نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٩ بتاريخ ٧ ديسمبر ٢٠٢٣
أحمد موسى، فين ستيوبوتات وتوبياس هاغمان (٢٠٢٠). "مداخيل على الحوافر: تجارة الماشية والضرائب وصناعة الدولة في الأراضي الصومالية". مجلة دراسات شرق افريقيا. مجلد ١٥. عدد ١. ص ١٠٨-١٢٧.
بيتر د. ليتل (٢٠٠٣). "الصومال: اقتصاد بلا دولة". دار جيمس كري.
بيتر د. ليسون (٢٠٠٧). "بلا دولة بلا لمة: الصومال قبل وبعد انهيار الحكومة". مجلة الاقتصاديات المقارنة. مجلد ٣٥. عدد ٤. ص ٦٨٩-٧١٠.
بيوتر سزافروغا (٢٠١٦). "هل لا بد من الدولة؟ حالة الاقتصاد الصومالي". بوليتجا. مجلد ١٣. عدد ٤٢. ص ٤٠٣-٤١٩.
استقر استعمال "الصوملة" كناية عن "بهدلة" الدولة التامة، وتدهورها إلى مزع تتنازعها فصائل مسلحة في جغرافية سكانية انقلعت أوتادها وارتدت إلى ما يشبه صورة التوحش الطبيعي في الأثر، جاهلية وعصبية. ساد هذا الاستعمال الأسطوري في الرأي العام وتكرر التحذير من "ود أم بعلو" الصوملة أو التهديد به حتى تحول نمرا كما في القصة المعلومة. ولما حضر هذا التوحش المرادف للصوملة التي طالما تردد التحذير منها بالفعل سكتت شهرزاد أو كيَّفت تحذيرها من السيناريو الصومالي إلى السيناريو الليبي. صارت الصومال كما كتب الدكتور عبدي إسماعيل سمتار، حبر الدراسات الصومالية، في كلمة صحفية "عنوانا للقنوط" وذاك ربما ما يحجب معنى الصوملة إلا ما كان على سبيل هُبّوا لنجدة أنفسكم من مصير الصومال، والله وكيل الغافلين.
فما هي هذه «الصوملة» إذن؟
أصابت الصومال بعد انهيار نظام سياد بري في ١٩٩١ وزوال السلطان المركزي فيها بالمرة شهرة من حيث لا تحتسب في دوائر المبشرين بحرية السوق وقد "فك اللجام"، السوق الذي لا تحيط به دولة ولا يخضع لفرمان. وتراكم في هذا المعنى أدب يلهج بمدح الجغرافية التجارية "خالي دولة" التي قيل حلت محل الجغرافية الصومالية موضوع السيادة. وجاء من هذا الباب بعض أصفى النقد للتدخلات والمغامرات الدولية في الصومال، مغامرات ظل عنوانها على الدوام بعث شيء من حتى هذه الدولة التي كانت. كانت هذه التدخلات ضارة وحميدة أحد الأسباب التي سعرت من الصراع الداخلي على مزع الدولة في الصومال.
سقط نظام سياد بري في العام ١٩٩١، وكانت تلك أحلك ساعات الحرب الأهلية التي تعود إرهاصاتها إلى الثمانينيات، إذ لم تسكن الحرب الأهلية بانهيار النظام وإنما تفاقمت وتعددت أطرافها. وكانت من نتائج الأعمال الحربية للجبهة الوطنية الصومالية في جنوبي الصومال، بخاصة في الحوض الزراعي الواقع بين نهري جوبا وشيبيلي، المجاعة المهلكة التي ضربت هذه الأقاليم في ١٩٩٢. أنشأت الأمم المتحدة بعثة خاصة بها (عملية الأمم المتحدة الأولى في الصومال) مهمتها تيسير الإغاثة (أبريل ١٩٩٢ – ديسمبر ١٩٩٢)، تعرضت لهجوم شديد من رئيسها نفسه الدبلوماسي المخضرم محمد سحنون، فالبعثة في رأيه استهلكت نفسها في البيروقراطية ولم تستطع أن تقدم الكثير خارج مقديشو. بلغت كلفة مجاعة العام ١٩٩٢ ما يربو على ٢٠٠ ألف نفس، وأوراق وتقارير لا تحصى من الأمم المتحدة.
