Sunday 27 August 2023

تخليص الإبريز من ليث باريز ١

 مع كتاب دانييل بن سعيد "ماركس لزماننا" (دار فيرسو، ٢٠٠٩)، الفصل الرابع: "الطبقات أو الفاعل المفقود"

١

يشغل الصراع الطبقي موقعا مركزيا في فكر ماركس، لكن ما هي هذه الطبقة؟ ستجد قارئة ماركس "الطبقة" مبثوثة في نصوصه الكثيرة، ويمكن جمع مادة حول الطبقة من هذا الاقتباس أو ذلك، لكن لا تجد علما نصيا مانعا بالطبقة. وما يمكن جمعه من صفحات "رأس المال" يشي لكن لا يشفي، يقدم مؤشرات ربما لدراسة قادمة، وهي ما لم يحققه ماركس في حياته وإن طرح السؤال بالبنط العريض في الصفحة الأخيرة من الجزء الثالث من رأس المال، ثم انقطعت المخطوطة. يتساءل ماركس: "ما الذي يؤلف طبقة؟" ويقول: "الجواب عن ذلك يأتي تلقائيا من الإجابة عن السؤال لآخر: ما الذي يجعل العمال المأجورين والرأسماليين والملاك العقاريين يؤلفون الطبقات الاجتماعية الكبرى الثلاث؟" ثم يضيف: "إن ذلك، من النظرة الأولى، تماثل الإيرادات مع مصادر الإيرادات. فهناك ثلاث مجموعات اجتماعية كبرى تعيش عناصرها، أي الأفراد الذين يؤلفونها، من الأجور والربح والريع العقاري على التوالي، أي من استخدام قوة عملهم ورأسمالهم وملكيتهم العقارية."

وماركس عدو النظرة الأولى إذ يحيط نفسه بالنقد مباشرة: "ولكن، ومن وجهة النظر هذه، سيؤلف الأطباء والموظفون، على سبيل المثال، أيضا طبقتين، لأنهم ينتمون إلى مجموعتين اجتماعيتين متمايزتين، فيلما يتلقى أعضاء كل واحدة من هاتين المجموعتين إيراداتهم من المصدر الواحد نفسه. ولسوف ينطبق نفس الشئ ذاته على تشعب لا نهائي في المصالح والمراتب يؤلفه تقسيم العمل الاجتماعي بين العمال وكذلك بين الرأسماليين والملاك العقاريين فالأخيرون مثلا ينقسمون إلى مالكي مزارع كروم، مالكي حقول زراعية، مالكي غابات، مالكي مناجم، مالكي مصائد أسماك." وهنا تنقطع المخطوطة (كارل ماركس ١٨٩٤. رأس المال المجلد الثالث. ترجمة فالح عبد الجبار. دار الفارابي. ص ١٠٨١)، تسكت شهرزاد، بنت البلد، عن الكلام المباح. 

لا يبدو إذن من النظرة الأولى أن ماركس أفصح عن مفهوم حسن التطويق للطبقة، والمسألة عماد في فكره، وربما أجل هذه المهمة أو لم تتضح جوانبها في ذهنه. لكن مثل هذا النقد لشغل ماركس قد يصح على مسائل أخرى لم يفصح فيها ماركس عن تصورات متكاملة، فهو لم يتطرق بتفصيل لمفهوم الأزمة عنده أو لمفهوم الزمان وهو مدار التاريخ. ففيما كان يزجي ماركس وقته إذن؟ كان يعالج قروحه المتكررة، ويصد عن رقبته الدائنين وهو الفقير إلى الله حقا، ويسعى رزقا قليلا بوسيلة مقالاته الصحفية، ويحلحل مشاكل أسرته ويكتب سيلا من الخطابات يبثها عبر العالم، ويتآمر لنصرة الطبقة العاملة، وقبل كل شيء يكتب ويعيد كتابة وينقح ويحرر ويجلي كتابه "رأس المال". 

وما النظرة الأولى؟ أسراب يحسبه الظمآن ماء؟ فعلم ماركس عن الطبقة ببسطامه السياسي. الثابت أن ماركس لم يركن إلى التبسيط في شأن الطبقة ولم يجمد مفهومها بتجريد صوري تصبح به كما في البدعة السوفييتية أو بهذا القياس في فقه العوضرازقية، قديمة أو جديدة، جدول تصنيف. تستفيد قارئة أعمال ماركس السياسية ("الصراعات الطبقية في فرنسا"، "الثامن عشر من برومير"، "الحرب الأهلية في فرنسا") مفهوما شبكيا للطبقة كنظام من العلاقات قوامه الصراع، وليس جدولا لعناصر ذات جوهر ثابت. الطبقة عند ماركس علاقات اجتماعية وليست هدية، وشرط المفهوم أن تدرك المتأملة دلالة "علاقة" في إعلان المغنية ندى القلعة الوقائي: "اللكزس هدية ما علاقة شخصية". أحلت المغنية صنف الهدية وحرمت العلاقة التي قد تحيط به، والطبقة كذلك علاقة صراعية تنشأ عنها مفردات مادية. لا يصح إذن ابتسار مفهوم ماركس للطبقة إلى جملة خصال تسم الوحدات المكونة للطبقة أو إلى جملة هذه الوحدات، فهي كل علائقى، وليس حساب إجمالي. 

