فارق المرحوم عصام العريان الحياة في يوم ١٣ أغسطس الماضي وهو حبيس لدى جزار مصر عبد الفتاح السيسي في سجن العقرب شديد الحراسة، طرف حصين من أرخبيل طرة سيئ السمعة. قال محامي العريان لإذاعة بي بي سي أن وفاة العريان كانت "طبيعية". حكم قضاة السيسي على الدكتور عصام العريان بالسجن المؤبد مرة فوق الأخرى في عدة قضايا بعد الانقلاب الذي أطاح بحكومة المرحوم محمد مرسي وكان العريان علما من أعلام جماعة الإخوان وحزبها وعضوا في الهيئة الاستشارية للرئيس محمد مرسي. أسلم العريان الروح يوما قبل الذكرى السابعة لمجزرة ميدان رابعة العدوية في ١٤ أغسطس ٢٠١٣ حين اقتص جهاز الدولة المصرية من مواطنيه بالقتل الجماعي. حاصرت قوى الأمن ميدان رابعة، وقالت في الدعاية الرسمية، أن غرضها كان فض الاعتصام الذي انتظم فيه، لكن "حدس ما حدس".
نعت نقابة الأطباء المصرية عصام العريان، وقد كان من فرسانها، بجملة خجولة على حسابها في فيسبوك، قالت: توفي إلى رحمة الله الدكتور عصام العريان، أمين صندوق النقابة الأسبق، خالص العزاء لأسرته، ونسأل الله أن يتغمده برحمته الواسعة". لكن سرعان ما تراجعت النقابة عن نعيها المتواضع تحت ضغط زملاء المهنة والمواطنين، بحسب ما قال أمينها العام، ثم دفع الأمين العام باستقالته باعتباره المسؤول الأول عن كل ما يصدر عن النقابة مؤكدا أنه لم يكن على علم ولم يشارك في جريمة النعي هذه، فما آزرة النقابة إذن وما زمالة المهنة؟
انتخب العريان في العام ١٩٨٦ عضوا بمجلس إدارة نقابة الأطباء المصرية وكان مساعدا لأمينها العام. سيرة العريان قطف من نهضة الإسلام الحركي في مصر من هامش النظام السياسي إلى مركزه خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على يد جيل جديد من الإخوان المسلمين وطنوا أنفسهم على سلوك طريق العمل الجماهيري، ترجمت عنهم الدكتورة كاري روزفسكي ويكام في كتابها "حشد الإسلام: الدين والحركية والتحول السياسي في مصر" (٢٠٠٢). والكتاب تاريخ سياسي واجتماعي لنجاح العريان ومن والاه في جذب أجيال شابة من المتعلمين المصريين إلى سوح السياسة تحت ظل نظام قهري استبدادي.
في السودان، صرح من يمثل المؤتمر الشعبي لقناة الجزيرة أن وفاة العريان في سجن السيسي جاءت من ضمن سلسلة التصفيات التي يمارسها النظام المصري ضد القيادات الإسلامية في السجون، وصمت. ولا غرابة، على خلاف العريان وجيله، صد الإسلاميون من صفه في السودان عن مسالك العمل الجماهيري وفضلوا عليها مغامرة جهاز الدولة بالتقية ثم بالانقلاب فذبحوا حركتهم الاجتماعية على محرابه من الوريد إلى الوريد. يطلب الإسلاميون اليوم العودة إلى مسرح السياسة من ذات باب المغامرة الذي غادروا منه تلاحقهم اللعنات. لكن "باب الريدة وانسد" احتشد عنده سواهم وشددوا الحراسة. يطرح كتاب روزفسكي ويكام دروسا من تجربة الإخوان المصريين من جيل العريان في الفوز بالألباب لا البنادق والتفوق على مكابح الدولة الاستبدادية بصبر وتؤدة. كما تقدم الكاتبة تفسيرا خلاقا لهذه النهضة من موقع إسلامي في مقابل الحصاد المتواضع للقوى العلمانية في هذا المضمار.
