Thursday 4 July 2024

عبثيْةْ، بت الكلب

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٦ بتاريخ ٢٧ يونيو ٢٠٢٤.

جوشوا كريز، خلود خير ورجاء مكاوي، السودان يتضور جوعا، مجلة «عرض نيويورك للكتب»، ٢٣ يونيو ٢٠٢٤.

صدر هذا المقال في مجلة «عرض نيويورك للكتب»، مجلة رصينة حسنة التحرير، وقضيته الأولى إقامة الدليل على أن أهل السودان على باب الله، جوعى تقطعت بهم السبل في أوار حرب هم فيها ضحايا وكفى. ولذا لا قوامة لهم على أنفسهم وإن حملوا السلاح للقتال والدفاع عن أنفسهم وانصلب تربالهم للزراعة بما تيسر وفاحت بني كربو في قيزان خلاويهم للسائل والمحروم وقامت وسطهم لجان طوارئ ومطابخ جماعية؛ ومهمة المجتمع الدولي هي إنقاذهم، وأن لم يقم بهذه المهمة فشل مرة وأخرى وأدمن الفشل.

وطن الُكُّتّاب الثلاثة هذه الخلاصة في تاريخ للحرب واقتصاد الغذاء والجوع بين يدي الدولة وريثة الاستعمار، دولة ٥٦. أحسن الُكُّتّاب عرض هذا التاريخ من التفاضل في الشبع والجوع بين حواضر السودان وأريافه لكن زاغ عنهم تشخيصه، فردوا أمره إلى حكم "طبقة ضيقة من النخب العربية ذات القاعدة في السودان النيلي"، وجعلوا بذلك العرق محل الطبقة الاجتماعية. وهذا زعم مستقر في الأكاديميا الغربية عن السودان، المفاصلة فيه بين «عرب» ظالمين و«غير عرب» مظلومين وعلى الباغي تدور الدوائر. وتكررت في المقال كلمة عرب ١٢ مرة بأكثر من معنى، فطغمة الحكم الضيقة في حوض النيل عرب، والجنجويد من أهل دارفور عرب، والعرب في الإمارات العربية عرب. ولا تمييز في المقال لهذه الانزلاقات في مدلول «آراب»، فكله صابون.

لهذا السهو عن تمايز الطبقة الاجتماعية عن العرق تبعات، فمتى ما كان مدار الصراع العرق والثقافة انسد الطريق أمام الحل التقدمي وانفتح الأفق أمام التطهير العرقي. وهي القضية التي وقف لها المرحوم عبد الخالق محجوب منافحا عن "أحفاد الزبير باشا" في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥ ومن تبع خطته من بعد ذلك بإحسان. فقال لحقهم التاريخ واستفادوا الدروس والعبر ونشأت وسطهم منظمات تقدمية ديمقراطية بما في ذلك الحزب الشيوعي. بل قبل حتى جون قرنق ببعض هذا المعنى فالخصم عنده في مانفستو الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لعام ١٩٨٣ "طبقة بيروقراطية متبرجزة" نسبها في الاقتصاد الاستعماري. أما غير العرب فهم لموم من أقوام مختلفة لا ينشغل الُكُّتّاب كثيرا بتمايزهم كقولهم قرى غير العرب حول الفاشر. لا تحيط شفرة عرب وغير عرب بحرابة السودان الحالية، ولذلك لم يجد الُكُّتّاب بدا من تعطيلها على وجه السرعة، وإن ابتدروا بها شغلهم، فقالوا أججت الحرب التي اندلعت في الخرطوم الانقسامات العرقية حول الأرض والسلطة ولذلك انقطعت الصراعات بين العرب وغير العرب في جنوب وغرب كردفان عن المعركة حول الخرطوم أو كادت، هذه غير تلك. ولم يأت الُكُّتّاب بطبيعة الحال على ذكر صراعات عرب وعرب كمثل حرب السلامات والهبانية المستمرة أو صراعات داخل جماعة عربية واحدة كمثل حرب بيوت المسيرية على بابنوسة أو اعتزال المحاميد من شيعة موسى هلال حلف الماهرية وآل دقلو، فمن أعرب من غيره؟

انتقل الُكُّتّاب من العرض الممتاز لاقتصاد الشبع والجوع الذي صدروا به المقال مباشرة إلى هندسة الشوكة فكتبوا أن السودان خلو من أي حكم يعتد به، بل "لا توجد دولة تستحق الاعتبار" في رأيهم، زايلي وزايل نعيمكي. وعلقوا هذا الحكم العظيم على مشجب "أصدقاء سودانيين" يتحدثون عن "وطن ممزق إلى مزع تديرها جماعات مسلحة مختلفة." لكن لم يصل الُكُّتّاب ما ابتدروا حول اقتصاد الشبع والجوع باقتصاد الحرابة القائمة، فهي حرب في تصويرهم من مرض السودان بنفسه وخلاص كده. اكتفى الُكُّتّاب في هذا الباب بنسبة كل طرف من طرفي الحرب إلى حليف اقليمي فكتبوا حالف الجيش مصر وحالف الدعم السريع الإمارات العربية المتحدة. وقد سبق الدكتوران مارك دفيلد ونيكولاس ستوكتون إلى كشف جوانب من هذه الصلات بين اقتصاد الغذاء والحرابة القائمة في السودان (مجلة «عرض الاقتصاد السياسي الافريقي»، م ٥١، ع ١٧٩، ٢٠٢٤) واسطتها سوق رأسمالية للماشية، ترد من بادية كردفان ودارفور وتتلقفها مدن الخليج العربي، تبلع جب وجب.

ما الخلاصة إذن؟ عند الُكُّتّاب الثلاثة "السودان خلو من الدولة ذات السيادة"، وشرحهم لها أن القوات المسلحة السودانية فقدت الشرعية الدستورية بالانقلاب في ٢٠٢١ ومن ثم علق الاتحاد الافريقي عضوية السودان، وعلى كل حال يسيطر الجيش بالكاد على نصف السودان. والسيادة التي يقصدها الُكُّتّاب إذن وظيفة تتحقق بالرضا الإقليمي والدولي وقد انتهى أمرها بالحرابة الدائرة الآن. عاقبة هذا التعريف للسودان كخلاء خال من الدولة ومن السيادة ولو تبهدلت هو طرح فضاءه وأرضه وأهله للسلطان الدولي. وهذا ما انتهى إليه المقال، تكأته في ذلك عقيدة غير منطوقة في قوامة «المجتمع الدولي» على غير الدولي، أي قوامة الدول الكبرى على سواها. وهي عقيدة يعود نسبها إلى «عبء الرجل الأبيض» القَيّم على أوباش متوحشين في خلاء افريقيا وآسيا لما يكملوا مطلوبات السيادة، وأضعف الإيمان وضعهم تحت الانتداب.

يقترب الُكُّتّاب من هذا التصور كل الاقتراب، فنصيحتهم للأمم المتحدة إن كانت فعلا تريد إشباع جوعى السودان أن تتحلل من كل اعتبار للسلطات في بورتسودان، وهي عندهم عين القوات المسلحة السودانية، وتنقل مركز عملياتها الإنسانية من بورتسودان إلى عاصمة في الإقليم، ورشحوا لذلك نيروبي، بحيث لا تقع تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية. ومن ثم يمكن للأمم المتحدة أن تؤسس مراكز عمليات عابرة للحدود في تشاد وجنوب السودان ويمكنها أن تتفاوض مباشرة مع القوى المحلية بما في ذلك الدعم السريع. وللأمم المتحدة إن أرادت أن تحتفظ بموقع في بورتسودان لإدارة المعونات الموجهة إلى مناطق سيطرة القوات المسلحة. وقال الُكُّتّاب لن تقوى السلطات على طرد الأمم المتحدة فالحاجة عظيمة للمعونات الإنسانية في مناطق القوات المسلحة السودانية والوضع الاقتصادي بائس. بماذا ينصح الُكُّتّاب إذن إن كان للسلطات رأي آخر؟ استغربت هذا الحماس للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية من جوشوا كريز، وقد تصدى بحذق لكشف اقتصادها السياسي في جنوب السودان، وجاء هذه القضية بحجة قوية وبيان في أكثر من مقال وكلمة بعناوين مثل «مأزق الملاك: إذا كان العمل الإنساني سياسيا، فما سياسته؟» (مجلة بافلر، ع ٧١، نوفمبر ٢٠٢٣). لكن، حربنا "عبثية"، عرب وما عرب. 

