وافق ٢٢ سبتمبر الجاري عيد ميلاد عبد الخالق محجوب الرابع والتسعين، وهي مناسبة لاستعادة شغل هذا الفطن الوسيم من الخبوب والطين إذا جازت العبارة. لا بالعودة إلى أصل ساكن، وكان ليستهجن مثل هذا المنهج أيما استهجان، ولكن بتحرير هذا الشغل الباسل مما لحق به من آفة التقليد والاسترجاع، وبعثه حيا وجريئا ومتناقضا ببيان التواريخ المحيطة به وتمحيصها وسعاية معناها. مرت علينا في ٢٨ يوليو الماضي الذكرى الخمسين لاغتيال عبد الخالق على يد السفاح نميري وجنده في مهرجان النار والدم الذي أعقب اندحار الانقلاب الشيوعي في يوليو ١٩٧١، الواقعة التي أبدت ذكر عبد الخالق "الفارس المعلق". فقد غادر العالم من باب البطولة العظيم وردد الناجون من خلفه "على خطى الشهيد". بذلك، استقر في خاطر كثير من معاصريه واللاحقين سيط عبد الخالق كجثة وسيمة، "عريس الحمى المجرتق بالرصاص والمحنن بالدمى". والجثة لا تنطق.
بطبيعة الحال، لم ينكشف الستار خلال هذا التأبين الطويل الممتد لخمسين عام عن عبد الخالق محجوب الحي إلا كفاحا. قامت فوق جثته قبة وزينة حجبته أو كادت. تسربلت سيرته بعناصر أسطورية، فمن يحدث عنه يذكر أناقة القميص وضمخ الكولونيا الأخاذ ودركسون العربية الفلكسواجن والعينين الثاقبتين والصلعة الكلنج. كذلك قامت حول مشاغله العظيمة حيطان وشواهد صارت بها أذكى نصوصه راتب دعاء أو تمائم للبركة. يعيد قراء وكتاب شتى نصوصه في مناسبات المؤتمرات الحزبية كرجع صدى لذكرى قتل الأب، وآخرون يأخذون بعبارة أو أخرى ذات جرس ورنة من قبيل "الوعي ما استطعت"، وكانت يا عرب.
نزلت ماركسية عبد الخالق الخلاقة في غربال ثيولوجي ضيق أشد الضيق بعبارة الدكتور عبد الله علي إبراهيم، قاومها وطعن في بيناتها بدعوى الأصل الفاسد. من جهة أخرى، اصطدمت هذه الماركسية الخلاقة بالقريحة النصوصية لأولاد المدارس من فصائل المذاكرة المسائية الإجبارية فصارت بينهم مادة للمطارحة أو قوالات، نصي ونصك. وكم حذر عبد الخالق نفسه كما حذر فلاديمير إليتش لينين من قبله من هذه البهدلة للماركسية في قعر حلة البرجوازي الصغير.
بإزاء كل ذلك، صارت استعادة عبد الخالق ضرورة ملحة، فهو من جَمَّر الماركسية في بيئة السودان حتى انقدح شرارها في صدور قوم مؤمنين. انكبوا على حوضها كما عبد الخالق نفسه بدفع من نوازع راديكالية وهم يبحثون عن شرح للاستعمار الذي أحاط بحيواتهم وسكة للتحرر لا تمر عبر بوابات جنينة السيد ودائرة الإمام بل عبر ميادين العمل المأجور وحقائق الاستغلال والتراكم التي تشكل مسرح حياتهم اليومية. شرح عبد الخالق جوانب من هذه البيئة الراديكالية في منشوراته ومن ضمنها دفاعه أمام المحكمة العسكرية في قضية الشيوعية الكبرى في مارس ١٩٥٩ (1).
لكن، كما كتب عبد الخالق في مرحلة لاحقة: "صحيح أن الحزب الشيوعي كان يضع في دستوره القصير عند تأسيسه وفق برنامجه في ما بعد، الماركسية اللينينية شرطا للانضمام لصفوفه، ولكن هذا لا يعني أن الحزب الشيوعي من الناحية الأيديولوجية تنظيم شيوعي حقا ولا يعني أن أعضاءه شيوعيون من الناحية الفكرية كأمر مسلم به. إنه إعلان بقبول الماركسية ، والإعلان شيء وتحول الأعضاء الراضين عن البرنامج السياسي للحزب الشيوعي ولائحته إلى ماركسيين لينينيين وشيوعيين حقا شيء آخر" (2).
