Thursday, 23 May 2024

جورنال من البلد: عَمّ البلدْ أنفاسُه

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣١ بتاريخ ٢٣ مايو ٢٠٢٤.

ربما سبقت أمْ مرّحي الواقعة على ضفة النيل الغربية حوالي ٤٠ كيلومتر شمال أم درمان البقعة نفسها في النشأة، وقد سبقتها على كل حال كعاصمة روحية ففيها مسيد الشيخ أحمد الطيب البشير ود مالك ود محمد سرور (١٧٤٢-١٨٢٣)، مؤسس الطريقة السمانية في السودان، ومرقده الأخير. وهي بهذا القياس عاصمة لقطب من أقطاب الزمان. وُلد الشيخ الطيب في أم مرحي نفسها وتلقى العلوم في مسجد جده محمد سرور. كان محمد سرور من خاصة الشيخ حسن ود حسونة ويعتبر وريثه الروحي، وإليه يعود الجامع القائم في أم مرحي، وجاء تعريفه في طبقات ود ضيف الله كما يلي: "محمد بن سرور بن الحاج غناوة سلك الطريق على الشيخ حسن ولد حسونة وأرشده وجاءه بنفسه خطى له مسجده ولازم المسجد المذكور للعبادة وتلاوة القرآن صايم النهار وقايم الليل وكانت عنده دنيا عريضة لا توجد إلا عند الملوك والسلاطين ونسل أولادا كثيرة كلهم صالحون طيبون مباركون ودفن في مسجده بأم مرحي وقبره ظاهر يزار."

أسرة الشيخ أحمد الطيب واحدة من أربع أسر سودانية تشابهت سيرها في السلوك عند مؤرخ الإسلام في السودان ترمنجهام، والثلاث الأخريات آل غلام الله والميرغنية وآل إسماعيل الولي. ومن أحفاده محمد شريف نور الدائم (١٨٤١-١٩٠٧)، أستاذ الإمام محمد أحمد المهدي.  أخذ الشيخ أحمد الطيب البشير الطريقة السمّانية من مؤسسها في الحجاز محمد عبد الكريم السمّان (١٧١٩-١٧٧٥) خلال سبع سنوات قضاها في الحرمين الشريفين بعد تنقل بين مدارس السودان النيلي، حيث تلقى العلوم في جامع الفقيه ود أنس العوضابي في الجزيرة اسلانج القريبة، وسلك على يد الشيخ عبد الباقي (الشيخ النيّل)، ودرس في مسجد الفقيه أحمد الفزاري الفرضي في أم طلحة. ثم لزم الدروس في مسيد جده فقرأ على يد علماء أم مرحي العشماوية والعزية وشروحها وحواشيها ورسالة أبي يزيد القيرواني وشروحها وأقرب المسالك وشرحه ومختصر خليل، ولازم الفقيه سعيد ود بدري في الفجيجة مدة، ثم قصد الحج وهو في السادسة عشر من عمره حيث اتصل بالشيخ محمد عبد الكريم السمّان وسلك على يديه.

عاد الشيخ أحمد الطيب من رحلته تلك عابرا سواكن إلى أم مرحي واستطلع الظروف للتبشير بالطريقة الجديدة. ثم شد الرحال مرة أخرى إلى المدينة المنورة عابرا مصر، الزيارة التي أرخ لها مادحه الشيخ المكاوي في "يا ليلة ليلك جنّ"، درة من درر مديح السودان النيلي. زار الشيخ في سفره الشيخ حمد ود المجذوب في الدامر، وساح في الصعيد فزار قنا وسوهاج وقريب منها إخميم وأسيوط وهوار وأقام فترة في القاهرة وزار الجامع الأزهر والتقى بعض علمائه. وعاد من رحلته في ١٧٦٩ ليستقر في مسيده، فهو منذئذ "راجل أم مرحي":

