كنا في كلمات سابقات تلمسنا مفهوم "السلطة المزدوجة" لتقصى صراعات الفترة الانتقالية ورهاناتها. والمفهوم من اختراع لينين، وصف به التعايش العسير والمعقد بين الحكومة المؤقتة التي تولت الأمور في روسيا في أعقاب ثورة فبراير ١٩١٧ التي أطاحت بحكم القياصرة وبين السوفييتات (جمع سوفييت)، وهي المجالس أو اللجان التي نشأت وسط عمال المدن والجنود وتحولت بالممارسة إلى سلطة حية مضادة. كانت السيادة بيد حكومة كيرنسكي المؤقتة أما السيطرة على الرأي العام وتنظيم الحياة اليومية فقد فازت بها السوفييتات الديمقراطية حتى انتصار سلطتها في أكتوبر ١٩١٧. كتب لينين في أبريل ١٩١٧ ببساطة "إن السؤال الأساس في كل ثورة هو سلطة الدولة. لا يمكن المشاركة بذكاء في أي ثورة، دع عنك قيادتها، دون فهم هذه القضية"، مضيفا "إن السمة الرئيسة لثورتنا هي أنها أفضت إلي سلطة مزدوجة. لا بد من إدراك هذه الحقيقة وإلا لن نستطيع التقدم قيد أنملة".
نشأت في تقدير لينين "بجانب الحكومة الانتقالية.. حكومة أخري، ضعيفة، بدائية لكنهت موجودة واقعا وتنمو..". في تشخيصه لهذه الحكومة الضعيفة والبدائية قال لينين أنها "نشأت على أساس المبادرة المباشرة من الناس من أدنى وليس بقوة قانون أصدرته سلطة دولة مركزية، وهي بذلك سلطة مختلفة بالكلية.. وهذا لب القضية" فمصدر سلطة هذه الحكومة المضادة ليس قانونا ناقشه نواب برلمان وأجازوه وإنما الإرادة والمبادرة الشعبية، كل في منطقته وبوضع اليد. أضاف لينين من التجربة الثورية الفرنسية في ١٨٧١ سمات أخرى للسلطة المزدوجة، قال حلت القوى الشعبية المسلحة تسليحا ذاتيا محل الجهاز القسري للدولة، الجيش والبوليس، هذا الجهاز المنفصل والمنقطع عن الإرادة الشعبية والمناوئ لها. كما تحولت طبيعة البيروقراطية فإما استعيض عنها بالإرادة الشعبية المباشرة والتنظيم الذاتي أو تم وضعها تحت سيطرة العموم؛ وتحول موظفيها من جماعة خاصة ذات امتيازات إلى عاملين منتخبين يمكن الاستغناء عنهم متى ما أراد الناس.
فيما تفيد العودة إلى لينين هذه الساعة إذن؟ أليس في كوارث الاتحاد السوفييتي ثم انهياره ما يكفي من الشواهد على ألا رجاء من هذه السكة الخطرة؟ أليس كل طريق سوى الطريق الرأسمالي سراب يظنه الظمآن ماء. ألم تثبت التجربة مع الحركة الإسلامية أن كل فكر سياسي يحيد عما استقر من عقائد عالم السوق الرأسمالي الذي انقضى تاريخه محض جنون أو مراهقة؟ من جهة أخرى، ألا تطرح الثورة كل ذلك على الطاولة وأكثر، ليس من موقع الكاتب المتأمل الذي يقارع فكرة شاردة، صالحة أم طالحة، لكن من واقع الممارسة الحية والتجريب الماثل. ألا تطرح مجابهة الخميس ٢٠ فبراير في مركز الخرطوم بين قوى الجهاز القسري من جهة والجمهور الثوري الذي انعقدت إرادته لدى لجان المقاومة من جهة أخرى مسألة السلطة بالمباشرة والآنية التي تفرض مقارعتها الآن وإدراك كل جوانبها والوصول إلى خلاصات سياسية حولها، استراتيجية وتكتيكية، وإلا تعذر التقدم.
