الوفد معلقا أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ما زالت "مبارية الزلط" ولما تخترق بعد فيافي السودان النائية (19). حق التدبر في المعنى الظاهر والباطن كذلك لهذا القول الفطن. 

______

(1) https://www.amnesty.org/download/Documents/AFR5418932020ENGLISH.PDF

(2) https://www.theguardian.com/world/2019/jun/05/sudan-death-toll-rises-to-60-after-khartoum-pro-democracy-sit-in

(3) https://www.theguardian.com/world/2019/jun/11/sudan-troops-protesters-attack-sit-in-rape-khartoum-doctors-report

(4) https://uk.reuters.com/article/uk-sudan-politics/sudan-names-commission-to-investigate-killings-at-sit-in-idUKKBN1WZ0QK

(5) https://www.alquds.co.uk/رئيس-لجنة-التحقيق-في-فض-الاعتصام-في-الس/

(6) http://riftvalley.net/publication/mobilization-and-resistance-sudans-uprising

(7) John Emmius Davius 1991, Contested Ground: Collective Action and the Urban Neighborhood, Cornell University Press, p.291.

(8) Henri Lefebvre 1996, Writings on Cities, Oxford.

(9) https://www.reuters.com/article/us-sudan-economy-idUSKBN1YV1LY

(10) https://www.wfp.org/news/sudan-government-and-wfp-sign-agreement-sudan-family-support-programme

(11) https://fews.net/sites/default/files/documents/reports/Sudan_MarketFundamentals_06152015.pdf

(12) https://www.dabangasudan.org/en/all-news/article/historic-salary-hike-sees-prices-soar-in-sudan

(13) https://aawsat.com/home/article/2286626/السودان-يبدأ-تنفيذ-زيادات-غير-مسبوقة-للأجور

(14) https://www.suna-sd.net/ar/single?id=604826

(15) https://www.alsudaninews.com/?p=67986

(16) https://suna-sd.net/ar/single?id=660199

(17) https://suna-sd.net/ar/single?id=660085

(18) https://suna-sd.net/ar/single?id=636135

(19) https://www.alsudaninews.com/ar/?p=73767

Monday, 13 April 2020

عن ماركس الإزيرق: هل يمكن قراءة رأس المال؟

هذه آخر صورة معلومة لكارل ماركس التقطها إ. دوترتري في الجزائر
 يوم ٢٨ أبريل ١٨٨٢ قبل عام من وفاته وقد زارها للاستشفاء