جا من طيبة ومنارة وفي إخميم دخل بإشارة

ذكر القلل بعبارة وعشرة آلاف سكارى

والعلماء اندهشوا حيارى

أتوجه مصر المعلومة وجاتو الثقاة بعلوما

الأربعين عزومه أجزا وفّى لزوما

في مصر سوا بيانو واتوجه لسودانو

جوهو الخلوق بلدانه رووا من دنانه وزانوا

في أم مرحي دق ساسه عم البلد أنفاسه

قصد أهل أم درمان الحربية أم مرحي طلبا لشبكة الاتصالات أوان انقطاعها، واجتمع الخلوق أعلى الجبل (ارتفاع ٤٠٠ متر تقريبا) القريب من مدفن الشيخ أحمد الطيب هاتفهم يقول "لقطت.. لقطت"، فالشبكة وصل الأحبة وشريان بنكك. وفي باطن الجبل مغارات كانت مواضع خلوة شيوخ أم مرحي وجلوتهم، التقطوا فيها الفيوض خلال ٤٠٠ عام مضت أو يزيد، هي تاريخ أم مرحي ومسيدها، فما دولة ٥٦؟ على خلاف فيوض المشايخ لم تُمكّن الشبكة وقتها طالب الوصل أكثر من قول: خالك بكري لقيناه مكتول في بيت أب روف؟ ما سمعتك كويس، الصوت بقطع. قلت ليك: بكري خالك، ضربوه الدعامة، لقيناه في بيت أب روف ميت. منو؟ علي ماله؟ بكري قلت ليك بكري، الله يرحمه. مات! لا حولا، متين؟ ماله؟ ياخي قلت ليك ضربوه، ضربوه طلقة. المهم، ما تنسى دوا ستنا، دوا ستنا!

نهضت أم مرحي بمسيدها لمهمة الستر، ففيها على مسافة من أم درمان الحربية منافع للمساكين وأهل السبيل، يقصدون كسرتها غير المقطوعة أو ممنوعة، لا يلزمها تسجيل ببطاقة أو تصوير بآلة، فالمسيد مذ نشأ مفتوح على الشارع في كناية حديثة. تشهد زائرة المسيد هذا الخير بعلاماته، الإبل والضأن وشوالات العيش والبصل، يأتي بهذا الخير تقاة وأصحاب مسائل، ويصب من هذه الموارد في قيزان عظيمة فواحة هي وسيلة الأهل لتصويب عوج التوزيع حيث مال كل الإمالة وسد الفرقة. والكسرة عند مثل الشيخ أحمد الطيب هي مادة الدين، ومن ذلك قول العبيد ود بدر، سيد بقعة أم ضبان: "أدي القرش وفرّش البرش واملا الكرش شوف كان ما الناس عليك تندرش." تستفيد زائرة المسيد وظائف أخرى لهذه المؤسسة، فهي مدرسة لتعليم الزراعة ومعسكر لإعادة إنتاج قوى العمل الزراعي؛ يتخرج فيها الحوار تربالا قويما، يتأدب بخوة الكسرة ويتدرج في الإنتاج كوسيلة لإدراك نصيب من الفائض الاجتماعي.

شهد على هذه الوظيفة الإنتاجية كذلك المرحوم الطيب محمد الطيب، أستاذ علوم السودان، في مؤلفه «المسيد» (طبعة دار عزة، الخرطوم، ٢٠٠٥ [١٩٩٠])، وكتب في هذا الخصوص: "ولم يكن النشاط في هذه المرحلة يقتصر على الدراسة بل إن الطلاب كانوا يساهمون في زراعة الأراضي للمجاذيب وهبات الخلاوي من الأراضي التي يدفعها الملوك والأغنياء. وكان الطالب يملك حق العمل في الأراضي الأخرى أو الاحتطاب أو توفير بعض المال رغم مجانية الإعاشة والسكن في خلاوي المجاذيب" (ص ٢١٣). وشيخ المسيد خبير ومرشد "في المسائل الزراعية والرعوية وينبغي للشيخ أن يلم بمعرفة المواسم الزراعية دخولها وخروجها كما يعرف الأنواء وتقلباتها والأمور والمسائل التي لا يعرفها يوجههم لمن هو أدرى بها فيقصدونه لمشورته" (ص ١١٩).

