Saturday, 1 June 2024

جورنال من البلد: الدعّامة بدوّنوا لكن بتجلّي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٢ بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠٢٤.

البيئة الصوتية لأم درمان الحربية قسمة بين دوي القذائف ومجروس الحياة اليوماتي. فلحن نباه الفجر والآذان من هذا الجامع وذاك خلفية لضرب المدفعية. ويميز الناس أصوات الضرب بفهم، فهنالك صادر ووارد. الصادر ما ينطلق من مدافع كرري نحو مواقع الدعم السريع وعلامته صوتان، صوت انفصال القذيفة وصوت ارتطام الفارغ، الأول عظيم محيط ترتج معه المباني بُمْ، والثاني إشارة لحنية تِرِمْ! أما الوارد فالقذيفة القادمة من مواقع الدعم السريع، وهذه يسبقها أزيز يعلو ويحتد مع اقترابها حتى تسقط وتنفجر، يتلو صوت انفجارها صمت عازل لبرهة قصيرة، هو انشقاق القدر ربما، ثم تتوالى بحسب موقعها وضررها أصوات العذاب. يستمر هذا التنويع بين صادر ووارد لفترة أو ينقطع ليتجدد ولا يمكن التنبؤ بمواقيته سوى تلك الموجة الصباحية. لكن لا تهدم القذائف المعمار الصوتي لليوم، فمتى ما انسدل الستار عن شمسها الحراقة ارتفع بناء أصوات الحياة حتى قام: عصفور في ركشة في كلب في عربية في دفار في كواريك الشفع في سك سك في زنق في ثلاثة ألف كتيرة في النور الجيلاني فيفيااااااان في كيلو الموز بألف في أذان في سارينة البوليس في دلوكة سيرة في ضحكاتهن، انضمت إليها رشقات رصاص كانت في عهد السلم تُسكت ما حولها لكن تضعضعت سطوتها بإزاء المدفع الرزام. 

لا تفك هذه الأصوات شفرة الطفلة بضفيرتين في عمر المدرسة التي تقف عند الفرن في الضحى تنتظر رغيف الصدقة. لم توافقها نفسها بعد على التبذل أمام المحسنين، وقد تهتك غيرها كل التهتك أمام المانحين، فلا تنطق ببنت شفة، تبحلق في محيطها كأنها تحاول أن تحكم السيطرة عليه. فالرغيفة التي ثار تلاميذ عطبرة على المخلوع يوم راوغ بمضاعفة سعرها من جنيه إلى جنيهين اليوم بمئة جنيه، ألف جنيه لتسع رغيفات والكيس بمية. والربحية في أم درمان الحربية خراج للمسافة والحواجز على حركة السلع، أمر حكومي أو تفتيش أو حاجز ترابي حتى، الطماطم في صابرين ثلاثة ألف للكيلو وفي المهداوي أربعة ألف للكيلو والبنزين في شندي ٩ ألف للجالون علني في الطرمبة وفي أم درمان الحربية ١٧ ألف للجالون سري في الواتس. منعت السلطات بيع البنزين للملكية في أم درمان الحربية خوفا من تسربه إلى الدعامة، فنشأ سوق باطني للبنزين، يقوم صاحب العربية الملاكي من صابرين إلى شندي بركاب، يفول التنك في شندي، يعود بركاب ونصف تنك ربما، ويطرح ما فاز به من بنزين للمشترين في قروب الحلة والشباب "قدر ظروفك" من التنك بخرطوش، شَفِطْ وتفتفه.

تخفف أم درمان الحربية عن نفسها بالعبادة، فتدوين الدعامة وإن جلّى هدفه في هدم الحياة بالكلية يصيب كل يوم ديارا وحافلات نقل وأسواق، ويختطف نفوسا لا يعرف عددها أحد على وجه الدقة، جثث للكبار والصغار تسترها القبور لكن لا تحيط بها الأرقام فهي لا تصلح مادة لتبذل المتبذلين. هؤلاء هم "الضحايا" الخطأ، فُلول شيعة "الأبولدا"، الجيش في قاموس جنود الدعم السريع، أو من هم في ضرا "القوة الخشنة للإسلاميين التابعين للمؤتمر الوطني" بعبارة الزعيم السياسي ياسر عرمان. على كل حال، تجددت بالبلاء مقاصد العبادة في نفوس الأهل فمساجدهم في أم درمان الحربية التي تحللت من أعمال المكاتب والرحلة إلى الخرطوم تمور في أوقاتها الخمسة بالمصلين وقد تجددت وظيفتها، يطمئن الفرد منهم بجيرانه في الصف ويشغل جمعهم حوش المسجد بالونسة، يقف مناديهم عند المحراب يعلن عن الوفيات من أهل الحي، من ظل في أم درمانه، ومن نزح عنها وجاء خبره، ويقود الدعوات. ويطمئن صاحب الحاجة إلى سترة الجامع فيعلن عن مسألته: بيت فاضي، بيت للإيجار، مصاريف، كرسي متحرك، دواء نادر أو بهمس ربما رصيد، وهذه الحاجات وقضاءها عروة وثقى من الاقتصاد المعنوي.