١
سألت قارئة عن كتاب 'رأس المال' لكارل ماركس وكيف يمكن التعامل معه؟ الحقيقة أن 'رأس المال' كتاب مركب صعب القراءة كثير المطبات، وربما جاز تشبيهه بحارة من حارات أم درمان القديمة، زقاقات متداخلة كأنها شبكة صياد طال بها العهد، بعضها ينتهي إلى داخل حيشان واسعة وبيوت تفتح على بعضها عبر أبواب ضيقة لا يدركها إلا من سبق ومر بها، وطاقات صغيرة تفتح هي الأخرى على عوالم أخرى، ودروب تنتهي إلى أركان عمياء لا مخرج منها. بالإضافة إلى ذلك، لكتاب ماركس هذا طبقات متداخلة، فهو يبدو لي مرات كطبق الكسرة وقد داخَلَها الملاح بعد أن خرقت ست الدار وسطها خرقا لانسيابه، والقارئة مثلها كمثل من مدت يدها إلى طبق كسرة كثير الملاح تنال في كل قراءة لقمة من عدة طبقات وملاح يدهن بعضه الأصابع باللايوق اللزج. لذا لا يهم قارئة إن لم تحقق منه في أول قراءة كفايتها فهي كما 'الخواجية' التي تجرب طبق الكسرة بأم رقيقة أول مرة دون سابق تجربة في الأكل بالأصابع، وذلك في زحمة من الخلق.  تنزلق طبقات الكسرة من بين أصابعها ولا تجتمع عندها لقمة يُعتد بها وقد يثنيها الإحراج والخجل من تكرار التجربة والعيون تتربص بها إن لم تضحك في وجهها إحداهن. لم أذكر مثال الطفل وفضلت الخواجية الغريبة، لأن معظم قراء ماركس من عندنا يقرأون تعريبا أو ترجمة انجليزية لأصله في الألمانية كما أنهم في الغالب يقرأون ماركس في عمر الرشد وبعد أن تراكمت لديهم معارف وقراءات من مصادر شتى، لكن الأقرب أن معظمها لا يعتد بالديالكتيك ولا يلقي له بالا. أما ماركس فهو ملك الديالكتيك كملك المنقة أو ملك الأقاشي إن شئت، والديالكتيك عدة شغله. قد يُعجز قارئة ماركس 'الخواجية' هذا الديالكتيك أكثر من مادة الكتاب الاقتصادية. قد تجد قارئة ماركس مختصرا يسيرا لمقولات ماركس الاقتصادية عند شُرَّاح ومعلقين لكن عادة ما تغيب في هذه المنقولات فعالية منهجه في تقصى أي قضية فذلك مما يتكشف بقراءة ماركس بغير وسيط، كما تغيب مهارات أخرى للشيخ الإزيرق (وربما جازت كتعريب لكنيته - the Moor - وسط الأسرة والأصدقاء وتعني المغاربي أو الأندلسي وتفيد البشرة الداكنة نسبيا بالمقارنة مع الشحوب الأوروبي)، منها سخريته وجزالة عبارته وإحالاته المتواترة لمعارف عصره والأدب في كل ضروبه، وهي إحالات وإشارات غنية بالمعاني والصور التي تغيب نصا لكنها تثري منطق ماركس وخطابه، فهي مثل 'المونة' في البناء وبدونها لا يتماسك طوب ماركس ودُرَّابَه الكثير.  
٢
'رأس المال' في الحقيقة مخطوطة طويلة غير مكتملة فماركس لم يكمل صياغة المجلد الأول حتى، وهو الجزء الوحيد الذي عاش ليراه منشورا، أما الثاني والثالث فصاغهما وحررهما فردريك انجلز من مخطوطات كارل ماركس بعد وفاته. أعاد ماركس كتابة عدة فصول في المجلد الأول مع كل طبعة وكتب في كل مرة مقدمة جديدة وفي نهاية حياته كان مستعدا لتمزيق الكتاب كله وكتابته من جديد. لذلك 'رأس المال' ليس كتابا مكتمل الصياغة حسن التحرير وذلك أحد أسباب عُسره الأسطوري. لذلك ربما، أهمية 'رأس المال' ليست بالضرورة في خلاصاته فقط، على نصاعة معظمها، لكن في منهج ماركس، الذي هو بتعبير اليوم متعدد العلوم ومتزاوجها (multidisciplinary/intersectional) فمن نظر في ثبت مراجع ماركس، وكان قارئا صبورا وكاتبا حريصا عفيف القلم، وجد كتبا ودراسات ووثائق في كل العلوم الانسانية والطبيعية من الأنثربولوجيا حتى الكيمياء الصناعية والأحياء الدقيقة، بما في ذلك علوم استجدت في عصر ماركس وألزم نفسه بالتعلم منها كمثل الجيولوجيا والكيمياء العضوية ونظرية النشوء والارتقاء. كان ماركس بالدرجة الأولى جامع معرفة عظيم وتميز بقدرة هائلة على أن يكشف علاقات وينسج أخرى بين ضروب شتى من المعارف والعلوم في سبيل أن يفهم الإنسان وعالمه، كل ذلك بعدة الديالكتيك وكانت أداته الفلسفية للتكثيف والتجريد قصد الوصول إلى تصورات كلية تنهض على أساس معارف ملموسة للعالم. كتاب رأس المال هو جانب من مشروع ماركس الكلي، الذي لم يكتمل، والكتاب نفسه جمع مسودات كُتبت في أزمان مختلفة وخضعت لدرجات متفاوتة من الفحص والتحرير، بعضها هو نفسه غير مكتمل. سوى ذلك دخلت متن رأس المال خطابات كان ماركس كتبها لأصدقاء ومحاورين يعالج فيها قضية أو أخرى أو يخطط لذلك أو يشرح مسألة ما. لذلك تجد في هذا الكتاب العظيم أثرا من أرق الليالي الطوال ومتاعب الكاتب مع المصادر ومع الوثيقة ومع الترجمة (كان ماركس يقرأ بجانب لغته الألمانية الأم الفرنسية والانجليزية بإجادة الكاتب، كتب بالفرنسية النصوص التي باتت تعرف بمخطوطات باريس ١٨٤٤ وبالانجليزية مقالاته الصحفية في نيويورك ديلي تربيون، كما تعلم الروسية في عمر متأخر ووفر له تعليمه المدرسي معرفة باللغات الأوروبية القديمة اللاتينية والاغريقية) ومع الصياغة ومع تنظيم النص وتدبير انسيابه من قضية إلى أخرى. 
٣
ماذا يمثل هذا الجزء المكتوب من 'رأس المال' إذن؟ هو محاولة كارل ماركس الباسلة لإدراك المجتمع الرأسمالي بكامله في حال حراكه وتطوره. اجترح ماركس في هذا السبيل نسيج من المفاهيم المتصل بعضها ببعض وفاز فعلا إذا ما عُدنا إلى تشبيه شبكة الصيد أعلاه بلآلئ لا حصر لها هي مطلب قارئة 'رأس المال' وعليها الصبر على تعقيد هذه الشبكة وأحيانا فوضاها الخلاقة لتصل إلى مطلبها. بدأ ماركس الانشغال بالاقتصاد في باريس وكتب وقتها ما بات يعرف باسم 'المخطوطات الاقتصادية الفلسفية' أو 'مخطوطات باريس' (١٨٤٤). تُشكل هذه المخطوطات في الحقيقة لبنة من لبنات 'رأس المال' وطبقة باطنية من طبقات مشروعه الكبير. لكن الطريق إلى 'رأس المال' لم يكن متيسرا، وأكبر محطاته لا شك الكراسات السبع المعروفة ب Grundrisse  - اللفظة الألمانية التي تعني أسس أو خطوط عريضة وكانت عنوان ماركس الجامع لها وتعريبه 'أسس نقد الاقتصاد السياسي'، مقارنا بعنوان 'رأس المال' الجانبي 'نقد الاقتصاد السياسي'. هذه المخطوطات غير المنقحة وغير المكتملة والتي لم يعدها صاحبها للنشر أصلا هي دِغال فكر ماركس لا شك وكتاب 'رأس المال' بالمقارنة فسحة فيها، وضعها في الخزانة عام ١٨٥٨ ولم تجد طريقها إلى النشر حتى العام ١٩٣٩. اشتبك ماركس في Grundrisse مع قضاياه الرئيسة، رأس المال والعمل والإنتاج وعلاقاته والسلعة والتوزيع والتكنولوجيا والتراكم البدائي وأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية والشروط اللازمة للنهوض الثوري، وانتخب من هذه الكراسات ما أعاد صياغته في 'رأس المال'. 'الأسس' هي أوسع ما كتب ماركس من حيث القضايا والمواضيع فهي تضم من جهة تراكيب فلسفية معقدة ومن أخرى معادلات حسابية استعان بها صاحبها لفض أسرار الرأسمالية. كتب ماركس لأصدقائه في آخر العام ١٨٥٧ يعد بقرب اكتمال مبادئ نقده للاقتصاد السياسي وكتب في منتصف ١٨٥٨ يقول العقدة أن المخطوطة بحالها جبة درويش ومعظم ما كتبت حتى الآن موقعه السليم في آخرها، ثم كتب في آخر ١٨٥٨ يقول نجحت في شرح تصور للعلاقات الاجتماعية بطريقة علمية، كتب وقتها أن المحتوى قد اكتمل لكن تبقت الصياغة ولم يجد طريقا بعد للأسلوب المناسب. اختار ماركس عند هذه المحطة أجزاء من المخطوطات نقحها وارتضى صياغتها وأسلوبها ونشرها منفصلة كجزء أول عام ١٨٥٩ تحت عنوان "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، لم تر الأجزاء التالية التي وعد بها ماكينات الطباعة أبدا وتقع على عاتق من طلبتها مهمة استكشاف 'الأسس' بحثا عن معاني ماركس. 