البرجوازية والبروليتاريا طبقتان اجتماعيتان، نعم، لكن الطبقة ليست صنفا وليست سمة، ومن ثم فمن التزوير تصوير البرجوازية أو البروليتارية كأنها سمة لشخص بعينه. البروليتاريا مجموعة من الناس، كينونة مركبة، البروليتاري الفرد فيها وحدة تكوينية لنظام شمسي، كما أفراد النحل وحدات تكوينية لخلية النحل. لكن تربط الناس الذين يكونون طبقة اجتماعية بعينها ببعضهم البعض علاقات اعتماد متبادل على خلاف الوحدات غير الحية أو حتى الحيوانات، علاقات اعتماد ذات طابع اجتماعي، علاقات إنس. والعلاقة بين الطبقة الاجتماعية وبين أعضاء هذه الطبقة علاقة بين كينونة مركبة والعناصر المكونة لها. فهل الطبقة إذن حقيقة عليا عابرة لأفراد هذه الطبقة؟ أذا صح ذلك، فهي فاعل أسطوري أو تكاد. يتهم ماركس غريمه برودون صراحة بهذه الدروشة ويقول خطأه أنه "شخصن الموضوع"، اتخذ من المجتمع أو من الطبقة شخصا، ويتذمر شديد التذمر من كل من "يجعل من الكلمات أشياء". يرفض ماركس تصوير الطبقة كشخص أو فاعل واعي موحد الذات على طراز الفاعل العاقل في علم النفس. وأفرد لذلك نقدا في هوامش كتابه "الآيديولوجيا الألمانية". وقال عيب الفلاسفة الألمان الذين وجه إليهم نقده أنهم اتخذوا مفهوما صوريا للطبقة، أي جعلوا محل المفهوم شيئا، كأنهم قوم موسى اتخذوا العجل إلها وقت أعجزهم مفهوم الإله. قال ماركس ابتسروا الأفراد إلى عينات حية للمفهوم المجرد، جنس دروشة! من ذلك توبيخ ماركس لماكس شتيرنر الذي أكد في أكثر من موقع أن كل فرد هو ما هو عليه بعلة الدولة، كما أن البرجوازي هو عينة من البرجوازية، فكأنما البرجوازية كانت موجودة قبل وجود الأفراد المكونين لها. الطبقة عند ماركس توجد فقط في إطار العلاقة الصراعية مع الطبقات الأخرى، علاقة وليست هدية، وتماسك الطبقة كمفهوم لا يمكن رده إلى إجمالي الأفراد، فالطبقة لا هي فاعل فوق الفاعلين، سوبر مان اجتماعي، ولا هي علاقات بينية، حيته ما حياني! 

ومن هذا التخليط الذي بهدل بعلته ماركس غريمه برودون يتسرب التصور الفاشي الذي يوحد بين الفرد والمفهوم، بين عجل قوم موسى والإله. وترجمة ذلك على سبيل المثال التوحيد بين الرأسمالية بنت الكلب واليهود الأفراد في دعاية الاشتراكية القومية، النازية الألمانية، وهو توحيد دعائي انتهى إلى المقتلة المعلومة. ومن ذلك أيضا ما تسرب إلى وجدان مقاتلي مليشيا الدعم السريع في رد مظلمة اجتماعية الخصم فيها طبقة "الكيزان" أو "الجلابة"، وهي طبقة اجتماعية، إلى أفراد. من ثم، جاز بهذا التصور هدم دارهم وسلب مالهم وإهدار دمهم ولو كان نصيبهم من عز الجلابة بيت جالوص بالإيجار في أم بدة كرور. هذا بينما فلتت "العلاقة" من هذا الإعدام الميداني، وتجددت، كما نشأت أول مرة في حزام الاسترقاق على يد مثل الزبير باشا رحمة الجلابي الكبير صاحب المليشيا التي فتكت بسلطنة دارفور، في هيئة شركة الجنيد وغيرها لصاحبها محمد حمدان دقلو، أكبر جلابي فيك يا بلد.  

Friday 25 August 2023

من وحي صلاة الفاتح: دولة ٥٦ ماني حي

الشيخ ابراهيم نياس ١٩٠٢-١٩٧٥

صلاة الفاتح (عند صاحبها الشيخ أحمد التجاني الياقوتة الفريدة): "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ والخاتِمِ لِمَا سَبَقَ نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقَِ والهَادِي إلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ وعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ ومِقْدَارِهِ العَظِيمِ".  

عرضت في الجزء الأول من هذه الكلمة لسيرتي الشيخين مدثر إبراهيم الحجاز وإبراهيم سيدي من شيوخ الطريقة التجانية، وموقعهما من أممية تجانية أو إسلامية يجيز فيها الشيخ الفوتي تلميذه مدثر الحجاز في مكة وينافح فيها إبراهيم سيدي في الفاشر عن منهج التربية لشيخ الإسلام إبراهيم نياس السنغالي ضد أقطاب التجانية في نيجيريا. انبسطت مشاغل الشيخين مدثر الحجاز وإبراهيم سيدي على خريطة ثقافية عريضة تمتد من الحرمين حتى المغرب العربي وغرب افريقيا، ذلك بالمقارنة مع حدود دولة ما بعد الاستعمار، دولة ١٩٥٦ في عبارة طلاب سلطانها قهرا اليوم.  

