Saturday, 15 June 2024

جورنال من البلد: المدينة في عين المدفعجي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٤ بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٢٤.

صن تزو (٢٠١٨ [القرن الخامس قبل الميلاد]) «فن الحرب»، فنغربرنت للنشر.  

ستيفن غراهام (٢٠١١) «مدن تحت الحصار: العمران العسكري الجديد»، فرسو للنشر. 

جمع الجنرال الصيني صن تزو حكمة حروب «الدويلات»، ويؤرخ لها بالفترة ٤٧٥ إلى ٢٢١ قبل الميلاد، ما قبل قيام الإمبراطورية الصينية الأولى، في مؤلف صغير الحجم عظيم الأثر عنوانه «فن الحرب». تجددت حياة هذا المؤلف في الأكاديميا العسكرية الغربية مع كل مواجهة امبراطورية، خلال الحرب الأميركية على فيتنام والحروب الأميركية على العراق وأفغانستان. والكتاب في الواقع أقدم وثيقة بشرية في مسألته، وتحرير بليغ للاستراتيجية والتكتيك، اتخذه الثوار الصينيون بقيادة ماو تسي تونغ انجيلا لهم في حربهم ضد الغزو الياباني وضد خصومهم الكومنتانغ، ويعرفه الضباط في منهج تعليمهم وتدريبهم. 

تقرأ عند صن تزو: "أعلى درجات القيادة هي إحباط خطط العدو، والأقل درجة منع التحام قوى العدو، ودون ذلك الهجوم على قوى العدو في الميدان، وأسوأ الخطط على الإطلاق حصار المدن المسورة". ويواصل: "القاعدة إذن هي عدم محاصرة المدن المسورة إذا تيسر تفادي ذلك. [...] سيدفع القائد الذي لم يعد يستطع السيطرة على توتره بجنوده مهاجمين كنمل غاص، والنتيجة مقتل ثلث الجنود بينما تظل المدينة عصية." لكن، كيف تخضع مدينة إذن؟ صارت هذه القضية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عقدة في العسكرية الغربية، نشأ حولها علم بحاله تحت عنوان «العمران العسكري الجديد»، مداره الدروس الحربية من محاولات إخضاع مدن عامرة في بلاد المستضعفين، بغداد وكابول وغزة وغيرها، ومحاولات حماية حواضر أوروبا الغربية وأميركا من هجمات منظمات قتالية غاضبة وانتحاريين أفراد.   

بعض شغل هذا العلم، جواب على سؤال: كيف تبدو المدينة لمدفعجي؟ ولا مناص، فقد تحول واحد من كل عشرة من أهل العالم إلى سكنى المدينة وتحولت كذلك الحروب من مواجهات بين تشكيلات عسكرية في «النقعة» إلى حروب كثيفة في بيئة العمران الحضري، وتضعضع كذلك التمييز التقليدي بين الحروب داخل الدول والحروب بين الدول. أما العقيدة الأهم في «العمران العسكري الجديد» فهي ألا فرق يعتد به بين مدني وعسكري، بل ما في حاجة اسمها مدنيين، فكل مدني هو إما مقاتل مخاتل، أو محتمل، أو مشروع مقاتل، أو متعاون، على كل حال هدف عسكري مشروع.

فاقمت عدة عوامل من هذا التوتر الحربي للمدينة، على إطلاقها، ومن ذلك في بيئة الكرب الافريقية: تسارع التحول الحضري، ودونك انفجار مدن مثل نيالا والخرطوم بالسكان، نازحين وغلابة ومغامرين كسيبة؛ تباعد الخليج الفاصل بين غني وفقير، توسع مسارح الصراع الدولي على الموارد، الانقلاب الكبير في الاقتصاد السياسي للدولة في ربع القرن الأخير والصدمات المتتالية لتحلل الدولة من كل دور اجتماعي، موية شراب ومدرسة وشفخانة. وملخصه أن الدولة فقدت كسوار للاجتماع عبر حزام يشق العالم، من أفغانستان حتى مالي، احتكارها للعنف وسيطرتها على الجغرافية. وكما أطبق التسليع على كل أوجه الحياة أطبق كذلك على المقاتل، فهو بضاعة في السوق، لا يهم من البائع ومن المشتري، يقاتل في مليشيا حضرية أو ريفية أو جيش خاص لصاحبه فلان أو حركة مسلحة إقليمية أو شركة أمنية أو كما تيسر، موسمي أو فُلْ تايم!  