قررت الأمم المتحدة في العام ١٩٩٣ تغيير طبيعة بعثتها من «الإغاثة» إلى «حفظ السلام»، بهدف استعادة القوام السياسي والاقتصادي للبلاد. لم تنجح هذه المساعي فالأمم المتحدة لم تستطع منع الفصائل المتصارعة من القتال فانسحبت في العام ١٩٩٥. وكان من آثار هذا الانسحاب انحسار القتال، فوجود الأمم المتحدة بعقيدة بعث "بعاتي" الدولة كان دافعا للمنافسة بين الفصائل المختلفة للفوز بطرف من جهاز الدولة الموعود متى ما هب وافقا. قام حساب الربح والخسارة للمليشيات المتحاربة على تقدير أن الحرب أوفق من السلم؛ ما دام الأمل في الغلبة هو الطريق إلى الاعتراف السياسي الذي تعد به الأمم المتحدة ضمن مشروع تجريدي الطابع لإعادة البناء، الأصل فيه هو تمييز الدولة المركزية بالأولوية.
تجدد القتال لذلك بشدة في العام ٢٠٠٦ وقت سعى المجتمع الدولي مرة أخرى لتأسيس حكومة صومالية مركزية، وجاء في هذا السياق غزو الجيش الأثيوبي ثم تأسيس الحكومة الفدرالية الانتقالية. أتى بيوتر سزافروغا في مقاله بعبرة مهمة في هذه المسألة، أي التناقض بين مساعي المجتمع الدولي لتأسيس جهاز للدولة وحكومة كما يقول الكتاب، على صورة الدولة الغربية القائمة في المثال على عقد اجتماعي آلة شغلها الديمقراطية الليبرالية، وبين الواقع الملموس كما في عبارة اللينينية. عد سزافروغا جملة الافتراضات والعقائد المبطنة والآمال ربما التي تحيط بهذا التناقض من خطيئة النيرڤانا، تهويم السارح بغنم إبليس. وزاد أن التجربة في افريقيا وبلاد العالم عدا الاستثناء العظيم في أوروبا الغربية وأميركا تكذب مثل هذا الوعد وتسخر من عدم موضوعيته. تناسل مثل هذا الغنم الإبليسي في الأدب السياسي السوداني المعاصر حتى لم يعد بالإمكان التمييز بين ورقة والأخرى وبيان الذي يليه. وبلغ في تجريده مبلغ «البخرة»، طلاسم تفعل فعلها الموعود بالعقيدة في صانعها. بل صار مثل هذا التجريد المخل موئلا في قضايا قوامها معرفة دقيقة بالملموس وقابلية التطبيق في التجربة الحية مثل "الدمج" الذي سرح السياسيون بغنمه في مضارب قصية دونما علم يذكر بالجندي كما هو، الديدبان في باب القاعة، ماله ومعاشه ومعسكره وسلاحه ومهماته وتشوينه وهلم جرا.
بلا دولة بلا لمة
الحقيقة أن معاش الصومال تضرر أشد الضرر في أحلك ساعات الحرب الأهلية لكن تجدد بغير عكازة الدولة وربما بسبب غيابها. هام بهذا التصور طائفة من أنصار السوق «المطلوق» وجدوا في الصومال الخالي من الدولة المركزية تجربة مخبرية تاريخية تقوم بزعمهم دليلا على سلامة مثال السوق ذاتي التنظيم. والدولة في هذا التصور هي الدولة كاملة التعريف في التجربة الأوروبية القياسية والاستثنائية في آن واحد، المؤسسة التراتبية التي تحتكر استخدام القوة في جغرافية ما، وأولى مسؤولياتها بهذا التقدير إنفاذ القانون. تخالف الوقائع الصومالية هذا التصور من صفحته الأولى فالقانون الذي ظل نافذا في مجتمعات الصومال حتى خلال الحرب الأهلية ليس ذاك الذي تشترعه الدولة صاحبة المطار وتنفذه أجهزة حكومية وإنما القانون الأهلي، القواعد التي تعارف عليها الناس لحل نزاعاتهم واستقرت بتكرار التجربة.