نشأت الدولة الاستعمارية كمشروع عسكري لتأمين مياه النيل، ونصت شهادة بحثها، اتفاقية الحكم الثنائي بين الحكومتين البريطانية والمصرية (يناير ١٨٩٩)، في مادتها الثالثة على أن تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد ترشحه الحكومة البريطانية وتعينه الحكومة المصرية، ذلك في منصب "حاكم عموم السودان". صار بذلك سردار (قائد) الجيش المصري حاكم السودان العام، وتقلد المنصب الجنرال اللورد كتشنر (١٩ يناير ١٨٩٩ ٢٢ ديسمبر ١٨٩٩) ثم الجنرال ونجت (٢٣ ديسمبر ١٨٩٩ ٣١ ديسمبر ١٩١٦) وتبعه الميجر جنرال السير لي ستاك (١ يناير ١٩١٧ ١٩ نوفمبر ١٩٢٤). اغتال مناضلون مصريون السير لي ستاك في وضح النار بالقرب من مبنى الحربية في القاهرة، وبموته أخذت الحكومة الإنجليزية بوصية اللورد ملنر (أغسطس ١٩٢٠) فصل القيادة المدنية عن العسكرية فتولى السير جيفري آرثر منصب حاكم عام السودان وتم تعيين اللواء هدلستون قائدا عام لقوة دفاع السودان التي نشأت في أعقاب ثورة ١٩٢٤ بغرض تحصين الجندية السودانية من نفوذ حركة التحرر المصرية.

أما السودان كاجتماع حي من أبطاله مثل الشيخ مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي فأمر آخر. يطمس فلاسفة الدعم السريع وأنصاره الذين يلهجون اليوم بلعن دولة ٥٦ هذا التمييز بين الدولة الاستعمارية والاجتماع البشري طمسا، هذا ومدافعهم تدك الحصاد الحضري لهذا الاجتماع وتطلب إعدامه بالكلية. جاز اليوم وقد انكسر مرق هذا الدولة أكثر من مرة، بانفصال الجنوب في ٢٠١١ وبالحرب الضروس على سلطانها اليوم في الخرطوم، التأمل في مصادر أخرى لبراكسيس الحياة المشتركة، وترجمة البراكسيس من القاموس الماركسي وحدة العلم والعمل؛ من هذه المصادر المربع الديمقراطي المتقدم الذي جادت به الطبقة العاملة وآركيولوجي الاقتصاد القيمي للطرق الصوفية. قد يفتح إذن تاريخ مثل الشيخ مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي شباكا على خيال آخر لهذا الاجتماع، غير الذي كان منبعه أقلام الخريجين الصحفية ووظائفهم الحكومية. 

إن كانت المدارس الثانوية ومركزها كلية غردون هي أوتاد دولة الخريجين فقد تناقصت هذه الأوتاد (والتعبير لمنصور خالد) بتفكيك دولة الرعاية صامولة صامولة منذ تحرير المرحوم بدر الدين سليمان للجنيه في سبعينات القرن العشرين مرورا بتحريره مجددا بيد المرحوم عبد الرحيم حمدي في تسعينات القرن العشرين ثم تحريره الأخير بيد إبراهيم البدوي وجبريل إبراهيم حتى تدهورت إلى بنشات في شارع المين وسيل لا ينقطع من المكاواة. في المقابل، سكنت الطبقة العاملة فضاءا آخر خطوط جغرافيته ومادة اجتماعه السكك الحديد وورشها ومحطاتها وورش الغابات والري والخزانات وما استقر من عمارة الصناعة الحديثة. أما مثل المرحوم مدثر الحجاز والمرحوم ابراهيم سيدي من رعايا دولة ٥٦ فوطنهم فضاء اجتماعي وثقافي للسودان للكبير يمتد من سواكن حتى مايدوغري ونواكشوط وفاس، ركائزه سلسلة الخلاوى والزوايا وتنظيمات الطرق الصوفية التي أوكل الناس إليها تأمين جزء كبير من مؤونتهم وإصلاح ما بينهم وسلامة معادهم. 

يقع القارئ على مادية هذا الفضاء في خرائط سياحة المشايخ، ذلك في مقابل سجل نقليات الموظفين أو منفستو عمليات الضباط. من ذلك جدول أسفار الشريف يوسف السيد شرف الدين من الأشراف الحسينية. ولد الشريف عام ١٩١٢ في فارس الواقعة بين مكوار والحاج عبد الله وغادرها في عمر العشرين إلى المندرة على النيل الأبيض، ومنها توجه غربا إلى أم سدر والشويحات بجبال التيوس وأم قرفة وكجمر حتى بلغ بارا، فسكن إلى أهله فيها. ثم قام إلى سودري ومنها إلى أرمل ثم أم قوزين في ديار الكبابيش ومنها إلى الملك الصياح وجبل العطرون والجزو والكيسان والفيسان وجبل الحلة حتى بلغ مليط التي انتقل منها إلى الفاشر. وغادر الفاشر إلى الجنينة  ثم بلغ أبشي وعاد راجعا إلى الفاشر وبعدها توجه إلى كاس وجبل مرة ونيالا والنهود حتى وصل الأبيض ومنها إلى الرهد التي أقام فيها سبعة أشهر. وسافر بعدها إلى أم روابة وتندلتي وجبال تقلي ومركز رشاد. ومن هذه البلاد عاد راجعا إلى كوستي ومنها إلى الدويم ثم بلغ جبل أولياء فالخرطوم وأم درمان. وسافر من أم درمان إلى السوكي وسنجة والروصيرص ثم الكرمك وبايرص ثم رجع إلى تقلي والرحماتو ومنها توجه إلى القضارف وقلع النحل ثم الشوك ومنها إلى كسلا. ثم عبر إلى الحبشة فبلغ أسمره وأديس أبابا وغردة ثم مصوع ورجع منها إلى أروما ثم طوكر وسنكات وأركويت وبورتسودان ومنها إلى سواكن. ثم عبر البحر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. واتصل هذا العشريني في أسفاره هذه بشيوخ عظام منهم السيد جعفر بغردة والسيدة علوية بأسمرة والشريف مريم بسنكات والسيد عبد الله العجوز والسيد أحمد الرحمانو بالحبشة والكوقلي بقلابات. وعند عودته إلى أم درمان من حجه انتقل إلى القضارف ومنها إلى دوكة ثم البويضة وفيها بدأ نشر طريقته البهارية القادرية وكان عندها في عمر الخامسة والعشرين. ثم استقر رأيه علي الإقامة في أم درمان فظل فيها أربعة أشهر، ثم غادر إلى عطبرة ومكث فيها عاما، ثم انتقل إلى حلفا وظل فيها سبعة أشهر وعاد منها إلى دنقلا ومنها إلى أرض الجعليين فعطبرة ومنها إلى البطانة ثم ود حاشي بقوز رجب حتى عاد به الحنين إلى فارس. 