والمدينة بهذا التصور، بغداد أو كابول أو مقديشو أو غروزني أو غزة أو الخرطوم أو الفاشر، ليست فقط موقعاً وجغرافيةً للحرب بل هي وسيلة الحرب ذاتها، وسيلة مرنة دائبة الحركة والتغير ويمكن تكييفها ظرفيا، وأول ذلك تفجير التمييز بين مدني وعسكري فيها، فكل حي مقاتل وكل موقع ميدان قتالي. وبذات القياس لا معنى للتمييز الصارم بين المحلي والإقليمي والكوني، فشبكات المال والسلاح لا تعترف بالخريطة ولا تلقي بالا للحدود القطرية.

لفلاسفة الحرب الجديدة «رطانة» خاصة، تقابل في تعقيدها وتجريدها «رطانة» فلاسفة الرأسمالية المتأخرة، من صف ما بعد البنيوية على سنة دولوز وغواتاري، وتستلف منهم عبارات ومفاهيم. فالحديث عن حروب غيرية، هجينة، غير متوازية، ريزومية أو جذمورية، أو حروب الجيل الرابع. والمدينة وفق هذا التصور كتلة ثلاثية الأبعاد تتمنع على الرصد والمتابعة بطبقات فوق طبقات من الحواجز المحسوسة، جغرافية بناءها وفضاءها، وحواجز بشرية، أهلها، وحواجز اجتماعية وثقافية، العلاقات بين أهلها وشفرتهم الثقافية. وجمع كل ذلك «الفضاء القتالي» الذي تدور فيه معركة لا تبدأ لتنتهي، هي الحرب التي هي السلام بعبارة جورج أورويل في «١٩٨٤»، حرب تدور في الشوارع والخيران والعمارات السوامق والرواكيب والقطاطي ودور العبادة، حرب شاملة كبسط الأمن الشامل، ولا تتمايز فيها التكنولوجيا السلمية أو المدنية من الحربية أو العسكرية، وأولها تكنولوجيا الاتصالات الرقمية وتطبيقاتها الشبكية في الرصد والمتابعة والتصوير والبث الحي، صوت وصورة. 

لذلك، العدسة في هذه الحرب سلاح كاسر، فهي حرب على الهواء مباشرة، تنقل وتبث للمستهلك كأداء مشهدي على شاشة يقبضها في يده، وجاذبيتها أنها وبرغم وربما بعلة دمارها الفتاك والقريب حتى الغبار على شعر الجلد، تقدم للمستهلك ما يتعطش له، هدف ومعنى للحياة ومغزى. والمشهد الحربي كما تنقله الصورة المصنعة أم فلاتر، وهي عمل فني، أوقع من الحرب نفسها، صورة فاقت الأصل وفضت الحجاب الرقيق بين الواقع والخيال، حجاب «الحرية».

المدينة في عين المدفعجي إذن خريطة يعيد تركيبها أو يطيح بمعالمها بالكلية، يفض ختمها بمدفعه ويفجر فضاءها القتالي ثم يفتح الطريق لاكتساحها الحربي بالسلاح وشبه الحربي بإعادة الإعمار على نمط جديد يحرث أرباحا طازجة بالمضاربات العقارية. ولا بد لتبرير هذا العنف الكاسح من عدو حضري أو طبقي أو عرقي جوهري الشر خارج التاريخ، لا يفارقه شره وإن قام وسطه حزب شيوعي، عدو يسكن عالما للأموات، دمه وماله وعرضه حلال بلال. ويدخل في هذا الباب إعادة رسم خريطة مدن بحالها بالقوة العسكرية كاكتساح الآلة الحربية الأميركية للفلوجة ومواقع أخرى للمقاومة العراقية وهدم الآلة الحربية الإسرائيلية للمعمار الفلسطيني فوق الأرض وتحتها بحرب ضروس أو بأوامر للإدارة العسكرية أو المدنية للمدن، ولا فرق، «إبادة المدينة» في أدب «العمران العسكري الجديد». ولكن: شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور!


Sunday, 9 June 2024

جورنال من البلد: الفَشَّ غبينته خرب مدينته

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٣ بتاريخ ٦ يونيو ٢٠٢٤.