٤
هل يمكن قراءة 'رأس المال' إذن؟ نعم لكن لا بد من الدبارة وقد أصبحت قراءة 'رأس المال' في حد ذاتها موضوعا للبحث والتأمل، على سبيل المثال كتاب الفيلسوف الفرنسي لويس آلتوسير 'قراءة رأس المال' (١٩٧٠) ومؤخرا كتاب ديفيد هارفي 'المرشد إلى كتاب ماركس رأس المال' (٢٠١٠)، هذا إلى جانب الآلاف من الملخصات والتفسيرات والمباحث التي تتناول كتاب 'رأس المال' بصورة أو أخرى إن لم يكن مئات الآلاف متى ما أخذنا في الاعتبار ما صدر في المكتبة السوفييتية، كان ذلك في الاتحاد السوفييتي أو في الدول الاشتراكية الأخرى ناهيك عن الصين الشعبية.  
٥
يبدأ ماركس كتاب 'رأس المال' بالفصل المشهور والشاق عن السلعة وهي نقطة انطلاق تحليل ماركس الأولى وأساس كل تشخيصه للمجتمع الرأسمالي. يفقد عدد كبير من قراء ماركس أعصابهم عند هذا الحد وتصدهم أمثلة ماركس الحسابية عن القمح والكتان فيولون الأدبار وتنتهي مغامرتهم مع ماركس قبل أن تبدأ وإن احتفظوا بإعجابهم الغامض به وهللوا بالماركسية صباح مساء. لذلك، جاز ربما والنصيحة من آلتوسير، ألا تبدأ قارئة ماركس بالقسم الأول عن السلعة والنقد وإنما بالقسم الثاني من الكتاب 'تحول النقد إلى رأس مال'. يمثل هذا الجزء الثاني قلب الكتاب في الواقع وفيه يستعرض ماركس مفهومه لفائض القيمة وأساس الاستغلال الطبقي في المجتمع الرأسمالي. من هذا الموقع الاستمرار في القراءة يسير نسبيا فالقسم الثالث 'فائض القيمة المطلق' والرابع 'فائض القيمة النسبي' يتصلان بالثاني ويفصلان فيه. ينجم فائض القيمة المطلق عن ساعات العمل وفائض القيمة النسبي عن زيادة الإنتاجية عبر تجنيد التكنولوجيا. الجزء الخامس من الكتاب 'فائض القيمة المطلق والنسبي' تكثيف للقسمين الثالث والرابع ولا ضرورة ملزمة لقراءته في هذه المرحلة. الطريق من القسمين الثالث والرابع ممهد نحو القسم السادس عن الأجور. يجابه ماركس في هذا القسم من الكتاب دعاوى الرأسماليين أن الأجور التي يتلقى العمال هي قيمة ما يبذلون من عمل ويفحص بدقة الأجور وتركيبها وأنواعها، زمانية ومقطوعية. ما يخلص إليه ماركس في هذا القسم هو أن الأجور أو سؤال مستوى المعيشة هو آخر الأمر قضية صراع طبقي ولا صلة له بإنتاجية العمل والأرباح التي يجنيها الرأسماليون. 
٦
من هنا تصل قارئة 'رأس المال' جوهرة الكتاب، القسم السابع عن تراكم رأس المال والثامن عن التراكم البدائي. يتطرق ماركس في القسم السابع بالتفصيل إلى نزعة الرأسمالية تحويل فائض القيمة إلى رأس مال دون هوادة في دورات متوالية كأنها "كرة الثلج" بعبارته. يستعرض ماركس هذا القانون الثابت للرأسمالية بمثال تراكم رؤوس الأموال في بريطانيا خلال الأعوام ١٨٤٦ إلى ١٨٦٦. من هذا القسم الطريق معبد نحو كتاب لينين 'الإمبريالية، أعلى مراتب الرأسمالية' (١٩١٧) وفيه يبين لينين أنه ومنذ نهاية القرن التاسع عشر اتخذت إعادة إنتاج رؤوس الأموال الصيغة الامبريالية وفيها اندمج رأس المال المصرفي والصناعي لينشأ رأس المال المالي (finance capital) الذي تولى مهمة الاستغلال المتهيج والمباشر لكل العالم عن طريق الاستعمار وتبعاته، الحروب الاستعمارية والحروب بين الدول الإمبريالية. أما القسم الثامن والأخير من الكتاب فيضم مناقشة ماركس الضافية للتراكم البدائي وهي العملية المفتاحية في نشأة الرأسمالية وكذلك العملية المستمرة للاختراق الرأسمالي في جغرافيات اجتماعية كانت في كنف الكفاية المعيشية ولم ينل منها التسليع. يفض ماركس في هذين الفصلين الأخيرين من رأس المال "التدليس" الذي يلف رأس المال ويكشف خباياه وخطاياه وقراءاتهما تأخذ بلباب الذين أتوا ماركس بشكوى الاستعمار والهيمنة الامبريالية. يجندل ماركس الخطاب البرجوازي حول نشأة رأس المال، الخطاب الذي يرد هذه النشأة إلى الاجتهاد والبذل وفضائل الادخار والعصامية الفردية. في مقابل هذا التدليس الذي يتكرر صداه في سير رجال وسيدات الأعمال حتى اليوم يشرح ماركس أن نشأة الرأسمالية كنظام اجتماعي في الدول الأوروبية كانت نتيجة تراكم عظيم للمال في يد أسر تجارية كبرى وأن هذا التراكم كان خلاصة قرون من البلطجة والغزو والنهب والقتل الوحشي والجماعي لشعوب بحالها حيث حط الاستعمار الاستيطاني. كتب ماركس في الفصل ٢٤ 'ما يسمي بالتراكم البدائي': "إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أميركا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو الهند الشرقية ونهبها، وتحويل افريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن كل ذلك يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. وتؤلف هذه العمليات المدرة للريع العناصر الرئيسة للتراكم البدائي. ثم جاءت في أعقابها الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية متخذة من الكرة الأرضية ساحة لها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن اسبانيا، واتخذت أبعادا هائلة في حرب انجلترا ضد اليعاقبة، ولا تزال مستعرة في حروب «الأفيون» ضد الصين، وهلمجرا."
٧
بهذا تكون قارئة ماركس قد خبرت ما يكفي من أسلوبه وتقنيته الفكرية لاستيعاب القسم الأول وفتوحه الديالكتيكية، السلعة وما أدراك ما السلعة. يدشن ماركس كتاب 'رأس المال' بالجملة الثرية التالية: "تبدو ثروة المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي وكأنها تكدس هائل من السلع، والسلعة المفردة هي الشكل الأولي لهذه الثروة، وعليه لا بد لبحثنا من أن ينطلق من تحليل السلعة". يختار ماركس كلمة "تبدو" فهو يقول منذ البداية أن الأمر ليس كما يبدو عليه وظاهر السلعة، أي سلعة، يخفي باطنا عميقا ومعقدا، هي ما يجري خلف ستار الإنتاج الرأسمالي. في هذه الجملة الأولى أشار ماركس إلى أولى المتقابلات التي تشكل عدة شغله الديالكتيكي، الشكل والمضمون. ستلتقي قارئة ماركس في صفحات هذا الكتاب الباسل شخصيات شكسبير وحبكاته وعباراته منثورة في الصفحات وستلتقي بالزاك وجوتة وشيلي والإغريق، فلاسفة وشعراء وأمراء، وكذلك الأحاجي والأساطير ومصاصي الدماء والذئاب الضارية والساحرات، هذا إلى جانب المفكرين السياسيين وعلماء الاقتصاد السياسي والأنثربولوجيا والصحفيين وبطبيعة الحال الفلاحين والعمال والسخرة والرقيق والمضطهدين من كل سحنة ولون. قراءة سعيدة!