حررت روزفكسي ويكام تاريخا دقيقا (مايكرو-تاريخ) لتجنيد الإخوان المسلمين في الأحياء الشعبية في هامش القاهرة الفقير. وقالت كانت المصلحة الذاتية مدخل العديد من خريجي الجامعات لدخول حوض الحركة الإسلامية بينما حفزهم الانخراط في شبكاتها الاجتماعية والمهنية على الالتزام الآيديولوجي والسياسي في صفها المعارض للسلطة القائمة. يسر لها بحثها الميداني أن تميز هذه المراحل فقالت تصاعد نشاط الوافدين إلى الحركة من قليل المخاطر إلى عظيمها كلما ترسخت لديهم عقيدة الحركة في أن النشاط من أجل التحول الديني "واجب" يستدعي التضحية. لم يكن استقبال الشباب المتعلمين لرسالة الحركة فقط نتاجا لجذب هذه الرسالة وتماسكها. لكن، وكما شرحت، يسرته ظروف خارجه عن الرسالة ذاتها من ضمنها أن دعوة الحركة الإسلامية ناسبت التجربة الحياتية والعقدية لهؤلاء الشباب؛ ومصداقية من تولوا بث هذه الرسالة وفعالية الوسائل التي انتهجوها؛ وتعزيز هذه الرسالة عبر مجموعات صغيرة على مستوى الأحياء لحمتها التضامن بين أفرادها.
رصدت روزفسكي ويكام مدخل الإسلامي الناشئ إلى الحركة في النشاطات الثقافية والاجتماعية لمسجد الحي والجمعية الطلابية فقالت بدأت صلة بعضهم بالحركة عبر الانضمام إلى حلقة دراسية أو مرافقة جار أو صديق إلى طقس تعبدي خاص في عيد من الأعياد. وفسرت جاذبية هذه النشاطات قليلة الخطر بقلة القنوات المتاحة خارج المنزل والمدرسة للتداخل بين الأفراد من جيل واحد. وفرت حلقة الدرس أو العبادة مجالا لا غبار عليه في مجتمع محافظ لالتقاء الخريجين من الجنسين خارج المنزل يبعث على الاحترام لا الريبة. كذلك وصفت روزفسكي ويكام تداخل أنماط التجنيد هذه مع العلاقات الشخصية بين الجيران والأقارب والأصدقاء فهي اعتمدت على تعضيد روابط اجتماعية موجودة لا القطيعة معها.
لذا لم يستهجن أهل الحي انخراط الخريجين في هذه الشبكات بل اعتبروها ملمحا من ملامح الحياة المحلية خاصة وقد أتاحت لناشئة الإسلاميين مجالا آمنا للنشاط الاجتماعي والثقافي لا يتعلق بمضمار السياسة شديد الخطر. ساعد على ذلك أن هذه العلاقات مثلت كذلك رابطة تضامن يجد فيها الناشئ من الدائرة المحيطة به من يعينه على إيجاد وظيفة أو تأشيرة عمل وربما فتحت أمامه سكة التوظيف في قطاع الأعمال الإسلامي أو يسرت له قرضا أو هبة من مال المساجد أو خدمة من عيادات الحركة الإسلامية. فوق ذلك، وسعت شبكة الحركة الإسلامية فرص الزواج لمن انخرطوا في هذه الشبكات وشهد الأقران بحسن أخلاق المرشحين للزواج نساء ورجالا وجندوا لذلك علاقات امتدت إلى خارج الحي وخارج القاهرة كذلك. شكل كل ذلك لحمة تضامن بين الإخوان والأخوات وعزز من ثقة الأفراد في أنفسهم فتحولوا بعبارة روزفكسي ويكام من خريجين متواضعي المهارات تضاءلت أمامهم الفرص الاقتصادية إلى جنود متآخين في سكة الإصلاح الإسلامي.