Saturday 15 June 2024

جورنال من البلد: المدينة في عين المدفعجي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٤ بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٢٤.

صن تزو (٢٠١٨ [القرن الخامس قبل الميلاد]) «فن الحرب»، فنغربرنت للنشر.  

ستيفن غراهام (٢٠١١) «مدن تحت الحصار: العمران العسكري الجديد»، فرسو للنشر. 

جمع الجنرال الصيني صن تزو حكمة حروب «الدويلات»، ويؤرخ لها بالفترة ٤٧٥ إلى ٢٢١ قبل الميلاد، ما قبل قيام الإمبراطورية الصينية الأولى، في مؤلف صغير الحجم عظيم الأثر عنوانه «فن الحرب». تجددت حياة هذا المؤلف في الأكاديميا العسكرية الغربية مع كل مواجهة امبراطورية، خلال الحرب الأميركية على فيتنام والحروب الأميركية على العراق وأفغانستان. والكتاب في الواقع أقدم وثيقة بشرية في مسألته، وتحرير بليغ للاستراتيجية والتكتيك، اتخذه الثوار الصينيون بقيادة ماو تسي تونغ انجيلا لهم في حربهم ضد الغزو الياباني وضد خصومهم الكومنتانغ، ويعرفه الضباط في منهج تعليمهم وتدريبهم. 

تقرأ عند صن تزو: "أعلى درجات القيادة هي إحباط خطط العدو، والأقل درجة منع التحام قوى العدو، ودون ذلك الهجوم على قوى العدو في الميدان، وأسوأ الخطط على الإطلاق حصار المدن المسورة". ويواصل: "القاعدة إذن هي عدم محاصرة المدن المسورة إذا تيسر تفادي ذلك. [...] سيدفع القائد الذي لم يعد يستطع السيطرة على توتره بجنوده مهاجمين كنمل غاص، والنتيجة مقتل ثلث الجنود بينما تظل المدينة عصية." لكن، كيف تخضع مدينة إذن؟ صارت هذه القضية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عقدة في العسكرية الغربية، نشأ حولها علم بحاله تحت عنوان «العمران العسكري الجديد»، مداره الدروس الحربية من محاولات إخضاع مدن عامرة في بلاد المستضعفين، بغداد وكابول وغزة وغيرها، ومحاولات حماية حواضر أوروبا الغربية وأميركا من هجمات منظمات قتالية غاضبة وانتحاريين أفراد.   

بعض شغل هذا العلم، جواب على سؤال: كيف تبدو المدينة لمدفعجي؟ ولا مناص، فقد تحول واحد من كل عشرة من أهل العالم إلى سكنى المدينة وتحولت كذلك الحروب من مواجهات بين تشكيلات عسكرية في «النقعة» إلى حروب كثيفة في بيئة العمران الحضري، وتضعضع كذلك التمييز التقليدي بين الحروب داخل الدول والحروب بين الدول. أما العقيدة الأهم في «العمران العسكري الجديد» فهي ألا فرق يعتد به بين مدني وعسكري، بل ما في حاجة اسمها مدنيين، فكل مدني هو إما مقاتل مخاتل، أو محتمل، أو مشروع مقاتل، أو متعاون، على كل حال هدف عسكري مشروع.

فاقمت عدة عوامل من هذا التوتر الحربي للمدينة، على إطلاقها، ومن ذلك في بيئة الكرب الافريقية: تسارع التحول الحضري، ودونك انفجار مدن مثل نيالا والخرطوم بالسكان، نازحين وغلابة ومغامرين كسيبة؛ تباعد الخليج الفاصل بين غني وفقير، توسع مسارح الصراع الدولي على الموارد، الانقلاب الكبير في الاقتصاد السياسي للدولة في ربع القرن الأخير والصدمات المتتالية لتحلل الدولة من كل دور اجتماعي، موية شراب ومدرسة وشفخانة. وملخصه أن الدولة فقدت كسوار للاجتماع عبر حزام يشق العالم، من أفغانستان حتى مالي، احتكارها للعنف وسيطرتها على الجغرافية. وكما أطبق التسليع على كل أوجه الحياة أطبق كذلك على المقاتل، فهو بضاعة في السوق، لا يهم من البائع ومن المشتري، يقاتل في مليشيا حضرية أو ريفية أو جيش خاص لصاحبه فلان أو حركة مسلحة إقليمية أو شركة أمنية أو كما تيسر، موسمي أو فُلْ تايم!  

والمدينة بهذا التصور، بغداد أو كابول أو مقديشو أو غروزني أو غزة أو الخرطوم أو الفاشر، ليست فقط موقعاً وجغرافيةً للحرب بل هي وسيلة الحرب ذاتها، وسيلة مرنة دائبة الحركة والتغير ويمكن تكييفها ظرفيا، وأول ذلك تفجير التمييز بين مدني وعسكري فيها، فكل حي مقاتل وكل موقع ميدان قتالي. وبذات القياس لا معنى للتمييز الصارم بين المحلي والإقليمي والكوني، فشبكات المال والسلاح لا تعترف بالخريطة ولا تلقي بالا للحدود القطرية.

لفلاسفة الحرب الجديدة «رطانة» خاصة، تقابل في تعقيدها وتجريدها «رطانة» فلاسفة الرأسمالية المتأخرة، من صف ما بعد البنيوية على سنة دولوز وغواتاري، وتستلف منهم عبارات ومفاهيم. فالحديث عن حروب غيرية، هجينة، غير متوازية، ريزومية أو جذمورية، أو حروب الجيل الرابع. والمدينة وفق هذا التصور كتلة ثلاثية الأبعاد تتمنع على الرصد والمتابعة بطبقات فوق طبقات من الحواجز المحسوسة، جغرافية بناءها وفضاءها، وحواجز بشرية، أهلها، وحواجز اجتماعية وثقافية، العلاقات بين أهلها وشفرتهم الثقافية. وجمع كل ذلك «الفضاء القتالي» الذي تدور فيه معركة لا تبدأ لتنتهي، هي الحرب التي هي السلام بعبارة جورج أورويل في «١٩٨٤»، حرب تدور في الشوارع والخيران والعمارات السوامق والرواكيب والقطاطي ودور العبادة، حرب شاملة كبسط الأمن الشامل، ولا تتمايز فيها التكنولوجيا السلمية أو المدنية من الحربية أو العسكرية، وأولها تكنولوجيا الاتصالات الرقمية وتطبيقاتها الشبكية في الرصد والمتابعة والتصوير والبث الحي، صوت وصورة. 

لذلك، العدسة في هذه الحرب سلاح كاسر، فهي حرب على الهواء مباشرة، تنقل وتبث للمستهلك كأداء مشهدي على شاشة يقبضها في يده، وجاذبيتها أنها وبرغم وربما بعلة دمارها الفتاك والقريب حتى الغبار على شعر الجلد، تقدم للمستهلك ما يتعطش له، هدف ومعنى للحياة ومغزى. والمشهد الحربي كما تنقله الصورة المصنعة أم فلاتر، وهي عمل فني، أوقع من الحرب نفسها، صورة فاقت الأصل وفضت الحجاب الرقيق بين الواقع والخيال، حجاب «الحرية».

المدينة في عين المدفعجي إذن خريطة يعيد تركيبها أو يطيح بمعالمها بالكلية، يفض ختمها بمدفعه ويفجر فضاءها القتالي ثم يفتح الطريق لاكتساحها الحربي بالسلاح وشبه الحربي بإعادة الإعمار على نمط جديد يحرث أرباحا طازجة بالمضاربات العقارية. ولا بد لتبرير هذا العنف الكاسح من عدو حضري أو طبقي أو عرقي جوهري الشر خارج التاريخ، لا يفارقه شره وإن قام وسطه حزب شيوعي، عدو يسكن عالما للأموات، دمه وماله وعرضه حلال بلال. ويدخل في هذا الباب إعادة رسم خريطة مدن بحالها بالقوة العسكرية كاكتساح الآلة الحربية الأميركية للفلوجة ومواقع أخرى للمقاومة العراقية وهدم الآلة الحربية الإسرائيلية للمعمار الفلسطيني فوق الأرض وتحتها بحرب ضروس أو بأوامر للإدارة العسكرية أو المدنية للمدن، ولا فرق، «إبادة المدينة» في أدب «العمران العسكري الجديد». ولكن: شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور!