ربما أصاب الشريف يوسف من سياحته في هذه الجغرافية الأخرى وقع "التعدد" و"التنوع" من باب البراكسيس بأكثر مما فعل من يتربص بهذه المعاني تربصا، يتنطع بها للفوز بسلطان دولة ٥٦ فوق الرقاب. يريد فلاسفة الدعم السريع تجريف الأساس المادي للروابط التي تجعل مثل هذه السياحة أمرا ممكنا. لكن فاتهم ربما أن للثقافة كثافة لا يمكن إعدامها بالرصاص مرة واحدة. فتحت سياحة الشيخ إبراهيم نياس الكولخي السنغالي، شيخ الإسلام عند الشيخين مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي وعموم التجانية، باب فيوضه العرفانية، وهو القائل:

تطاول ليلي في دكار مؤرقا        حنينا لما بين النقا وقباء

وفي موضع آخر:

وتيمني حبيك صرت مجمجما     على البر والأجوا أروم وصالا

فغادرت أوطاني وأهلي وأسرتي      أجوب الفلا لم أشك قط كلالا

بكولخ طورا أو بيوف ومرة             بباريس دار الفاسقين كسالى

لبكين من كنتون بالصين نائيا       وكولخ تدعو قد أبنت رحالا

وفي سواه: 

حياتي بسنغال وطيبة جنتي       وجدة من دون الجنان صراط

فإن مس عبدا أن يقيم بجدة       فصبرا فهذاك المقام رباط


اعتمدت في هذه الكلمة على كتاب العميد عبد الرحمن الفكي تاريخ قوة دفاع السودان (الدار السودانية للكتب، ١٩٧١) وكتاب الشريف يوسف السيد شرف الدين قلب وادي النيل (بدون تاريخ) وآفاق الشعر عند الشيخ ابراهيم نياس رضي الله عنه المجلد الأول (بدون تاريخ).  

Saturday 19 August 2023

من وحي صلاة الفاتح: شيخان والأممية الإسلامية

No photo description available.

صلاة الفاتح (الياقوتة الفريدة): اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ و الخاتِمِ لِمَا سَبَقَ نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقَِ و الهَادِي إلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ و عَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ و مِقْدَارِهِ العَظِيمِ.

 

كانت صلاة الفاتح موسيقى خلفية في الحلة في أم درمان وبركة مرسلة، يسمعها السامع من زاوية الشيخ (ي) في ود أرو وكذلك من زاوية الشيخ مدثر إبراهيم الحجاز (١٨٦٦-١٩٣٧) في أب روف. ومن ذكر الجمعة عند السادة التجانية الكلمة المشرفة، وهي "لا إله إلا الله" بعد صلاة العصر على أن يتصل الذكر حتى الغروب. فيما يلي ترجمتين قصيرتين لعلمين من أعلام الطريقة التجانية الشيخ مدثر إبراهيم الحجاز في أم درمان والشيخ إبراهيم سيدي محمد التجاني (١٩٤٩-١٩٩٩) في الفاشر؛ تلخيص من ورقة الدكتورين علي صالح كرار ويحيى محمد إبراهيم في مجلة سودانيك آفريكا، مجلد ١٤: ص ٦١-٧٥ (٢٠٠٣) وورقة الدكتور روديغر سيسمان كذلك في مجلة سودانيك آفريكا، مجلد ١١: ص ١٠٧-١٢٤ (٢٠٠٠)، بالإضافة إلى فصل الدكتور سيسمان "تاريخ التجانية ومسألة التربية في دارفور (السودان)" في كتاب من تحرير جان لويس تريو وديفيد روبنسون (٢٠٠٠). 

شملت سيرة الشيخ مدثر الحجاز التركية والمهدية وقسط كبير من عهد الاستعمار البريطاني بينما عاش الشيخ إبراهيم سيدي دولة ١٩٥٦ في عبارة اليوم من زاويته في الفاشر، وسيرتي الإثنين شباك إلى عالم مثقف تقليدي وأممي إسلامي استثير خياله بروابط أممية على خلاف الدولة القومية أخنق فطس التي نشأ على دبارتها أو سوء دبارتها الخريجون.