يعبر الأهل في مواقيتهم هذه حواجز ترابية عظيمة تسد مخرج كل شارع داخلي إلى الزلط، هي بعض الإعداد الدفاعي لأم درمان الحربية. ويحرس كل تقاطع واستوب صف جديد من المقاتلين تكشف عنهم علامات ملكية قريبة، الحياء ولين العبارة والشعر الكثيف المفلفل وسماعات الأذن خالي سلك وأحذية رياضية وارد السعودية ونظارات طبية على الموضة، لكنهم اعتادوا على البنادق، لا تخرب الرصة. هؤلاء في معظمهم أولاد الحلة، ثوار أحرار، وقد صار معسكر التجنيد والتدريب معمل تضامنهم الجديد، اكتشفوا فيه خُوّة القتال فوق خُوّة النضال، رباطهم عند ثغر حلتهم، تأخذهم الخطى عند تبديل الحراسات إلى المصطبة المعلومة، وقد أدار كل منهم قبضة يده حول ماسورة بندقيته الممشوقة بين رجليه مداعبا، ثم إلى الفرن وبتاع الطعمية وتنتهي عند ديار قريبة، شبابز مع السلامة! فاق عدد المتطوعين للتجنيد في محلية كرري وحدها ثلاثين ألف مقاتل، رجالا ونساء، خضعوا لتدريبات اللياقة البدنية والبيادة في ميادين الحلة حتى تعليم ضرب النار في سفوح جبال كرري. ومن هؤلاء ثمانية آلاف تقدموا للقتال في جبهات أم درمان. تلقى هؤلاء تدريبا إضافيا على فنون القتال والأسلحة الوسيطة في معسكرات الجيش لا يغادرونها حتى اكتمال إعدادهم، تسمع منهم قصة تحرير أحياء أم درمان القديمة حتى الإذاعة وأخبار المعارك في حارات أم بدة الغربية وفي صالحة. صارت الجندية الجديدة عند هذا الصف علامة للجيل يفخر أحدهم أنه لم يتأخر عن إخوانه، ولا تتوجس من مرآهم الطفلة الواقفة في الفرن أو يفر صاحب الدكان، ويتسابق الأطفال خلف أحدهم للفوز بلمس حديد البندقية، عليك الله يا محمد، عليك الله، بس شوية!

كان المقاتل الجديد حتى أبريل ٢٠٢٣ طالبا في المدرسة الثانوية أو طالبا جامعيا أو كان انزلق من التعليم لتعذر المصاريف ودقش السوق، سايق ركشة أو سايق حافلة، كهربجي أو ميكانيكي أو سباك، أو كان عاطلا يتحين فرص الرزق كما تيسر سمسرة ربما ومجازفات. وقضية المقاتل الجديد مما يستحق نعت "الوضوح الجمالي" لا غموس فيها، ولكل منهم موجدة. شهد المقاتل ذل نفسه وعذاب أسرته وأهله وجيرته ودمار عالمه بيد جنود الدعم السريع ونيرانهم فقام يتصدى لهذا العدوان بما يتطلب من شوكة، قضيته بينة كما يستبين الجمال لناظره يفديه وينحر النفس على محرابه، قضية لا تقبل المراء والتزوير، وككل موصوف بالجمال، قد يراه سواك قبيحا. وقضيته من جانب آخر قضية "علمانية"، فالمقاتل الجديد لا يطلب تبديل هذا العالم المشهود بعالم آخر، عالم أخروي يستقيل فيه التاريخ، لكن يريد سلامة عروة اجتماعه في عالم الشهادة هذا بركشاته وزنقه ومجازفاته، الزوزو رمز الألف.


No comments:

Post a Comment