هدمت روزفسكي ويكام ببحثها مبنى نظرية "غسيل الدماغ" التي تولت كبرها مؤسسات الدولة المصرية وبعض صفوة مصر الليبرالية لتفسير نهضة الحركة الإسلامية وسط الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى لكنها جاءت بقرينة ضغط الأقران لكشف الجوانب القسرية في نفاذ دعوة الإسلاميين الإصلاحيين من أمثال عصام العريان. وميزت في هذا الإطار بين النشاط التربوي والإصلاحي للإخوان المسلمين والتكتيكات العنيفة والدموية للتيارات الإسلامية المقاتلة. كما أعادت الاعتبار في رصدها لانتقال الناشئ الإسلامي من حيز النشاط الاجتماعي الآمن نسبيا إلى المجال السياسي المباشر بالمشاركة في الانتخابات النقابية والنيابية والمظاهرات والاعتصامات السلمية حيث ينتظره خطر الدولة البوليسية إلى وازع باطني في نشاط الإسلاميين الإصلاحيين. وقعت روزفسكي ويكام على هذا المعنى من مقارنة مع حركة الحقوق المدنية في أميركا وقالت استطاعت حركة الإخوان المسلمين في دعوتها أن تعزز وسط من انضموا إليها العقيدة في واجب مدني يلزم كل مسلم بالمشاركة في مهمة الإصلاح الإسلامي غض النظر عن مكاسب ومخاطر هذا النشاط. قالت حرر قرار الالتزام بطريق الدعوة الخريج في أحياء القاهرة الفقيرة من الرعب الوجودي حول موقعه الهامشي وفرصه الضئيلة وقدم له معنى متعاليا للحياة وغرض يعتز به إذ تعاظمت جاذبية الخطاب الإسلامي تحت ظروف اقتصادية واجتماعية انسدت فيها سبل التقدم الذاتي.
نقلت الكاتبة عن محدثيها من الخريجين شكوى متكررة من "أزمة الأخلاق" في مصر، وكانت هذه عبارتهم لوصف "الاغتراب" الذي ألم بهم في محيط اجتماعي شديد التناقض بين فقر مدقع وثراء فاحش. قال بعضهم لشرح هذه الأزمة: في هذه البلد القوي يأكل الضعيف والغني يأكل الفقير. تواترت من حولهم فضائح فساد المسؤولين الكبار وأسرهم وقصص تجار المخدرات المحصنين بعضوية البرلمان. فاتت بعضهم فرص التوظيف لصالح من أهم أقل كفاءة وأنجع واسطة كما شهدوا بيع الامتحانات في المدارس لمن يستطيع الدفع مقدما ونجاة الأثرياء حتى من مخالفات المرور في مقابل بطش البوليس الأْعمى بالمساكين. نشأ الخريجون، في رصد الكاتبة، على تصور أنهم صفوة اجتماعية بفضل تعليمهم، وخاب ظنهم بانقطاع الصلة بين الكفاءة وفرص الصعود الاجتماعي بعلة تدهور نموذج اقتصاد الدولة تحت ضربات التقشف الحكومي والخصخصة المتسارعة منذ عصر "الانفتاح" الساداتي.
تضعضعت قيمة الشهادات الجامعية في سوق العمل مع التحول نحو اقتصاد السوق وتعززت إلى جانبها أهمية العلاقات الاجتماعية والموقع الطبقي. وجد الخريجون من أدنى الطبقة الوسطى الذين تعذر عليهم تعلم لغة أجنبية أو إحسان مهارات الكومبيوتر أنفسهم خارج دائرة المنافسة في سوق العمل الجديد، كما زادت غربتهم في مقابل نظام سياسي يطغى عليه السياسيون من سمت غربي وكبار الضباط ممن أداروا ظهورهم لمعاناة الحشود الشعبية. انتخبت روزفسكي ويكام من مقابلاتها مثال فئة من شباب الإسلاميين الذين لم يكتفوا فقط بنموذج الحكم الراشد الذي بشرت به حركة الإخوان المسلمين في مقابل هذه المظالم وإنما جهدوا لاستنباط تصورات أكثر راديكالية للعدالة الاجتماعية بوحي من تجربة الثورة الإيرانية ومن بين أعلامها المرحوم علي شريعتي، صاحب "التشيع الأحمر". وجه شريعتي رمحا جذريا ضد الملكية الخاصة واعتبر جوهر الإمامة في التحول من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة وتصور مجتمع الإمامة أو الأمة توحيديا وخاليا من الطبقات.