توصل عبد الخالق إلى هذا المعني في خضم صراعه المميت آخر الأمر مع البرجوازية الصغيرة، صراعه داخل حزبه، وقد قعد لها كل مقعد واستبسل في سبيل تمييز سكة ديمقراطية جماهيرية لصالح غمار الناس تحت قيادة الطبقة العاملة في مقابل مسالك الثورة من عل. استعرض عبد الخالق جوانب من هذا التصور في ندوة جامعة الخرطوم عام ١٩٧٠، وهو صاحب القانون الثوري: "إن تطور الثورة الديمقراطية يعتمد في الأساس على درجة تنظيم الجماهير ومستوى وعيها ومقدرتها الفعلية في النضال والوحدة والالتفاف حول مطالبها الأصيلة العريقة الأساسية التي تستهدف التغيير الاجتماعي الديمقراطي" (3). سطر عبد الخالق هذا القانون في ساعة فتنة والسلطة ثمارها دانية وعافها بغير أهل، فمن لي بمثله.
لم يبكت عبد الخالق على أصحاب القمصان المكوية مجانا بل زكى لهم طريقا للتحرر حتى من قيود طبقتهم الاجتماعية. عرض عليهم "الانتحار الطبقي" (4) إذا جاز الأخذ بمفهوم أميركال كابرال في هذا المعنى، وقد كان. خرج من معطف عبد الخالق الراديكالي نساء ورجال من صفوة الجيل الشيوعي أصبحوا بعبارته "شيوعيون قبلوا أيديولوجية طبقة أخرى (الطبقة العاملة) ويناضلون ضد مفاهيم منشأهم وضد آيديولوجيتهم"، مضيفا "والوعي الشيوعي عامة وبين صفوف الطبقة العاملة جاء من مثقفي البرجوازية الصغيرة وسيظل دائما التمازج بين المثقفين الشيوعيين وحركة الطبقة العاملة عماد الحركة الشيوعية في بلادنا" (5).
انشغل عبد الخالق في هذا السبيل بمصاعب التربية الشيوعية، التربية في معمعان النضال، بهدف أن تنتقل الماركسية من الكراس للراس وينطق بها اللسان دمثة، مرنة، سهلة وخلاقة، ماركسية دارجة (6). نشأت عن هذا الشاغل وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" (7) التي كتبها في صيف العام ١٩٦٣. والوثيقة عرض نقدي لسوسيولوجيا العمل الشيوعي أراد بها صاحبها توطين الماركسية في بيئة محلية برفق وتؤدة، ناقش فيها مثالب الشيوعي الفرد والشيوعيين الشلة.
جابه عبد الخالق "غربة" الماركسية برد كسبها إلى البيئة الراديكالية التي استقبلتها بشغف وكتب: "الماركسية ليست نبتا شيطانيا أو نظرية كهنوتية ليس لها علاقة بمعارف الشعب والجماهير، بل هي امتداد ثوري لمعرفة الشعب مبنية على معارفه الثورية وكل ما هو خير ومنير من هذه المعرفة. عندما يحس الثوريون وهم يلجون أبواب الحزب أن تجاربهم الثورية جزء من الماركسية المطبقة على ظروف بلادنا لا ينعزلون في مسلكهم العملي عن الجماهير، بل يعملون دائما للتعلم من الجماهير وتعليمها ما اكتسبوا من معرفة ماركسية، وهذا هو طريقنا لإغناء النظرية الماركسية بتجارب شعبنا الثورية وبمعارفه السليمة التي اكتنزها عبر التاريخ"، فهل من مذكر؟
(1) عبد الخالق محجوب ٢٠٠١. دفاع أمام المحاكم العسكرية. دار عزة للنشر، الخرطوم.
(2) عبد الخالق محجوب ١٩٧٠. التقرير المقدم للمؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي السوداني. أغسطس ١٩٧٠؛ ضمن الحزب الشيوعي السوداني ١٩٧١. استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية: المنجزات الفكرية والسياسية للمؤتمر الرابع للحزب والصراع ضد التيار الانتهازي اليميني (أكتوبر ١٩٦٧ – أكتوبر ١٩٧٠). الخرطوم، ص ١٦١.
(3) عبد الخالق محجوب ١٩٦٩. خطاب دوري رقم ١ من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني لأعضاء الحزب، ٢٥ مايو ١٩٦٩؛ ضمن المصدر السابق، ص ١٤٩.
(4) Cabral, Amilcar 1966. The Weapon of Theory, Address delivered to the first Tricontinental Conference of the Peoples of Asia, Africa and Latin America held in Havana in January, 1966; in Cabral, Amilcar 2012. Unity and Struggle: Selected Speeches and Writings. Unisa Press, Pretoria, p. 166.
(5) عبد الخالق محجوب ١٩٧٠. تقرير المؤتمر التداولي. مصدر سابق، ص ١٦٣.
(6) Abu Sharaf, Rogaia Mustafa 2009. Marx in the Vernacular: Abdel Khaliq Mahgoub and the Riddles of Localising Leftist Politics in Sudanese Philosophies of Liberation. South Atlantic Quarterly 108: 483-500.
(7) عبد الخالق محجوب ١٩٦٣. إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني - سبتمبر ١٩٦٣. الخرطوم.
No comments:
Post a Comment