آنا آخماتوفا
تعريب مجدي الجزولي
إلى روح المرحوم التجاني اسماعيل الجزولي
مقدمة المترجم
غادرنا إلى دار البقاء في ٢٩ مارس ٢٠٢١ أطهرنا قلبا وأصفانا سريرة وأنقانا ذمة وأصدقنا فؤادا وأذكانا عقلا وأرقانا سلما وأوقرنا عبارة وأوسعنا علما وأبهرنا تجربة وأجملنا باطنا وظاهرا، من اجتمعت عنده فضائل لا تجتمع إلا بعسر المجتهد وشقوة الطالب النجيب.
لا عزاء في المرحوم التجاني، فقد سقف سقفا عاليا باهرا من لؤلؤ الأخلاق ومرجان القيم. لا عزاء في المرحوم التجاني فقد أكمل في دورة حياته دائرة للعلوم واسعة محيطة. كان هينا لينا محبا كريما سمحا ملبيا شفوقا بساما، دحرج أمامه كؤوس الدنيا ولم يكترث، أكرم به وأنعم. ميز في الكواكب أسطعها وسهم بها وهام. انتخب من المعاني أرقها وتعلق بها، وطاف قلبه بالأسرار واشتبك معها، فمن لي بمثله.
ودعني قبل شهور قليله من وفاته في الخرطوم وداع عارف، قال لا يلوي على شيء: "السلام عليكم، الآجال ما معروفة، جايز تجي تلقاني مافي"، وصدق. أتقن الخلاف بحب، وهذا باب لا يدخل منه سوى عارف لا شارد. اختلفنا ما شاء الله من الخلاف لكن اجتمعنا على محبة كان مهندسها وسايسها الحريف، فمن لي بمثله، الفذ العبقري. لبى نداء ربه بشوق المحب المضنى، والتقى لا بد وأصاب سنام طموحه في غفوته الأخيرة تلك، هرول لا بد وأسرع يريد الأحبة وتركنا في دار شقاءنا هذه.
أحب المرحوم التجاني شعر آنا آخماتوفا وكانت عنده ذات مقام، انتخب من شعرها في لغته الأصلية الروسية، اللغة التي عاش فيها جانبا عظيما من حياته الروحية الغنية، للحفظ ما تيسر. وكان يتلوه للجلوة والسلوى على السامع الراغب ثم يعرب منه بطلاقة ويسر. ما زال صوته اللطيف في أذني تكمل الكلمة على لسانه دورة حياتها حتى النطق بها فهي عنده كائن حي يرعاها ويسعد بها ويشقى أحيان.
وكيف لا! كانت آنا آخماتوفا (١٨٨٩-١٩٦٦) من أميز شعراء الروسية في القرن العشرين ضمن مدرسة شعرية كان دأبها "الوضوح الجمالي" في مقابل التجريد والغموض الذي كان سمة المدرسة الرمزية في الشعر الروسي وقتها. أضافت آخماتوفا إلى هذا الأسلوب البليغ من اللغة الدارجة وطابعا حضريا أنثويا خاصا بها. استهجنت الرقابة في العهد الستاليني شعرها، وأعدمت السلطات في العام ١٩٢١ طليقها الشاعر نيكولاي غوميلوف بتهمة التآمر ضد الحكم السوفييتي. اعتقل البوليس السري ابنها ليف بتهمة الانحراف السياسي في ١٩٣٥ ثم مرة أخرى في ١٩٣٨ حيث قضى خمسة أعوام في معسكر للاعتقال.
ولدت آنا آخماتوفا في ١١ يونيو ١٨٨٩ بالقرب من أوديسا على البحر الأسود والدتها إنا إرازموفنا ووالدها آندريه غورينكو الضابط البحري في الجيش القيصري. ولما بلغت الثانية من عمرها انتقلت الأسرة إلى تساركو سيلو (حلة القيصر) بالقرب من العاصمة القيصرية سانت بطرسبرغ. كانت هذه الحلة موقعا لقصر مهيب شيد بأمر من ابنة القيصر بطرس العظيم اليزابيث على أمل أن يصبح فرساي روسيا. نشأت ابنة الضابط العظيم على المخالفة فتبرجت وهي بعد صبية عند البحر بينما كان المتوقع من "بنت ناس" مثلها أن تتستر في كل حال.