اعتمد شريعتي العبارة اللاهوتية على سكة الإصلاح الديني وقدم نقدا حاذقا للمدينة الحديثة، للمتروبول الاستعماري وفروعه في العالم الثالث، مستلهما من الماركسية والوجودية قضايا الصراع الطبقي والامبريالية والاغتراب والاستهلاك. إجمال أعمال شريعتي في شاغلين، خارج وداخل، نقد الماضي وترويج المستقبل، الأول نقده للمدارس والفلسفات والآيديولوجيات الغربية ومن ضمنها الماركسية، أي كل بدائل الإسلام التي واجهها في مهجره، كما هو مبذول في كتابه "الماركسية وترهات غربية أخرى: نقد إسلامي" (١٩٨٠). أخذ شريعتي على المدارس العلمانية خفة يدها في اقتباس المضامين الدينية السامية وابتذالها في حجاجها الداخلي، وهذا ربما جوهر مأخذه على الماركسية التي قال استلفت صورا ومفردات ومضامين من القاموس الديني وضرب مثلا بالإنسان كصانع للحياة في محل الإله والخلاص النهائي ضمن التاريخ بدلا عن غيب الآخرة. أما الركن الثاني فنقده للتجربة الدينية الإسلامية في كتابه "سوسيولوجيا الإسلام" (١٩٧٩)، وفيه يخاطب المسلمين في إيران بلغة الإصلاح الديني ويدعو بشغف إلى استعادة العقيدة والالتزام والانضباط الذاتي في هيئة أقرب إلى البروتستانتية.
يلقى قارئ هذا الكتاب علي شريعتي الرحالة العائد من سياحة فكرية، من جمع في أسفاره أدوات شغل جديدة يريد توظيفها كمعاول ثورية في المحيط الإسلامي وقد ظن أنه برأها من أدران صانعيها بنار الإيمان. يبشر شريعتي بالقرآن كمورد لنظرية ثورية تدور حول الهجرة والتوحيد. الهجرة عند شريعتي مصدر كل حضارة أما التوحيد فبابه إلى الكليات. يقول شريعتي إن التوحيد لا يقتصر على توحيد الإله لكن يشمل توحيد كل الموجودات مع الإله، وحدة الآن والأبد، الشهود والغيب. بالمقابل، لا يقتصر الشرك على تعدد الألوهية وإنما هو "تصور للعالم يعتبر الوجود جمع متناقض ومتباين يشتمل على أقطاب متضاربة واتجاهات متناقضة ورغبات متناثرة لا رباط لها ورهانات وطبائع وأغراض وإرادات شتى. التوحيد يرى الكون امبراطورية والشرك يراه نظام إقطاعي".
يستعرض علي شريعتي ثنائيات من تراث الاستنارة الغربي قال لا يقبلها التوحيد: الروح والجسد، الحاكم والمحكوم، النبيل والوضيع، المنطق والعاطفة، وحتى الخير والشر؛ ويضيف إليها ثنائيات ماركسية: الرأسماليون والبروليتاريا، الصفوة والجمهور؛ وأخرى ثقافية: العرب وغير العرب، الفرس وغير الفرس، ويردها كلها إلى منبت الشرك. يشد الانتباه من مفهوم شريعتي للشرك سمتان لنظرية الاجتماع الليبرالية: تصور للطبيعة البشرية بأنها سبك غير متسق للرغبة والعقل، وتصور للمجتمع بأنه ساحة تنازع بين مجموعات متباينة، وكل ذلك عند شريعتي خطأ يجافي مطلب التوحيد. عند شريعتي لا قوام يعتد به لتعدد القيم والمعاني والأمشاج ولا فروقات. نفى الاختلاف وقال هو نتيجة العجز عن رؤية الحقيقة الوحيدة الذي تستحق الاعتبار، وحدة الحياة البشرية تحت حكم الرحمن الرحيم.