لكن الشبكة حتى من أعلى جبل أم مرحي لا تغني، وإن صفت ووصلت، عن زمالة الدافنة الرؤوم، خاصة وقد أنشب الموت الحربي أنيابا طويلة في الجسوم ونصالا أمضى في سترة الاجتماع، الجيرة والرحم والزمالة. مس الأهل قرح من فداحة هذا الموت المتسارع، لكن ضاقت نفوسهم أكثر بفوت الطقوس وما تبثه من طمأنينة. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول، لكن بما يستحق من الإكرام. فالإنسان متى استأنس ليس وحشا في برية يزقل زقلا وقتما انقطعت أنفاسه، وصلاحه في عطن الثقافة وبلها، يرنو إلى الرموز والطقوس وبها يتعلق، يسعى روح عالم لا روح فيه بعبارة المرحوم كارل ماركس.

اختار المرحوم بكري منذ أمد طويل برا بوالدته سكنة في مقابل الدار الأم في أب روف، يراوح كل يوم بين الدار الأم وداره وعياله ويخاوي الأرزاق والمصائر. همبت جنود دقلو داره ودار أمه وهددوه بالقتل إن لم يغادر ويخلي "الموقع" في عبارتهم، فالموقع يصلح للتدوين. وكيف يبارح دارا لا يعرف سواها وكيف ينقل أما في التسعين ويزيد. بعث بكري أسرته الصغيرة إلى مأمن وظل مرابطا حيث هو حتى هجم عليه جند دقلو في ظهيرة ساطعة، قيدوه وساقوه أعزلا ورموه بالرصاص وزقلوا جثته في بطن خور. لم نقف على المرحوم بكري نلقنه الشهادة في ساعته الأخيرة، ولم نطرح جسده بيننا للغسل نكشف كل شامة وخدش وننفذ إلى عورته، ولم نضمخه بطيب البرود، ولم نلفه في كفن أبيض من الأكفان التي كان يجمعها لمثل هذه الساعة برا بالجيرة، ولم نحمله على عنقريب عليه مصلاية قطيفة نتبادل الحمل بيننا ونتنافس، ولم نقف عليه نصلي جماعة، ولم نحفر له قبرا في أحمد شرفي جوار قبر أبيه كما أوصى نتبادل المعاول بيننا ونعرق، ولم نتجارط عند قبره إن كان رأسه نزل عديل أو مال، ولم نهل عليه التراب نستره حتى يغيب بياض الكفن ونكوم من فوقه التراب، ولم نقرأ على قبره الصلوات ونكر يس مرة وأخرى، ولم نبرد عليه بالماء من فوق ذلك، ولم نغرس سعفة نخل في قبره علامة حتى نهيئ له شاهدا يحمل اسمه، ولم نتلقّ الفاتحة من الأهل والأحباب وننخج، ولم نفرش عليه كما يستحق وكما كان يحب، وهو رائدنا في بيوت البكا، ولم نذبح ذبيحا نطعم الناس أو نشرب الشاي في المغارب نذكر محاسنه ونلعن الحكومة، ولم نرفع الفراش بكلمة عن فضله وحسن سيرته بيننا، فمن الذي مات؟


Friday, 17 May 2024

جورنال من البلد: تلاتة تفاحات بي ألف

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٠ بتاريخ ١٦ مايو ٢٠٢٤.

نشأت عطبرة أول أمرها عن المغامرة الاستعمارية في السودان، ضُرّتها عبر النهر المدينة القديمة في الدامر، مركز علوم السودان النيلي تحت جناح السادة المجاذيب. يسرت هذه النشأة من عدم لعطبرة جدة في العمارة والثقافة كانت سكن وموطن عمال السكة حديد، أفراد الطبقة الاجتماعية الجديدة الشاردين من ركام الإنتاج الزراعي بعمل الرقيق في السودان النيلي، نمط الإنتاج العبودي في خريطة المرحوم كارل ماركس الشهيرة. نسج أهل أتبرا بجهدهم المشترك العروة الوثقى لرابطة العمل المأجور، شيلني وأشيلك، وكافحوا كفاحا طويلا عسيرا لتعزيزها برا بجسد العامل، مصدر فائض القيمة، فخرجت من هذا الكفاح أوسع مواعين الوطنية السودانية: الطبقة العاملة الواعية بنفسها، وأكثر مؤسساتها جماهيرية: النقابة.  