قالت آخماتوفا عن نفسها أن الشعر كان قدرها، قرأت بودلير في سن الثالثة عشر وكتبت قصيدتها الأولى في سن الحادية عشر. ولما بلغت السابعة عشر وقد تملكها روح الشعر عنفها والدها الضابط قائلا إن احتراف الشعر لا يليق بسيدة مثلها ومجلبة للعار وتدنيس لاسم عائلتها فردت: "لا يلزمني اسمك" وخلعت نفسها عن سلفها الآباء آل غورينكو لتتخذ اللقب العائلي لجدتها لأمها آخماتوفا اسما لها فصارت به الشاعرة آنا آخماتوفا.
كان اتصال آنا آخماتوفا في صباها بشعراء المدرسة الرمزية عبر نيكولاي غوميلوف الذي صار لاحقا زوجها الأول. تهشمت عناصر هذا الصبا عامي ١٩٠٤ و١٩٠٥، هشمتها الحرب الروسية اليابانية التي اندلعت في ١٩٠٤ وانتهت بهزيمة البحرية الروسية على يد اليابانيين في معركة تسوشيما وكانت داعيا للثورة الروسية في ١٩٠٥. قضت الحرب على صبا آخماتوفا، استبدل والدها الضابط الأسرة بحضن خليلته وغادرت الأم وأطفالها حلة القيصر إلى يوفاتوريا في شبه جزيرة القرم ثم ماتت أختها في العام ١٩٠٦ بالسل الرئوي. ترددت آنا آخماتوفا كثيرا حتى اقترنت بغوميلوف الذي ثابر على حبها وهي ترفض المرة تلو الأخرى ثم قررت القبول بما أسمته "القدر" في نوفمبر ١٩٠٩. لم تسعد الأسرة بقرار آنا الزواج بهذا الشاعر وامتنعت عن حضور حفل الزواج الذي كان في ٢٥ أغسطس ١٩١٠. سافر الزوجان إلى باريس حيث قضيا شهر العسل. كانت آنا كسواها من المتعلمين الروس قبل الثورة البلشفية فصيحة في الفرنسية، ووجدت في زيارتها لباريس ما سر بالها وشغلها من الفنون. عاد الزوجان إلى سانت بطرسبرج وفيها رافقت آنا زوجها إلى صوالين الشعراء، حيث طرحت بعضا من قصائدها وبدأت دراساتها الأدبية المنظمة.
قالت آنا آخماتوفا أنها اكتشفت شخصيتها الشعرية في هذه البيئة، وكان سندها في ذلك دراستها لشاعر مغمور نسبيا هو إنوكنتي أنينسكي، خالف شعراء المدرسة الرمزية الروسية في اعتباره الشعر ميدانا لأحوال النفوس بالمعنى السيكولوجي وليس الغنوصي. جاءت آخماتوفا إلى الشعر الروسي في أول القرن العشرين بصوت أنثوي يرى العالم ويعركه من موقع المرأة، ومشاعر المرأة وتجربتها هي جوهر شعر آخماتوفا لا سيما في ميدان علاقات النساء والرجال. تقرأ عند آخماتوفا شعرا يعرض الحب من موقع المرأة وبيدها فلا يظهر الرجال إلا كما تراهم هي. ظن العديد من قراء آخماتوفا إثما أن ما تكاد تكون مشاهد سينمائية في شعرها شذرات من سيرة ذاتية، الأمر الذي كانت تقابله باستهجان.
ارتجفت يداي وانقبضتا تحت الحجاب الداكن.
"شحبت كأنك صفحة ورق – ماذا أصابك؟"
صببت له الأسى صبا وتجرعه
حتى ثمل من النقيع المر.
لن أنسى أبدا اعوجاج فمه،
وكيف تعذر عليه المشي مستقيما وهو يغادر.
ركضت إلى الخارج دون أن ألمس الدرابزين حتى.
ركضت خلفه حتى البوابة.