برع في هذا الرصد والتقريظ للاقتصاد الذي لا تحيط به أسوار دولة مركزية الدكتور بيتر ليتل في كتابه "الصومال: اقتصاد بلا دولة" (٢٠٠٣). خلاصة ليتل أن نظاما خالفا عماده الاقتصاد غير الرسمي القائم على التجارة العابرة للحدود والتهريب والتحويلات المالية الدولية اتخذ مكان الاقتصاد الذي كانت تحرسه آلة الدولة عند نقاط الاستيراد التصدير، وفاقه فعالية. وتركيز ليتل على الفائزين في هذا النظام الخالف، زعماء العشائر ورجال الدين ورجال الأعمال الذين حققوا بالحيلة والتفاوض وتقسيم العمل بينهم والمليشيات سترا من السلم في قطاع من الصومال قاعدته الأرباح التي تحققت من انفتاح صادر الماشية بدون أي قيد حكومي، وفي المقابل ازدهار تجارة الوارد من السلع الاستهلاكية. هذا بينما تدهورت المدن إلى مخازن للمعدمين ومراكز للجريمة.
كان الصومال حتى منتصف الثمانينيات تحت حكم سياد بري أكبر مصدر للماشية في العالم. وتحققت بالحرب زيادة هائلة في إنتاج وصادر الماشية حيث تحللت الحكومة المركزية التي كانت تحصد قسطا من فوائد هذا القطاع عبر الضريبة والجمارك والرسوم المختلفة. زاد على سبيل المثال حجم مبيعات الماشية في غاريسا الكينية، وهي سوق كبير للماشية الصومالية، أربعة أضعاف في الفترة ١٩٩١ إلى ١٩٩٨ وستة أضعاف في الفترة ١٩٨٩ إلى ١٩٩٨. هذا بينما عبرت في العام ١٩٩٩ حوالي ٩٥٪ من صادرات الأغنام و٥٢٪ من صادرات الضأن من شرق افريقيا إلى العالم عبر مينائي بوساسو وبربرا الصوماليين.
تجددت كذلك الاستثمارات السريعة الربحية في القطاع الحضري بعودة بعض الاستقرار في أعقاب انسحاب القوات الاثيوبية. استقبلت الجغرافية الصومالية بغير دولة يعتد بها شركات كبرى مثل كوكا كولا وجنرال موتورز. كان أعظم النهوض في قطاع الاتصالات، وقد انفك الاحتكار الحكومي بزوال الدولة المركزية. والعلة أن الاتصالات الحديثة عماد نظام «الحوالة» ذاتي التنظيم الذي تمر عبره التحويلات المالية للمهاجرين الصوماليين في أصقاع الأرض إلى ذويهم في الوطن في استقلال تام عن النظام البنكي الدولي الرسمي. استوعب هذا النظام الأهلي في كل عام خلال العقد الأول من الألفية الجديدة حوالي مليار دولار. لذلك لم تنهار العملة الصومالية، الشلن، وظلت على فعاليتها في تجارة القطاعي في السوق المحلي وإن انهارت الدولة المركزية ومعها البنك المركزي ووزارة المالية. تدهورت قيمة الشلن بالمقارنة مع الدولار الأميركي في الفترة ١٩٨٠-١٩٩١ بمقدار ٣٠٠ مرة بينما تناقصت هذه القيمة بمقدار خمس مرات فقط في الفترة ١٩٩١ إلى ٢٠٠١ والحرب مستعرة. لا غرو إذن أن صدرت عن هذا الصومال الذي يعج بالتجارة "الكيري" عناوين مثل ورقة الدكتور بيتر ت. ليسون (٢٠٠٧) "بلا دولة بلا لمة: الصومال قبل وبعد انهيار الحكومة".
ليست دولة واحدة، مثنى وثلاث ورباع
ربما استعجل ليسون في تقديره، والقياس عنده على الدولة المعيارية التي تحتكر العنف وتنفذ القانون معرفا بالألف واللام. لا يجد الباحث عن الدولة في الجغرافية الصومالية مثل هذا الكيان القادر القابض لكن يجد منذ حوالي العام ٢٠١٠ تشكيلات للدولة متفاوتة النفوذ والأثر: مشروع لبناء دولة واحدة والله واحد كما في الكتاب مقره مقديشو، قوامه مال ومشاريع المجتمع الدولي وكادره الصفوة الصومالية العائدة لإنقاذ البلاد؛ وتكوينات إدارية إقليمية ومحلية متعددة، متنافسة متراكبة ومتداخلة موردها ما يمكن الفوز به من «خَرَاج»، بالدرجة الأولى من صادر الماشية وعموم التجارة. بلغ الدكتور أحمد موسى علما بهذه الدول من تتبعه مسارات الماشية ومظاعنها في الجغرافية الصومالية من أقاليم رعيها حتى محطات تصديرها، فهذه دول قامت كما حرب الصومال على سيقان البهائم، نشأتها وتشكيلها وتحولاتها دالة للحيل والتنازلات الداخلة في المفاوضات حول «الخَرَاج» بين شبكات التجار وزعماء المليشيات ومستوردي الماشية الصومالية في الخليج العربي.
