Monday 11 February 2019

للثورة جِدّة وجدل: ماذا نفعل بتجمع المهنيين؟ - 2

منذ أن أشعل أهل عطبرة في ١٩ ديسمبر الماضي نارهم العظيمة والبلاد في سعة ثورية لم تشهد مثلها في الثلاثين عام الأخيرة أو يزيد. تبادلت المدن السودانية القداحة العطبراوية وتبارت في حشد الجموع وتسيير المواكب وفازت بضربة والتالية بالمبادرة الجماهيرية في الصراع السياسي حتى كسد ما عداها. كما خرج الناس من مدنهم وقراهم يطلبون حياة جديدة حرة اجتهدت قوى الحكم في الحشد المضاد فحساب السياسة اليوم من عملة الجماهير. 
إذا كان تجمع المهنيين حتى الآن قد أثبت جدارة في ضبط ساعة الثورة كما جرت عبارة بياناته المتكررة بمواقيت المظاهرات والحشود فإن مقدراته السياسية اليوم في اختبار. أول هذا الاختبارات ساكنة في قدرته على استيعاب السعة الثورية التي يتوسل قيادتها وهي ذروة فيض من التحولات الاجتماعية، وفيها تهديد ليس فقط لعلاقات القوى السياسية وإنما للعلاقات الاجتماعية التي تسندها. 
ليس أصدق شهادة في هذا الباب من التحول الكاشف في علاقات النوع، فمعتقلات وسجون السودان اليوم ساحة نسوية بامتياز. تصدى النساء من ضروب الحياة المختلفة لمهمة الاحتجاج يتحدين بأقدامهن جبر النظام الأبوي وليس فقط منظومة النظام العام كما يأمل مدير جهاز الأمن صلاح قوش والرئيس البشير وقد تملص كلاهما من النظام العام بسرعة المتطهر من درن. عد صلاح النظام العام "صناجة" لا طائل منها وهاجم البشير تطبيق القانون بلهجة "لا لقهر النساء". 
لكن، النظام العام الذي يستحق كل هذا التعنيف حتى من صف السلطة في جانب منه وسيلة للتأديب الطبقي فسطوته الهيكلية الأكيدة لا تقع على "حرائر" الطبقة الوسطى كما وصفهن بيان تجمع المهنيين وإن تضررن منه في الملبس والمسرح وإنما على فقراء المدن. بذلك ينهل قانون النظام العام من سلف استعماري فهو تنويعة بكساء الشريعة على قانون التشرد  Vagabonds Ordinance لعام ١٩٠٥ الذي استهدف بالدرجة الأولى من أسماهم "السودانيين" الذين لا يكسبون قوت يومهم بصورة شريفة. والسودانية هنا نعت الرقيق أو الرقيق الآبق أو السابق الذين قالت عنهم مذكرة السادة علي الميرغني والشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي "لا يصلحون لأي عمل ويعتبرون ورقة الحرية جوازا للتحلل من أي مسؤولية، وخلدوا للخمول والخمر والدعارة". 
ترادف هذا الشق العقابي من السياسة الاستعمارية في التعامل مع الرقيق السابق، وقسط وافر منهم ممن كانوا في سلك الجندية ضمن قوة الفتح، مع شق معيشي، إذ كان قلق الإدارة الاستعمارية الأكبر إن تنشأ طبقة كبيرة من الأرقاء السابقين عاجزة عن كسب العيش بصورة مستقلة. في هذا الصدد، شرعت الإدارة الاستعمارية في مذكرة مساعد السكرتير الإداري ج. ف. ماثيوز الصادرة في ١٨ مايو ١٩٠١ توزيع الذرة على الجنود "السودانيين" المسرحين من الخدمة في تجمعاتهم في محيط المدن (الديم والرديف) ثم أضافت بأمر الحاكم العام شرط ألا ينال هذا الدعم المتبطل الذي لا يكسب قوته يومه (للمزيد راجع كتاب المرحوم محمد إبراهيم نقد، علاقات الرق في المجتمع السوداني، ط ٢، دار عزة، الخرطوم ٢٠٠٣). 
لهذا الازدواج في تدجين قوة العمل من فقراء المدن صدى معاصر منه قانون وبوليس النظام العام من جهة والدعم الحكومي للقمح وسلعة الرغيف من جهة أخرى. حتى التردد الاستعماري في صك معيار لتوزيع الذرة يماثل مصاعب الحكومة في الاختيار بين الإبقاء على دعم القمح لدواع السلامة السياسية أو إلغاءه استجابة لإلحاح صندوق النقد الدولي إن لم يكن اشتراطه.