ولد مدثر إبراهيم الحجاز في قوز السوق في بربر، وأهله من الكميلاب الجعليين. كان والد مدثر موظفا في الإدارة التركية في بربر أما والدته فمن سلالة الشيخ محمد القناوي المصري، الذي استقر في بربر على عهد عجيب المانجلك، ووالدة جده ابنة الشيخ محمد عبد الوهاب المقرب من مكوك الميرفاب. أكمل مدثر حفظ القرآن في طفولته على يد عمه سليمان الحجاز، العالم المعروف في تلك الفترة والذي عينه الإمام المهدي في ١٨٨٦ وكيلا لمحاكم الإسلام، ثاني أعلى وظيفة قضائية في دولة المهدية. انتقل مدثر عندها لدراسة العلوم الدينية في الدامر على يد محمد أحمد جلال الدين المجذوب واستمر تعليمه عند محمد الخير عبد الله خوجلي في خلاوى الغبش، وكان هذا الأخير من أساتذة المهدي ووكيلا له في بربر. 

سافر مدثر إلى الحجاز في أكتوبر ١٨٨١، أربعة أشهر بعد إعلان الدعوة المهدية، وظل في المدينة ستة أشهر يتعلم العلوم الدينية من علماء مغاربة منهم عبد الحي ومحمد جعفر الكتاني وأحمد الشنقيطي ونال من كل منهما إجازة. عاد إلى السودان في مارس/أبريل ١٨٨٢ وانضم للدعوة المهدية وصار كاتبا للإمام المهدي الذي قيل أودعه النسخة الأصلية للراتب. مات الإمام المهدي في يونيو ١٨٨٥ فصار مدثر كاتب أول ديوان الخليفة.

دخلت الطريقة التجانية أقاليم السودان الغربية والسودان النيلي في منتصف القرن التاسع عشر وذلك بفضل مجهودات الداعية محمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي. جمع الشنقيطي بين الدعوة والتجارة وتنقل بين مصر والحجاز وتمبكتوووداي ودارفور حتى استقر به الحال مؤقتا في بربر في ضيافة تاجر آخر هو زين العابدين المغاربي. سلك الشنقيطي الكثيرين في طريق التجانية خلال هذه الفترة بما في ذلك محمد الخير وأبو القاسم هاشم وأسرته ومدثر الحجاز. شب خلاف عظيم بعد وفاة زين العابدين المغاربي بين أقاربه والشنقيطي، فانتقل الأخير إلى جزيرة أم حراحر جنوب شندي وتوطن فيها وتملك أرضا وأنشأ عصبة كما واصل دعوته لطريق التجانية فانضم إليه أحمد الهدي السوارابي الذي نشر الطريقة التجانية بدوره في مناطق الشايقية وفي جهات دنقلا. 

تعلق مدثر الطريقة التجانية بفضل الشنقيطي، ثم جدد هذه الصلة بنيله الإجازة العلمية من القاضي أحمد سكيرج في مكة عام ١٩١٥/١٩١٦ وهو من كبار شيوخ التجانية وأغزرهم تأليفا وتولى القضاء في سطات المغربية. كان الحج ميعاد مدثر الحجاز للقاء شيوخ التجانية من كل أنحاء العالم الإسلامي، من ذلك لقاءه في سبتمبر ١٩٢٧ الشيخ الكبير هاشم بن أحمد بن سعيد الفوتي (واشتهر باسم "ألفا هاشم") الذي أجازه كذلك، ولقاءه إبراهيم بن الحاج عبد الله نياس السنغالي. كما توثقت صلة الحجاز بكبير التجانية في مصر الشيخ محمد بن مختار الحافظ وتبادلا الرسائل حتى الأجل. 

يقول مؤرخ السودان الغربي الكبير أوفاهي أن الطريقة التجانية صار لها بنهاية القرن التاسع عشر ثلاثة مراكز رئيسة في السودان، جزيرة أم حراحر جنوب شندي وشيوخها آل الشنقيطي، وخرسي في كردفان وشيوخها آل الدرديري وأوسلي في ديار الشايقية وشيوخها آل الهدي. أسس مدثر الحجاز والهاشماب مركزا جديدا للتجانية في أم درمان بعد انهيار الدولة المهدية تزعمه الشيخ محمد البدوي نقد وهو أزهري تولى القضاء في بربر وأم درمان خلال المهدية ثم صار عضوا في مجلس العلماء الذي أنشأته الدولة الاستعمارية حتى وفاته في ١٩١١. خلف مدثر الحجاز الشيخ محمد البدوي نقد في مشيخة التجانية في أم درمان ونقل مركز الطريقة إلى زاويته في ود البنا التي شيدها في ١٩٠٦. تعايش الحجاز مع حكومة الأمر الواقع الاستعمارية ونال منها حظوة كما لم يعارض التعليم العلماني، وتخرج ابنه وخليفته محمد المجذوب (١٩٠٠-١٩٨٥) في كلية غردون. 