استفدت في هذه الكلمة إلى جانب 'رأس المال' لكارل ماركس ، المجلد الأول، كارل ديتز فرلاغ، برلين، طبعة ٢٠٠٩ و'أسس الاقتصاد السياسي' لكارل ماركس، كارل ديتز فرلاغ، برلين، طبعة ١٩٧٤ من كتاب سفن-إريك ليدمان 'عالم للفوز به: حياة وأعمال كارل ماركس'، دار فرسو، لندن، ٢٠١٨ وكتاب ديفيد هارفي 'المرشد إلى كتاب ماركس رأس المال'، دار فرسو، لندن، ٢٠١٠ وكتاب لويس آلتوسير وإتيين باليبار 'قراءة رأس المال'، دار فرسو، لندن، ٢٠٠٩ وكتاب لينين 'الإمبريالية، أعلى مراتب الرأسمالية' [١٩١٧]، أعمال مختارة، المجلد الأول، دار التقدم، موسكو، ١٩٦٣.  

Wednesday, 8 April 2020

صباح العام التالي على الثورة - حوار مع مجموعة قدام، منصة لليسار الجذري في السودان وجنوب السودان

بعد عام علي سقوط نظام البشير وتسعة أشهر علي تشكيل الحكومة الانتقالية لا يزال طريق الانتقال في السودان متعثرا. اجتماعيا، لا زالت الدوافع التي حدت بالسودانيين الخروج إلى الشوارع  شاهرين سلميتهم ومطالبين بحقهم في معيشة أكثر يسرا وعدلا وكرامة لازالت هذه الدوافع كما هي من ارتفاع مضطرد في أسعار السلع والخدمات الأساسية فضلا عن ندرتها. سياسيا، لم تترجم استحقاقات الاتفاق السياسي مع المكون العسكري لتصبح واقعا ملموسا فلا اكتملت هياكل السلطة الانتقالية ومؤسساتها ولا التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تحقق العدالة  وتقتص ممن قتل بنات السودان وأبناءه ونهبهم وأفقرهم. للحديث عن سودان ما بعد الثورة وحكومتها الانتقالية وسياساتها وقواها السياسية وانحيازاتها الاجتماعية يمينها ويسارها حاورنا الكاتب والباحث مجدي الجزولي فكانت المساجلة التالية: 
خرجت الجماهير في ثورة ضد سياسات التقشف، أسقطت حكومة وأتت بغيرها والمفارقة هنا أن حكومة الثورة الآن تبشر بالمزيد من سياسات التقشف والإفقار، برأيك ما الذي اوصلنا إلى هذه المفارقة؟ 
هذه صياغة ممتازة - ثورة دافعها التقشف تأتي بحكومة ثورة تبشر بالمزيد من التقشف - لسؤال معقد يجب أن يأخذ موقعه السليم في قلب المناقشات الدائرة حول الثورة. وهنا أسمح لي أن أساعد المناقشة بمصطلح التدليس كتعريب mystification والمصطلح من قاموس ماركس. يوظف ماركس هذا المصطلح في ثلاثة معاني، منها تزوير الوقائع التاريخية عن طريق التبشير بصياغات مغايرة لذات الوقائع تُصَانِع القوى المهيمنة وتُوافِق مصالحها. مثال ذلك سرد ماركس لتاريخ نشأة الرأسمالية كتاريخ من الاستكشاف والاحتلال والاستغلال الغربي للعالم بالمقارنة مع التدليس الذي تقوم به البرجوازية التي تصور نشأة الرأسمالية كسيرة من العمل الشاق والادخار الأوروبي. 
كيف يساعدنا هذا المفهوم إذن؟ 
كان الاحتجاج على التقشف بالفعل محركا أساسيا من محركات الثورة لكن لم يجد ذلك ترجمة تذكر حتى في الدعاية التي بشرت بها الهيئات الفئوية والسياسية التي تولت التعبير عن مطالب الثورة. فضلت هذه القوى تصوير الثورة كساعة لنهضة الوطنية وكفى، زينت بياناتها الفصيحة بالأدب القومي من ديوان مؤتمر الخريجين، أقصد بصياغات أدبية للوطن، وهنا موضع التدليس الأساس. صورت هذه القوى الثورة ساعة للوطن كمحل لجماعة عضوية مترابطة ومتآخية وصورت استعادة الوطن كمسألة رهينة بالتخلص من طاغوت عمر البشير وكفى. بذلك، استوى الصراع كتضاد بين الجماعة الوطنية التي استعادت حسب تصوير هذه القوى لُحمتها المفقودة بالثورة وبين جماعة "الكيزان" الخارجة على هذه الرابطة الوطنية. يغيب في هذا التدليس القومي الصراع الاجتماعي الذي هو محل سؤالك، وهو صراع أحسن تصويره المسطول في النكتة حيث قال أن أقصى أمانيه "سحبة" في عالم زين كما تصوره الدعاية. يطال التدليس ضمن ما يطال التناقضات التي تتمايز بها الطبقات الاجتماعية، فالتصور القومي علي طريقة مؤتمر الخريجين وعلى سنته تجمع المهنيين، لا يميز بين عاملة الموسم في كنابي أم كراع التي تعمل ١٢ ساعة في اليوم ويؤرقها ارتفاع سعر جركانة الماء وبين مورد القمح العظيم الذي تتدفق أرباحه مدرارا بفضل الدولار الجمركي؟ 
هل من الممكن أن يؤدي رفع الدعم وإجراءات التقشف إلي إسقاط الحكومة الحالية ومن ثم إلى انقلاب أو انهيار الشراكة الحالية ؟
القوى المدنية في الحكم ليست على اتفاق حول هذه القضية وأصبح الدعم مسألة صراعية بالدرجة الأولى. تعذر على القوى التي ترفض رفع الدعم أن تقترح برنامجا اقتصاديا بديلا متماسكا وتورطت في حرب كلامية مع وزير المالية بدت فيها غير منطقية ومتناقضة وأحيانا طفولية. العقدة ربما أن حتى هذه القوى التي ترفض رفع الدعم أعجزها تصور طريق يعتد به للتطور الاقتصادي بالتقشف أو بدونه فبدت كأنها لا تطالب بشئ سوى الحفاظ على الوضع القائم، بجانب أحاجي تبدأ بلفظة "استعادة" كمثل استعادة مشروع الجزيرة واستعادة السكة حديد واستعادة سودانير كأن عجلة تاريخها تدور إلى الخلف. من موقعه يطرح وزير المالية خطة بينة للتخلص من رفع الدعم على المحروقات والقمح في مقابل زيادة في الدعم النقدي المباشر للأسر "الفقيرة" بعبارته. هذه روشتة معلومة لصندوق النقد والبنك الدوليين وقد سلخ كل من وزير المالية البدوي ورئيس الوزراء حمدوك القسط الغالب من حياتهما المهنية في التبشير بها في القارة الافريقية، فهي عند الإثنين الحبة السوداء تشفى كل داء. 
أما سؤالك عن الانقلاب،  يميل ميزان القوى في الشراكة مع الوقت لصالح القوى العسكرية وحلفائها وقد لا تحتاج لانقلاب بأغنية وشعار على الإطلاق ما دامت الحكومة المدنية غير قادرة أو غير راغبة في منازعة الجيش والمليشيا السيطرة على الجيوب المربحة في الاقتصاد فمن مصلحة الجيش والمليشيا أن تستمر الحكومة المدنية كغطاء لحكمها ما دامت تضمن استمرار مصالحها دون أن تتأثر بالهوى الجماهيري. في الحقيقة، وجه الخطورة أن تصبح القوى السياسية المدنية مجرد واجهة لحكم الجيش والمليشيا، أى أن تتولى ذات موقع المؤتمر الوطني في عهد البشير المتأخر.
وهذه الوضعية الشائكة هي ما تعود جذورها لطبيعة الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية بطبيعة الحال... الذي يرى الكثيرون أنه ترجمة لتوزنات قوى بين قوى المركب العسكري الأمني وحلفاءه الخارجيين وقوى الشارع ،وتجنبا لسيناريوهات أصعب تكلفة وأكثر لا-يقنية.. إلي أي مدى تتفق ؟ 
يعود بالدرجة الأولى إلى توازن القوى ساعتها كما ذكرت، لكن ما أجد صعوبة في قبوله هو هذا التلويح بسيناريوهات أصعب تكلفة إلخ. هذا في الحقيقة تهديد مبطن للحركة الجماهيرية وإرهاب لا أكثر. ما هو السيناريو الأكثر تكلفة على وجه التحقق؟ ربما الإفقار المنظم لعامة الناس لصالح مراكمة الأرباح في يد رأس المال التجاري. هذا هو العنف الهيكلي والمستمر والذي لا ينقطع. يطابق التلويح بالإرهاب والسيناريوهات الأكثر تكلفة مخاوف الطبقة الوسطى من تحول حاسم في علاقات القوى الاجتماعية وبذلك تجد نفسها في حقيقة الأمر تقف إلى جانب رأس المال التجاري في مطالبته بإعادة الأمور إلى نصابها عبر حل وسط ما، أى عودة كل شئ إلى ما كان عليه. هذه الحجة كانت في قلب دعاية الطبقة السياسية للجم مطامح القوى الجماهيرية التي أخذت في بلورة مواقف تقدمية بخصوص توزيع الثروة الاجتماعية. والمسألة الاجتماعية في واقع الأمر تقع موقع القلب من مطالب القوى الشعبية التي أطاحت بسلطان البشير؛ وواجهت منذ البداية دعاية مضادة كانت صيغتها التساؤل البذئ، هل الثورة ثوري رغيف أم ثورة وعي؟
أشرت سابقا إلى الطريقة التي يتم بها تصوير الصراعات الاجتماعية في السودان قبل وأثناء وبعد الثورة السودانية باعتباره صراعا بين شعب يصور كما لو كان كلا واحدا ومتجانسا غير قابل للتمايز في مواجهة جماعة مارقة هم الكيزان من قبل القوي المدنية كما انتقدت ضمنيا القوي السياسية المناهضة للتقشف ولم تنجح في تطوير بدائل متماسكة وقابلة للحياة تحل محل السياسات النيوليبرالية ...بالاضافة لهذين المعضلتين ما الذي ينقص اليسار السوداني حتي يصبح جديرا حقا بالدفاع عمن يفترض به ان يدافع عنهم؟