عمار المدينة في السودان النيلي من عمار السوق، بالدرجة الأولى التجارة مع العالم، وكانت أعظمها شأنا في "عصر البطولة" بعبارة الدكتور سبولدنغ سنار التي تعود نشأتها إلى العام ١٥٠٥، وقامت قبلها بنحو ثلاثين عام أربجي. أصبحت سنار عاصمة ومقرا للسلطنة بعدها بحوالي قرن، لكن تمايزتا كسوق، فسنار كانت مركزا للتجارة الملكية بيد السلطان وأربجي كانت مركزا للتجارة الخارجية بيد التجار أنفسهم. هدم جنود محمد الأمين، حاكم العبدلاب، أربجي في ١٧٨٤ وانتهت دورة حياة سنار عاصمة السلطنة بغزو إسماعيل باشا في ١٨٢١. 

والخرطوم كذلك، كان عمارها بعد اختيارها حصنا عسكريا ثم عاصمة سياسية وتجارية لدولة التركية في السودان دالة لسوقها الذي كان في أول عهده، بحسب اللورد بريدهو في ١٨٢٩، يتكون من "عشرين سقيفة تباع فيها القهوة والقمح والسكر الأسود بأسعار مرتفعة. وتباع فيها كذلك قليل من النظارات وقلادات العنق والأساور وهي كل ما تستخدمه النساء من زينة هنا، وكانت كل الكماليات تأتي من القاهرة، وأثناء رحلتها الطويلة إلى الخرطوم يرتفع سعرها مرتين أو ثلاث. وقد تجد بعض البضائع المستوردة من الهند مثل الزنجبيل المحفوظ والسكر نبات." سرعان ما فاقت الخرطوم ثروة سابقاتها، واكتسبت بحسب زائرها أ. تي. هولرويد في ١٨٣٧ "بسرعة فائقة أهمية على حساب شندي وسنار، وهي الآن مكان تتم فيه الكثير من التبادلات التجارية، بحكم موقعها الملائم كملتقى للقوافل التي تحمل المسترقين المجلوبين من الحبشة وسنار وكردفان."

تحولت الخرطوم بذلك من قرية مقر للشيخ أرباب العقائد الذي انتقل إليها من توتي في حوالي العام ١٦٩١ إلى حاضرة أممية تأخذ بألباب الزائرين، ومنهم في ١٨٥٢ الأديب الأميركي بيارد تايلور الذي خطفت قلبه: "تمتد فيها مبان على النهر لمسافة تفوق الميل. وفيها رأيت بيوتا جميلة تحيط بها حدائق من أشجار النخيل والسدر والبرتقال والتمر هندي. ولقصر الباشا (الحاكم العام) منظر وحضور يفيض بالمهابة والجلال رغم أن جدرانه لم تكن مشيدة سوى بالطوب غير المحروق. [...] كان بإمكاني أن أتأمل وأنا بالخرطوم في برية من أشجار النخيل والبرتقال والرمان والتين ونباتات الزينة المزهرة كالدفلي (ورد الحمير) والكروم المتدلية." وأضاف هي "المدينة الأكثر تميزا وأكاد أقول إنها ربما كانت المثال الوحيد للتقدم المادي في إفريقيا في هذا القرن، فهي لم تكن شيئا مذكورا قبل نحو ثلاثين عاما، ولم تكن فيها بيوتا سكنية، فيما عدا بعض الأكواخ البائسة، أو قطاطي القش التي كان يقطنها بعض الفلاحين الإثيوبيين. أما الآن فهي مدينة يربو عدد سكانها على ثلاثين أو أربعين ألفا، وتزداد المدينة يوما بعد يوم مساحة وأهمية، وغدت سوقا تجارية جاذبة لكثير من وسط إفريقيا الواسعة."