لا يحد الصومال-المرعى الحدود القطرية للصومال-الدولة التي كانت، ومدار الرعي هو سهل هود الذي يمتد عبر ولاية الصومال الإقليمية في اثيوبيا وجنوب ووسط الصومال وأرض الصومال التي استقلت بنفسها حتى أرض البنط شمال شرق الصومال. بذلك فإن إنتاج وتجارة البهائم في شرق افريقيا الصومالية عملية عابرة للحدود السياسية والحدود الطبيعية في طلب الماء والكلأ وفي طلب الأسواق المربحة، يبلغ حجم الذي يعبر منها من الأغنام والضأن عبر ميناء بربره الصومالي إلى الخليج العربي ٣-٤ ملايين رأس سنويا. تمتد إذن سلاسل القيمة المخزونة في البهائم عبر حدود قطرية، بين اثيوبيا والصومال وكينيا، ودون ذلك، وتمتد كذلك العشائر التي تعمل في تجارة البهائم عبر الحدود وتنشأ بموجب ذلك علاقات نقدية متعددة تشكلها بخلاف التجارة الهويات والجغرافية السياسية والسيادة على الأرض.
تعرَّف الدكتور أحمد موسى على ثلاث شخصيات محورية في هذه الشبكة الإنتاجية التجارية العابرة للحدود يقوم بينها تقسيم العمل: التاجر الوسيط (جيبل) والسمسار (دَلّال) وسواق الشاحنة (غاديدلاي). يشتري التاجر الوسيط البهائم من الرعاة في الأسواق الأولية والزرائب أو من تجار آخرين في أسواق أولية أو ثانوية، ثم ينقل البهائم الصغيرة (أغنام وضأن) بالشاحنات والكبيرة (أبقار وإبل) على سيقانها إلى أسواق هرجيسا وبوراو وتوغواجالي حيث يبيعها إلى المُصدرين. السمسار محترف علاقات عامة، سياسية واقتصادية عابرة للحدود، وعادة ما يكون من قرابة التاجر الوسيط، مهمته توظيف هذه العلاقات للتوفيق بين التاجر الوسيط ورعاة البهائم أو التجار الأخرين، وبين التاجر الوسيط وسائق الشاحنة، ولتيسير عبور الماشية عبر الحدود، وللتفاوض مع ممثلي السلطات المختلفة حول الضرائب والإتاوات على الطريق وفي الأسواق، وللتوفيق بين التاجر الوسيط والمصدرين. والسمسار الشاطر ينقلب وكيلا للتاجر الذي بدوره لا يتخذ خطوة إلا بعد أن يستقرئ السوق عبر عيون وكيله المبثوثة في الأسواق والحواجز. نشأت وحدة الشحن الناقلة للبهائم، الشاحنة والسائق وفريقه، في السبعينيات لضمان توصيل الكميات الكافية من البهائم في موسم الحج، وتقلصت بذلك مدة النقل بين هرجيسا والميناء في بربره من ٤-٥ أيام إلى ٣-٤ ساعات بفضل شاحنات النيسان المستعملة المستوردة من دبي. من مهام سائق الشاحنة بجانب النقل التفاوض كذلك حول الضرائب والرسوم والإتاوات على الطريق بالإضافة إلى تدبير الشحنات التي يعود بها من أسواق بيع البهائم إلى إقليم الرعي في الصومال أو اثيوبيا.
غرست التكوينات الإدارية التي التقاها الدكتور أحمد موسى نفسها في المواقع المفتاحية في هذه الشبكة الإنتاجية التجارية، أسواق الشراء وأسواق البيع وموانئ التصدير لتحصد ما تستطيع من ضريبة، خَرَاجاً على الأنعام. و«الخَرَاج» اصطلاحا ما تفرضه الدولة على الأرض التي سيطرت عليها حربا ومحصولاتها في مقابل استغلال الزراع لها، فهو يقع للدولة بالشوكة المحضة. رد الدكتور أحمد موسى هذا التعدد في الإدارات السياسية إلى ثلاث عوامل تتابع أثرها على الجغرافية الصومالية: انهيار الدولة المركزية في ١٩٩١، عملية نشأة أجهزة للدولة عضويا بعد منتصف التسعينيات كما في أرض الصومال المستقلة أو أرص البنط والتحول الوئيد إلى نظام فدرالي بصورة أو أخرى منذ العام ٢٠٠٤. نشأت لذلك العشرات من التكوينات السياسية، بعضها قصير العمر وبعضها أقصر في جنوب ووسط الصومال لكن لم تنشأ سلطة مركزية تفرض إرادتها على كامل الجغرافية الصومالية، السلطان لمن يستطيع فرض شوكته في المكان والزمان المحددين.