انقطع نفسي وأنا أصرخ:
"كان الأمر مزحة، كله مزحة. لا تصرمني، سأموت أن فعلت!"
ابتسم ابتسامة هادئة قاسية وقال:
"الريح شديد هنا، عودي إلى الداخل".
وضعت آخماتوفا طفلها ليف في ١٨ سبتمبر ١٩١٢ في عمر الثالثة والعشرين وأصرت على خلاف السيدات من طبقتها الاجتماعية على إرضاعه من ثدييها. لكن نقلت بمرور أسابيع قليلة مسؤولية رعايته إلى والدة زوجها وأخته لتعود إلى مشاغلها الأدبية. انتقل ليف الرضيع إلى دار جدته لوالده تزوره أمه في الصيف والإجازات، أما والده فلم يتعلق به على الإطلاق. ظل هذا التوتر بين آنا الشاعرة وآنا الأم حاضر في العلاقة بين الأم والابن، وفي قصائد "قداس الموتى" أثر من هذا التوتر. كذلك أعادت ولادة ليف تعريف العلاقة بين آخماتوفا وزوجها غوميلوف حيث اتفق الزوجان ضمنا على طلاقة في علاقتهما صار كل منهما في حل من الجانب الحميمي في حياة الأخر، ومن ذلك أن الممثلة أولغا فيسوتسكايا أنجبت من غوميلوف صبيا هو الأخ غير الشقيق لابن آخماتوفا دون أن يكدر ذلك على آخماتوفا أو تستهجنه، هذا بينما استمرت الزمالة الشعرية بين الإثنين على حالها، بل تعززت بنجاحات آخماتوفا. تعرفت آخماتوفا في هذه الفترة وضمن دائرة شعراء وأدباء كان مركزها قهوة "الكلب الضال" في سانت بطرسبرغ على المؤلف الموسيقي آرتور لوري، حبيبها لفترة قصيرة، والشاعر وعالم الآثار الأشورية فلاديمير شيليكو الذي صار لاحقا زوجها الثاني.
برز في "الكلب الضال" وقتها نجم الشاعر الروسي العظيم فلاديمير مايكوفسكي (١٨٩٣-١٩٣٠) وهو بعد في عمر الثامنة عشر ضمن حلقة من "الحداثيين" طلقوا الذوق الأدبي المعهود. كتب مايكوفسكي شعرا من قريحة ثائرة غاضبة بعبارة مباشرة كاسرة بذيئة أحيانا، وتندر على رقائق قصائد آخماتوفا غاية التندر لكن وجد فيها السلوى مع كل حب عاثر. أصدرت آخماتوفا في هذه الفترة ديوانها الثاني "مسبحة" الذي حقق نجاحا باهرا في الأوساط الأدبية وحفظ قراء محبون قصائده عن ظهر قلب يرددونها في حياتهم اليومية. انشغلت آخماتوفا في هذا الديوان كما في ديوانها الأول "المساء" بغياب الحب، المرأة التي تبذل الحب ولا تجده أو المحبوبة التي لا تبادل المحب حبه. جعلت آخماتوفا من هذا الحب الغائب طريقة واعية للاعتبار في العالم وقناعة أن كل سعادة، وسعادة الحب كذلك، زائلة لا محالة وترتد شقاء ومعاناة، سكة عطش تنتهي بالتضحية بالذات. قاربت آخماتوفا بذلك مفهوما دينيا من تراث الكنيسة الآرثوذكسية يزكي الجلد في محل المقاومة لكن بعبارة علمانية. استقر هذا الجلد كسمة رئيسة من سمات شعر آخماتوفا وهو المعنى الذي تقع عليه قارئة مجموعة القصائد التراجيدية بعنوان "قداس الموتى" كذلك في أكثر من صورة، وذات المعنى الذي جذب إليها الناقد الأدبي نيكولاي نيدوبروفا الذي صار من محبيها. كان نيدوبروفا من سلالة أسرة ارستقراطية تدهورت أحوالها لكن احتفظ برقي الرجل النبيل. كتبت عنه آخماتوفا قائلة أن "كل رجل بعده ظهر لي كصبي اصطبل". لم يدم هذا الحب الغامر طويلا لكن ترك عميق الأثر في حياة آخماتوفا وتصورها عن نفسها فكتبت في آخر حياتها "أنا في ثلاثة أرباع نفسي من صنع نيدوبروفا". لم تنقطع الصداقة بين الإثنين والتقت آخماتوفا هذه المحب الذي لم تبادله الحب نفسه في مشفى لعلاج السل الرئوي في شبه جزيرة القرم. تحسنت صحة آخماتوفا لكن مات نيدوبروفا بالسل الرئوي في شتاء ١٩١٩ خلال فوضى الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة البلشفية في ١٩١٧.