انتهت حياة هذا المفكر الخلاق عام ١٩٧٧ في عمر ٤٣ سنة على سرير مستشفى في ساوثهامبتون البريطانية، وقد صارت له منفى بعد حبس انفرادي دام ١٨ شهرا في قبضة زبانية شاه إيران. مات شريعتي لكن ظل فكره يرفد تيارا راديكاليا في الثورة الإيرانية لم يحقق الغلبة على التيار المحافظ الذي صارت له الدولة، لكنه ما انحسر بالكلية أيضا. لم يكن الدكتور حسن الترابي من الذين يحسنون إثبات المصادر ونسب الأفكار والمعاني، لذا لا تجد ذكرا ظاهرا لعلي شريعتي في كتبه العديدة، لكن مفهوم التوحيد عند الترابي وكذلك مفهوم الأمة، على الأقل على مستوى النظرية والصياغة، يطابق في كثير ذات المفهوم عند شريعتي. عاصر الترابي علي شريعتي في باريس، درس الأخير في جامعة باريس ونال منها الدكتوراة عام ١٩٦٤ ثم عاد إلى إيران كمثل ما فعل الترابي الذي عاد إلى السودان في ١٩٦٤. تعرف علي شريعتي في تلك الفترة على حركة التحرير الجزائرية وترجم فرانتز فانون إلى الفارسية والتقى جان بول سارتر كما استمر نشاطه المعارض لحكم من دوائر المهاجرين والطلاب الإيرانيين كما كان علما من أعلام جمعيات الطلاب المسلمين في البلاد.
انتهت رحلة شريعتي التي بدأت بفضح المظالم وتهيئة الإسلام لنصرة المستضعفين، من أهداهم أعمال فرانتز فانون مترجمة إلى الفارسية، إلى تأملات غنوصية في وحدة الإنسان والإله. ما كانت هذه التأملات لتشفي صدر الخريج العاطل عن العمل في حواري القاهرة الفقيرة الذي جذبته بالمقابل شدة شريعتي في مواجهة المظالم الطبقية، محلية إيرانية وكونية. لكن لم يكن باستطاعة كتب شريعتي أن تشرح مصر للعاطل الشاب الذي صوب نظره إلى مثل عصام العريان. انشغل على شريعتي باجتماع الإسلام، أما العريان وزملاؤه فكان شاغلهم الأول حشده. لم تقع الحركة الإسلامية على تفسير اجتماعي لفقر الشابات والشباب الذين دخلوا صفها أفواجا، كما لم تجترح خطة لمجابهة هذه المظالم الطبقية التي ساقت إليها مساكين طموحين بصورة هيكلية. أعادت حركة العريان على جمهورها صورا مختلفة من حجة "أزمة الأخلاق" ورشحت للإجابة على المسألة الاجتماعية التكافل والصدقة والزكاة وليس كما في شريعة شريعتي الراديكالية هدم مبنى الملكية الخاصة والتبشير بذمة الجماعة.
منشأ التناقض ربما أن الفقر والعطالة في الحواري من جهة وفرص الاستثمار وتراكم أرباح الأعمال من جهة أخرى يصدران من ذات المنبع. بشرت حركة الإخوان بالتوحيد عبادة لكن انفطر توحيدها عند باب الأرزاق ودخلها الشرك بمفهوم شريعتي من حيث دخلها المكسب. استقبلت جماعة الإخوان النظام الليبرالي الجديد كما استقر في مصر مبارك بحماس وقد نشأت وسطها طبقة من رجال المال والأعمال لا يشغلها مصير الحارة الفقيرة وأهلها سوى كمحل للتقوى، أي كجغرافيا بشرية لدرء السيئات بالصدقات، حسنات مضاعفة. انحصر نقد الجماعة لتمدد علاقات السوق على السنة الليبرالية الجديدة في حدود التنديد بالفساد، أي في حدود تشخيص "أزمة الأخلاق"، واكتفت بالنيوليبرالية التقية، إذا جازت العبارة، تشبيك الدين والأعمال والصدقات.