Sunday 9 June 2024

جورنال من البلد: الفَشَّ غبينته خرب مدينته

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٣ بتاريخ ٦ يونيو ٢٠٢٤.

عمار المدينة في السودان النيلي من عمار السوق، بالدرجة الأولى التجارة مع العالم، وكانت أعظمها شأنا في "عصر البطولة" بعبارة الدكتور سبولدنغ سنار التي تعود نشأتها إلى العام ١٥٠٥، وقامت قبلها بنحو ثلاثين عام أربجي. أصبحت سنار عاصمة ومقرا للسلطنة بعدها بحوالي قرن، لكن تمايزتا كسوق، فسنار كانت مركزا للتجارة الملكية بيد السلطان وأربجي كانت مركزا للتجارة الخارجية بيد التجار أنفسهم. هدم جنود محمد الأمين، حاكم العبدلاب، أربجي في ١٧٨٤ وانتهت دورة حياة سنار عاصمة السلطنة بغزو إسماعيل باشا في ١٨٢١. 

والخرطوم كذلك، كان عمارها بعد اختيارها حصنا عسكريا ثم عاصمة سياسية وتجارية لدولة التركية في السودان دالة لسوقها الذي كان في أول عهده، بحسب اللورد بريدهو في ١٨٢٩، يتكون من "عشرين سقيفة تباع فيها القهوة والقمح والسكر الأسود بأسعار مرتفعة. وتباع فيها كذلك قليل من النظارات وقلادات العنق والأساور وهي كل ما تستخدمه النساء من زينة هنا، وكانت كل الكماليات تأتي من القاهرة، وأثناء رحلتها الطويلة إلى الخرطوم يرتفع سعرها مرتين أو ثلاث. وقد تجد بعض البضائع المستوردة من الهند مثل الزنجبيل المحفوظ والسكر نبات." سرعان ما فاقت الخرطوم ثروة سابقاتها، واكتسبت بحسب زائرها أ. تي. هولرويد في ١٨٣٧ "بسرعة فائقة أهمية على حساب شندي وسنار، وهي الآن مكان تتم فيه الكثير من التبادلات التجارية، بحكم موقعها الملائم كملتقى للقوافل التي تحمل المسترقين المجلوبين من الحبشة وسنار وكردفان."

تحولت الخرطوم بذلك من قرية مقر للشيخ أرباب العقائد الذي انتقل إليها من توتي في حوالي العام ١٦٩١ إلى حاضرة أممية تأخذ بألباب الزائرين، ومنهم في ١٨٥٢ الأديب الأميركي بيارد تايلور الذي خطفت قلبه: "تمتد فيها مبان على النهر لمسافة تفوق الميل. وفيها رأيت بيوتا جميلة تحيط بها حدائق من أشجار النخيل والسدر والبرتقال والتمر هندي. ولقصر الباشا (الحاكم العام) منظر وحضور يفيض بالمهابة والجلال رغم أن جدرانه لم تكن مشيدة سوى بالطوب غير المحروق. [...] كان بإمكاني أن أتأمل وأنا بالخرطوم في برية من أشجار النخيل والبرتقال والرمان والتين ونباتات الزينة المزهرة كالدفلي (ورد الحمير) والكروم المتدلية." وأضاف هي "المدينة الأكثر تميزا وأكاد أقول إنها ربما كانت المثال الوحيد للتقدم المادي في إفريقيا في هذا القرن، فهي لم تكن شيئا مذكورا قبل نحو ثلاثين عاما، ولم تكن فيها بيوتا سكنية، فيما عدا بعض الأكواخ البائسة، أو قطاطي القش التي كان يقطنها بعض الفلاحين الإثيوبيين. أما الآن فهي مدينة يربو عدد سكانها على ثلاثين أو أربعين ألفا، وتزداد المدينة يوما بعد يوم مساحة وأهمية، وغدت سوقا تجارية جاذبة لكثير من وسط إفريقيا الواسعة."

لكن، لحضارة الخرطوم التي انشرق بها تايلور الأديب معادل ديالكتيكي في شقاء أهلها وعذاب رقيقها، سلعتها الأولى: "ونصف سكان المدينة من المسترقين الذين جلبوا من الجبال فوق فازوغلي أو من أرض الدينكا على النيل الأبيض. غير أن اشمئزاز وتقزز المرء من منظر وعادات تلك الأعراق المرذولة المسترقة يكاد يفوق شفقته ورثائه عليهم. وقد وجدت أن السير في المفازات المؤدية لسنار أقل إيلاما للروح والجسد من شق الأزقة في أمكنة سكنهم القذرة. وعلى الرغم من طبيعة سكان الخرطوم، فالسلطات تحافظ على نظافة المدينة ومنظرها العام. سيكون يوما سعيدا لروما وفلورنسا عندما تغدو طرقاتها خالية من الأوساخ بأكثر مما هو حادث في هذه المدينة الإفريقية." وفرت هذه المدينة الباذخة لزوارها كل شيء، وكتب جيمس غرانت الذي زارها في ١٨٦٣ أنه وجد فيها كل ما تطيب له النفس بما في ذلك السيجار الفاخر والنبيذ الجيد والجعة ذات الرغوة.

ورغم ذلك، لم تشبع هذه الفاتنة شهوة الخواجة لحياة غير، قتلته حرا ومللا، فاشتكى جيمس هاملتون: "يمثل موسم الأمطار الذي يمتد طوال عشرة أسابيع إلى إثني عشر أسبوع، مايو حتى يوليو، امتحانا عسيرا للأوروبي وتكوينه، فالجو عبارة عن حمام بخار، ولا مناص من تجرع المشروبات الروحية للحفاظ على الصحة. ليس ثمة بلد تبدو فيها الكحول ملائمة لكل المواسم مثل السودان. أقر بذنب أني عببت من العرقي الممزوج بالماء خلال حر الشهور التي قضيتها في السودان أكثر من الذي شربت في كل حياتي السابقة. شربت أحيانا باينت (حوالي نصف لتر) كامل في اليوم، وذلك دون أن أشعر بأدنى أعراض السكر. [...] وتراني أجد في ملل الإقامة الطويلة في مكان كهذا العذر لضحايا هذه الظروف المساكين، من يقبلون على تجاوز الحدود الضيقة بين الاعتدال في الشرب وإدمانه، هذه العادة المميتة. يتطلب التوقف عند الحدود المطلوبة شدة على النفس وسلطانا، خاصة عندما يهوي الثقل بالميزان، وتخرع الأعصاب، وتتعطل حتى الوظائف اللاإرادية للبدن ولا تستعيد عجلتها سوى بالمحفزات. لم أر من يمسك بالكلية عن الكحول في هذا المكان سوى الحاكم وأعضاء البعثة الكاثوليكية، وفي كل حال ظهر للعيان أن امتناعهم عن الشراب كان له تداعيات أسوأ عليهم من الإدمان." 

أما بقعة أم درمان فبذرتها التقوى وقوسها الركاب، بدأت حياتها نحو العام ١٦٤٦عندما انتقل إليها الشيخ حمد ود أم مريوم مع مريديه من جزيرة توتي وأنشأ فيها خلوة لكن اندثرت هذه بالحزازة مع شيخ منافس وظلت بعدها محطة تجارية ضمت مرسى الموردة وسوق صغير ومواقع لصناعة الطوب. ثم غابت عن الرادار حتى حل الإمام المهدي ديم أبو سعد في أكتوبر ١٨٨٤ لدعم حصار الخرطوم حتى النصر في ٢٦ يناير ١٨٨٥ فصارت له عاصمة للوعد، خارج التاريخ، وقد اشمأز أن يسكن عاصمة الترك الخرطوم، ثم مات عن أم درمان في ٢٢ يونيو ١٨٨٥. تحولت البقعة الروحية على يد خليفة المهدي وزعيم الدولة المهدية الخليفة عبد الله التعايشي إلى عاصمة في الزمان والمكان بمنشور صدر في ٢٧ يونيو عام ١٨٨٥ أمر فيه بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى بقعة المهدي. بلغ عدد سكان أم درمان في ذروتها المهدية ربع مليون نسمة، مدينة انشغل رجالها بالحرب ونساؤها بصناعة الحياة. 