لكن، لحضارة الخرطوم التي انشرق بها تايلور الأديب معادل ديالكتيكي في شقاء أهلها وعذاب رقيقها، سلعتها الأولى: "ونصف سكان المدينة من المسترقين الذين جلبوا من الجبال فوق فازوغلي أو من أرض الدينكا على النيل الأبيض. غير أن اشمئزاز وتقزز المرء من منظر وعادات تلك الأعراق المرذولة المسترقة يكاد يفوق شفقته ورثائه عليهم. وقد وجدت أن السير في المفازات المؤدية لسنار أقل إيلاما للروح والجسد من شق الأزقة في أمكنة سكنهم القذرة. وعلى الرغم من طبيعة سكان الخرطوم، فالسلطات تحافظ على نظافة المدينة ومنظرها العام. سيكون يوما سعيدا لروما وفلورنسا عندما تغدو طرقاتها خالية من الأوساخ بأكثر مما هو حادث في هذه المدينة الإفريقية." وفرت هذه المدينة الباذخة لزوارها كل شيء، وكتب جيمس غرانت الذي زارها في ١٨٦٣ أنه وجد فيها كل ما تطيب له النفس بما في ذلك السيجار الفاخر والنبيذ الجيد والجعة ذات الرغوة.

ورغم ذلك، لم تشبع هذه الفاتنة شهوة الخواجة لحياة غير، قتلته حرا ومللا، فاشتكى جيمس هاملتون: "يمثل موسم الأمطار الذي يمتد طوال عشرة أسابيع إلى إثني عشر أسبوع، مايو حتى يوليو، امتحانا عسيرا للأوروبي وتكوينه، فالجو عبارة عن حمام بخار، ولا مناص من تجرع المشروبات الروحية للحفاظ على الصحة. ليس ثمة بلد تبدو فيها الكحول ملائمة لكل المواسم مثل السودان. أقر بذنب أني عببت من العرقي الممزوج بالماء خلال حر الشهور التي قضيتها في السودان أكثر من الذي شربت في كل حياتي السابقة. شربت أحيانا باينت (حوالي نصف لتر) كامل في اليوم، وذلك دون أن أشعر بأدنى أعراض السكر. [...] وتراني أجد في ملل الإقامة الطويلة في مكان كهذا العذر لضحايا هذه الظروف المساكين، من يقبلون على تجاوز الحدود الضيقة بين الاعتدال في الشرب وإدمانه، هذه العادة المميتة. يتطلب التوقف عند الحدود المطلوبة شدة على النفس وسلطانا، خاصة عندما يهوي الثقل بالميزان، وتخرع الأعصاب، وتتعطل حتى الوظائف اللاإرادية للبدن ولا تستعيد عجلتها سوى بالمحفزات. لم أر من يمسك بالكلية عن الكحول في هذا المكان سوى الحاكم وأعضاء البعثة الكاثوليكية، وفي كل حال ظهر للعيان أن امتناعهم عن الشراب كان له تداعيات أسوأ عليهم من الإدمان." 

أما بقعة أم درمان فبذرتها التقوى وقوسها الركاب، بدأت حياتها نحو العام ١٦٤٦عندما انتقل إليها الشيخ حمد ود أم مريوم مع مريديه من جزيرة توتي وأنشأ فيها خلوة لكن اندثرت هذه بالحزازة مع شيخ منافس وظلت بعدها محطة تجارية ضمت مرسى الموردة وسوق صغير ومواقع لصناعة الطوب. ثم غابت عن الرادار حتى حل الإمام المهدي ديم أبو سعد في أكتوبر ١٨٨٤ لدعم حصار الخرطوم حتى النصر في ٢٦ يناير ١٨٨٥ فصارت له عاصمة للوعد، خارج التاريخ، وقد اشمأز أن يسكن عاصمة الترك الخرطوم، ثم مات عن أم درمان في ٢٢ يونيو ١٨٨٥. تحولت البقعة الروحية على يد خليفة المهدي وزعيم الدولة المهدية الخليفة عبد الله التعايشي إلى عاصمة في الزمان والمكان بمنشور صدر في ٢٧ يونيو عام ١٨٨٥ أمر فيه بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى بقعة المهدي. بلغ عدد سكان أم درمان في ذروتها المهدية ربع مليون نسمة، مدينة انشغل رجالها بالحرب ونساؤها بصناعة الحياة. 