لا يمكن بطبيعة الحال انتزاع تاريخ لينين من ركام القرن العشرين وتكراره لكن يمكن الاعتبار في المغامرة السياسية التي اخترعها للثورة وقد كانت حتى ميزها تعد مستحيلا. اكتشف لينين سانحة للثورة تبدت بين رفث ودم وقال هذه هي، حل السلطة المزدوجة لصالح الجماهير بالعمل الحاسم على تحقيق "كل السلطة للسوفييتات". خالف لينين بتقديره هذا غالب الرأي في حزبه، فلم يوافقه علم من أعلامه كما أعلنت برافدا الناطقة باسم الحزب أن تقديرات لينين التي اشتهرت لاحقا باسم "مقولات أبريل" تخصه وحده ولا تمثل موقف الحزب ولا موقف جريدته. بل شكك كثيرون في صحته العقلية؛ قال الكساندر بوغدانوف أن لينين يهذي ولا بد فقد عقله وقالت زوجته ناديا كروبسكايا أصابه مس. أدرك لينين أن ظروفا وملابسات فريدة قد اجتمعت، والفرصة سانحة لفتح ثوري، لكنها متى مرت ولم يتم اغتنامها انحبست ربما لعقود قادمات. دافع لينين للمجازفة على طريقة "الرهيفة التنقد" كان الرعب من الآثار الكارثية للإمساك عن المغامرة، للصبر على الوضع القائم، للسهو في حضرة التاريخ.
صدع المتظاهرون يوم الخميس بقضية في صميم المسألة الثورية، هل ولاء الجندي لضابط عظيم يأمره أم للإرادة الشعبية التي هي محل خدمته الحقة. جابه المتظاهرون المنطق الصوري لضباط القوات المسلحة العظام الذين صرخوا بعقيدة "الزبط والربط" بمنطق مضاد قوامه الإخلاص للشعب لا نقابة السلاح. وقع الضباط العظام في تناقض ظاهر أشار إليه المتظاهرون بأصابع ممدودة، أقالوا ضباطا مختارين بشبهة مخالفة الأوامر وأعفوا أنفسهم فما فعله الملازم محمد صديق مخالفات لقانون القوات المسلحة وما فعله كبار الضباط، البرهان وسواه، انحياز يستحقون به حسن الجزاء. فضح المتظاهرون كل ذلك بالمبادرة الحرة وقد ارتبك إعلام القوات المسلحة يبحث عن الأعذار والواقع أنه فقد السلطان على العقول والأفئدة الذي كان يحفظ له قدسية "ممنوع الاقتراب والتصوير"؛ وسيرة وانفتحت.
ينطوي مطلب الخميس إعادة الضباط المستبعدين من الخدمة وما يتصل بذلك تباعا، إعادة هيكلة القوات المسلحة وتفكيك المليشيات وبناء جيش قومي وطني، على مسألة أولية هي "استعدال" العلاقة بين الجيش والناس. إذ لم يعد مقبولا بعد التجربة الطويلة التي انصرمت منذ الاستقلال بين انقلاب وثورة شعبية أن يستقل الجيش بسيادة تخصه وتعلو على إرادة المواطنين بل صار المطلب الذي تسرب من شعارات الخميس أن يخضع الجيش للإرادة السياسية المدنية ويتواضع أمام الشرعية الشعبية. قابل البرهان من جوبا هذا المطلب الثوري الأكيد بكلام لزج عن أهمية الوصول إلى تراض تام بين المدنيين والعسكريين للوصول إلى اتفاق سلام يعبر بالمرحلة الانتقالية إلى بر الأمان. لكن، أي أمان وأي بر يقصد البرهان؟ أهو أمان العنف الذي تشدقت بقانونيته الشرطة تريد تكبيل حرية التعبير والتظاهر التي فاز بها الناس عنوة لا منحة، أم هو أمان تعويم الجنيه وتحميل غمار الناس عجز الميزانية باختراع الصيغ لإطلاق يد السوق دون قيد أو شرط بينما يتمتع رأس المال التجاري بالدولار الجمركي والاستثناءات الجمركية ال "من لبن الرضيع مدفوعة" وتنفرد مؤسسات الجهاز القسري الاقتصادية بالحصانة. مقابل ذلك، غز الثوريون عودهم في ود عين هذه السلطات المتراكبة فبوصلة الخميس تؤشر في اتجاه ما يبدو اليوم مستحيل موضوعيا لكن جاءت الثورة بإحداثيات إمكانه.
No comments:
Post a Comment