لا غرو إذن أن سلطة الإخوان قصيرة العمر لم تنحرف قيد أنملة عن عقيدة السوق هذه ولو بالنية. بل تراجعت حكومة هشام قنديل عن تذمر جمهور الإخوان من سكان الحواري من الخصخصة وآلامها وطرحت هدفا طويل المدى يقول بخصخصة وتسليع خدمات التعليم والصحة عبر شراكات بين القطاعين العام الخاص، ولا بد جرت مسابح وسال لعاب. كما لم يتهيأ للحكومة فرض نظام ضريبي تصاعدي، سبقها السيف، لكنها لم تحدث نفسها به حتى. توجهت حكومة قنديل إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول قرض جديد قدره حوالي ٥ مليار دولار وتشمل شروطه مزيد من التقشف وزيادة أسعار المحروقات والخدمات العامة. أحكم هذه الوجهة رجل الأعمال الأول في الجماعة ومرشحها الأصيل للرئاسة، خيرت الشاطر، الذي أعلن لوسائل إعلام غربية كبرى في ٧ يوليو ٢٠١١ أن الجماعة "تؤمن بدور عظيم جدا للقطاع الخاص" وتسعى لتجذب "أكبر قدر ممكن من الاستثمارات" وستوظف هذه الاستثمارات في الصناعة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات.
قرظ المركز المصري للدراسات الاقتصادية، هو مركز محافظ يبشر باقتصاد السوق، توجهات جماعة الإخوان الاقتصادية وأعلن: "تفهم جماعة الإخوان المسلمين الاقتصاد وتبدو رؤيتهم على الطريق الصحيح". جعل الإخوان في الحكم هدف سياستهم الاقتصادية الأول هو تقليص العجز في الإنفاق الحكومي كما يطلب صندوق النقد وأصدر الرئيس مرسي قرارا تجاوز فيه البرلمان بفرض ضريبة قيمة مضافة تناقصية لزيادة العائد الضريبي. أعلنت حكومة قنديل أن التغييرات الضريبية تطال فقط التبغ والكحول والسلع الكمالية لكنها امتدت في حقيقة الأمر لتشمل ضروريات الغذاء والسكن والنقل والعلاج. كل ذلك جرى بارتباك ظاهر، فهدف الإخوان كما يبدو كان تعزيز مقبولية حكومتهم لدى المؤسسات المالية الدولية.
كان قوام تفسير الإخوان للثورة المصرية التي قذفت بهم إلى صدر المسرح السياسي أنها ردة فعل على سنين الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي الطويلة على يد مبارك وسدنته، أنها كانت احتجاج على تنفيذ خرب لسياسات السوق في نسخة الليبرالية الجديدة وكفى. فاتهم لكن درس عظيم من حواري القاهرة ومن شريعتي النبيل، أن في اجتماع الإسلام كذلك غصة من الملكية الخاصة، وأن الثورة المصرية في وعدها التاريخي كانت مفتاحا لدورة ثورية جديدة ورفضا جماهيريا باسلا لنهش السوق في لحم الحياة ودعوة لعالم جديد ولجمهورية جديدة في تضاد تام مع أباطرة السوق وقواه، تقاة كانوا أم فجرة. لو سئل المرحوم علي شريعتي لقال فارقوا التوحيد ودخلهم الشرك، وحدوه!
استفدت في هذه الكلمة بالدرجة الأولى من كتاب كاري روزفكسي ويكام (٢٠٠٢) "حشد الإسلام: الدين والحركية والتحول السياسي في مصر"، وكذلك كتب علي شريعتي المذكورة في المتن وكتاب حسن الترابي "التفسير التوحيدي، الجزء الأول" (٢٠٠٤) وكتاب برشت دي سميت (٢٠١٦) "غرامشي في ميدان التحرير: الثورة والثورة المضادة في مصر" ومقال هبة خليل (٢٠١٩) "الليبرالية الجديدة بيد الدولة على الطاولة: الاقتصاد السياسي لمصر ما بعد الثورة"، مجلة الاقتصاد السياسي الإفريقي.