وقعت أم درمان الكبرى تحت ثلاث وحدات مالية، عمالات في قاموس المهدية، عمالة الشرق وتمتد من العيلفون إلى حجر العسل وعمالة الغرب وتمتد من خور شمبات إلى حجر العسل وأم درمان العاصمة وتقع تحت إمرة الخليفة شخصيا. أما التنظيم الإداري فكان من مسؤولية قادة الجيش، رؤساء المية والمقدمين، عليهم تصريف شؤون الفرقان تحت إمرتهم وأول ذلك حصر المجندين للقتال وتنظيم الحبوب والمرتبات. نشأ السوق الكبير في أم درمان في هذه البطانة العسكرية السياسية في موقعه الحالي شمال غرب الجامع وفي صلة مع الصي إلى الغرب منه. تولى رجال الدولة مهمة بناء وتنظيم السوق ومن ذلك توزيع المساطب والمحلات وجمع أصحاب البضائع المتشابهة في هذه الجهة أو تلك زيادة للمنافسة وتيسيرا للمستهلكين وأهم من كل ذلك لتعضيد سلطان مسؤولي بيت المال على التجار وزيادة دخل الدولة من إيجار المحلات. كذلك عين الخليفة شرطة للسوق ومحكمة خاصة وفرعا لبيت المال بها يسمى «ضبطية السوق» شغله جمع الضريبة من أصحاب المحلات وجمع الغرامات التي تفرضها الشرطة على مخالفي النظام العام من سكارى ومدخنين ومقامرين. 

تولى مهام تنظيم السوق مباشرة وهبي حسين عداي، مفتش شرطة المهدية في أم درمان، وكان في العهد البائد قائدا لجيش غير نظامي مساند لجيش التركية. وكان له قوة مكونة من ٢٥ شخص يطوفون بالسوق لتفقد اللحوم والخضروات ومراقبة الأسعار والأوزان والمقاييس ومنع التهريب (خاصة الرقيق والجمال)، وجمع القمامة وتنفيذ أحكام المهدية في الفصل بين الجنسين ومنع الدعارة والتدخين والتمباك وشرب الكحول والقمار والتبول والتبرز في الأماكن العامة وفاحش القول والبذاءة. توسعت محكمة السوق خلال سنوات المهدية الدولة حتى صار عدد قضاتها خمسة قضاة جل شغلهم الفصل في منازعات الديون.

كما هو متوقع تمنعت المدينة على النظام، ولم ينقطع بيع الخمر قط، اتصل في حي فنقور وحي باقرما لجمهور غزير فيه أمراء في الدولة. وصارت الجبة المرقعة، التي بدأت أول أمرها علامة للزهد، موضة عند مترفي المهدية، متسقة الألوان منسقة من فاخر القماش، تحمل الأحرف الأولى لاسم صاحبها. وسرعان ما عادت النساء إلى السوق بواقع الحال، لا يمنعهن مانع. كانت أكثر مشاريع الخليفة عبد الله حماسة وطموحا في هندسة المدينة الاجتماعية هو سعيه تطويق العلاقة بين «أولاد البلد» و«أولاد العرب» بالزواج المتبادل وتذويب اليهود والمسيحيين السابقين (المسالمة) في محيطهم كذلك بالزواج. تصور الخليفة عبد الله بهذا المعنى المهدية الدولة نحوا حضريا من عناصره مواطن تقي مهذب سمته الهجنة وسوق مرتب نظيف ومحكمة منصفة، وكانت أم درمان إنشاءً بهذا النحو وما تزال بدرجة أو أخرى، تركت فيها المهدية سوقا عامرا متحضرا: "أكبر سوف للبيع بالجملة والتجزئة، وهي موردة البضائع (الوحيدة) للأقاليم. [...] دنقلا ودار الشايقية تمد أم درمان بالتمر، وترسل بربر لها الملح والحصائر وصناعات السعف اليدوية، بينما يصل لأم درمان من كردفان الصمغ العربي والسمسم والدخن، ومن الجزيرة الذرة والدمور والقطن. وتصدر كركوج لأم درمان السمسم وكمية قليلة من الذهب." "وإذا الموءودة سئلت.. بأي ذنب قتلت"!


استفدت في كتابة هذه الكلمة من كتاب روبرت كرامر "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية ١٨٨٥ ١٨٩٨" (ماركوس فينر للنشر، ٢٠١٠) الذي صدر بتعريب الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي (دار المصورات، ٢٠١٩) وكتاب جيمس هاملتون "سيناء، الحجاز والسودان: رحلات في أرض ميلاد النبي  وعبر الصحراء الأثيوبية، من سواكن إلى الخرطوم" (ريتشارد بنتلي للنشر، ١٨٥٧) وكتاب المرحوم الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تاريخ مدينة الخرطوم" (دار الجيل، ١٩٧٩).

Saturday, 1 June 2024

جورنال من البلد: الدعّامة بدوّنوا لكن بتجلّي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٢ بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠٢٤.