من السهل نقد اليسار السوداني من هذا الباب، لكن من المهم ألا يتحول هذا النقد إلى تبكيت مجاني، فاليسار عبر العالم يواجه هذه المعضلة، أي طرح بديل متماسك وقابل للحياة لسياسات التقشف وطرح صيغ تنظيمية صالحة للصراع الطبقي، بدرجات متفاوتة من الفشل. خذ كمثال المتاهة التي وجد فيها حزب سيريزا اليساري في اليونان نفسه بعد وصوله إلى الحكم حتى استسلم أمام القوى الأوروبية العظمى ليفرض ذات السياسيات التي نشأ لمقاومتها أو التعقيدات التي عطلت حزب بوديموس في اسبانيا بعد أن ولج العمل النيابي أو الهزيمة التي حاقت بحزب العمال تحت قيادة جيريمي كوربين في الانتخابات البريطانية الأخيرة وهو يبشر بمانفستو أساسه مقاومة التقشف بسياسات بديلة. في كل، كان العامل المشترك، ولعل مثال سيريزا هو الأبرز، هو أن القوى الرأسمالية تعاقب بشراسة كل من يتجرأ على مناهضتها بقوة شعبية ظاهرة حتى لو تطلب ذلك تعطيل الإرادة الديمقراطية لناخبين أكفاء بصورة أو أخرى. 
عطل اليسار السوداني منذ أمد نقده لما يسمى في أدبيات الحزب الشيوعي "طريق التطور الرأسمالي" في محطة "الرأسمالية الطفيلية" وتعذر عليه دمج هذا النقد حتى في خطابه السياسي سوى بالهتاف ضدها. فوق ذلك، انقطعت الصلات التي كان الحزب الشيوعي قد وطدها بالطبقة العاملة أو بحركة المزارعين ووقف مشدوها أمام العنف الريفي في أطراف السودان ليكرر مقولات الاضطهاد الثقافي والعنصري دون أن يلج إلى باطنها في الاقتصاد السياسي. كذلك وقف مشدوها أمام التحولات العظيمة في المدينة السودانية منذ النزوح العظيم إلى الحواضر في عقابيل المجاعة الكبرى التي ضربت حزام الساحل الافريقي كله ومن ضمنه كردفان ودارفور والبحر الأحمر عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥. وجميع ذلك صدى عنيف ودموي للاختراق الرأسمالي الذي فرض التسليع بالحديد والنار على مجتمعات كانت حتى عهد قريب في كفاية الاقتصاد المعيشي على طريقة "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع" ووجدت نفسها في معمعان التراكم البدائي من حيث لا تحتسب. صدقت الأرجوزة الشعبية هذا المعنى بتبجيل رأس المال التجاري وممثليه بعبارة سهلة ممتنعة: "حنان ما بدوها رمتالي.. حنان إلا تاجر إجمالي". كذلك، لم يجد اليسار ما ينتصر به في كراساته القديمة لهضم التحولات في علاقات رأس المال على مستوي الإقليم، أقصد بذلك، واقع أن البرجوازية السودانية كمثيلتها المصرية وكذلك الأردنية واللبنانية وغيرها في المنطقة العربية صارت رهينة لرأس المال الخليجي يعتمد بقاؤها عليه ولذلك تبعات سياسية، بعضها ظاهر في تقلبات وتناقضات الفترة الانتقالية والنزاعات اليومية بين أطراف الحكم وأفراده، صلاح مناع وأحمد ربيع ولجنة التمكين وطاقم رئيس الوزراء الخ. 
هذه القضايا ليست مسائل للمماحكة النظرية والسلام، هذه قضايا ال praxis إذا أجزت لي الاستعانة بمفهوم آخر من قاموس ماركس ويقصد به الفكر الذي يرفد من الواقع ليعين على تغييره. ما أريد قوله، للخلاصات النظرية بخصوص هذه القضايا تبعات مباشرة في الصراع الاجتماعي تدليسا كان أو وعيا كاذبا إن أردت أو فتحا ثوريا. 
على سبيل المثال، متى ابتدرت بفكرة الجماعة الوطنية الموحدة والمتجانسة انتهيت إلى نفي الصراع الاجتماعي وتصوير الاقتصاد الوطني كقائمة للموارد المهملة التي لم يحسن سابقوك استغلالها أو ساحة للفرص المهدرة. من هذه المقدمة يتوطد التصور الليبرالي للاقتصاد الذي يسكنه أغنياء أحسنوا الاستفادة من الفرص التي أتيحت لهم بفضل الشطارة والدبارة وفقراء ضعفاء فشلوا في هذه المهمة. يتصل هذا التصور من ثم بالخطط التي تطرحها، فالجماعة الوطنية واجبها أن تتنادى للبذل كما في صندوق "القومة ليك يا وطني" بحمية قومية لكن يطوي الصمت التدابير المعلومة لإدارة الثروة الاجتماعية عن طريق نظام ضريبي تصاعدي وضريبة يعتد بها على رؤوس الأموال. 
تسود الخطاب العام حاليا نغمة ساخطة علي الأحزاب السياسية  يسارها ويمينها ومعادية لها أحيانا من قبل الكثير من "الشباب" خاصة... في الوقت نفسه تبدو الحاجة ملحة لصيغة تنظيمية ما تستوعب الإمكانيات (potential) و الأسئلة الإجتماعية التي فتحتها ثورة ديسمبر، في رأيك ما هو المخرج من هذه المعضلة ؟
ما تصف جانب من تشخيص الأزمة السياسية، "القديم في سكرات الموت والجديد في مخاض الولادة، وفي هذا الانتقال تتعدد الأعراض المرضية". هذه العبارة مأخوذة من قاموس غرامشي وقد تعين على طرح الأسئلة الصحيحة في ساعة التحول الطويلة هذه. ما يتداعى هو النظام السياسي الذي خلف الدولة الاستعمارية وتقسيمات العمل بين أطرافه من حيث علاقتها العضوية بالقوى الطبقية التي تمثلها. على سبيل المثال، لم يعد حزب الأمة هو ممثل رأس المال الزراعي الأول ولا الحزب الاتحادي الديمقراطي ممثل رأس المال التجاري الأول في البلاد كما لم يعد الجيش صنيع الدولة الاستعمارية يحتكر القوة الحربية، كل ذلك مقروءا مع التحولات الاجتماعية العميقة والمتسارعة في صلة مع الاختراق الرأسمالي والانتقال العنيف من الاقتصاد المعيشي إلى الاقتصاد السلعي لمجتمعات بحالها. أما ما يلم يولد بعد فهو الصيغ التي تتساءل عنها، لكن التاريخ لا يتعطل على الإطلاق وإن تعطل إدراكنا له، وشرط الإدراك السليم هو تقصى الحقيقة بأي ثمن. في هذا الشأن يسعفنا غرامشي مرة أخرى وهو القائل أن ننطق بالحق وأن نتحرى الحق معا هو عمل شيوعي، عمل ثوري بامتياز. لماذا أصر على ضرورة هذه المعرفة، لأنه بدونها نقع في التدليس، من ذلك مثلا الحديث عن "الشباب" كجماعة سياسية أو فاعل سياسي موحد، وهو كمثل الحديث عن الشعب والجماعة الوطنية، غتغتة تستدعي الأجوبة الخطأ. 
ماذا طرحت ثورة ديسمبر من أسئلة إذن؟ 
تطرح بقوة السؤال عن السلطة لمن؟ ونشأت لبرهة في هذا السياق سلطة مزدوجة، أولى محلها جهاز الدولة القسري وثانية مضادة محلها الحركة الجماهيرية والأشكال التنظيمية التي نشأت عنها، وفي مقدمتها لجان المقاومة. يتصل ذلك بمدى سلطات الجهاز القسري للدولة وحدود نفوذه، وقد كانت ديسمبر ساعة "أدبة" للجهاز القسري تلقى فيها ضربات شعبية متتالية هددت مشروعيته وهيمنته. هذا السؤال أجابت عليه القوى السياسية بصيغة التحالف الراهن وتولى سياسيون ومثقفون حاذقون مهمة تسويق هذا التحالف بأنه أفضل ما يمكن تحقيقه وليس بالإمكان أفضل مما كان ما دام الهدف المشترك هو التخلص من طاغوت عمر البشير، وقد كان. يظهر عوار هذا المنطق المحافظ إذا قارنته بما كان يروج له البشير نفسه والأرض تميد تحت أرجله بقوله أن مصير اليمن وسوريا ليس ببعيد عن السودان ولذا فالشيطان الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه.. الخ. تطرح ديسمبر بقوة، وفي اتصال مع السؤال الأول، قضية الثروة الاجتماعية وتنظيم الاقتصاد، لصالح من؟ وهذا ما تحاول الحكومة الانتقالية، كذلك عبر جوغة من المثقفين والدعائيين، طمسه بعزل قضية دعم السلع الاستهلاكية عن سياقها وتصويرها الجند الوحيد في شبكة اقتصادية معقدة هي في واقع الأمر التبادل العضوي بين جهاز الدولة ورأس المال التجاري ومراكز رأس المال الإقليمية. كذلك تطرح سؤالا حادا ولا مناص منه عن العلاقات القهرية في الحياة اليومية، كان ذلك في علاقات النساء والرجال أو السلطات الأبوية داخل الأسرة، أو التفويض الأبوي للأساتذة في المدارس أو السلطة الروحية لرجال الدين الخ. في كل ذلك أجابت ديسمبر بممارسات غيرية تحررية، وجدت التعبير عنها في الحياة اليومية داخل ميدان الاعتصام فكأنما كان طيفا من المستقبل أو بصياغة أفضل بابا لبعد مثبط في الحياة اليومية، بعد تحرري جنيني تقمعه هذه السلطات المتراكبة، لكنه والحمد لله مد لها لسانا طويلا. هذا إن أردت فار ماركس الحفار، كشف بوذه كما فهل في الثورة المصرية، أم الثورات في عصرنا.