خالف الحجاز التجانية بإصراره على توقير الشيوخ من غير التجانية وجمع بين أذكارهم وأذكار التجانية. كما ظل وفيا للمجاذيب أساتذته الأوائل وكتب مدحا غزيرا لشيوخهم خاصة محمد مجذوب الطاهر المجذوب وكان يعنون خطاباته لهم بتوقير شديد: "حبيبي" و"سندي" و"غوثي" و"سيدي". كما اتصل بشيوخ السمانية بخاصة عبد المحمود نور الدائم حفيد الشيخ أحمد الطيب في طابت وكتب عبد المحمود تقريظا لديوان الحجاز "بهجة الأرواح". ولما مات عبد المحمود نعاه مدثر الحجاز بقصيدة عصماء. كذلك اتصل الحجاز بالشيخ قريب الله حفيد الشيخ أحمد الطيب ومؤسس فرع السمانية في أم درمان. لم ينقطع الشيخ قريب الله عن الصلاة في مسجد الحجاز إلا عندما أقام المسجد الخاص به في ود نوباوي. إلى ذلك كان الحجاز صديقا لأحفاد الشيخ أحمد بن إدريس بخاصة محمد بن على بن أحمد بن إدريس وداوم على زيارة أسرته وأقاربه في دنقلا وأم درمان، وتوثقت هذه الصلات بالذات مع محمد شريف بن عبد العال بن أحمد بن إدريس والذي خص الحجاز بوصفات علاجية بخط جده الإمام أحمد بن إدريس. فوق ذلك، سلك الحجاز الطريقة الختمية على يد محمد عثمان الميرغني (١٨٤٨-١٨٨٦) وكان عبر هذا الباب صديقا مقربا للسيد على الميرغني. لم توجب هذه الصلة انقطاعا عن المهدية حيث ظل الحجاز على صلة بالسيد عبد الرحمن المهدي (١٨٨٥-١٩٥٩) في زمرة صداقة ضمته وأحمد هاشم وعبد الله حمودة السناري. 

شمل عالم الشيخ مدثر الممتد إلى المغرب ودار فولاني كذلك الحجاز العربي وكان في الغالب يرى نفسه كادرا مجاله أرض الإسلام وتردد كثيرا على مركزها الحجازي. توثقت علاقته بالشريف حسين وتبادلا رسائل عديدة يخاطبه فيها الشريف حسين بعبارات احترام بالغ: "العالم الفاضل الشيخ المدثر" إلى جانب المعايدات التقليدية. كما لبى كل من مدثر الحجاز وأبو القاسم هاشم دعوة من عبد العزيز آل سعود بصفتهما من علماء المسلمين للمشاركة في المؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد في مكة في يونيو ١٩٢٦. كان من أغراض المؤتمر إعادة تنظيم الحج بعد تناقص أعداد الحجيج بسبب القتال بين الوهابية والهاشميين على السلطان. 

لم يكن مدار اللحمة الإسلامية التي كان كادرها في أم درمان الشيخ مدثر الحجاز نيليا وكفى، فالطريقة التجانية عابرة للحدود والقارات ومن ذلك صلاته التي ورد ذكرها. مثلت الطريقة من هذا الباب جسرا غزير المرور بين السودان النيلي والسودان الغربي فمقابل الحجاز في أم درمان كان الشيخ إبراهيم سيدي محمد التجاني (١٩٤٩-١٩٩٩) في الفاشر. تقرأ من سيرة الشيخ إبراهيم موقعا وسطا للفاشر بين السودان النيلي وبلاد السودان الغربية، الفاشر فيه محور وليست طرفا هامشا. وقماشة التاريخ الذي نشأ فيه وصنعه الشيخ ابراهيم قماشة كثيفة متعددة الطبقات وليست مقابلة صمدية، كما في محقة المثقفين الدموية بين أولاد بحر وأولاد غرب. 

تعود جذور الشيخ إبراهيم إلى أسرة من مالي، ولد في الفاشر ومات والده وهو في عمر السابعة فنشأ في كنف أخواله في مليط ثم عاد إلى الفاشر لمواصلة دراساته الدينية على يد عمه أحمد التجاني بن محمد سلمى (المتوفى عام ١٩٨٥). أكمل الشيخ إبراهيم الثانوية في الفاشر ومنها انتقل للدراسة في معهد بخت الرضا (الدويم) وعاد منه أستاذا في المدارس حيث عمل في زالنجي والجنينة ونيالا. لم تطل خدمة الشيخ إبراهيم في الحكومة فانقطع عنها بعد سنين قليلة وكرس جهده منذ ذلك الحين للطريقة التجانية. تتلمذ لسنين عديدة مع شيخين عظيمين، عيسى بن عمر الفلاتي في الجنينة وعمر أبو بكر الملاوي في القضارف، ونال من كليهما إجازة. ثم أسس في العام ١٩٧٩ زاوية في جوار المسجد الذي شيده والده في حي التجانية في الفاشر. 

امتاز الشيخ إبراهيم بتبشيره بتعاليم الشيخ نياس السنغالي في التربية الروحية، الأمر الذي جر عليه نقدا شديدا من شيوخ التجانية الآخرين في السودان وتشاد ونيجيريا ممن أنكروا هذا التعاليم. كانت تعاليم الشيخ نياس في جوهرها فضا لخصوصية التربية في الطريقة وإشاعة لأسرارها. زكى الشيخ نياس عددا من الأوراد ألزم بها المريد تحت إشرافه، وجعل مدتها وقفا على "ذوق" المريد، وقال هدفها النهائي تزكية النفس وإدراك المعرفة ذلك في مقابل التسليك الروحي الطويل الذي يتضمن صياما ممتدا وخلوة قد تبلغ أسابيع عديدة أو شهور لخاصة الخاصة من المريدين المختارين بعناية. عارض غالب شيوخ التجانية هذه البدع النياسية خاصة وهي تهدد احتكارهم التجربة الصوفية وهياكل التراتب الباطنية بترفيع مريدين من العوام إلى مقامات أعلى. إلى ذلك شجع الشيخ نياس أتباعه على الهيللة (ذكر "لا إله إلا الله") جهرا، بينما كان الثابت وسط التجانية الإمساك عن مثل هذا الإشهار. تطور هذا الجدل إلى خلاف عظيم حول كتاب الشيخ إبراهيم "السم الزعاف" والذي تولى فيه الرد على كتاب "التكفير اختار بدعا تهدد السلام والوحدة بين المسلمين في نيجيريا" بقلم الشريف إبراهيم صالح، وهو من شيوخ التجانية في مايدوغري النيجيرية. انقسم بذلك أتباع الطريقة التجانية في دارفور بين معسكرين، مع وضد الشيخ إبراهيم، وفقد بذلك الإجماع الذي رشحه لتولي زعامة التجانية في عموم السودان. 

