نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٣ بتاريخ ٦ يونيو ٢٠٢٤.
عمار المدينة في السودان النيلي من عمار السوق، بالدرجة الأولى التجارة مع العالم، وكانت أعظمها شأنا في "عصر البطولة" بعبارة الدكتور سبولدنغ سنار التي تعود نشأتها إلى العام ١٥٠٥، وقامت قبلها بنحو ثلاثين عام أربجي. أصبحت سنار عاصمة ومقرا للسلطنة بعدها بحوالي قرن، لكن تمايزتا كسوق، فسنار كانت مركزا للتجارة الملكية بيد السلطان وأربجي كانت مركزا للتجارة الخارجية بيد التجار أنفسهم. هدم جنود محمد الأمين، حاكم العبدلاب، أربجي في ١٧٨٤ وانتهت دورة حياة سنار عاصمة السلطنة بغزو إسماعيل باشا في ١٨٢١.
والخرطوم كذلك، كان عمارها بعد اختيارها حصنا عسكريا ثم عاصمة سياسية وتجارية لدولة التركية في السودان دالة لسوقها الذي كان في أول عهده، بحسب اللورد بريدهو في ١٨٢٩، يتكون من "عشرين سقيفة تباع فيها القهوة والقمح والسكر الأسود بأسعار مرتفعة. وتباع فيها كذلك قليل من النظارات وقلادات العنق والأساور – وهي كل ما تستخدمه النساء من زينة هنا، وكانت كل الكماليات تأتي من القاهرة، وأثناء رحلتها الطويلة إلى الخرطوم يرتفع سعرها مرتين أو ثلاث. وقد تجد بعض البضائع المستوردة من الهند مثل الزنجبيل المحفوظ والسكر نبات." سرعان ما فاقت الخرطوم ثروة سابقاتها، واكتسبت بحسب زائرها أ. تي. هولرويد في ١٨٣٧ "بسرعة فائقة أهمية على حساب شندي وسنار، وهي الآن مكان تتم فيه الكثير من التبادلات التجارية، بحكم موقعها الملائم كملتقى للقوافل التي تحمل المسترقين المجلوبين من الحبشة وسنار وكردفان."
تحولت الخرطوم بذلك من قرية مقر للشيخ أرباب العقائد الذي انتقل إليها من توتي في حوالي العام ١٦٩١ إلى حاضرة أممية تأخذ بألباب الزائرين، ومنهم في ١٨٥٢ الأديب الأميركي بيارد تايلور الذي خطفت قلبه: "تمتد فيها مبان على النهر لمسافة تفوق الميل. وفيها رأيت بيوتا جميلة تحيط بها حدائق من أشجار النخيل والسدر والبرتقال والتمر هندي. ولقصر الباشا (الحاكم العام) منظر وحضور يفيض بالمهابة والجلال رغم أن جدرانه لم تكن مشيدة سوى بالطوب غير المحروق. [...] كان بإمكاني أن أتأمل وأنا بالخرطوم في برية من أشجار النخيل والبرتقال والرمان والتين ونباتات الزينة المزهرة كالدفلي (ورد الحمير) والكروم المتدلية." وأضاف هي "المدينة الأكثر تميزا – وأكاد أقول إنها ربما كانت المثال الوحيد للتقدم المادي في إفريقيا في هذا القرن، فهي لم تكن شيئا مذكورا قبل نحو ثلاثين عاما، ولم تكن فيها بيوتا سكنية، فيما عدا بعض الأكواخ البائسة، أو قطاطي القش التي كان يقطنها بعض الفلاحين الإثيوبيين. أما الآن فهي مدينة يربو عدد سكانها على ثلاثين أو أربعين ألفا، وتزداد المدينة يوما بعد يوم مساحة وأهمية، وغدت سوقا تجارية جاذبة لكثير من وسط إفريقيا الواسعة."