وقعت أم درمان الكبرى تحت ثلاث وحدات مالية، عمالات في قاموس المهدية، عمالة الشرق وتمتد من العيلفون إلى حجر العسل وعمالة الغرب وتمتد من خور شمبات إلى حجر العسل وأم درمان العاصمة وتقع تحت إمرة الخليفة شخصيا. أما التنظيم الإداري فكان من مسؤولية قادة الجيش، رؤساء المية والمقدمين، عليهم تصريف شؤون الفرقان تحت إمرتهم وأول ذلك حصر المجندين للقتال وتنظيم الحبوب والمرتبات. نشأ السوق الكبير في أم درمان في هذه البطانة العسكرية السياسية في موقعه الحالي شمال غرب الجامع وفي صلة مع الصي إلى الغرب منه. تولى رجال الدولة مهمة بناء وتنظيم السوق ومن ذلك توزيع المساطب والمحلات وجمع أصحاب البضائع المتشابهة في هذه الجهة أو تلك زيادة للمنافسة وتيسيرا للمستهلكين وأهم من كل ذلك لتعضيد سلطان مسؤولي بيت المال على التجار وزيادة دخل الدولة من إيجار المحلات. كذلك عين الخليفة شرطة للسوق ومحكمة خاصة وفرعا لبيت المال بها يسمى «ضبطية السوق» شغله جمع الضريبة من أصحاب المحلات وجمع الغرامات التي تفرضها الشرطة على مخالفي النظام العام من سكارى ومدخنين ومقامرين. 

تولى مهام تنظيم السوق مباشرة وهبي حسين عداي، مفتش شرطة المهدية في أم درمان، وكان في العهد البائد قائدا لجيش غير نظامي مساند لجيش التركية. وكان له قوة مكونة من ٢٥ شخص يطوفون بالسوق لتفقد اللحوم والخضروات ومراقبة الأسعار والأوزان والمقاييس ومنع التهريب (خاصة الرقيق والجمال)، وجمع القمامة وتنفيذ أحكام المهدية في الفصل بين الجنسين ومنع الدعارة والتدخين والتمباك وشرب الكحول والقمار والتبول والتبرز في الأماكن العامة وفاحش القول والبذاءة. توسعت محكمة السوق خلال سنوات المهدية الدولة حتى صار عدد قضاتها خمسة قضاة جل شغلهم الفصل في منازعات الديون.

كما هو متوقع تمنعت المدينة على النظام، ولم ينقطع بيع الخمر قط، اتصل في حي فنقور وحي باقرما لجمهور غزير فيه أمراء في الدولة. وصارت الجبة المرقعة، التي بدأت أول أمرها علامة للزهد، موضة عند مترفي المهدية، متسقة الألوان منسقة من فاخر القماش، تحمل الأحرف الأولى لاسم صاحبها. وسرعان ما عادت النساء إلى السوق بواقع الحال، لا يمنعهن مانع. كانت أكثر مشاريع الخليفة عبد الله حماسة وطموحا في هندسة المدينة الاجتماعية هو سعيه تطويق العلاقة بين «أولاد البلد» و«أولاد العرب» بالزواج المتبادل وتذويب اليهود والمسيحيين السابقين (المسالمة) في محيطهم كذلك بالزواج. تصور الخليفة عبد الله بهذا المعنى المهدية الدولة نحوا حضريا من عناصره مواطن تقي مهذب سمته الهجنة وسوق مرتب نظيف ومحكمة منصفة، وكانت أم درمان إنشاءً بهذا النحو وما تزال بدرجة أو أخرى، تركت فيها المهدية سوقا عامرا متحضرا: "أكبر سوف للبيع بالجملة والتجزئة، وهي موردة البضائع (الوحيدة) للأقاليم. [...] دنقلا ودار الشايقية تمد أم درمان بالتمر، وترسل بربر لها الملح والحصائر وصناعات السعف اليدوية، بينما يصل لأم درمان من كردفان الصمغ العربي والسمسم والدخن، ومن الجزيرة الذرة والدمور والقطن. وتصدر كركوج لأم درمان السمسم وكمية قليلة من الذهب." "وإذا الموءودة سئلت.. بأي ذنب قتلت"!


استفدت في كتابة هذه الكلمة من كتاب روبرت كرامر "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية ١٨٨٥ ١٨٩٨" (ماركوس فينر للنشر، ٢٠١٠) الذي صدر بتعريب الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي (دار المصورات، ٢٠١٩) وكتاب جيمس هاملتون "سيناء، الحجاز والسودان: رحلات في أرض ميلاد النبي  وعبر الصحراء الأثيوبية، من سواكن إلى الخرطوم" (ريتشارد بنتلي للنشر، ١٨٥٧) وكتاب المرحوم الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تاريخ مدينة الخرطوم" (دار الجيل، ١٩٧٩).

Saturday 1 June 2024

جورنال من البلد: الدعّامة بدوّنوا لكن بتجلّي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٢ بتاريخ ٣٠ مايو ٢٠٢٤.

البيئة الصوتية لأم درمان الحربية قسمة بين دوي القذائف ومجروس الحياة اليوماتي. فلحن نباه الفجر والآذان من هذا الجامع وذاك خلفية لضرب المدفعية. ويميز الناس أصوات الضرب بفهم، فهنالك صادر ووارد. الصادر ما ينطلق من مدافع كرري نحو مواقع الدعم السريع وعلامته صوتان، صوت انفصال القذيفة وصوت ارتطام الفارغ، الأول عظيم محيط ترتج معه المباني بُمْ، والثاني إشارة لحنية تِرِمْ! أما الوارد فالقذيفة القادمة من مواقع الدعم السريع، وهذه يسبقها أزيز يعلو ويحتد مع اقترابها حتى تسقط وتنفجر، يتلو صوت انفجارها صمت عازل لبرهة قصيرة، هو انشقاق القدر ربما، ثم تتوالى بحسب موقعها وضررها أصوات العذاب. يستمر هذا التنويع بين صادر ووارد لفترة أو ينقطع ليتجدد ولا يمكن التنبؤ بمواقيته سوى تلك الموجة الصباحية. لكن لا تهدم القذائف المعمار الصوتي لليوم، فمتى ما انسدل الستار عن شمسها الحراقة ارتفع بناء أصوات الحياة حتى قام: عصفور في ركشة في كلب في عربية في دفار في كواريك الشفع في سك سك في زنق في ثلاثة ألف كتيرة في النور الجيلاني فيفيااااااان في كيلو الموز بألف في أذان في سارينة البوليس في دلوكة سيرة في ضحكاتهن، انضمت إليها رشقات رصاص كانت في عهد السلم تُسكت ما حولها لكن تضعضعت سطوتها بإزاء المدفع الرزام. 

لا تفك هذه الأصوات شفرة الطفلة بضفيرتين في عمر المدرسة التي تقف عند الفرن في الضحى تنتظر رغيف الصدقة. لم توافقها نفسها بعد على التبذل أمام المحسنين، وقد تهتك غيرها كل التهتك أمام المانحين، فلا تنطق ببنت شفة، تبحلق في محيطها كأنها تحاول أن تحكم السيطرة عليه. فالرغيفة التي ثار تلاميذ عطبرة على المخلوع يوم راوغ بمضاعفة سعرها من جنيه إلى جنيهين اليوم بمئة جنيه، ألف جنيه لتسع رغيفات والكيس بمية. والربحية في أم درمان الحربية خراج للمسافة والحواجز على حركة السلع، أمر حكومي أو تفتيش أو حاجز ترابي حتى، الطماطم في صابرين ثلاثة ألف للكيلو وفي المهداوي أربعة ألف للكيلو والبنزين في شندي ٩ ألف للجالون علني في الطرمبة وفي أم درمان الحربية ١٧ ألف للجالون سري في الواتس. منعت السلطات بيع البنزين للملكية في أم درمان الحربية خوفا من تسربه إلى الدعامة، فنشأ سوق باطني للبنزين، يقوم صاحب العربية الملاكي من صابرين إلى شندي بركاب، يفول التنك في شندي، يعود بركاب ونصف تنك ربما، ويطرح ما فاز به من بنزين للمشترين في قروب الحلة والشباب "قدر ظروفك" من التنك بخرطوش، شَفِطْ وتفتفه.