Wednesday, 25 March 2020

An assassination attempt in Khartoum

An edited version of this piece was published on Middle East Eye.

Sudan’s interim prime minister, Abdalla Hamdok, was pictured a short while after the jumbled attempt on his life on 9 March with a beaming smile on his face behind his desk in Khartoum. The photographer made sure to capture the television screen in his office in the same frame with news of the assassination attempt from an Arabic television channel. In his trademark uplift style Hamdok issued a statement saying “What happened will not stop the march of change and will only be an additional splash in the high wave of the revolution.” 
The government spokesman, Faisal Mohamed Salih, immediately labelled the attempt a “terrorist attack”. Two days later, on 11 March, Salih announced the arrest of several suspects including foreigners and confirmed the arrival of a team of US security experts who will join the investigation effort. He willingly adopted the narrative of the US war on terror saying: “The government has requested the help of the [Federal Bureau of Investigation] FBI due to its experience and the modern technologies it has, especially as Sudan is a country that has no experience in dealing with this kind of incidents,” adding that “international anti-terrorism treaties obligate states to make use of various experiences to address these issues”.
Salih drew attention to events back in February 2020 when the Sudanese police announced the arrest of members of a “terrorist cell” headed by an Egyptian national who allegedly confessed ties to the Egyptian Muslim Brotherhood. The authorities claimed that members of the cell who carried forged Syrian passports had received training in explosives and were plotting a series of assassinations targeting Sudanese officials tasked with dismantling institutions of the deposed regime of former president Bashir. Interestingly, the lot of Egyptian Muslim Brothers who had sought shelter in Sudan following the July 2013 coup d'état under Bashir’s rule was not particularly better. They were equally traded for favours from the Egyptian dictator
Bashir’s regime had laboured strenuously to shed off its earlier record of Islamist adventures, foremost the 1995 botched attempt on the life of deceased Egyptian autocrat Hosni Mubarak in Addis Ababa, and relocate itself in the terrain of US subservience. It happily advanced cooperation with US intelligence in the aftermath of the September 11 but the reputation of Sudan’s security cabal made open normalisation of ties an expensive political choice domestically for successive US administrations. Nevertheless cooperation did continue and the CIA was pleased with the performance of its Sudanese clients under Bashir right up to the end of his rule. 
Sudan’s new rulers are evidently keen to prove their worth in the US security architecture for the immediate purpose of slipping off the US state sponsors of terrorism list and the strategic choice of alignment with their powerful Arab Gulf patrons, Saudi Arabia and the United Arab Emirates (UAE), in the regional political order. Sudan’s Abd al-Fattah al-Burhan stated as much when arguing his case for normalisation of ties with the Israeli occupation after his surprise meeting with Benjamin Netanyahu in Uganda’s Entebbe early February. The meeting was allegedly arranged by Abu Dhabi with the involvement of Riyadh and Cairo. 
The facts of the attempt on Prime Minister Hamdok’s life remain murky. A bomb planted in a parked car exploded as his convey passed by in the Kober district of Khartoum North, and a volley of bullets was heard. Accounts vary however, some claim a projectile was fired against the convoy from a high building. The political consequences if not benefits of the attempt unfolded in quick succession. On the same day, Egypt’s security chief, Abbas Kamel, was received by Sudan’s calm and composed military rulers and held separate meetings with the head of state Abd al-Fattah al-Burhan and his deputy Mohamed Hamdan Daglo, leader of the Rapid Support Forces (RSF) militia. A few days later, Daglo flew to Egypt despite a flight ban in relation to the coronavirus pandemic, for meetings with Egyptian officials including President al-Sisi, partially to smooth out a loud disagreement regarding the Grand Ethiopian Renaissance Dam (GERD); Sudan had opted out of an Arab League resolution supporting Cairo’s position in the dispute with Addis Ababa drawing official Egyptian disdain
Domestically, the assassination attempt drew the civilians of the tenuous transitional authority closer to their military allies. A joint meeting of the cabinet, the sovereignty council and the leadership organ of the Forces of Freedom and Change (FFC), resolved to establish a new internal security organ separate from the General Intelligence Service (GIS), with the mandate of tracking, monitoring and pre-empting the actions of members of terrorist organisations or any organisation with objectives opposed to the [2019] revolution. 
The generous formulation is borrowed directly from the dictionary of repression and I assume would come to haunt the very women and men who toppled Bashir the dictator. Indeed, Sudan’s new rulers have struggled to counter or absorb the independent and multiple organisational forms of Sudan’s protest movement, foremost the ubiquitous resistance committees. The new security organ, with designs likely to be fashioned following Egyptian example, will probably serve the dual function of appropriation and repression through incorporation of willing recruits into the new security apparatus and the subjugation of others who defy the will of the state. Meanwhile Prime Minister Hamdok, it must be said, risks deterioration into the mantle of Adly Mansour, the perfect placeholder. 