تمسك الشيخ إبراهيم على كل حال بتفسيره للعقائد التجانية، شعاره في ذلك "التجانية للحياة" ويقصد من ذلك استنباط تصور كلي للحياة من تعاليم الشيخ أحمد التجاني. شدد الشيخ إبراهيم من هذا الباب على أهمية العمل والكسب وطالب مريديه بطاعة ملزمة تحل فيها خدمة التعاليم التجانية والطريقة التجانية والمجتمع ككل محل المصلحة الفردية. لم يسافر الشيخ إبراهيم خارج السودان على عكس الشيخ مدثر الحجاز إلا قليلا. أدى فريضة الحج وزار شمال نيجيريا في ١٩٨٤. عزم في ١٩٩٧ على رحلة برية يطوف فيها على مراكز الطريقة التجانية في موريتانيا وفاس المغربية مرورا بشمال نيجيريا والنيجر ومالي. لكن مكر به أتباع خصمه الشريف إبراهيم صالح فقررت الحكومة التشادية إبعاده بعد وصوله انجمينا فلم يتحقق مراده ومات بالفشل الكلوي في سبتمبر ١٩٩٩، الأغلب بعلة الصيام الطويل. نعاه مريدوه بشعر رقيق منه بقلم محمد الأمين التجاني السيد: 

رأيتك وابلا تهب العطايا، رباب الخير تطفح بالدنان

ففي علم الطريق بلغت شأوا، بتأييد من الشيخ التجاني

وفي فن القريظ سكبت بحرا، فخمر أزاهر الفاشر رواني


KARRĀR, ʿALĪ ṢĀLIḤ, and YAḤYĀ MUḤAMMAD IBRĀHĪM. "A SUDANESE TIJĀNĪ SHAYKH: MUDDATHTHIR IBRĀHĪM AL-ḤAJJĀZ (1866/67–1937)." Sudanic Africa 14 (2003): 61-75.

 

Seesemann, Rüdiger. "THE WRITINGS OF THE SUDANESE TIJĀNĪ SHAYKH IBRĀHĪM SĪDĪ (1949-1999): WITH NOTES ON THE WRITINGS OF HIS GRANDFATHER, SHAYKH MUḤAMMAD SALMĀ (D. 1918), AND HIS BROTHER, SHAYKH MUḤAMMAD AL-GHĀLĪ (BC 1947)." Sudanic Africa 11 (2000): 107-124.

 

Triaud, Jean-Louis, and David Robinson, eds. La Tijâniyya: une confrérie musulmane à la conquête de l'Afrique. KARTHALA Editions, 2000.

 


Monday 7 August 2023

ملاحظات قصيرة عن فقه الانقلاب الشيوعي

تكرر في مناسبة ١٩ يوليو السؤال عن فقه الانقلاب وهذا شرح قصير من العام الماضي أو قبله، وقول المرحوم عبد الخالق محجوب الناصع في هذه المسألة مبذول في ورقته لمؤتمر كادر الحزب التداولي ١٩٧٠. 

عبد الخالق محجوب - المعرفة

سلام عزيزتي، 

هذا سؤال قديم جديد كما تعلمين، وخاض فيه بجدية عبد الخالق وأحمد سليمان بعد حل الحزب الشيوعي في صيف ١٩٦٥ والنفوس ضجرة وسيرة الانقلاب على كل لسان في طلب نصرة أكتوبر. وقتها وقف عبد الخالق بقوة ضد خيار الانقلاب وجاء بدفوعات في ذلك ونادى أحمد سليمان بالانقلاب وجاء كذلك بدفوعات. انتهت هذه المباراة النظرية أول شأنها إلى انشقاق الحزب الشيوعي في ١٩٧٠ بحسب الموقف من الانقلاب الذي وقع حقا، انقلاب مايو ١٩٦٩. جدد عبد الخالق أول الأمر دفوعاته القديمة ضد الانقلاب، وذلك في بيان اللجنة المركزية صباح ٢٥ مايو، وقال هذا الانقلاب يمثل سلطة البرجوازية الصغيرة أو قسم منها ولا يمثل سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية التي نرنو لها وهي اجتماع قوى طبقية تشمل العمال والمزارعين والحرفيين ليس لهم موقع في السلطة الانقلابية وليس لمنظماتهم موقع كذلك. ثم جاء بالنبوءة التي أهملها لاحقا وقال هذا طريق الآلام وسيؤدي بنا استعجال البرجوازية الصغيرة وقصر نفسها إلى هلاك أكيد، وقد كان. نحرت البرجوازية الصغيرة الحزب الشيوعي ومنجزاته وسط قوى العمل وارتد به إلى نادي مناجاة للمثقفين الثوريين أو ما شابه حتى يومنا هذا وقد انقطعت صلاته العضوية بقوى العمل حملها ما لا تطيق وفرط في عقدها المنظوم ببسالة صبورة كأنها ملك يمين وليست كذلك. 

