Friday, 29 March 2024

وعيون الشيخ أغمضن على حلم به كون كبير

تمر اليوم ٢٩ مارس الذكرى الثالثة لوفاة المرحوم التجاني، مخزن العلوم وجبانة الأدب. تعلق المرحوم التجاني بأدباء الروسية العظام، وكان من المفضلين عنده ليو تولستوي (١٨٢٨-١٩١٠)، المحسن للعربية والشغوف بآدابها. وكان يحب تولستوي كأديب وكإنسان ويلهج بأفضال تولستوي حتى في ساعات الليل تلك بعد انفضاض بيت البكا. وكم سهرنا على كراسي حديد في رحمة ليل دافنة نذاكر خلافا حول تحول تولستوي إلى الإسلام. أحب المرحوم التجاني لبطله ليو تولستوي أن يموت على الدين الحق. ولما لا؟ نافح تولستوي في كتابه «حِكَم النبي محمد» عن المعصوم ضد تزوير الخصوم معتمدا على مجموعة من الأحاديث النبوية وآيات القرآن، نقلها إلى الروسية، وطرف من السيرة النبوية. واتصل بالشيخ محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) وكانت بينهما مراسلات في العقيدة حفظ التاريخ منها قليل، وذلك ضمن شواهد ظرفية أخرى يتداولها أصحاب الرأي بأن تولستوي، الذي لفظته الكنيسة الأرثوذكسية، مات مسلما.  

وانتقل سؤال المرحوم التجاني عن تولستوي والإسلام إلى سيرة شاعرة عظيمة أخرى، كانت عنده في مقام آنا آخماتوفا وأرفع: اميلي ديكنسون (١٨٣٠-١٨٨٦)، الشاعرة الأميركية التي فات على معاصريها شهود موهبتها وذاع صيتها عند اللاحقين حتى استقر موقعها كقطب من أقطاب الأدب. كتبت ديكنسون شعرا غزيرا يضج بالرموز حتى الغنوصية، ولم تشهد نشره سوى النذر اليسير في صحف محلية وبأسماء مستعارة، نحو عشر قصائد من حوالي الألفين. ظهرت عبقرية المرحوم التجاني في تعريبه الفطن لهذه المعاني الحيية المتوارية من امرأة فضلت الحياة في خلوة محتجبة منذ عمر الثلاثين تقريبا، ولدت ديكنسون في أمهرست، ماساشوستس، وماتت فيها، وخلفت سوى شعرها اللدني حوالي الألف خطاب إلى أصدقاء ومعارف، كانت حصيلة اتصالها بالعالم الخارجي.  

مدار شعر ديكنسون حياتها الروحية وسعيها تهيئة كأسها لاستقبال المعنى، وقد أدركت من هذا المورد ما أدركت على سكة السالكين، من ذلك قصيدتها "ذقت سلافا لما يُقَطّر بعد": 

 

ذقت سلافا لما يُقَطّر بعد

صُبَّ من كَوزٍ في كأس زجاج

لن تَدُرُّ كل أعناب فرانكفورت

خمراً كهذا

 

فهل أثملني العليل

وأغواني الندى؟

أميح خلال أيام الصيف التي لا تنقضي 

من حانات باب السماء

 

أشرب، استزيد

حتى بعد أن أغلق نادل الزهر بابه  

صد النحل الثمل 

وانصرف الفراش عن قليل الرحيق

 

أشرب حتى تُلوّح الملائك بقبعاتها البيض

ويخف أهل الله إلى النوافذ

يشهدون السِكّيرة الصغيرة

اتكأت على الشمس!

 

التفسير التقليدي لقصيدة ديكنسون ينتهي عند الانغماس في الطبيعة، فديكنسون بحسب هذه الطائفة من مفسريها تصف توحدها والطبيعة في يوم صيفي. والطبيعة في هذا التصوير حان تَعُبُّ منه الشاعرة. خالف المرحوم التجاني هذا التفسير، واعتبره تسطيح لشعر موضوعه الحب الإلهي، وشاغل ديكنسون الرئيس عند المرحوم التجاني خمر المعاني وفتوحات تلقتها في خلوتها الطويلة. والصعوبة ربما أن النص، والكلمة لرولاند بارث (١٩١٥-١٩٨٠) في مقاله المشهور "موت المؤلف" (١٩٦٧)، يكتسب استقلالا عن مؤلفه والأسلم تحريره من القيود التفسيرية للسيرة الذاتية، والمؤلف عند بارث كاتب مهمته تسطير النص وكل قراءة جديدة للنص هي بعث له، وما الأصل سوى ما يسكن النص وينطبع في ذهن القارئة. وهام المرحوم التجاني بهذه النصوص التي أشرقت في نفسه بمعانٍ لم تخطر ببال أكثر المفسرين الغربيين.  

من جهة أخرى، تجد قارئة رسائل ديكنسون لأصدقائها صورة لامرأة حادة الذهن واسعة الحيلة الأدبية، شديدة الولاء لعقلها وشديدة الشجاعة في أصالتها. سبقت ديكنسون زمانها الشعري، وجَرّبت تجريبا فاتحا في تراكيبها، كما أنها وسعت الماعون المتاح للمرأة غير المتزوجة في بيئة شديدة المحافظة والتقليدية في القرن التاسع عشر قبل ذيوع الحداثة والنسوية في القرن العشرين.

"الساحل أقرب للسلامة، عزيزتي أبيا، لكني أحب صد البحر كم من حطام مر هنا في هذه المياه البهية، أحب سماع همهمة الرياح، وآه، كم أحب الخطر!" وكانت ديكنسون مثالا يحتذى لسلفها من الشاعرات، جمعت الغرابة والاستقلال والتمرد. عاشت في مجتمع توقع من النساء أن يلتزمن بواجبات الصون والزينة، أمهات وزوجات، لا أن يبدعن أو ينتجن، وحاصرهن في هذا السبيل بحبال حرير من القوالة والقطيعة. وديكنسون غير، فهي وإن لم توافقها ثقافة عصرها استغلت الموارد المتاحة لها في الأسرة والدار وشبكة الأصدقاء لتخترق هذه الحواجز وتفجر حدود الدور المتوقع لها بنبوغها الشعري حتى صارت علما من أهم أعلام الأدب الأميركي. 

رحم الله شيخ تجاني، أحي عليه. 

No comments:

Post a Comment