Tuesday, 25 February 2020

وجهاز الدولة: هل من حل وسط؟

كنا في كلمات سابقات تلمسنا مفهوم "السلطة المزدوجة" لتقصى صراعات الفترة الانتقالية ورهاناتها. والمفهوم من اختراع لينين، وصف به التعايش العسير والمعقد بين الحكومة المؤقتة التي تولت الأمور في روسيا في أعقاب ثورة فبراير ١٩١٧ التي أطاحت بحكم القياصرة وبين السوفييتات (جمع سوفييت)، وهي المجالس أو اللجان التي نشأت وسط عمال المدن والجنود وتحولت بالممارسة إلى سلطة حية مضادة. كانت السيادة بيد حكومة كيرنسكي المؤقتة أما السيطرة على الرأي العام وتنظيم الحياة اليومية فقد فازت بها السوفييتات الديمقراطية حتى انتصار سلطتها في أكتوبر ١٩١٧.  كتب لينين في أبريل ١٩١٧ ببساطة "إن السؤال الأساس في كل ثورة هو سلطة الدولة. لا يمكن المشاركة بذكاء في أي ثورة، دع عنك قيادتها، دون فهم هذه القضية"، مضيفا "إن السمة الرئيسة لثورتنا هي أنها أفضت إلي سلطة مزدوجة. لا بد من إدراك هذه الحقيقة وإلا لن نستطيع التقدم قيد أنملة". 
نشأت في تقدير لينين "بجانب الحكومة الانتقالية.. حكومة أخري، ضعيفة، بدائية لكنهت موجودة واقعا وتنمو..". في تشخيصه لهذه الحكومة الضعيفة والبدائية قال لينين أنها "نشأت على أساس المبادرة المباشرة من الناس من أدنى وليس بقوة قانون أصدرته سلطة دولة مركزية، وهي بذلك سلطة مختلفة بالكلية.. وهذا لب القضية" فمصدر سلطة هذه الحكومة المضادة ليس قانونا ناقشه نواب برلمان وأجازوه وإنما الإرادة والمبادرة الشعبية، كل في منطقته وبوضع اليد. أضاف لينين من التجربة الثورية الفرنسية في ١٨٧١ سمات أخرى للسلطة المزدوجة، قال حلت القوى الشعبية المسلحة تسليحا ذاتيا محل الجهاز القسري للدولة، الجيش والبوليس، هذا الجهاز المنفصل والمنقطع عن الإرادة الشعبية والمناوئ لها. كما تحولت طبيعة البيروقراطية فإما استعيض عنها بالإرادة الشعبية المباشرة والتنظيم الذاتي أو تم وضعها تحت سيطرة العموم؛ وتحول موظفيها من جماعة خاصة ذات امتيازات إلى عاملين منتخبين يمكن الاستغناء عنهم متى ما أراد الناس. 
فيما تفيد العودة إلى لينين هذه الساعة إذن؟ أليس في كوارث الاتحاد السوفييتي ثم انهياره ما يكفي من الشواهد على ألا رجاء من هذه السكة الخطرة؟ أليس كل طريق سوى الطريق الرأسمالي سراب يظنه الظمآن ماء. ألم تثبت التجربة مع الحركة الإسلامية أن كل فكر سياسي يحيد عما استقر من عقائد عالم السوق الرأسمالي الذي انقضى تاريخه محض جنون أو مراهقة؟ من جهة أخرى، ألا تطرح الثورة كل ذلك على الطاولة وأكثر، ليس من موقع الكاتب المتأمل الذي يقارع فكرة شاردة، صالحة أم طالحة، لكن من واقع الممارسة الحية والتجريب الماثل. ألا تطرح مجابهة الخميس ٢٠ فبراير في مركز الخرطوم بين قوى الجهاز القسري من جهة والجمهور الثوري الذي انعقدت إرادته لدى لجان المقاومة من جهة أخرى مسألة السلطة بالمباشرة والآنية التي تفرض مقارعتها الآن وإدراك كل جوانبها والوصول إلى خلاصات سياسية حولها، استراتيجية وتكتيكية، وإلا تعذر التقدم. 
لا يمكن بطبيعة الحال انتزاع تاريخ لينين من ركام القرن العشرين وتكراره لكن يمكن الاعتبار في المغامرة السياسية التي اخترعها للثورة وقد كانت حتى ميزها تعد مستحيلا. اكتشف لينين سانحة للثورة تبدت بين رفث ودم وقال هذه هي، حل السلطة المزدوجة لصالح الجماهير بالعمل الحاسم على تحقيق "كل السلطة للسوفييتات". خالف لينين بتقديره هذا غالب الرأي في حزبه، فلم يوافقه علم من أعلامه كما أعلنت برافدا الناطقة باسم الحزب أن تقديرات لينين التي اشتهرت لاحقا باسم "مقولات أبريل" تخصه وحده ولا تمثل موقف الحزب ولا موقف جريدته. بل شكك كثيرون في صحته العقلية؛ قال الكساندر بوغدانوف أن لينين يهذي ولا بد فقد عقله وقالت زوجته ناديا كروبسكايا أصابه مس. أدرك لينين أن ظروفا وملابسات فريدة قد اجتمعت، والفرصة سانحة لفتح ثوري، لكنها متى مرت ولم يتم اغتنامها انحبست ربما لعقود قادمات. دافع لينين للمجازفة على طريقة "الرهيفة التنقد" كان الرعب من الآثار الكارثية للإمساك عن المغامرة، للصبر على الوضع القائم، للسهو في حضرة التاريخ. 
صدع المتظاهرون يوم الخميس بقضية في صميم المسألة الثورية، هل ولاء الجندي لضابط عظيم يأمره أم للإرادة الشعبية التي هي محل خدمته الحقة. جابه المتظاهرون المنطق الصوري لضباط القوات المسلحة العظام الذين صرخوا بعقيدة "الزبط والربط" بمنطق مضاد قوامه الإخلاص للشعب لا نقابة السلاح. وقع الضباط العظام في تناقض ظاهر أشار إليه المتظاهرون بأصابع ممدودة، أقالوا ضباطا مختارين بشبهة مخالفة الأوامر وأعفوا أنفسهم فما فعله الملازم محمد صديق مخالفات لقانون القوات المسلحة وما فعله كبار الضباط، البرهان وسواه، انحياز يستحقون به حسن الجزاء. فضح المتظاهرون كل ذلك بالمبادرة الحرة وقد ارتبك إعلام القوات المسلحة يبحث عن الأعذار والواقع أنه فقد السلطان على العقول والأفئدة الذي كان يحفظ له قدسية "ممنوع الاقتراب والتصوير"؛ وسيرة وانفتحت. 
ينطوي مطلب الخميس إعادة الضباط المستبعدين من الخدمة وما يتصل بذلك تباعا، إعادة هيكلة القوات المسلحة وتفكيك المليشيات وبناء جيش قومي وطني، على مسألة أولية هي "استعدال" العلاقة بين الجيش والناس. إذ لم يعد مقبولا بعد التجربة الطويلة التي انصرمت منذ الاستقلال بين انقلاب وثورة شعبية أن يستقل الجيش بسيادة تخصه وتعلو على إرادة المواطنين بل صار المطلب الذي تسرب من شعارات الخميس أن يخضع الجيش للإرادة السياسية المدنية ويتواضع أمام الشرعية الشعبية. قابل البرهان من جوبا هذا المطلب الثوري الأكيد بكلام لزج عن أهمية الوصول إلى تراض تام بين المدنيين والعسكريين للوصول إلى اتفاق سلام يعبر بالمرحلة الانتقالية إلى بر الأمان. لكن، أي أمان وأي بر يقصد البرهان؟ أهو أمان العنف الذي تشدقت بقانونيته الشرطة تريد تكبيل حرية التعبير والتظاهر التي فاز بها الناس عنوة لا منحة، أم هو أمان تعويم الجنيه وتحميل غمار الناس عجز الميزانية باختراع الصيغ لإطلاق يد السوق دون قيد أو شرط بينما يتمتع رأس المال التجاري بالدولار الجمركي والاستثناءات الجمركية ال "من لبن الرضيع مدفوعة" وتنفرد مؤسسات الجهاز القسري الاقتصادية بالحصانة. مقابل ذلك، غز الثوريون عودهم في ود عين هذه السلطات المتراكبة فبوصلة الخميس تؤشر في اتجاه ما يبدو اليوم مستحيل موضوعيا لكن جاءت الثورة بإحداثيات إمكانه. 