لكن، لحضارة الخرطوم التي انشرق بها تايلور الأديب معادل ديالكتيكي في شقاء أهلها وعذاب رقيقها، سلعتها الأولى: "ونصف سكان المدينة من المسترقين الذين جلبوا من الجبال فوق فازوغلي أو من أرض الدينكا على النيل الأبيض. غير أن اشمئزاز وتقزز المرء من منظر وعادات تلك الأعراق المرذولة المسترقة يكاد يفوق شفقته ورثائه عليهم. وقد وجدت أن السير في المفازات المؤدية لسنار أقل إيلاما للروح والجسد من شق الأزقة في أمكنة سكنهم القذرة. وعلى الرغم من طبيعة سكان الخرطوم، فالسلطات تحافظ على نظافة المدينة ومنظرها العام. سيكون يوما سعيدا لروما وفلورنسا عندما تغدو طرقاتها خالية من الأوساخ بأكثر مما هو حادث في هذه المدينة الإفريقية." وفرت هذه المدينة الباذخة لزوارها كل شيء، وكتب جيمس غرانت الذي زارها في ١٨٦٣ أنه وجد فيها كل ما تطيب له النفس بما في ذلك السيجار الفاخر والنبيذ الجيد والجعة ذات الرغوة.
ورغم ذلك، لم تشبع هذه الفاتنة شهوة الخواجة لحياة غير، قتلته حرا ومللا، فاشتكى جيمس هاملتون: "يمثل موسم الأمطار الذي يمتد طوال عشرة أسابيع إلى إثني عشر أسبوع، مايو حتى يوليو، امتحانا عسيرا للأوروبي وتكوينه، فالجو عبارة عن حمام بخار، ولا مناص من تجرع المشروبات الروحية للحفاظ على الصحة. ليس ثمة بلد تبدو فيها الكحول ملائمة لكل المواسم مثل السودان. أقر بذنب أني عببت من العرقي الممزوج بالماء خلال حر الشهور التي قضيتها في السودان أكثر من الذي شربت في كل حياتي السابقة. شربت أحيانا باينت (حوالي نصف لتر) كامل في اليوم، وذلك دون أن أشعر بأدنى أعراض السكر. [...] وتراني أجد في ملل الإقامة الطويلة في مكان كهذا العذر لضحايا هذه الظروف المساكين، من يقبلون على تجاوز الحدود الضيقة بين الاعتدال في الشرب وإدمانه، هذه العادة المميتة. يتطلب التوقف عند الحدود المطلوبة شدة على النفس وسلطانا، خاصة عندما يهوي الثقل بالميزان، وتخرع الأعصاب، وتتعطل حتى الوظائف اللاإرادية للبدن ولا تستعيد عجلتها سوى بالمحفزات. لم أر من يمسك بالكلية عن الكحول في هذا المكان سوى الحاكم وأعضاء البعثة الكاثوليكية، وفي كل حال ظهر للعيان أن امتناعهم عن الشراب كان له تداعيات أسوأ عليهم من الإدمان."
أما بقعة أم درمان فبذرتها التقوى وقوسها الركاب، بدأت حياتها نحو العام ١٦٤٦عندما انتقل إليها الشيخ حمد ود أم مريوم مع مريديه من جزيرة توتي وأنشأ فيها خلوة لكن اندثرت هذه بالحزازة مع شيخ منافس وظلت بعدها محطة تجارية ضمت مرسى الموردة وسوق صغير ومواقع لصناعة الطوب. ثم غابت عن الرادار حتى حل الإمام المهدي ديم أبو سعد في أكتوبر ١٨٨٤ لدعم حصار الخرطوم حتى النصر في ٢٦ يناير ١٨٨٥ فصارت له عاصمة للوعد، خارج التاريخ، وقد اشمأز أن يسكن عاصمة الترك الخرطوم، ثم مات عن أم درمان في ٢٢ يونيو ١٨٨٥. تحولت البقعة الروحية على يد خليفة المهدي وزعيم الدولة المهدية الخليفة عبد الله التعايشي إلى عاصمة في الزمان والمكان بمنشور صدر في ٢٧ يونيو عام ١٨٨٥ أمر فيه بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى بقعة المهدي. بلغ عدد سكان أم درمان في ذروتها المهدية ربع مليون نسمة، مدينة انشغل رجالها بالحرب ونساؤها بصناعة الحياة.