تشرق شاعرية آخماتوفا في "قداس الموتي"، قصائد كان مسرحها عصر الرعب الستاليني في ثلاثينات القرن العشرين وتعد ربما ذروة سنام شعرها، فاخترتها إكراما لذكرى المرحوم التجاني، من عرفني بآنا آخماتوفا وعالمها الشعري. تجابه آخماتوفا في "قداس الموتى" المصائب التي ألمت بها في فترة البطش الشديد على يد جلادي ستالين. تجمع آخماتوفا في هذه القصائد بين موقعها الشخصي وبين موقفها كشاعرة تنطق بأنين شعب بحاله. تحاول من جهة معاناتها الذاتية أن تتجلد أمام مصابها فتستقبل مأساتها بصبر موضوعي تخدر بها مشاعرها حينا وتجزع أحيان باحثة عن مخرج في الموت أو الجنون. ثم تستجمع قواها لتشهد كما في المعنى القرآني على العذاب والموت من حولها. ينشأ عن هذه الشهادة دور آخماتوفا العام، فهي الأم المنتحبة التي تلمس ألمها في وجه كل امرأة فقدت محبوبا وتتولى من هذا الموقع مسؤولية النطق بألم وعجز المعذبين. لا تستطيع آخماتوفا في قصائدها أن تنقذ أحدا لكنها تصنع ذكرى واعية في هيئة شعرية، نصب شعرى يحيا به شهداء الرعب أبدا.
كان الأمل أن يتيسر نشر تعريب "قداس الموتى" في كراس قشيب يليق بذكرى المرحوم التجاني لكن حالت الحرب التي اندلعت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ في الخرطوم ومدن أخرى دون ذلك. أطبق "أشاوس" الدعم السريع على سبل الحياة والثقافة، أما الذكرى والحمد لله فلا يمكن إعدامها بالآلة الحربية. أنشر هذه القصائد هنا في إجلال المحبة التي كان المرحوم التجاني ساقيها. أستعنت في تعريب هذه القصائد باقتراحات وتعديلات كل من الأستاذ محمد الفاتح إدريس البنا وسبأ هلالي فلهما جزيل الشكر ونصيبي أخطاء الترجمة والصياغة. اعتمدت في هذا التعريب على النص الروسي وترجمة ريتشارد ماكاين إلى الإنجليزية التي صدرت طبعتها الأولى عام ١٩٦٩ من دار جامعة أكسفورد، واعتمدت في المقدمة على كتاب الدكتورة نانسي آندرسون "الكلمة التي تهزم الموت" الذي صدر عام ٢٠٠٤ من دار جامعة ييل.
قداس الموتى
لم أكن أرتعد تحت سماء غريبة، مذعورة،
تحفني أجنحة غريبة،
وإنما بين أهلي، حيث
احتشدوا، وللأسف محتسبين.
١٩٦١
مقدمة بديلة
سلخت خلال عهد الرعب إبان إدارة ييزوف سبعة عشر شهرا أنتظر في الطوابير أمام سجون لينينغراد. تعرف على شخص ما في تلك الإيام. تقدمت نحوي امرأة زرقاء الشفاه كانت تقف خلفي، وبالتأكيد لم تسمع بي قط، أفاقت لبرهة من الغيبوبة التي جمعتنا وهمست في أذني (كان الجميع وقتها يتحدث همسا):
- هل تستطيعين تصوير هذا!