تحولت عطبرة عبر قوس تاريخي من عاصمة للخُوّة العمالية العابرة للأقوام والأديان إلى متحف لها ثم بطفرة في قاعدة الاقتصاد إلى مركز لخدمات الذهب، تجهيزات التنقيب وآلياته ومواده، تشغيل عمال التنقيب وتشوينهم، اتصالات سماسرة بيع المعدن النفيس ومؤامراتهم. وتصيب الزائرة بعض آيات هذا التحول في جغرافية المدينة ومعمارها، من ذلك كما في بورتسودان الجمود الآركيولوجي لمحطة القطار القديمة، تحنطت ذاتيا بأنفة، كأنها مومياء تشهد على جحود اللاحقين بحنق أبدي، ذلك في مقابل الملجة الزاحفة في كل الاتجاهات لاقتصاد الذهب واجتماعه. لا يلقي التاريخ بالا للحنق، فهو ميدان الصراع، وزعلان السوق مين يرضيه؟  

عضدت الحرب هذا التحول العطبرواي من عاصمة للخوة العمالية، خوة تنبئ عنها أطلال عطبرة القرن العشرين، إلى ثغر متقدم من ثغور جبهة الذهب. استعادت عطبرة الجديدة بلولب التاريخ الماكر موقعها كعاصمة للنقل وسوق عظيم لكن بإزاحة السوق القديم الذي حلت محله بصورة أو أخرى الملجة المحيطة بالميناء البري. "الموز أبو نقطة الكيلو بألف، العنب العلبة مليانة شديد بألفين، تلاته تفاحات بألف، البتيخة الكبيرة بألف. خلي بالك، حصل حصل!"

تَعُبُّ البرندات المحيطة بهذه الملجة الكبيرة بقوة العمل المنتجة للذهب، ومعظمهم في حيز هجين بين الحرفي الذي يملك بعض وسائل الإنتاج، كاشفة ذهب أو أدوات حفر، يشارك بها صاحب البئر، والأجير الذي لا يملك سوى قوة العمل يبيعها خام لصاحب المال. وأمل الواحد منهم أن يجمع بجهد السنين ما يكفيه للتحرر من العمل المأجور وشراكة من موقع أدنى لينتقل من الإنتاج المباشر إلى خدماته: النقل وإيجار العدة والسمسرة والتهريب وغير ذلك. ووعي العامل من موقعه في حلقات الإنتاج وعلاقاته، ولذا، ربما كان عسر التنظيم الفئوي للمنقبين عن الذهب من هذه الهُجنة، إذ لم ينشأ رأس مال كاسر يستأثر وحده بوسائل إنتاج متفوقة تقنيا ليطيح بملكوت الحرفي الصغير ويغرف حقل أرباحه.

يشد الأهل الرحال من هذا الميناء إلى جغرافية الحياة الجديدة، وأول ذلك خط البصات السفرية عطبرة أسوان بتذكرة سعرها ١٠٠ إلى ١٥٠ ألف جنيه، وعطبرة بورتسودان بتذكرة سعرها ٢٠ ٢٥ ألف جنيه، وعطبرة سنار وعطبرة القضارف، وعطبرة شندي، وعطبرة صابرين. وتذكرة مقعد «الشريحة» بين عطبرة وصابرين بسعر ١٠ ألف جنيه. صارت بقعة أم درمان بهذا التحول هامش حربي تَسمى بالصبر وفقدت اسمها حتى، فمركزها اليوم صابرين، والصبر مفتاح الفرج.