تخفف أم درمان الحربية عن نفسها بالعبادة، فتدوين الدعامة وإن جلّى هدفه في هدم الحياة بالكلية يصيب كل يوم ديارا وحافلات نقل وأسواق، ويختطف نفوسا لا يعرف عددها أحد على وجه الدقة، جثث للكبار والصغار تسترها القبور لكن لا تحيط بها الأرقام فهي لا تصلح مادة لتبذل المتبذلين. هؤلاء هم "الضحايا" الخطأ، فُلول شيعة "الأبولدا"، الجيش في قاموس جنود الدعم السريع، أو من هم في ضرا "القوة الخشنة للإسلاميين التابعين للمؤتمر الوطني" بعبارة الزعيم السياسي ياسر عرمان. على كل حال، تجددت بالبلاء مقاصد العبادة في نفوس الأهل فمساجدهم في أم درمان الحربية التي تحللت من أعمال المكاتب والرحلة إلى الخرطوم تمور في أوقاتها الخمسة بالمصلين وقد تجددت وظيفتها، يطمئن الفرد منهم بجيرانه في الصف ويشغل جمعهم حوش المسجد بالونسة، يقف مناديهم عند المحراب يعلن عن الوفيات من أهل الحي، من ظل في أم درمانه، ومن نزح عنها وجاء خبره، ويقود الدعوات. ويطمئن صاحب الحاجة إلى سترة الجامع فيعلن عن مسألته: بيت فاضي، بيت للإيجار، مصاريف، كرسي متحرك، دواء نادر أو بهمس ربما رصيد، وهذه الحاجات وقضاءها عروة وثقى من الاقتصاد المعنوي.

يعبر الأهل في مواقيتهم هذه حواجز ترابية عظيمة تسد مخرج كل شارع داخلي إلى الزلط، هي بعض الإعداد الدفاعي لأم درمان الحربية. ويحرس كل تقاطع واستوب صف جديد من المقاتلين تكشف عنهم علامات ملكية قريبة، الحياء ولين العبارة والشعر الكثيف المفلفل وسماعات الأذن خالي سلك وأحذية رياضية وارد السعودية ونظارات طبية على الموضة، لكنهم اعتادوا على البنادق، لا تخرب الرصة. هؤلاء في معظمهم أولاد الحلة، ثوار أحرار، وقد صار معسكر التجنيد والتدريب معمل تضامنهم الجديد، اكتشفوا فيه خُوّة القتال فوق خُوّة النضال، رباطهم عند ثغر حلتهم، تأخذهم الخطى عند تبديل الحراسات إلى المصطبة المعلومة، وقد أدار كل منهم قبضة يده حول ماسورة بندقيته الممشوقة بين رجليه مداعبا، ثم إلى الفرن وبتاع الطعمية وتنتهي عند ديار قريبة، شبابز مع السلامة! فاق عدد المتطوعين للتجنيد في محلية كرري وحدها ثلاثين ألف مقاتل، رجالا ونساء، خضعوا لتدريبات اللياقة البدنية والبيادة في ميادين الحلة حتى تعليم ضرب النار في سفوح جبال كرري. ومن هؤلاء ثمانية آلاف تقدموا للقتال في جبهات أم درمان. تلقى هؤلاء تدريبا إضافيا على فنون القتال والأسلحة الوسيطة في معسكرات الجيش لا يغادرونها حتى اكتمال إعدادهم، تسمع منهم قصة تحرير أحياء أم درمان القديمة حتى الإذاعة وأخبار المعارك في حارات أم بدة الغربية وفي صالحة. صارت الجندية الجديدة عند هذا الصف علامة للجيل يفخر أحدهم أنه لم يتأخر عن إخوانه، ولا تتوجس من مرآهم الطفلة الواقفة في الفرن أو يفر صاحب الدكان، ويتسابق الأطفال خلف أحدهم للفوز بلمس حديد البندقية، عليك الله يا محمد، عليك الله، بس شوية!

كان المقاتل الجديد حتى أبريل ٢٠٢٣ طالبا في المدرسة الثانوية أو طالبا جامعيا أو كان انزلق من التعليم لتعذر المصاريف ودقش السوق، سايق ركشة أو سايق حافلة، كهربجي أو ميكانيكي أو سباك، أو كان عاطلا يتحين فرص الرزق كما تيسر سمسرة ربما ومجازفات. وقضية المقاتل الجديد مما يستحق نعت "الوضوح الجمالي" لا غموس فيها، ولكل منهم موجدة. شهد المقاتل ذل نفسه وعذاب أسرته وأهله وجيرته ودمار عالمه بيد جنود الدعم السريع ونيرانهم فقام يتصدى لهذا العدوان بما يتطلب من شوكة، قضيته بينة كما يستبين الجمال لناظره يفديه وينحر النفس على محرابه، قضية لا تقبل المراء والتزوير، وككل موصوف بالجمال، قد يراه سواك قبيحا. وقضيته من جانب آخر قضية "علمانية"، فالمقاتل الجديد لا يطلب تبديل هذا العالم المشهود بعالم آخر، عالم أخروي يستقيل فيه التاريخ، لكن يريد سلامة عروة اجتماعه في عالم الشهادة هذا بركشاته وزنقه ومجازفاته، الزوزو رمز الألف.


Thursday 23 May 2024

جورنال من البلد: عَمّ البلدْ أنفاسُه

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣١ بتاريخ ٢٣ مايو ٢٠٢٤.

ربما سبقت أمْ مرّحي الواقعة على ضفة النيل الغربية حوالي ٤٠ كيلومتر شمال أم درمان البقعة نفسها في النشأة، وقد سبقتها على كل حال كعاصمة روحية ففيها مسيد الشيخ أحمد الطيب البشير ود مالك ود محمد سرور (١٧٤٢-١٨٢٣)، مؤسس الطريقة السمانية في السودان، ومرقده الأخير. وهي بهذا القياس عاصمة لقطب من أقطاب الزمان. وُلد الشيخ الطيب في أم مرحي نفسها وتلقى العلوم في مسجد جده محمد سرور. كان محمد سرور من خاصة الشيخ حسن ود حسونة ويعتبر وريثه الروحي، وإليه يعود الجامع القائم في أم مرحي، وجاء تعريفه في طبقات ود ضيف الله كما يلي: "محمد بن سرور بن الحاج غناوة سلك الطريق على الشيخ حسن ولد حسونة وأرشده وجاءه بنفسه خطى له مسجده ولازم المسجد المذكور للعبادة وتلاوة القرآن صايم النهار وقايم الليل وكانت عنده دنيا عريضة لا توجد إلا عند الملوك والسلاطين ونسل أولادا كثيرة كلهم صالحون طيبون مباركون ودفن في مسجده بأم مرحي وقبره ظاهر يزار."

أسرة الشيخ أحمد الطيب واحدة من أربع أسر سودانية تشابهت سيرها في السلوك عند مؤرخ الإسلام في السودان ترمنجهام، والثلاث الأخريات آل غلام الله والميرغنية وآل إسماعيل الولي. ومن أحفاده محمد شريف نور الدائم (١٨٤١-١٩٠٧)، أستاذ الإمام محمد أحمد المهدي.  أخذ الشيخ أحمد الطيب البشير الطريقة السمّانية من مؤسسها في الحجاز محمد عبد الكريم السمّان (١٧١٩-١٧٧٥) خلال سبع سنوات قضاها في الحرمين الشريفين بعد تنقل بين مدارس السودان النيلي، حيث تلقى العلوم في جامع الفقيه ود أنس العوضابي في الجزيرة اسلانج القريبة، وسلك على يد الشيخ عبد الباقي (الشيخ النيّل)، ودرس في مسجد الفقيه أحمد الفزاري الفرضي في أم طلحة. ثم لزم الدروس في مسيد جده فقرأ على يد علماء أم مرحي العشماوية والعزية وشروحها وحواشيها ورسالة أبي يزيد القيرواني وشروحها وأقرب المسالك وشرحه ومختصر خليل، ولازم الفقيه سعيد ود بدري في الفجيجة مدة، ثم قصد الحج وهو في السادسة عشر من عمره حيث اتصل بالشيخ محمد عبد الكريم السمّان وسلك على يديه.