 إذا كانت المدينة السودانية على العهد الاستعماري نمت واتسعت بحرية الرقيق فالمدينة اليوم غول واسع البطن بعلة النزوح من مسارح الحرب وتدهور الاقتصاد المعيشي في الأرياف وقد اخترقت العلاقات السلعية حواجزها التقليدية حتى قال طمباري النيل الأزرق في شأن حنان "الخدرة ومفزرة": "حنان ما بدوها رمتالي، حنان إلا تاجر إجمالي". الرمتالي في سياق الساعة بطل الثورة غير المذكور الذي فتح خزائن ديوان الزكاة عنوة للجمهور والذي فاز يومها في القضارف والرهد وتاجر الإجمالي عدوها من جماعة "تقعد بس" الذين طلب نصرهم البشير في جولاته الدائبة. 
ماذا تأكل حنان بنت المدينة إذن؟ ما زالت الذرة هي غذاء أهل الأرياف السودانية الغالب، والسودان عادة ما ينتج فائضا من الذرة يفوق الاستهلاك المحلي. تصاعد لكن استهلاك القمح مع نمو المدينة السودانية بتزامن متصل حيث تضاعف استهلاك القمح حتى قبل اشتداد معدلات الهجرة والنزوح إلى المدن، فالقمح علامة المدنية. على سبيل المثال زاد معدل استهلاك القمح بنسبة ١٤٪ سنويا في الفترة ١٩٦١-١٩٦٥ وجميعه مستجلب عن طريق الاستيراد. في العام ١٩٩٥ كان السودان ينتج حوالي ٦٠٠ ألف طن من القمح بينما بلغ استهلاكه ما يقارب ٢ مليون طن سنويا. 
لم تنجح محاولات الحكومة في أول التسعينات حتى منتصفها في توطين زراعة القمح والتوسع فيه سدا لهذه الثغرة السياسية حتى استسلمت للاستيراد وتناقص إنتاج القمح من ذروة العام ١٩٩١ حيث بلغ حوالي ٧٥٠ ألف طن إلى ما دون ٥٠٠ ألف طن في عقد الألفين الأول. هذا بينما حافظ خط الاستهلاك على تصاعده حيث ظل السودان منذ العام ٢٠١٢ يستورد ما يفوق ٢،٥ مليون طن من القمح سنويا. 
أصدر صندوق النقد الدولي في نوفمبر ٢٠١٧ تقريرا عن قضايا مختارة في الاقتصاد السوداني في صدرها قضية دعم استهلاك القمح والمحروقات. شدد الصندوق أن دعم السلع الاستهلاكية وسيلة غير فعالة لحماية الفئات الأقل دخلا وتعزز من الاستهلاك على حساب الإنتاج كما تشجع تهريب السلع المدعومة إلى دول الجوار. قال الصندوق أن الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية يتحقق عن طريق ثلاثة طرق: التحويلات المباشرة للمنتجين، الاستثناءات الضريبية لمنتجي ومستهلكي السلع المدعومة، وسعر الصرف التفضيلي لمستوردي هذه السلع. 
قدر خبراء الصندوق أن كلفة دعم القمح تبلغ ١،٣٪ وكلفة دعم المحروقات حوالي ٤،٢٪ من الناتج القومي الإجمالي. أورد الصندوق إحصاءات تبين استفادة الفئات الاجتماعية الأعلى دخلا من دعم المحروقات فقال بحسب تقديرات العامين ٢٠١٢ و٢٠١٤ أن ثلثي دعم المحروقات (٦٨٪) تقريبا يعود بالفائدة على نسبة ال ١٠٪ من السكان الأعلى دخلا بينما لا يتحصل ال١٠٪ الأدنى دخلا على أكثر من ٢٪ من الدعم الحكومي. لم يعرض الصندوق أرقاما مماثلة بخصوص القمح لكن أعاد حجة أن دعم استيراد القمح يعود بالفائدة على سكان المدن بالدرجة الأولى ويثبط الإنتاج المحلي للقمح وكذلك الذرة لعدم قدرة المنتج المحلي للمحاصيل على منافسة السعر المدعوم للقمح المستورد. 
قال الصندوق في تقريره أن رفع الدعم عن القمح والمحروقات سيؤدي في أقل تقدير إلى زيادة أسعار الإثنين بنسبة ٢٠٦٪، ما يعادل الفارق بين سعر الصرف المدعوم وسعر الصرف في سوق الله أكبر. بحسب الصندوق سينجم عن رفع الدعم على المحروقات والكهرباء تناقصا في الدخل الفعال يبلغ ١٦٪ (تقديرات ٢٠١٤)، يقع العبء الغالب منه على الفئات ذات الدخل الأعلى والمتوسط. بينما يصل تناقص الدخل الفعال بين ال ٢٠٪ الأقل دخلا من السكان إلى نسبة ٩٪ جراء إلغاء دعم المحروقات والكهرباء دون مدخرات تسمح بامتصاص هذا التناقص، ذلك دون حساب الأثر الناجم عن إلغاء دعم القمح الدي سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع هذه النسبة. 