تختبر المسافرة الطريق المكتظ بالشاحنات وحافلات النقل والعربات الملاكي بين عطبرة وصابرين، الطريق الذي يتحول من شرق النيل إلى غربه في مقطع المتمة شندي، كسلسلة من نقاط التفتيش، بوليسية وعسكرية وضرائبية. فهذا هو شريان حياة أم درمان الحربية يعرض فيه جهاز الدولة المنهك بالحرب ما فيه من باس في قبض الضريبة وضبط السكان. يحرس نقاط التفتيش كوكتيل من القوات، شرطة وشرطة مرور وجيش وأمن وعاملين على الزكاة في النقاط الكبيرة، وجيش ومقاومة شعبية في النقاط الأصغر عند كل حلة وقرية. والتفتيش كما تختبره المسافرة متعدد الأغراض، بعضه كشف عن المنشأ بالسحنة واللكنة، وأعظم الشك في الفئات العمرية في سن القتال. وبعضه بحث عن عدة قتال مدسوسة. وبعضه تمييز للبضاعة، أمشروعة أم مسروقة، مدفوعة الضريبة أم كيري، وهذا أكثر ما يشغل نقاط التفتيش حيث تنتظر الشاحنات عند النقاط الكبيرة دورها في تمحيص الفواتير والكشف على البضاعة. وبعضه حماس شباب القرى لتأمين محيطهم.

تغشى المسافرة هذا الطريق بين نقطتين تشدها نقطة الوصول، فهو عندها طريق للشوق القَلِق. لكنه لغيرها من شاغليه موطن وسكن ومعاش. انقضى للتو الموسم الشتوي، وحصد الأهل فولهم وبصلهم وثومهم. تعبر الشاحنات حاملة الكونتينرات القياسية المستطيلة، معظمها مصرية الترخيص، هذا الطريق محملة بالبصل في أكياس شبكية من خيط البلاستيك الأحمر مخصصة لعيار الصادر متجهة شمالا. وتعبره اللواري السفنجة محملة كذلك بالبصل في شوالات خيش للسوق المحلي، جنوبا نحو أم درمان وشمالا نحو عطبرة ومنها إلى سواها. وبعض البصل ما زال في المزارع، في أكوام عظيمة يغطيها القش، آمنة من السرقة المسلحة بفضل الحراسة المشددة على طول الطريق. يشد النظر في موقع وآخر مشهد المفاوضات الثلاثية بين تربال وسمسار وتاجر في ظل اللوري، كأنهم أبطال مسرحية من فصل واحد يتكرر منذ شنكل السوق قدم فاطنة السمحة في شركه.

هذه المفاوضات مسابقة في عض الأصابع. البصل المكوم في الحقول مهدد بالفساد ما لم يلفاه تخزين ملائم. ولا يستطيع التربال الخارج لتوه من نَهضّي الموسم توفير المال اللازم لترحيل محصوله مباشرة إلى سوق كبير. والتاجر صاحب رأس المأل مهدد بتدهور قيمة ماله السائل في عباب التضخم ما لم يتنقل في جسد السلع، بل تضاعف هذا التهديد بالفوضى الحربية المحيطة به، فلن يستطيع، ومسالك التجارة ميدان للنهب والسلب، التحول السريع من بصل بير الباشا إلى سمسم أم روابة أو أمباز الرهد أو صمغ جنوب كردفان حسبما يمطر الربح. أما السمسار، فمصدر خراجه المعلومات، هو العالم بقلق المزارع وظروف تعثره، مرته الوالده حديثا، أخيه الذي ينازعه في الأرض، البوكسي المعطل في حوش داره والديون التي تثقل كاهله، وهو العالم كذلك بحسابات التاجر، مخازنه التي طالتها الشفشفة، البنك الذي ينتظر رد مال مقروض، التاجر الأكبر في سلسلة الذي ينتظر وصول البضاعة في الميناء، وهو صاحب الصلات في نقاط التفتيش وبين عاملي الزكاة وجماعة جمارك الميناء، ويرفع فوق هذا وذاك سيف بيع الكسر!

