Thursday, 16 May 2024

جورنال من البلد: كونوا مع الله يكن معكم

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٩ بتاريخ ٩ مايو ٢٠٢٤.

تكتب مواقع حجز الطيران بورتسودان بكل سهو، مكان كسواه، حل محل الخرطوم كمهبط للطيران الدولي في بلاد يمة ويابا، ومن هؤلاء في حساب صناعة مالها مليارات متلتلة؟ وموظف المطار كذلك لا يدري ولا يأبه بطبيعة الحال أن المسافرة اليوم إلى بورتسودان من أي موقع كان تجرب في الغالب طريقا جديدا لم تألفه نحو ديار غير الديار، وهي، على خلاف الموظف، لا يسعها الاطمئنان البيروقراطي إلى سلامة العادة، فهي في سفر على غير العادة، لا تعرف ما ينتظرها إلا ظنا.

تلتقي المسافرة في مطار القاهرة، محطة العبور الجوي الرئيسة إلى بورتسودان وغيرها من مدن العالم، أفواجا من الأهل في أحوال شتى، أوسعهم ألما كبارنا، خاصة المسافرة منهم الله ورقبتها، وقد صاروا حمولات للنقل في عربات المطارات الصغيرة وموضوعا لشفقة العاملين بها. "انتظري هنا شوية يا ماما وحتاجي العربية تسوقك،" وماما شقية بالارتباك بين العصا والشنطة والجواز والبوردنغ باس ورطانات ووثائق أخرى لتصنيف الناس وتعريفهم. تستقبل ماما هذه الشقاوة بالصبر الذي يردها إلى حبات المسبحة، ورثتها ربما من أمها هي الأخرى أو جاءت بها بنت بارة من مدينة الرسول وترد بما تعرف لمن لم يعتاد مثل عبارتها "عديلة، الله يباركك،" ففغر فاه وزاد الارتباك بينهما.

يقع على عاتق البالغة القادرة ضمن أدنى واجبات الاجتماع تنشئة الأطفال ورعاية الكبار، والمزاوجة بين الإثنين في البيت الوسيع يحقق الغرضين في حرز الثقافة الأسرية، المجال الحيوي لإعادة الإنتاج الاجتماعي. وانفراط هذه المزاوجة سقم في الهجرة التي فرضها بيع قوة العمل وبعزقة للمدخرات المالية والمكنونات الثقافية أعيت الناس. رشح بعض هذا الإعياء نكته وسخرية من جنس "الشهادة العربية" التي لا تحسن النحو المحلي للاجتماع ولا تفرز الخيوط الفاصلة بين السوق الشعبي والسوق العربي والسوق الأفرنجي. وكان بعض رد الناس على هذا الانفراط البيت المشيد في الخرطوم ينشأ بجهد جيل أول ويعود إليه جيل ثاني دوريا بيدهم جيل ثالث، عل هذه اللقاءات الموسمية تحفظ عهود الاجتماع. وهذه البيوت في بعض وظيفتها تأمين على الحياة، تتحول بها مدخرات العمل المأجور إلى مصدر مأمون للريع.

لكن تكذب بورتسودان قلق المسافرة التي أفزعها فقدان بيت الخرطوم المشيد، فما ينتظرها في بورتسودان هو السودان القديم، دولة ٥٦ بشحمها ولحمها، لكن تجدد بإرادة غير منطوقة لإعادة الاعتبار لما هو عادي ويومي في حمى الميري. تستقبل صالة صغيرة المسافرين ويتبادل الناس الإيماء والإيحاء طلب الطمأنينة. وكذلك يفعل رجال البوليس الذين يحرسون مدخل البلاد الأول عبر الطيران بجانب حرصهم الزائد على تمحيص سلامة الجوازات فدبلوا للكمبيوترات بقوائم مكتوبة يدويا. أشد الازدحام حيث المنافع التي صار لا غنى عنها لإدارة اليوميات، بنكك وزين وسوداني، وسوى ذلك كأنما تجددت الخرطوم في غير جغرافية الخرطوم. نشأ قصر جمهوري جديد من مبنى بيت الضيافة مقرا للحكم تحرسه المدافع ومضادات الطيران وغرست الإدارات الحكومية لها أوتادا جديدة بلافتاتها المعلومة وبغير لافتة ظاهرة كمقر المالية الجديد "عمارة جبريل".

المال عصب، وبورتسودان صارت مركز سلطان ومال تحت ظروف حربية. تنبئ عن ذلك أسعار إيجارات غرفها "الهوليوودية"، فالغرفة المفروشة في شقة قد يبلغ إيجارها ما يساوي حوالي أربعين دولارا أخدر وإن انقطعت عنها الكهرباء لساعات في اليوم تطول وتقصر، هذا بجانب مصاعب المياه المزمنة. وتظهر سطوة السوق هذه للمسافرة في مواضع غير متوقعة، تسرح فرق من فتيان الرشايدة بموبايلات آيفون ١٤ و١٥ جديدة لنج في أغلفتها البلاستيكية حيث تقف البصات السفرية عند هيا إلى جانبهم صبيان الهدندوة يبيعون النبق والدوم، تام ومقشر. والمسألة بين الإثنين أن فتيان الرشايدة بعض من شبكة تتصل بالسعودية وأسواق الخليج وشبكة صبيان الهدندوة لا تعبر الحدود، والشبكة شوكة.

للمسافرة عند هيا أن تختار لقضاء الحاجة بين ستر شجرة مجاني والاستجمار ومراحيض بتذكرة ٣٠٠ ج يحتكر الواقف عليها الأباريق وبرميل ماء، فالآيفون مهم لكن الحاجة أهم. كان برنامج الحزب الشيوعي يحتج على التنمية غير المتوازنة وآيتها المحلية في موقف هيا الصلات ما بين الآيفون والجمار والإبريق. تعرض هيا على المسافرة، خلاف هذه الآية الموحية، عقدة أخرى للاقتصاد السياسي، حربا وسلما. تعبر هيا القندرانات محملة بالقطن القادم من النيل الأزرق متجهة نحو الميناء في بورتسودان والقندرانات محملة بشوالات اليوريا متجهة من بورتسودان إلى الداخل وبين الإثنين فائض القيمة الذي عليه يتنافس المتنافسون حتى صار شواظ من نار ودم مسيل.

لم يبلغ إمام أحد مساجد حي الثورة في بورتسودان يوم الجمعة هذا المعنى لتشظي الحياة بحراب الاقتصاد، لكن ضره ما علق بنفوس الناس من جراء هذه الحراب. لام الإمام الخطيب المصلين الذين أموا مسجده حتى فاض بهم على نقص التقوى وقال جاءتهم الطامة بما كسبت أيديهم، ولم تثنيهم حتى الطامة عما هم فيه من فساد فحالهم ما قبل الطامة هو حالهم ما بعدها، لم ينتهوا ولم يتوبوا. لم يعين الإمام أوجه الفساد التي تأذى منها ولم يستدرك على حكمه أي استثناء، وصرخ فيهم أن كونوا مع الله يكن معكم. وبين أهل الحي تقاة يسعون مأكل ومشرب النازحين الذين اجتمعوا في خيام عشرة في حوش المدرسة الابتدائية، تقاسموا الحوش والتلميذات العائدات إلى الفصول منذ جمعة أو جمعتين. لكن، ربما ضاق الإمام بطرب المغنيات في حفلات الأعراس في ليل المدينة أو بلهو اللاهين في الكورنيش، وربما أيضا بفتنة الاستثناءات الجمركية ورخص الصادر.

No comments:

Post a Comment