وقعت أم درمان الكبرى تحت ثلاث وحدات مالية، عمالات في قاموس المهدية، عمالة الشرق وتمتد من العيلفون إلى حجر العسل وعمالة الغرب وتمتد من خور شمبات إلى حجر العسل وأم درمان العاصمة وتقع تحت إمرة الخليفة شخصيا. أما التنظيم الإداري فكان من مسؤولية قادة الجيش، رؤساء المية والمقدمين، عليهم تصريف شؤون الفرقان تحت إمرتهم وأول ذلك حصر المجندين للقتال وتنظيم الحبوب والمرتبات. نشأ السوق الكبير في أم درمان في هذه البطانة العسكرية السياسية في موقعه الحالي شمال غرب الجامع وفي صلة مع الصي إلى الغرب منه. تولى رجال الدولة مهمة بناء وتنظيم السوق ومن ذلك توزيع المساطب والمحلات وجمع أصحاب البضائع المتشابهة في هذه الجهة أو تلك زيادة للمنافسة وتيسيرا للمستهلكين وأهم من كل ذلك لتعضيد سلطان مسؤولي بيت المال على التجار وزيادة دخل الدولة من إيجار المحلات. كذلك عين الخليفة شرطة للسوق ومحكمة خاصة وفرعا لبيت المال بها يسمى «ضبطية السوق» شغله جمع الضريبة من أصحاب المحلات وجمع الغرامات التي تفرضها الشرطة على مخالفي النظام العام من سكارى ومدخنين ومقامرين.
تولى مهام تنظيم السوق مباشرة وهبي حسين عداي، مفتش شرطة المهدية في أم درمان، وكان في العهد البائد قائدا لجيش غير نظامي مساند لجيش التركية. وكان له قوة مكونة من ٢٥ شخص يطوفون بالسوق لتفقد اللحوم والخضروات ومراقبة الأسعار والأوزان والمقاييس ومنع التهريب (خاصة الرقيق والجمال)، وجمع القمامة وتنفيذ أحكام المهدية في الفصل بين الجنسين ومنع الدعارة والتدخين والتمباك وشرب الكحول والقمار والتبول والتبرز في الأماكن العامة وفاحش القول والبذاءة. توسعت محكمة السوق خلال سنوات المهدية الدولة حتى صار عدد قضاتها خمسة قضاة جل شغلهم الفصل في منازعات الديون.
كما هو متوقع تمنعت المدينة على النظام، ولم ينقطع بيع الخمر قط، اتصل في حي فنقور وحي باقرما لجمهور غزير فيه أمراء في الدولة. وصارت الجبة المرقعة، التي بدأت أول أمرها علامة للزهد، موضة عند مترفي المهدية، متسقة الألوان منسقة من فاخر القماش، تحمل الأحرف الأولى لاسم صاحبها. وسرعان ما عادت النساء إلى السوق بواقع الحال، لا يمنعهن مانع. كانت أكثر مشاريع الخليفة عبد الله حماسة وطموحا في هندسة المدينة الاجتماعية هو سعيه تطويق العلاقة بين «أولاد البلد» و«أولاد العرب» بالزواج المتبادل وتذويب اليهود والمسيحيين السابقين (المسالمة) في محيطهم كذلك بالزواج. تصور الخليفة عبد الله بهذا المعنى المهدية الدولة نحوا حضريا من عناصره مواطن تقي مهذب سمته الهجنة وسوق مرتب نظيف ومحكمة منصفة، وكانت أم درمان إنشاءً بهذا النحو وما تزال بدرجة أو أخرى، تركت فيها المهدية سوقا عامرا متحضرا: "أكبر سوف للبيع بالجملة والتجزئة، وهي موردة البضائع (الوحيدة) للأقاليم. [...] دنقلا ودار الشايقية تمد أم درمان بالتمر، وترسل بربر لها الملح والحصائر وصناعات السعف اليدوية، بينما يصل لأم درمان من كردفان الصمغ العربي والسمسم والدخن، ومن الجزيرة الذرة والدمور والقطن. وتصدر كركوج لأم درمان السمسم وكمية قليلة من الذهب." "وإذا الموءودة سئلت.. بأي ذنب قتلت"!
استفدت في كتابة هذه الكلمة من كتاب روبرت كرامر "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية ١٨٨٥ – ١٨٩٨" (ماركوس فينر للنشر، ٢٠١٠) الذي صدر بتعريب الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي (دار المصورات، ٢٠١٩) وكتاب جيمس هاملتون "سيناء، الحجاز والسودان: رحلات في أرض ميلاد النبي وعبر الصحراء الأثيوبية، من سواكن إلى الخرطوم" (ريتشارد بنتلي للنشر، ١٨٥٧) وكتاب المرحوم الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تاريخ مدينة الخرطوم" (دار الجيل، ١٩٧٩).
No comments:
Post a Comment