عاد الشيخ أحمد الطيب من رحلته تلك عابرا سواكن إلى أم مرحي واستطلع الظروف للتبشير بالطريقة الجديدة. ثم شد الرحال مرة أخرى إلى المدينة المنورة عابرا مصر، الزيارة التي أرخ لها مادحه الشيخ المكاوي في "يا ليلة ليلك جنّ"، درة من درر مديح السودان النيلي. زار الشيخ في سفره الشيخ حمد ود المجذوب في الدامر، وساح في الصعيد فزار قنا وسوهاج وقريب منها إخميم وأسيوط وهوار وأقام فترة في القاهرة وزار الجامع الأزهر والتقى بعض علمائه. وعاد من رحلته في ١٧٦٩ ليستقر في مسيده، فهو منذئذ "راجل أم مرحي":

جا من طيبة ومنارة وفي إخميم دخل بإشارة

ذكر القلل بعبارة وعشرة آلاف سكارى

والعلماء اندهشوا حيارى

أتوجه مصر المعلومة وجاتو الثقاة بعلوما

الأربعين عزومه أجزا وفّى لزوما

في مصر سوا بيانو واتوجه لسودانو

جوهو الخلوق بلدانه رووا من دنانه وزانوا

في أم مرحي دق ساسه عم البلد أنفاسه

قصد أهل أم درمان الحربية أم مرحي طلبا لشبكة الاتصالات أوان انقطاعها، واجتمع الخلوق أعلى الجبل (ارتفاع ٤٠٠ متر تقريبا) القريب من مدفن الشيخ أحمد الطيب هاتفهم يقول "لقطت.. لقطت"، فالشبكة وصل الأحبة وشريان بنكك. وفي باطن الجبل مغارات كانت مواضع خلوة شيوخ أم مرحي وجلوتهم، التقطوا فيها الفيوض خلال ٤٠٠ عام مضت أو يزيد، هي تاريخ أم مرحي ومسيدها، فما دولة ٥٦؟ على خلاف فيوض المشايخ لم تُمكّن الشبكة وقتها طالب الوصل أكثر من قول: خالك بكري لقيناه مكتول في بيت أب روف؟ ما سمعتك كويس، الصوت بقطع. قلت ليك: بكري خالك، ضربوه الدعامة، لقيناه في بيت أب روف ميت. منو؟ علي ماله؟ بكري قلت ليك بكري، الله يرحمه. مات! لا حولا، متين؟ ماله؟ ياخي قلت ليك ضربوه، ضربوه طلقة. المهم، ما تنسى دوا ستنا، دوا ستنا!

نهضت أم مرحي بمسيدها لمهمة الستر، ففيها على مسافة من أم درمان الحربية منافع للمساكين وأهل السبيل، يقصدون كسرتها غير المقطوعة أو ممنوعة، لا يلزمها تسجيل ببطاقة أو تصوير بآلة، فالمسيد مذ نشأ مفتوح على الشارع في كناية حديثة. تشهد زائرة المسيد هذا الخير بعلاماته، الإبل والضأن وشوالات العيش والبصل، يأتي بهذا الخير تقاة وأصحاب مسائل، ويصب من هذه الموارد في قيزان عظيمة فواحة هي وسيلة الأهل لتصويب عوج التوزيع حيث مال كل الإمالة وسد الفرقة. والكسرة عند مثل الشيخ أحمد الطيب هي مادة الدين، ومن ذلك قول العبيد ود بدر، سيد بقعة أم ضبان: "أدي القرش وفرّش البرش واملا الكرش شوف كان ما الناس عليك تندرش." تستفيد زائرة المسيد وظائف أخرى لهذه المؤسسة، فهي مدرسة لتعليم الزراعة ومعسكر لإعادة إنتاج قوى العمل الزراعي؛ يتخرج فيها الحوار تربالا قويما، يتأدب بخوة الكسرة ويتدرج في الإنتاج كوسيلة لإدراك نصيب من الفائض الاجتماعي.

شهد على هذه الوظيفة الإنتاجية كذلك المرحوم الطيب محمد الطيب، أستاذ علوم السودان، في مؤلفه «المسيد» (طبعة دار عزة، الخرطوم، ٢٠٠٥ [١٩٩٠])، وكتب في هذا الخصوص: "ولم يكن النشاط في هذه المرحلة يقتصر على الدراسة بل إن الطلاب كانوا يساهمون في زراعة الأراضي للمجاذيب وهبات الخلاوي من الأراضي التي يدفعها الملوك والأغنياء. وكان الطالب يملك حق العمل في الأراضي الأخرى أو الاحتطاب أو توفير بعض المال رغم مجانية الإعاشة والسكن في خلاوي المجاذيب" (ص ٢١٣). وشيخ المسيد خبير ومرشد "في المسائل الزراعية والرعوية وينبغي للشيخ أن يلم بمعرفة المواسم الزراعية دخولها وخروجها كما يعرف الأنواء وتقلباتها والأمور والمسائل التي لا يعرفها يوجههم لمن هو أدرى بها فيقصدونه لمشورته" (ص ١١٩).

لكن الشبكة حتى من أعلى جبل أم مرحي لا تغني، وإن صفت ووصلت، عن زمالة الدافنة الرؤوم، خاصة وقد أنشب الموت الحربي أنيابا طويلة في الجسوم ونصالا أمضى في سترة الاجتماع، الجيرة والرحم والزمالة. مس الأهل قرح من فداحة هذا الموت المتسارع، لكن ضاقت نفوسهم أكثر بفوت الطقوس وما تبثه من طمأنينة. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول، لكن بما يستحق من الإكرام. فالإنسان متى استأنس ليس وحشا في برية يزقل زقلا وقتما انقطعت أنفاسه، وصلاحه في عطن الثقافة وبلها، يرنو إلى الرموز والطقوس وبها يتعلق، يسعى روح عالم لا روح فيه بعبارة المرحوم كارل ماركس.

اختار المرحوم بكري منذ أمد طويل برا بوالدته سكنة في مقابل الدار الأم في أب روف، يراوح كل يوم بين الدار الأم وداره وعياله ويخاوي الأرزاق والمصائر. همبت جنود دقلو داره ودار أمه وهددوه بالقتل إن لم يغادر ويخلي "الموقع" في عبارتهم، فالموقع يصلح للتدوين. وكيف يبارح دارا لا يعرف سواها وكيف ينقل أما في التسعين ويزيد. بعث بكري أسرته الصغيرة إلى مأمن وظل مرابطا حيث هو حتى هجم عليه جند دقلو في ظهيرة ساطعة، قيدوه وساقوه أعزلا ورموه بالرصاص وزقلوا جثته في بطن خور. لم نقف على المرحوم بكري نلقنه الشهادة في ساعته الأخيرة، ولم نطرح جسده بيننا للغسل نكشف كل شامة وخدش وننفذ إلى عورته، ولم نضمخه بطيب البرود، ولم نلفه في كفن أبيض من الأكفان التي كان يجمعها لمثل هذه الساعة برا بالجيرة، ولم نحمله على عنقريب عليه مصلاية قطيفة نتبادل الحمل بيننا ونتنافس، ولم نقف عليه نصلي جماعة، ولم نحفر له قبرا في أحمد شرفي جوار قبر أبيه كما أوصى نتبادل المعاول بيننا ونعرق، ولم نتجارط عند قبره إن كان رأسه نزل عديل أو مال، ولم نهل عليه التراب نستره حتى يغيب بياض الكفن ونكوم من فوقه التراب، ولم نقرأ على قبره الصلوات ونكر يس مرة وأخرى، ولم نبرد عليه بالماء من فوق ذلك، ولم نغرس سعفة نخل في قبره علامة حتى نهيئ له شاهدا يحمل اسمه، ولم نتلقّ الفاتحة من الأهل والأحباب وننخج، ولم نفرش عليه كما يستحق وكما كان يحب، وهو رائدنا في بيوت البكا، ولم نذبح ذبيحا نطعم الناس أو نشرب الشاي في المغارب نذكر محاسنه ونلعن الحكومة، ولم نرفع الفراش بكلمة عن فضله وحسن سيرته بيننا، فمن الذي مات؟


Friday 17 May 2024

جورنال من البلد: تلاتة تفاحات بي ألف

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٠ بتاريخ ١٦ مايو ٢٠٢٤.

نشأت عطبرة أول أمرها عن المغامرة الاستعمارية في السودان، ضُرّتها عبر النهر المدينة القديمة في الدامر، مركز علوم السودان النيلي تحت جناح السادة المجاذيب. يسرت هذه النشأة من عدم لعطبرة جدة في العمارة والثقافة كانت سكن وموطن عمال السكة حديد، أفراد الطبقة الاجتماعية الجديدة الشاردين من ركام الإنتاج الزراعي بعمل الرقيق في السودان النيلي، نمط الإنتاج العبودي في خريطة المرحوم كارل ماركس الشهيرة. نسج أهل أتبرا بجهدهم المشترك العروة الوثقى لرابطة العمل المأجور، شيلني وأشيلك، وكافحوا كفاحا طويلا عسيرا لتعزيزها برا بجسد العامل، مصدر فائض القيمة، فخرجت من هذا الكفاح أوسع مواعين الوطنية السودانية: الطبقة العاملة الواعية بنفسها، وأكثر مؤسساتها جماهيرية: النقابة.  