قلت لها: نعم، أستطيع.
ومض في تلك اللحظة ما كان يوما ما وجهها بما يشبه البسمة.
١ أبريل ١٩٥٧
لينينغراد
إهداء
تنحني الجبال في مواجهة الأحزان،
ويتوقف النهر العظيم عن الجريان،
أما مزالج الحديد فلا تثلم حتى،
من خلفها جُب المدانين
وأهوال جهمة قاتلة.
يشعر بعض الناس بالنسيم المُطَمئن،
وتسطع لبعضهم الشمس حمراء –
أما نحن فقد انقطعت عنا منذ أمد هذه العجائب،
لا نسمع سوى صرير المفاتيح
وخطوات الجنود الثقيلة.
صحونا كمن نرجو قداسا باكرا،
وعبرنا العاصمة زمرا،
تقطعت أنفاسنا كمن فارقوا الحياة.
نهر نوفا في سديم داج،
لكن تبقى أغنية الأمل.
ها قد نُطق بالحكم، تنفجر الدموع صاخبة.
فُرزت، لوحدها،
كأن حياتها انتزعت انتزاعا
أو أُلقي بها إلى الأرض.
ترنحت وتعثرت وحيدة.
أين الأصدقاء الذين شاركتهم الحياة لعامين في هذا الجحيم؟
أي العواصف عليهم تحملها،
وأي رؤى في الوهج القمري؟
أرسل إليهم هذا الوداع.
مارس ١٩٤٠
استهلال
لم يبتسم في تلك الأيام سوى الموتى
المسالمون الآمنون من الأذى.
تعلقت لينينغراد ببوابات السجن، مذهولة،
كزائدة لا نفع منها.
مر المدانون في طوابير لا تنتهي،
ذبهم الكرب، وطار بأفئدتهم.
جأرت صافرات القطار بلحن حزين،
أغنية الفراق الأكيد.
حدقت فينا أبراج المنون.
وأنت روسيا البريئة حتى جذورها
تحت عجلات عربات البوليس السري السوداء،
وثقل الأحذية العسكرية المضرجة بالدماء.
١
أذكر أخذوك مع طلة الشفق،
وتبعتك كمن يفيق.
انتحب الأطفال في الحجرة المظلمة،
وهنت الشمعة بقرب الآيقونة،
الآيقونة التي حفظت شفاهك صقعها.
أذكر كل ذلك ورشح الهلاك!
سأنوح عليك عند حائط الكرملين،
مثلي كمثل نساء ستريلتسي.
١٩٣٥
٢
يجري نهر الدون سهلا في الليل.
ويمشي الهلال الأصفر إلى الداخل،
يلج مرتابا
ويرى ظلا ممسوسا
إنها امرأة تحتاج النجدة،
امرأة بمفردها.
قضى بعلها وابنها في السجن.
هي أنا. أرجوك الفاتحة.
١٩٣٥
٣
لا، ليست أنا من تعاني، بل شخص آخر.
لم أعد أطيق كل ما حدث، لم أعد أحتمل،
غطه بثوب أسود غليظ،
خذ عني هذه المصابيح.
يا ليل.
٤
لو تقدر، أيها المغفل من ماض بعيد،
والمفضل لكل صديق،
المذنب اللاهي من تساركو سيلو،
لو تقدر أن تكشف مستقبلك، في كل مداه.
تحمل زادك تحت الصلبان
وتنتظر، الثلاثمائة في طابور لا ينتهي.
لربما لاحظت كيف تخرق الدموع الحارقة
طريقها إلى الأرض عبر جليد رأس السنة.
تتمايل حور السجن مع كل إغراء
ولا حتى صوت يواليها.
هل تدرك كم حياة لا بد تنتهي هنا قبل ساعتها.
١٩٣٨
٥
رجوت لسبعة عشر أشهر
جاثية على ركبتي عند أقدام الجلاد
أن تعود إلى الدار.
أنت ابني ورعبي.
أخاف ألا أفهم
وقد اختلط الأمر على، في حيرة ليس مثلها
من الوحش ومن الإنسان،
وتاريخ إعدامك.