البيئة الصوتية لأم درمان الحربية قسمة بين دوي القذائف ومجروس الحياة اليوماتي. فلحن نباه الفجر والآذان من هذا الجامع وذاك خلفية لضرب المدفعية. ويميز الناس أصوات الضرب بفهم، فهنالك صادر ووارد. الصادر ما ينطلق من مدافع كرري نحو مواقع الدعم السريع وعلامته صوتان، صوت انفصال القذيفة وصوت ارتطام الفارغ، الأول عظيم محيط ترتج معه المباني بُمْ، والثاني إشارة لحنية تِرِمْ! أما الوارد فالقذيفة القادمة من مواقع الدعم السريع، وهذه يسبقها أزيز يعلو ويحتد مع اقترابها حتى تسقط وتنفجر، يتلو صوت انفجارها صمت عازل لبرهة قصيرة، هو انشقاق القدر ربما، ثم تتوالى بحسب موقعها وضررها أصوات العذاب. يستمر هذا التنويع بين صادر ووارد لفترة أو ينقطع ليتجدد ولا يمكن التنبؤ بمواقيته سوى تلك الموجة الصباحية. لكن لا تهدم القذائف المعمار الصوتي لليوم، فمتى ما انسدل الستار عن شمسها الحراقة ارتفع بناء أصوات الحياة حتى قام: عصفور في ركشة في كلب في عربية في دفار في كواريك الشفع في سك سك في زنق في ثلاثة ألف كتيرة في النور الجيلاني فيفيااااااان في كيلو الموز بألف في أذان في سارينة البوليس في دلوكة سيرة في ضحكاتهن، انضمت إليها رشقات رصاص كانت في عهد السلم تُسكت ما حولها لكن تضعضعت سطوتها بإزاء المدفع الرزام. 

لا تفك هذه الأصوات شفرة الطفلة بضفيرتين في عمر المدرسة التي تقف عند الفرن في الضحى تنتظر رغيف الصدقة. لم توافقها نفسها بعد على التبذل أمام المحسنين، وقد تهتك غيرها كل التهتك أمام المانحين، فلا تنطق ببنت شفة، تبحلق في محيطها كأنها تحاول أن تحكم السيطرة عليه. فالرغيفة التي ثار تلاميذ عطبرة على المخلوع يوم راوغ بمضاعفة سعرها من جنيه إلى جنيهين اليوم بمئة جنيه، ألف جنيه لتسع رغيفات والكيس بمية. والربحية في أم درمان الحربية خراج للمسافة والحواجز على حركة السلع، أمر حكومي أو تفتيش أو حاجز ترابي حتى، الطماطم في صابرين ثلاثة ألف للكيلو وفي المهداوي أربعة ألف للكيلو والبنزين في شندي ٩ ألف للجالون علني في الطرمبة وفي أم درمان الحربية ١٧ ألف للجالون سري في الواتس. منعت السلطات بيع البنزين للملكية في أم درمان الحربية خوفا من تسربه إلى الدعامة، فنشأ سوق باطني للبنزين، يقوم صاحب العربية الملاكي من صابرين إلى شندي بركاب، يفول التنك في شندي، يعود بركاب ونصف تنك ربما، ويطرح ما فاز به من بنزين للمشترين في قروب الحلة والشباب "قدر ظروفك" من التنك بخرطوش، شَفِطْ وتفتفه.

تخفف أم درمان الحربية عن نفسها بالعبادة، فتدوين الدعامة وإن جلّى هدفه في هدم الحياة بالكلية يصيب كل يوم ديارا وحافلات نقل وأسواق، ويختطف نفوسا لا يعرف عددها أحد على وجه الدقة، جثث للكبار والصغار تسترها القبور لكن لا تحيط بها الأرقام فهي لا تصلح مادة لتبذل المتبذلين. هؤلاء هم "الضحايا" الخطأ، فُلول شيعة "الأبولدا"، الجيش في قاموس جنود الدعم السريع، أو من هم في ضرا "القوة الخشنة للإسلاميين التابعين للمؤتمر الوطني" بعبارة الزعيم السياسي ياسر عرمان. على كل حال، تجددت بالبلاء مقاصد العبادة في نفوس الأهل فمساجدهم في أم درمان الحربية التي تحللت من أعمال المكاتب والرحلة إلى الخرطوم تمور في أوقاتها الخمسة بالمصلين وقد تجددت وظيفتها، يطمئن الفرد منهم بجيرانه في الصف ويشغل جمعهم حوش المسجد بالونسة، يقف مناديهم عند المحراب يعلن عن الوفيات من أهل الحي، من ظل في أم درمانه، ومن نزح عنها وجاء خبره، ويقود الدعوات. ويطمئن صاحب الحاجة إلى سترة الجامع فيعلن عن مسألته: بيت فاضي، بيت للإيجار، مصاريف، كرسي متحرك، دواء نادر أو بهمس ربما رصيد، وهذه الحاجات وقضاءها عروة وثقى من الاقتصاد المعنوي.