لم يلتزم عبد الخالق هذا الموقف الصافي من مايو والتشخيص الدقيق للانقلاب كوسيلة إلى السلطة واندرج في مايو بحذر ثم بحماس ثم بحذر على أساس قريب من قولك في اقتناص الممكن وكان طابعه في العلاقة مع مايو التردد المميت، والسبب المباشر فتنة جهاز الدولة التي أصابت الحزب الشيوعي والشيوعيين وقتها وكان منطقهم كمنطق اليوم. نحن نريد من جهاز الدولة تحقيق الأهداف هذه، أهداف برنامجنا، وجاءتنا الفرصة فلننهض لتحقيقها. لا يخفى عليك أن مايو اختارت أقطابا شيوعيين لشغل المواقع الأولى في الوزارات، من وزير ووكيل وزارة ومدراء أقسام الخ وضرب المثل في ذلك أن محمد سليمان سكرتير تنظيمي الحزب صار وكيل وزارة الداخلية وذلك ضمن سياسة "تطهير الخدمة المدنية" من العناصر الرجعية. بل كان الحزب ونساؤه ورجاله في طليعة الدعوة السياسية لسلطة مايو "الاشتراكية"، جند الشفيع أحمد الشيخ اتحاد العمال لنصر مايو في الموكب الشهير وكتب محمد إبراهيم نقد ميثاق الاتحاد الاشتراكي بيده وتولى التبشير به وسط الرأي العام. التفت عبد الخالق ووجد نصف حزبه في مواقع السلطة، وسدروا، انفرطت وحدة الفكر والإرادة وانحل قيدهم التنظيمي، كل يعمل بما يرى من موقعه الجديد ولا سلطان لهيئة عليه. انفراط الحزب هذا هو ما أربك عبد الخالق إيما إرباك ودفع به في الطريق الذي انتهى بانقلاب ١٩٧١. لم يجد عبد الخالق موقعا في الحزب على التزام الطاعة مثل وحدات العسكريين. والطريف أن التنوير لصغار الضباط الذين تولوا مهمة الانقلاب كان في أغلبه احتجاج على اتفاقية الدفاع المشترك بين نميري وقذافي وناصر وقاموا من ساعتهم تلك في طاعة آمريهم. 

هل يجيب هذا على سؤالك عن الانقلاب؟ نعم، فأول الانقلاب كما شخص عبد الخالق ثقة فيها رعونة شديدة في قدرة البرجوازية الصغيرة من الضباط ومن في حلفهم من الأفندية في صناعة التاريخ كو كو، بقوة جهاز الدولة أو من علياء قوانينه. وقد تورط عبد الخالق نفسه في هذه المناجاة حين كتب من منفاه في القاهرة يقرظ هجمة جهاز الدولة على الأنصار في أبا باعتبارها معركة بين التقدم الذي بيد الجيش والرجعية التي أحاطت بجماهير الأنصار، وفرط في ذلك في تحليله الطبقي لعلاقات القوى وعادى المساكين بوزر أئمتهم. الثانية أن الانقلاب يدير وجهه للفوز بثقة الجماهير الشعبية عن طريق تنظيماتها المستقلة ويستبدل ذلك بعلاقات الإرشاد والأمر والنهي كما في الاتحاد الاشتراكي الذي أراد به الشيوعيون وقتها، وبقلم محمد إبراهيم نقد، كسب جماهير الريف المنتجة إلى حلف حضري قلبه الجيش التقدمي. لكن لم تنجح هذه المحاولة بل فشلت أيما فشل وتجددت علاقات القوى الريفية، القبلية والإثنية، في الاتحاد الاشتراكي على مستواه المحلي كما كانت من قبل في الإدارة الأهلية سوى أن ولد الناظر أصبح سكرتيرا للاتحاد الاشتراكي. الثالثة أن الانقلاب لا يلقي بالا لعلاقات القوى الاجتماعية، الطبقية من موقع نظر الماركسية، ويفترض أن جهاز الدولة مستقل عنها ويمكنه بضرباته المتتالية أن "يصفر العداد" إذا جاز التعبير ويبدأ من الأول. كل ذلك كذبته التجربة مع الانقلاب، في مايو ١٩٦٩ وفي يونيو ١٩٨٩، ولذا فخيره منزلق.  

كما قلت، جذب الانقلاب الساعة ربما فكرة أن بإمكان انقلاب تقدمي أن يهزم مثل حميدتي، لكن من هو حميدتي؟ أهو الشخص وكفى أم هو اسم لقوى اجتماعية نهضت للسلطة وهي عماد قوته، فمتى هزم الضباط الأشاوس من الصف التقدمي المزعوم حميدتي الفرد بقت هذه القوى وتجرع الجميع الغصص لسوء تدبيرهم. يبدأ الانتصار على حميدتي بإدراك المنشأ الاجتماعي لقوته وتناقضات الاقتصاد الريفي التي جعلت المليشيا صيغة للحياة وأداة للحكم، وكيف يمكن الاقتراب منها. بديل ذلك ورطة المرحوم عبد الخالق محجوب في قوله "عنف البادية" وهو يواجه غضب الريف على الحزب الشيوعي. 


Saturday 5 August 2023

تعريب كتاب روزا لوكسمبرغ - مقدمة في الاقتصاد السياسي

 هذه مخطوطة غير مكتملة كان قصد المؤلفة روزا لكسمبرغ أن تَصدُر خلال العامين ١٩٠٩ و١٩١٠ مجزأة في ثماني منشورات ومكتملة في كتاب واحد، صدرت تعريبها في أرشيف الماركسيين على الانترنت هنا. خالص الشكر للأستاذ علي بطحة. 

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.