تنافست هذه السلطات المتعددة، الحكومة الفدرالية في مقديشو والحكومات الولائية التي نشأت بقرار الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية، على جمع ما تيسر من الضرائب والرسوم من صادر الماشية ووارد السلع الاستهلاكية والرخص التجارية المتنوعة بينما ركزت المليشيات المناوئة للسلطة مثل حركة الشباب المجاهدين على إتاوات تفرضها على النقل البري للماشية والسلع وحركة البيع والشراء في الأسواق في مناطق نشاطها. وكلما نشأت بؤرة للنشاط الاقتصادي، سوق أو معبر للسلع أو محطة للنقل، نشأت إدارة ما حدها الأدنى مثل الفريق القتالي في الدعم السريع، عدة رجال مسلحين ببنادق أوتوماتيكية في عربة فعالة عليهم رئيس تنعقد به الصلة مع شبكة أوسع، تريد أن تحصل ما يمكن تحصيله. ولذلك نشأت عشرات الوحدات الإدارية وتبدلت بحسب توازنات القوى وتوزيع استحقاق جمع الإتاوات. على سبيل المثال، أنشأ الرئيس الأسبق لجمهورية أرض الصومال طاهر ريال كاهن (٢٠٠٢-٢٠١٠) ٦ أقاليم جديدة و١٤ محافظة ثم أنشا خليفته أحمد محمد محمود (٢٠١٠-٢٠١٧) إقليما جديدا وسبع محافظات فزاد عدد الأقاليم الإدارية في أرض الصومال من ٥ في العام ١٩٩١ إلى ١٣ في العام ٢٠١٩. نافست أرض البنط جارتها أرض الصومال على بعض هذه الأقاليم ونشأت بذلك إدارتان في جغرافية واحدة، إدارة تتبع لأرض البنط وأخرى تتبع لأرض الصومال ونتيجة لذلك ضرائب مضاعفة على ذات البهائم والبضائع.
تشكيلات الدولة التي التقاها الدكتور أحمد موسى هي إذن - باستثناء مقديشو المجتمع الدولي - حصيلة مساومة مستمرة بين التجار، تجار الماشية في المقام الأول، وبين تكوينات مسلحة، واسعة الحيلة قليلة العنف كالتي سادت في أرض الصومال وأعلنت الجمهورية، وقليلة الحيلة شديدة العنف كحركة الشباب المجاهدين على «خَرَاج» الأرض في هيئة أنعامها. مدح بعض التجار حركة الشباب من هذا الباب لتواضع نسبة الضريبة التي تفرضها ولفعاليتها في منع تعدد الدفع في نقاط العبور والحواجز التي تسيطر عليها، لكن ساء التجار من الحركة تشدد عناصرها ومقاومتهم لمساومات فردية فوق المساومة. تصدر حركة الشباب كما تصدر كل من السلطات الأخرى المتنافسة فواتير للدفع، بختم وعلامة. هذه الفواتير هي في الحقيقة الدساتير المادية لتشكيلات الدولة المتنافسة على الريع الصومالي ففي كل فاتورة مستخلص هذه العلاقات بين الشوكة والاقتصاد، بين جامع الضرائب ودافعها، بما فيها من أكراه وطواعية. يدفع تاجر البهائم ضريبته ويجمع فاتورته فيتخلص من أذى السلطات، تضمن له الفاتورة عدم الدفع مجددا في التفتيش القادم فيفدي ماله، ثم يضيف قيمة الفاتورة إلى سعر البهيمة، وينتقل عبئها بذلك منه إلى المشتري، المستورد ثم المستهلك في جدة ودبي. والدولة التي وجد الدكتور أحمد موسى هي هذه العلاقة الملزمة بين الطرفين، فاتورة مختومة مبرئة للذمة، والخائن الله يخونه.