ليس سوى أزهار في حجاب من الغبار
والرقيب وآثار أقدام نحو البعيد.
بينما يحدق مباشرة في أم عيني
بوعيد الهلاك المحيط
هذا النجم الكبير.
١٩٣٩
٦
تسري الأسابيع بلا طائل،
ولا أدرك مغزى هذا الخطل.
تحملق، يا بني، الليالي البيض
بأشد الكرب في زنزانتك.
كأنها لم تبرح قط،
تحملق بعيون نسر، بلمع ملحاح،
تطارح صليبك الثقيل
وتتقول مرة أخرى بالهلاك.
١٩٣٩
٧
قرار المحكمة
وقع حجر الحكم على صدري،
صدري الذي بالكاد يحيا
لكني كنت مستعدة لهذا الامتحان
وسأصبر على هذا الجحيم بطريقة ما.
علي أن أدبر أمورا عديدة لوحدي:
سأبدأ بإزالة الماضي،
وأحيل روحي الحية حجرا،
وأتعلم أخيرا كيف أعيش.
سوى ذلك...ها هو الصيف يتبختر،
يضئ ما زال لسبب ما.
وكم تنبأت بمثل هذا اليوم،
البيت الخالي والوحشة.
صيف ١٩٣٩
٨
أيها الموت
ستأتي لا بد. لما التأجيل إذن؟
أنتظرك، فلم أعد أطق صبرا على الحياة
فتحت لك الباب، لك أنت.
ستدخل، ما أصفاك وأعجبك.
تلبَّس بما تشاء، واختار
هب علي كأنك ريح سام،
أو انسل كأنك لص في يدك طوبة.
أو كما التيفوس تنزع النفس نزعا
أو قصة تختلقها هكذا،
تصيبني من فرط تداولها بالغثيان.
أرى قبعة الشرطي الزرقاء
والخفير الحذر المرعوب.
يجري نهر ينسي،
ويشع النجم القطبي في صحن السماء.
انقضى الأمر.
تحجب آخر محن الرعب
وميض العيون الزرقاء المحبوبة.
١٨ أغسطس ١٩٣٩
فونتاني دوم
٩
أطبق الجنون بجناحيه على نصف روحي،
يغريني بنبيذه الناري،
وينده بي إلى واديه المظلم.
أدرك ألا وسيلة سوى الاستسلام للجنون،
لا بد أن أسمع هذياني، كأنه يصدر عن شخص آخر.
لن يسمح لي الجنون الأوبة بغير نفسي
(لا يهم كم أرجوه وأتبذل).
لن يسمح لي أن أعيد ولدي،
عيني التي صارت حجرا من الشقاء.
لن يسمح لي أن أعيد اليوم الذي بدأت فيه العاصفة،
ساعة اللقاء في السجن،
صدقة اليد الباردة،
ظلال الزيزفون القلقة،
أو الصوت الضعيف والبعيد
لعبارات السلوان الأخيرة.
٤ مايو ١٩٤٠
١٠
الصلب
"أماه، لا تبكيني،
فأنا في القبر حي أرزق."
بجل الملائكة بشدوهم الساعة العظيمة،
ذابت السماء في نار.
قال للرب: "لما خذلتني؟"
وقال للأم: "لا تبكيني".
جاهدت مريم المجدلية وانتحبت.
استحال أحب الحواريين إلي صخر،
بينما لم يتجاسر أحدهم النظر
إلى محل وقفت الأم الصامتة.
١٩٤٠-١٩٤٣
الخاتمة
عرفت كيف تذبل الوجوه
وكيف ينسدل الخوف من وراء الجفون
كيف تصبح الخدود صفحات قاسية من العظم
من فرط المعاناة
كيف يصير الشعر الأسود
فجأة بلون الرماد
كيف تذوي البسمات على الشفاه الصاغرة،
عرفت رعشة الرعب في ضحكة قصيرة سقيمة.
لا أصلي من أجل نفسي فقط
بل من أجل الذين وقفوا معي جميعا
في البرد القارس وفي حر يوليو الكاوية
تحت الحائط الأحمر الأعشى.
///
No comments:
Post a Comment