تحولت عطبرة عبر قوس تاريخي من عاصمة للخُوّة العمالية العابرة للأقوام والأديان إلى متحف لها ثم بطفرة في قاعدة الاقتصاد إلى مركز لخدمات الذهب، تجهيزات التنقيب وآلياته ومواده، تشغيل عمال التنقيب وتشوينهم، اتصالات سماسرة بيع المعدن النفيس ومؤامراتهم. وتصيب الزائرة بعض آيات هذا التحول في جغرافية المدينة ومعمارها، من ذلك كما في بورتسودان الجمود الآركيولوجي لمحطة القطار القديمة، تحنطت ذاتيا بأنفة، كأنها مومياء تشهد على جحود اللاحقين بحنق أبدي، ذلك في مقابل الملجة الزاحفة في كل الاتجاهات لاقتصاد الذهب واجتماعه. لا يلقي التاريخ بالا للحنق، فهو ميدان الصراع، وزعلان السوق مين يرضيه؟  

عضدت الحرب هذا التحول العطبرواي من عاصمة للخوة العمالية، خوة تنبئ عنها أطلال عطبرة القرن العشرين، إلى ثغر متقدم من ثغور جبهة الذهب. استعادت عطبرة الجديدة بلولب التاريخ الماكر موقعها كعاصمة للنقل وسوق عظيم لكن بإزاحة السوق القديم الذي حلت محله بصورة أو أخرى الملجة المحيطة بالميناء البري. "الموز أبو نقطة الكيلو بألف، العنب العلبة مليانة شديد بألفين، تلاته تفاحات بألف، البتيخة الكبيرة بألف. خلي بالك، حصل حصل!"

تَعُبُّ البرندات المحيطة بهذه الملجة الكبيرة بقوة العمل المنتجة للذهب، ومعظمهم في حيز هجين بين الحرفي الذي يملك بعض وسائل الإنتاج، كاشفة ذهب أو أدوات حفر، يشارك بها صاحب البئر، والأجير الذي لا يملك سوى قوة العمل يبيعها خام لصاحب المال. وأمل الواحد منهم أن يجمع بجهد السنين ما يكفيه للتحرر من العمل المأجور وشراكة من موقع أدنى لينتقل من الإنتاج المباشر إلى خدماته: النقل وإيجار العدة والسمسرة والتهريب وغير ذلك. ووعي العامل من موقعه في حلقات الإنتاج وعلاقاته، ولذا، ربما كان عسر التنظيم الفئوي للمنقبين عن الذهب من هذه الهُجنة، إذ لم ينشأ رأس مال كاسر يستأثر وحده بوسائل إنتاج متفوقة تقنيا ليطيح بملكوت الحرفي الصغير ويغرف حقل أرباحه.

يشد الأهل الرحال من هذا الميناء إلى جغرافية الحياة الجديدة، وأول ذلك خط البصات السفرية عطبرة أسوان بتذكرة سعرها ١٠٠ إلى ١٥٠ ألف جنيه، وعطبرة بورتسودان بتذكرة سعرها ٢٠ ٢٥ ألف جنيه، وعطبرة سنار وعطبرة القضارف، وعطبرة شندي، وعطبرة صابرين. وتذكرة مقعد «الشريحة» بين عطبرة وصابرين بسعر ١٠ ألف جنيه. صارت بقعة أم درمان بهذا التحول هامش حربي تَسمى بالصبر وفقدت اسمها حتى، فمركزها اليوم صابرين، والصبر مفتاح الفرج.

تختبر المسافرة الطريق المكتظ بالشاحنات وحافلات النقل والعربات الملاكي بين عطبرة وصابرين، الطريق الذي يتحول من شرق النيل إلى غربه في مقطع المتمة شندي، كسلسلة من نقاط التفتيش، بوليسية وعسكرية وضرائبية. فهذا هو شريان حياة أم درمان الحربية يعرض فيه جهاز الدولة المنهك بالحرب ما فيه من باس في قبض الضريبة وضبط السكان. يحرس نقاط التفتيش كوكتيل من القوات، شرطة وشرطة مرور وجيش وأمن وعاملين على الزكاة في النقاط الكبيرة، وجيش ومقاومة شعبية في النقاط الأصغر عند كل حلة وقرية. والتفتيش كما تختبره المسافرة متعدد الأغراض، بعضه كشف عن المنشأ بالسحنة واللكنة، وأعظم الشك في الفئات العمرية في سن القتال. وبعضه بحث عن عدة قتال مدسوسة. وبعضه تمييز للبضاعة، أمشروعة أم مسروقة، مدفوعة الضريبة أم كيري، وهذا أكثر ما يشغل نقاط التفتيش حيث تنتظر الشاحنات عند النقاط الكبيرة دورها في تمحيص الفواتير والكشف على البضاعة. وبعضه حماس شباب القرى لتأمين محيطهم.

تغشى المسافرة هذا الطريق بين نقطتين تشدها نقطة الوصول، فهو عندها طريق للشوق القَلِق. لكنه لغيرها من شاغليه موطن وسكن ومعاش. انقضى للتو الموسم الشتوي، وحصد الأهل فولهم وبصلهم وثومهم. تعبر الشاحنات حاملة الكونتينرات القياسية المستطيلة، معظمها مصرية الترخيص، هذا الطريق محملة بالبصل في أكياس شبكية من خيط البلاستيك الأحمر مخصصة لعيار الصادر متجهة شمالا. وتعبره اللواري السفنجة محملة كذلك بالبصل في شوالات خيش للسوق المحلي، جنوبا نحو أم درمان وشمالا نحو عطبرة ومنها إلى سواها. وبعض البصل ما زال في المزارع، في أكوام عظيمة يغطيها القش، آمنة من السرقة المسلحة بفضل الحراسة المشددة على طول الطريق. يشد النظر في موقع وآخر مشهد المفاوضات الثلاثية بين تربال وسمسار وتاجر في ظل اللوري، كأنهم أبطال مسرحية من فصل واحد يتكرر منذ شنكل السوق قدم فاطنة السمحة في شركه.

هذه المفاوضات مسابقة في عض الأصابع. البصل المكوم في الحقول مهدد بالفساد ما لم يلفاه تخزين ملائم. ولا يستطيع التربال الخارج لتوه من نَهضّي الموسم توفير المال اللازم لترحيل محصوله مباشرة إلى سوق كبير. والتاجر صاحب رأس المأل مهدد بتدهور قيمة ماله السائل في عباب التضخم ما لم يتنقل في جسد السلع، بل تضاعف هذا التهديد بالفوضى الحربية المحيطة به، فلن يستطيع، ومسالك التجارة ميدان للنهب والسلب، التحول السريع من بصل بير الباشا إلى سمسم أم روابة أو أمباز الرهد أو صمغ جنوب كردفان حسبما يمطر الربح. أما السمسار، فمصدر خراجه المعلومات، هو العالم بقلق المزارع وظروف تعثره، مرته الوالده حديثا، أخيه الذي ينازعه في الأرض، البوكسي المعطل في حوش داره والديون التي تثقل كاهله، وهو العالم كذلك بحسابات التاجر، مخازنه التي طالتها الشفشفة، البنك الذي ينتظر رد مال مقروض، التاجر الأكبر في سلسلة الذي ينتظر وصول البضاعة في الميناء، وهو صاحب الصلات في نقاط التفتيش وبين عاملي الزكاة وجماعة جمارك الميناء، ويرفع فوق هذا وذاك سيف بيع الكسر!