رشح الصندوق ديوان الزكاة لتولي مهمة دفع الضرر عن الفئات الأقل دخلا واستشهد بتجربة الديوان في التحويلات المالية المباشرة. ذكر الصندوق أن شبكة الديوان تشمل ٧٥٠ ألف أسرة تتلقى دعما مباشرا قدره ٢٠٠ جنية للأسرة شهريا، وهذا قسط جد قليل من عدد ١٥ مليون ونصف المليون من السكان الذين صنفهم إحصاء ٢٠٠٩ فقراء. كذلك اقترح الصندوق اجتراح آليات جديدة لتحديد سلع الكهرباء والمحروقات والقمح تتضمن قواعد تفضيلية للفئات الأقل دخلا، من ذلك ما بدأت بتنفيذه حكومة شمال كردفان التي فرضت سعرين للرغيف، سعر مدعوم للمستهلك المباشر وسعر تجاري للمطاعم والمناسبات. 
أعاد المسؤولون الحكوميون في ترويجهم لرفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والقمح حجج صندوق النقد كما هي، وذلك أيضا مما زكى الصندوق الذي قال لا بد أن تسبق هذه الخطوات حملة دعائية واسعة تشمل بلغته "جميع الأطراف ذات المصلحة". ركز الصندوق واتبعته الحكومة في حساب عبء رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية على المقارنة بين الفئة الأعلى والأدنى دخلا لكن تجاهل "حنان" الطبقة الوسطى التي يهدد رفع الدعم باستنفاذ قليل الفائض الذي يحفظ لها موقعها الطبقي ويحول دون تدهورها إلى صف الفقراء الذين فارقوا رغيف المدينة. 
الواقع أن دعم الرغيف والمحروقات والكهرباء يمثل بندا مركزيا من بنود العقد الاجتماعي غير المنطوق الذي يحفظ للحكومة سلطتها بما في ذلك ولاء القوى الأمنية. والسودان في هذا الشأن ليس استثناء على أنظمة عدة في المنطقة آصرة الحكم فيها من عجين الرغيف المدعوم بالتضاد مع خطة البنك والصندوق الدوليين في التسليع بغير عائق سياسي. المثال الأكثر إيضاحا ربما مصر القريبة حيث ظل طحن سياسة المعاش يدور حول قضية الدعم منذ انتفاضة الخبر في يناير ١٩٧٧ وموجة الإضرابات العمالية التي سبقتها في ١٩٧٥ و١٩٧٦. من وافق تصورات صندوق النقد الدولي الاقتصادية عن السبل المثلى في إدارة الاقتصاد وقع في مأزق الاختيار بين الاستقرار الاجتماعي والسلامة السياسية من جهة وتهليل الصندوق بالعافية المالية لخزائن الدولة. تعرضت في العام ٢٠٠٨ الدكتورة سحر محمد عبد الحليم من الجامعة الأميركية في القاهرة في ورقة مشتركة مع جون وليم ساليفوراكيس لهذه القضية وموقع دعم الرغيف من اقتصاد الحكم في مصر فكتبت أن عدم توفر الرغيف الرخيص المدعوم حكوميا سيؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي واسع ربما أصاب المنطقة كلها بعدواه. 
قد يفيد إذن طرف من الاقتصاد السياسي لتقصي منابت السعة الثورية الراهنة. من ذلك ربما فض التناقض الذي لا قوام له بين مظلمة الجوع وطلب الكرامة والحرية. اعترض معلقون كثر على عبارات مظاهرات رغيف وجوع واحتجاجات ذات منشأ اقتصادي باعتبار ذلك تبخيس للهمة السياسية، وفي ذلك تجديد لعقيدة مؤتمر الخريجين الذين نادوا بالتحرير وأجلوا التعمير حتى فرخ بينهم بيض الانقلاب بوعد العدالة الاجتماعية دعما وخبزا وتمني. وقف لهؤلاء ساعة الاستقلال النائب الشيوعي حسن الطاهر زروق ليذكر ما أغفله الشدو بالحرية والكرامة، العطالة المتفشية وفروق الأجور بين النساء والرجال وبين الجنوبيين والشماليين. سيسأل الصندوق السلطة الانتقالية متى قامت عن كأسها، استقرار سياسي أم عافية مالية أم ماذا؟ 

No comments:

Post a Comment

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.