يجمع السمسار المعلومات من البيئة المحيطة ومن صاحبيه مباشرة فهو ملك الراكوبة والسندة، محترف الونسة الذي لا يهمل شاردة أو واردة، بما في ذلك المرة الثانية المدسوسة في الحلة التحت أو الخسارة الأخيرة التي وسوس بها الجماعة في سوق القضارف، أصبح الموبايل بيده أذنا طويلة وكرة بلورية، سبحان الله. تجد الباحثة وصف هذه الشخصية المبكر عند الرحالة بروس الذي زار شندي في بداية القرن التاسع عشر وكتب أن بعض تجاره راكموا مالا كثيرا لكن ترددوا في الانخراط في تجارة الجملة نظرا لمخاطرها. أما السماسرة الذين عج بهم السوق فكان شغلهم التوسط في المعاملات الكبيرة لكن تعذر عليهم لنقص رأس المال شراء كميات كبيرة من السلع لبيعها لاحقا فتوسلوا الصلات مع التجار وتخصصوا في معلومات القوافل الصادرة من السوق والواردة إليه، مالها وبضاعتها وأمنها وضريبتها المستحقة للمك. وسعر البيعة حصيلة العرض والطلب، نعم، لكن بلوغاريثمات هذه المعلومات: ثلاث تفاحات ألف جنية، حصل حصل!

Thursday, 16 May 2024

جورنال من البلد: كونوا مع الله يكن معكم

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٩ بتاريخ ٩ مايو ٢٠٢٤.

تكتب مواقع حجز الطيران بورتسودان بكل سهو، مكان كسواه، حل محل الخرطوم كمهبط للطيران الدولي في بلاد يمة ويابا، ومن هؤلاء في حساب صناعة مالها مليارات متلتلة؟ وموظف المطار كذلك لا يدري ولا يأبه بطبيعة الحال أن المسافرة اليوم إلى بورتسودان من أي موقع كان تجرب في الغالب طريقا جديدا لم تألفه نحو ديار غير الديار، وهي، على خلاف الموظف، لا يسعها الاطمئنان البيروقراطي إلى سلامة العادة، فهي في سفر على غير العادة، لا تعرف ما ينتظرها إلا ظنا.

تلتقي المسافرة في مطار القاهرة، محطة العبور الجوي الرئيسة إلى بورتسودان وغيرها من مدن العالم، أفواجا من الأهل في أحوال شتى، أوسعهم ألما كبارنا، خاصة المسافرة منهم الله ورقبتها، وقد صاروا حمولات للنقل في عربات المطارات الصغيرة وموضوعا لشفقة العاملين بها. "انتظري هنا شوية يا ماما وحتاجي العربية تسوقك،" وماما شقية بالارتباك بين العصا والشنطة والجواز والبوردنغ باس ورطانات ووثائق أخرى لتصنيف الناس وتعريفهم. تستقبل ماما هذه الشقاوة بالصبر الذي يردها إلى حبات المسبحة، ورثتها ربما من أمها هي الأخرى أو جاءت بها بنت بارة من مدينة الرسول وترد بما تعرف لمن لم يعتاد مثل عبارتها "عديلة، الله يباركك،" ففغر فاه وزاد الارتباك بينهما.

يقع على عاتق البالغة القادرة ضمن أدنى واجبات الاجتماع تنشئة الأطفال ورعاية الكبار، والمزاوجة بين الإثنين في البيت الوسيع يحقق الغرضين في حرز الثقافة الأسرية، المجال الحيوي لإعادة الإنتاج الاجتماعي. وانفراط هذه المزاوجة سقم في الهجرة التي فرضها بيع قوة العمل وبعزقة للمدخرات المالية والمكنونات الثقافية أعيت الناس. رشح بعض هذا الإعياء نكته وسخرية من جنس "الشهادة العربية" التي لا تحسن النحو المحلي للاجتماع ولا تفرز الخيوط الفاصلة بين السوق الشعبي والسوق العربي والسوق الأفرنجي. وكان بعض رد الناس على هذا الانفراط البيت المشيد في الخرطوم ينشأ بجهد جيل أول ويعود إليه جيل ثاني دوريا بيدهم جيل ثالث، عل هذه اللقاءات الموسمية تحفظ عهود الاجتماع. وهذه البيوت في بعض وظيفتها تأمين على الحياة، تتحول بها مدخرات العمل المأجور إلى مصدر مأمون للريع.