يجمع السمسار المعلومات من البيئة المحيطة ومن صاحبيه مباشرة فهو ملك الراكوبة والسندة، محترف الونسة الذي لا يهمل شاردة أو واردة، بما في ذلك المرة الثانية المدسوسة في الحلة التحت أو الخسارة الأخيرة التي وسوس بها الجماعة في سوق القضارف، أصبح الموبايل بيده أذنا طويلة وكرة بلورية، سبحان الله. تجد الباحثة وصف هذه الشخصية المبكر عند الرحالة بروس الذي زار شندي في بداية القرن التاسع عشر وكتب أن بعض تجاره راكموا مالا كثيرا لكن ترددوا في الانخراط في تجارة الجملة نظرا لمخاطرها. أما السماسرة الذين عج بهم السوق فكان شغلهم التوسط في المعاملات الكبيرة لكن تعذر عليهم لنقص رأس المال شراء كميات كبيرة من السلع لبيعها لاحقا فتوسلوا الصلات مع التجار وتخصصوا في معلومات القوافل الصادرة من السوق والواردة إليه، مالها وبضاعتها وأمنها وضريبتها المستحقة للمك. وسعر البيعة حصيلة العرض والطلب، نعم، لكن بلوغاريثمات هذه المعلومات: ثلاث تفاحات ألف جنية، حصل حصل!

Thursday 16 May 2024

جورنال من البلد: كونوا مع الله يكن معكم

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٩ بتاريخ ٩ مايو ٢٠٢٤.

تكتب مواقع حجز الطيران بورتسودان بكل سهو، مكان كسواه، حل محل الخرطوم كمهبط للطيران الدولي في بلاد يمة ويابا، ومن هؤلاء في حساب صناعة مالها مليارات متلتلة؟ وموظف المطار كذلك لا يدري ولا يأبه بطبيعة الحال أن المسافرة اليوم إلى بورتسودان من أي موقع كان تجرب في الغالب طريقا جديدا لم تألفه نحو ديار غير الديار، وهي، على خلاف الموظف، لا يسعها الاطمئنان البيروقراطي إلى سلامة العادة، فهي في سفر على غير العادة، لا تعرف ما ينتظرها إلا ظنا.

تلتقي المسافرة في مطار القاهرة، محطة العبور الجوي الرئيسة إلى بورتسودان وغيرها من مدن العالم، أفواجا من الأهل في أحوال شتى، أوسعهم ألما كبارنا، خاصة المسافرة منهم الله ورقبتها، وقد صاروا حمولات للنقل في عربات المطارات الصغيرة وموضوعا لشفقة العاملين بها. "انتظري هنا شوية يا ماما وحتاجي العربية تسوقك،" وماما شقية بالارتباك بين العصا والشنطة والجواز والبوردنغ باس ورطانات ووثائق أخرى لتصنيف الناس وتعريفهم. تستقبل ماما هذه الشقاوة بالصبر الذي يردها إلى حبات المسبحة، ورثتها ربما من أمها هي الأخرى أو جاءت بها بنت بارة من مدينة الرسول وترد بما تعرف لمن لم يعتاد مثل عبارتها "عديلة، الله يباركك،" ففغر فاه وزاد الارتباك بينهما.

يقع على عاتق البالغة القادرة ضمن أدنى واجبات الاجتماع تنشئة الأطفال ورعاية الكبار، والمزاوجة بين الإثنين في البيت الوسيع يحقق الغرضين في حرز الثقافة الأسرية، المجال الحيوي لإعادة الإنتاج الاجتماعي. وانفراط هذه المزاوجة سقم في الهجرة التي فرضها بيع قوة العمل وبعزقة للمدخرات المالية والمكنونات الثقافية أعيت الناس. رشح بعض هذا الإعياء نكته وسخرية من جنس "الشهادة العربية" التي لا تحسن النحو المحلي للاجتماع ولا تفرز الخيوط الفاصلة بين السوق الشعبي والسوق العربي والسوق الأفرنجي. وكان بعض رد الناس على هذا الانفراط البيت المشيد في الخرطوم ينشأ بجهد جيل أول ويعود إليه جيل ثاني دوريا بيدهم جيل ثالث، عل هذه اللقاءات الموسمية تحفظ عهود الاجتماع. وهذه البيوت في بعض وظيفتها تأمين على الحياة، تتحول بها مدخرات العمل المأجور إلى مصدر مأمون للريع.

لكن تكذب بورتسودان قلق المسافرة التي أفزعها فقدان بيت الخرطوم المشيد، فما ينتظرها في بورتسودان هو السودان القديم، دولة ٥٦ بشحمها ولحمها، لكن تجدد بإرادة غير منطوقة لإعادة الاعتبار لما هو عادي ويومي في حمى الميري. تستقبل صالة صغيرة المسافرين ويتبادل الناس الإيماء والإيحاء طلب الطمأنينة. وكذلك يفعل رجال البوليس الذين يحرسون مدخل البلاد الأول عبر الطيران بجانب حرصهم الزائد على تمحيص سلامة الجوازات فدبلوا للكمبيوترات بقوائم مكتوبة يدويا. أشد الازدحام حيث المنافع التي صار لا غنى عنها لإدارة اليوميات، بنكك وزين وسوداني، وسوى ذلك كأنما تجددت الخرطوم في غير جغرافية الخرطوم. نشأ قصر جمهوري جديد من مبنى بيت الضيافة مقرا للحكم تحرسه المدافع ومضادات الطيران وغرست الإدارات الحكومية لها أوتادا جديدة بلافتاتها المعلومة وبغير لافتة ظاهرة كمقر المالية الجديد "عمارة جبريل".

المال عصب، وبورتسودان صارت مركز سلطان ومال تحت ظروف حربية. تنبئ عن ذلك أسعار إيجارات غرفها "الهوليوودية"، فالغرفة المفروشة في شقة قد يبلغ إيجارها ما يساوي حوالي أربعين دولارا أخدر وإن انقطعت عنها الكهرباء لساعات في اليوم تطول وتقصر، هذا بجانب مصاعب المياه المزمنة. وتظهر سطوة السوق هذه للمسافرة في مواضع غير متوقعة، تسرح فرق من فتيان الرشايدة بموبايلات آيفون ١٤ و١٥ جديدة لنج في أغلفتها البلاستيكية حيث تقف البصات السفرية عند هيا إلى جانبهم صبيان الهدندوة يبيعون النبق والدوم، تام ومقشر. والمسألة بين الإثنين أن فتيان الرشايدة بعض من شبكة تتصل بالسعودية وأسواق الخليج وشبكة صبيان الهدندوة لا تعبر الحدود، والشبكة شوكة.

للمسافرة عند هيا أن تختار لقضاء الحاجة بين ستر شجرة مجاني والاستجمار ومراحيض بتذكرة ٣٠٠ ج يحتكر الواقف عليها الأباريق وبرميل ماء، فالآيفون مهم لكن الحاجة أهم. كان برنامج الحزب الشيوعي يحتج على التنمية غير المتوازنة وآيتها المحلية في موقف هيا الصلات ما بين الآيفون والجمار والإبريق. تعرض هيا على المسافرة، خلاف هذه الآية الموحية، عقدة أخرى للاقتصاد السياسي، حربا وسلما. تعبر هيا القندرانات محملة بالقطن القادم من النيل الأزرق متجهة نحو الميناء في بورتسودان والقندرانات محملة بشوالات اليوريا متجهة من بورتسودان إلى الداخل وبين الإثنين فائض القيمة الذي عليه يتنافس المتنافسون حتى صار شواظ من نار ودم مسيل.

لم يبلغ إمام أحد مساجد حي الثورة في بورتسودان يوم الجمعة هذا المعنى لتشظي الحياة بحراب الاقتصاد، لكن ضره ما علق بنفوس الناس من جراء هذه الحراب. لام الإمام الخطيب المصلين الذين أموا مسجده حتى فاض بهم على نقص التقوى وقال جاءتهم الطامة بما كسبت أيديهم، ولم تثنيهم حتى الطامة عما هم فيه من فساد فحالهم ما قبل الطامة هو حالهم ما بعدها، لم ينتهوا ولم يتوبوا. لم يعين الإمام أوجه الفساد التي تأذى منها ولم يستدرك على حكمه أي استثناء، وصرخ فيهم أن كونوا مع الله يكن معكم. وبين أهل الحي تقاة يسعون مأكل ومشرب النازحين الذين اجتمعوا في خيام عشرة في حوش المدرسة الابتدائية، تقاسموا الحوش والتلميذات العائدات إلى الفصول منذ جمعة أو جمعتين. لكن، ربما ضاق الإمام بطرب المغنيات في حفلات الأعراس في ليل المدينة أو بلهو اللاهين في الكورنيش، وربما أيضا بفتنة الاستثناءات الجمركية ورخص الصادر.

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.