Grooming a dictator: al-Burhan calls on Netanyahu

An edited version of this piece appeared on Middle East Eye.
The chairman of Sudan’s sovereign council, General Abd al-Fattah al-Burhan, challenged the Sudanese political establishment on 3 February with a daring political manoeuvre that none saw coming. He travelled unannounced to Uganda’s Entebbe where he met the embattled Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu. Khartoum’s regional patrons, the United Arab Emirates (UAE), Saudi Arabia and Egypt, were reportedly informed and involved in arrangement of the meeting but the prod came directly from the mighty US. The US Secretary of State, Mike Pompeo, who had apprehensively invited General al-Burhan to talks in Washington two days earlier, commended the Sudanese army’s commander in chief for his bold step as did Netanyahu and the Israeli press. 
In Khartoum, the Minister of Foreign Affairs denied prior knowledge of Burhan’s adventure as did the cabinet and the Forces of Freedom of Change (FFC), the coalition of political parties and professionals’ associations that forms the civilian component of the transitional authority in Khartoum in alliance with the military-security establishment. Stunned and dazzled, coalition members of the FFC issued a statement denouncing Burhan’s violation of the Constitutional Document that defines the division of authorities between the cabinet and the sovereign council on the grounds that foreign affairs are the prerogative of the uninformed cabinet. A cool Burhan told the press corps that he had notified Prime Minister Hamdok two days ahead of his trip. The cabinet was effectively forced to respond and issued a statement in the early hours of 6 February denying Burhan’s claim and condemning his diplomatic advances as outside the purview of the transitional government, definitely not the business of the sovereign council, foul of a foreign policy legacy of solidarity with the Palestinian cause and at odds with the ideals of the December 2018 revolution that toppled former president Bashir. 
General al-Burhan, backed by an unapologetic declaration of support from the Sudan Armed Forces (SAF) command read out by a somewhat embarrassed and prostrate officer who seemed to avoid looking up at the camera, delivered a pragmatic explanation of the turnaround in Khartoum’s position vis-à-vis the Zionist occupation of Palestine as he would imagine it unfolding in Sudan’s favour. General al-Burhan invoked ‘national security’ and ‘national interests’ to pronounce a doctrine of ‘there is no alternative’ other than normalisation of relations with the Israeli occupation as a route to shedding off Sudan’s pariah status, gaining Washington’s favour, slipping out the US list of state sponsors of terrorism and eventually securing a write off of Sudan’s Sisyphean burden of debts from donor countries and the international monetary system. The hollow rhetoric and sloganeering of yesteryear will not give us wheat or fuel, Burhan rationalised. The same hopes were reiterated ad nauseam in the media by a chorus of supportive commentators and politicians, some from within the FFC coalition and many begrudging outsiders, who now sang the praise of the General and theorised a chauvinist notion of Sudanese nationalism along the Trumpist sunnah; something like ‘Sudan First’ to paraphrase the philosopher-king of Washington. 
Burhan is no pioneer and his Zionist adventure is reminiscent of the toying of another Sudanese military ruler with Israeli favours. Back in May 1982 president Nimayri and his security chief Omer Mohamed al-Tayeb, with the assistance of the Saudi billionaire arms dealer Adnan Khashoggi, held a clandestine meeting with Ariel Sharon, Defence Minister in Menachem Begin’s Likud government, in Kenya and agreed in principle to facilitate the transfer of thousands of Ethiopian Jews though Sudan to the promised land, an operation that eventually became Netflix material. Nimayri was compensated in cash and the promise of turning Sudan into a huge arsenal for Israeli weapons. King Fahad of Saudi Arabia, claimed Khashoggi, agreed to finance the project with 800 million US dollars and if necessary 1 billion US dollars. Nimayri gave his consent late 1984 in response to US pressure and the promise of 200 million US dollars in economic aid. Once uncovered ‘Operation Moses’, became a scandal of the first order and contributed to the denudement of Nimayri’s regime. The ‘no alternative’ doctrine that General al-Burhan now espouses dates from that era and arguably carries as today an American stamp. 
Nimayri came to power in a Nasser-style coup but soon switched sides in the Cold War under mentorship of Egypt’s Sadat to land Sudan firmly in the US camp. When Anwar Sadat made his peace with the Israeli occupation Nimayri loyally cheered along. The Sudanese military, emulating Egyptian example, became a component of the US global security regime. Sudanese officers, including prominent figures like the late John Garang and the security tsar al-Fatih Urwa were trained in US military colleges. Urwa was one of two liaison officers from the Sudanese side in Operation Moses, served as Bashir’s defence minister, ambassador to the United Nations (UN) and national security advisor and enjoys today a generous retirement scheme as CEO of the Sudan franchise of the Arab Gulf telecommunications giant Zain. Sudanese army units took part in joint drills with the US army with exciting titles such as Operation Bright Star and were happy to pounce around the military hardware they received from their US patrons. When the 1985 intifada broke out in Khartoum in 1985 in response to a harsh regime of budgetary and subsidy cuts by diktat of the International Monetary Fund (IMF), the dictator was in Washington for audience with president Raegan. To Burhan it can be assumed, these are the good old days of Sudan’s integration in the global order. 
From the Israeli perspective Sudan features prominently in its ‘Periphery Doctrine’, a security and foreign policy concept laid out by the Reuven Shiloah, the founding father of the Mossad. The ‘Periphery Doctrine’ evolved out of the Israeli confrontation with revolutionary Nasser and relies on two related rings of encirclement that from the Israeli point of view constitute a threat to Arab nationalism and share in Zionist antagonism to the pan-Arab ideology: non-Arab nations and religious and ethnic minorities within Arab countries. Initially, Khartoum was a candidate to join the first ring of non-Arab nations that included Iran, Turkey and Ethiopia and contacts between the two sides reached a peak at the August 1957 clandestine meeting between Sudanese Prime Minister Abdalla Khalil of the Umma Party and Israeli Foreign Minister Golda Meir in Paris. Abdalla Khalil was overthrown in a military coup in November 1958. Among the components of the second ring identified by Shiloah were southern Sudanese long tyrannised and brutalised by Khartoum’s rulers. Indeed, the Israeli Mossad provided southern Sudanese insurgents battling the Khartoum government with supplies, weapons and training between 1969 and 1972. Israeli arms deals continue to funnel weapons into the country today fuelling the gruelling civil war in the independent South Sudan. 
Burhan’s overtures come at opportune moment for the Netanyahu side and it is no surprise that the Israeli Prime Minister, indicted on charges of fraud, bribery and breach of trust in a series of long-running corruption cases, advertised his meeting with Burhan as a success story. Admittedly it was, Sudan had months before already allowed flights heading to Israeli airports to cross its airspace. The issue was raised last in November 2018 on behalf of Kenyan Airlines by an emissary of President Kenyatta to former president Bashir and rejected. Khartoum received similar appeals from the airlines of Chile, Seychelle and South Africa. “With Sudan we are now establishing cooperative relations,” Netanyahu said in a campaign speech on 6 February. “We will overfly Sudan.” What Sudan would effectively gain falls in the realm of speculation. The issue that bother Sudan’s rulers, primarily the removal of Sudan from the US list of state sponsors of terrorism, is “not flipping a light switch. It’s a process” the US assistant secretary for African Affairs, Tibor Nagy, stated in November 2019. If and when it does take place, the step is unlikely to prove a panacea to Sudan’s financial woes. 
In fact, the state sponsor of terrorism designation does not prohibit or criminalise foreign investment nor is it the only obstacle facing debt relief. The International Monetary Fund (IMF) and the World Bank policies on arrears would still prohibit lending to Sudan. “We cannot provide them with financing because they are still incurring arrears, and until they address this arrear issue, in our bylaws, we cannot provide them with additional lending,” the IMF’s Jihad Azour, director of the IMF’s Middle East and Central Asia department, told reporters in April 2019. Sudan’s arrears to the IMF are estimated at 1.3 billion US dollars out of a total foreign debt of around 59 billion US dollars. Later in the year, Sudan’s Minister of Finance, Ibrahim al-Badawi, said Khartoum had agreed a roadmap to rehabilitate the country with the IMF, the World Bank and the African Development Bank which does not involve paying its lenders debt arrears. What the removal of Sudan from the US list of state sponsors of terrorism does allow however is an agenda of military patronage, defence exports, intelligence and and weapons sales to Sudan. 
With Israeli and US assistance Burhan could evolve into the archetypical compliant dictator of US strategy in the region, a Sudanese Sisi of sorts. The power-sharing agreement between the civilian government of Prime Minister Hamdok and the military-paramilitary-security bloc led by Burhan formalised what is effectively a situation of dual power in Sudan. With US/Israeli wind in his sails, Burhan is actively recrafting this tenuous arrangement with pronouncements of sovereign power from the SAF command and the seductive promise of a consumer paradise on the Nile. The counter-revolution is being retweeted by Netanyahu.