يعبر الأهل في مواقيتهم هذه حواجز ترابية عظيمة تسد مخرج كل شارع داخلي إلى الزلط، هي بعض الإعداد الدفاعي لأم درمان الحربية. ويحرس كل تقاطع واستوب صف جديد من المقاتلين تكشف عنهم علامات ملكية قريبة، الحياء ولين العبارة والشعر الكثيف المفلفل وسماعات الأذن خالي سلك وأحذية رياضية وارد السعودية ونظارات طبية على الموضة، لكنهم اعتادوا على البنادق، لا تخرب الرصة. هؤلاء في معظمهم أولاد الحلة، ثوار أحرار، وقد صار معسكر التجنيد والتدريب معمل تضامنهم الجديد، اكتشفوا فيه خُوّة القتال فوق خُوّة النضال، رباطهم عند ثغر حلتهم، تأخذهم الخطى عند تبديل الحراسات إلى المصطبة المعلومة، وقد أدار كل منهم قبضة يده حول ماسورة بندقيته الممشوقة بين رجليه مداعبا، ثم إلى الفرن وبتاع الطعمية وتنتهي عند ديار قريبة، شبابز مع السلامة! فاق عدد المتطوعين للتجنيد في محلية كرري وحدها ثلاثين ألف مقاتل، رجالا ونساء، خضعوا لتدريبات اللياقة البدنية والبيادة في ميادين الحلة حتى تعليم ضرب النار في سفوح جبال كرري. ومن هؤلاء ثمانية آلاف تقدموا للقتال في جبهات أم درمان. تلقى هؤلاء تدريبا إضافيا على فنون القتال والأسلحة الوسيطة في معسكرات الجيش لا يغادرونها حتى اكتمال إعدادهم، تسمع منهم قصة تحرير أحياء أم درمان القديمة حتى الإذاعة وأخبار المعارك في حارات أم بدة الغربية وفي صالحة. صارت الجندية الجديدة عند هذا الصف علامة للجيل يفخر أحدهم أنه لم يتأخر عن إخوانه، ولا تتوجس من مرآهم الطفلة الواقفة في الفرن أو يفر صاحب الدكان، ويتسابق الأطفال خلف أحدهم للفوز بلمس حديد البندقية، عليك الله يا محمد، عليك الله، بس شوية!

كان المقاتل الجديد حتى أبريل ٢٠٢٣ طالبا في المدرسة الثانوية أو طالبا جامعيا أو كان انزلق من التعليم لتعذر المصاريف ودقش السوق، سايق ركشة أو سايق حافلة، كهربجي أو ميكانيكي أو سباك، أو كان عاطلا يتحين فرص الرزق كما تيسر سمسرة ربما ومجازفات. وقضية المقاتل الجديد مما يستحق نعت "الوضوح الجمالي" لا غموس فيها، ولكل منهم موجدة. شهد المقاتل ذل نفسه وعذاب أسرته وأهله وجيرته ودمار عالمه بيد جنود الدعم السريع ونيرانهم فقام يتصدى لهذا العدوان بما يتطلب من شوكة، قضيته بينة كما يستبين الجمال لناظره يفديه وينحر النفس على محرابه، قضية لا تقبل المراء والتزوير، وككل موصوف بالجمال، قد يراه سواك قبيحا. وقضيته من جانب آخر قضية "علمانية"، فالمقاتل الجديد لا يطلب تبديل هذا العالم المشهود بعالم آخر، عالم أخروي يستقيل فيه التاريخ، لكن يريد سلامة عروة اجتماعه في عالم الشهادة هذا بركشاته وزنقه ومجازفاته، الزوزو رمز الألف.