لكن تكذب بورتسودان قلق المسافرة التي أفزعها فقدان بيت الخرطوم المشيد، فما ينتظرها في بورتسودان هو السودان القديم، دولة ٥٦ بشحمها ولحمها، لكن تجدد بإرادة غير منطوقة لإعادة الاعتبار لما هو عادي ويومي في حمى الميري. تستقبل صالة صغيرة المسافرين ويتبادل الناس الإيماء والإيحاء طلب الطمأنينة. وكذلك يفعل رجال البوليس الذين يحرسون مدخل البلاد الأول عبر الطيران بجانب حرصهم الزائد على تمحيص سلامة الجوازات فدبلوا للكمبيوترات بقوائم مكتوبة يدويا. أشد الازدحام حيث المنافع التي صار لا غنى عنها لإدارة اليوميات، بنكك وزين وسوداني، وسوى ذلك كأنما تجددت الخرطوم في غير جغرافية الخرطوم. نشأ قصر جمهوري جديد من مبنى بيت الضيافة مقرا للحكم تحرسه المدافع ومضادات الطيران وغرست الإدارات الحكومية لها أوتادا جديدة بلافتاتها المعلومة وبغير لافتة ظاهرة كمقر المالية الجديد "عمارة جبريل".

المال عصب، وبورتسودان صارت مركز سلطان ومال تحت ظروف حربية. تنبئ عن ذلك أسعار إيجارات غرفها "الهوليوودية"، فالغرفة المفروشة في شقة قد يبلغ إيجارها ما يساوي حوالي أربعين دولارا أخدر وإن انقطعت عنها الكهرباء لساعات في اليوم تطول وتقصر، هذا بجانب مصاعب المياه المزمنة. وتظهر سطوة السوق هذه للمسافرة في مواضع غير متوقعة، تسرح فرق من فتيان الرشايدة بموبايلات آيفون ١٤ و١٥ جديدة لنج في أغلفتها البلاستيكية حيث تقف البصات السفرية عند هيا إلى جانبهم صبيان الهدندوة يبيعون النبق والدوم، تام ومقشر. والمسألة بين الإثنين أن فتيان الرشايدة بعض من شبكة تتصل بالسعودية وأسواق الخليج وشبكة صبيان الهدندوة لا تعبر الحدود، والشبكة شوكة.

للمسافرة عند هيا أن تختار لقضاء الحاجة بين ستر شجرة مجاني والاستجمار ومراحيض بتذكرة ٣٠٠ ج يحتكر الواقف عليها الأباريق وبرميل ماء، فالآيفون مهم لكن الحاجة أهم. كان برنامج الحزب الشيوعي يحتج على التنمية غير المتوازنة وآيتها المحلية في موقف هيا الصلات ما بين الآيفون والجمار والإبريق. تعرض هيا على المسافرة، خلاف هذه الآية الموحية، عقدة أخرى للاقتصاد السياسي، حربا وسلما. تعبر هيا القندرانات محملة بالقطن القادم من النيل الأزرق متجهة نحو الميناء في بورتسودان والقندرانات محملة بشوالات اليوريا متجهة من بورتسودان إلى الداخل وبين الإثنين فائض القيمة الذي عليه يتنافس المتنافسون حتى صار شواظ من نار ودم مسيل.

لم يبلغ إمام أحد مساجد حي الثورة في بورتسودان يوم الجمعة هذا المعنى لتشظي الحياة بحراب الاقتصاد، لكن ضره ما علق بنفوس الناس من جراء هذه الحراب. لام الإمام الخطيب المصلين الذين أموا مسجده حتى فاض بهم على نقص التقوى وقال جاءتهم الطامة بما كسبت أيديهم، ولم تثنيهم حتى الطامة عما هم فيه من فساد فحالهم ما قبل الطامة هو حالهم ما بعدها، لم ينتهوا ولم يتوبوا. لم يعين الإمام أوجه الفساد التي تأذى منها ولم يستدرك على حكمه أي استثناء، وصرخ فيهم أن كونوا مع الله يكن معكم. وبين أهل الحي تقاة يسعون مأكل ومشرب النازحين الذين اجتمعوا في خيام عشرة في حوش المدرسة الابتدائية، تقاسموا الحوش والتلميذات العائدات إلى الفصول منذ جمعة أو جمعتين. لكن، ربما ضاق الإمام بطرب المغنيات في حفلات الأعراس في ليل المدينة أو بلهو اللاهين في الكورنيش، وربما أيضا بفتنة الاستثناءات الجمركية ورخص الصادر.