نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٨١ بتاريخ ١٩ يونيو ٢٠٢٥.
"ولدت في سجن إيراني.
وعاش والداي في سجونهم.
يرقد أعمامي وأخوالي في قبورهم الجماعية.
ليس عندكم ما تقولونه لي عن جرائم النظام الإيراني مما لم أختبره في دمي وعظمي.
لكن، هذا لا يعني أني أريد أن يُقصف أهلي، أن تُقطع أوصالهم، أن يٌقتلوا، أن تُدمر بيوتهم.
إذا كان تصوركم للتحرر لا يتحقق سوى عبر تدمير الحيوات البريئة، فليست الحرية هي مسعاكم."
اختصرت الكاتبة الإيرانية المرموقة سحر دليجاني بهذه الكلمات البارات لغوا غزيرا عن موقع «المثقفة» من «السلطة» في ساعة غزو إمبريالي، أخذت كتابها بقوة وقالت وطني ولا ملي بطني، فإيران ليست مظالم الجمهورية الإسلامية. ويتوقع من كاتبة في خطر وأدب سحر دليجاني، مؤلفة رواية «أطفال شجرة الجكرندة» (دار آتريا، ٢٠١٣)، أن يصفى لها هذا المعنى بيسر. فقد تيسر لها من قبل في روايتها التي طبعتها المطابع في أكثر من ٧٥ بلد ونقلها المترجمون إلى أكثر من ثلاثين لغة أن تكتب في صيغة أدبية سجلا للقهر والاستبداد وكذلك للنبل والإحسان في إيران ما بعد الثورة وفوق هذا وذلك نشيدا للمطلق في تغريد كل قلب بالحرية.
ولدت سحر كما قالت في كلمتها القصيرة في سجن ايڤين سيء السمعة في طهران عام ١٩٨٣ والثورة الإيرانية (١٩٧٩) في عامها الرابع، لوالدين من الجيل اليساري ناهضا نظام الشاه كما ناهضه أنصار الإمام الخميني ثم وقعا ضحية لبطش دولة الإمام الخميني التي قامت من عنفوان الثورة. جاء والدة سحر المخاض وهي معتقلة معصوبة العينين في ظهر شاحنة صغيرة لجهاز الأمن الثوري وخاضت التحقيق وعضلات رحمها تتشنج موجة بعد موجة حتى وضعت حملها في الحبس. وقضى عمها، الأخ الأصغر لأبيها، بيد جهاز الدولة الإيراني ضمن حملة دموية لتصفية الخصوم السياسيين في صيف العام ١٩٨٨ وإيران تواجه حملة عسكرية ل«منظمة مجاهدي خلق»، الاشتراكيون الإسلاميون ممن رفضوا مبدأ ولاية الفقيه وتحولوا بحلول العام ١٩٨١ من شركاء في النظام الثوري الجديد إلى خصوم، وذلك من قواعد داخل الأراضي العراقية في عقابيل ثمانية أعوام من الحرب الضروس بين إيران والعراق (سبتمبر ١٩٨٠ – أغسطس ١٩٨٨).
نجحت السلطات الإيرانية في صد هجوم «منظمة مجاهدي خلق»، واتخذت أجهزة السلطة الأمنية والقضائية الهجوم ذريعة لتصفية حسابها الطويل مع «مجاهدي خلق» ومعارضين آخرين في أسرها في يوليو/أغسطس ١٩٨٨. كان نهج السلطات في هذه الحملة الدموية سلسلة من الإعدامات الجماعية للمعتقلين السياسيين في سجني ايڤين في طهران وغوهاردشت في كرج بعد تحقيقات نمطية موضوعها الولاء والبراء. قالت منظمة العفو الدولية وقتها أن لجنة التحقيق سألت عم سحر القتيل وزملاءه:
- هل أنت على استعداد لإدانة منظمة «مجاهدي خلق» وقيادتها؟
- هل أنت على استعداد للتوبة عن آرائك وأعمالك السياسية؟
- هل تعلن الولاء للجمهورية الإسلامية؟
- هل انت على استعداد أن تعبر حقل ألغام نشط لمساعدة جيش الجمهورية الإسلامية؟
- هل أنت على استعداد للانضمام إلى القوات المسلحة الإيرانية ومحاربة منظمة «منظمة مجاهدي خلق»؟
- هل أنت على استعداد أن تتجسس على رفاقك السابقين و«تتعاون» مع مسؤولي الأمن؟
- هل أنت على استعداد أن تشارك في فرق الإعدام؟
- هل أنت على استعداد أن تشنق عضوا في «منظمة مجاهدي خلق»؟
- هل أنت مسلم؟ هل تصلي؟ هل تقرأ القرآن؟
ليس من سجل لإجابات السجناء على أسئلة لجنة التحقيق، لكن الأغلب أن إجابات عم سحر لم تعجب «لجنة الموت» التي أوكل إليها الإمام الخميني أمر البت في مصير سجناء «منظمة مجاهدي خلق» وحملها فتوى من جانبه تجيز إعدام كل من ظل على ولائه للمنظمة. سمى الإمام الخميني كل من القاضي حجة الإسلام حسين علي نايري ووكيل النيابة الأعلى في طهران مرتضى إشراقي وممثل لوزارة الإعلام أعضاء في اللجنة المسؤولة في طهران وقال تتخذ قراراتها بالأغلبية البسيطة. جاء في فتوى الإمام الخميني بحسب ما أورد المرحوم آية الله حسين علي منتظري، أحد أقطاب الثورة الإيرانية، رئيس مجلس قيادة الثورة ومجلس خبراء القيادة ثم في العام ١٩٨٥ نائب المرشد الإمام الخميني وخليفته، في مذكراته:
"بما أن المنافقين [وهو النعت الذي وصم به رجال الدولة الإيرانية عناصر «منظمة مجاهدي خلق»] لا يؤمنون بالإسلام وكل ما يقولونه نابع من الخداع والنفاق، وبما أنهم باعتراف قادتهم قد فارقوا الإسلام، وبما أنهم شنوا الحرب على الله ويقاتلون على الجبهات الغربية والشمالية والجنوبية بالتآمر مع حزب البعث العراقي، وبما أنهم يتجسسون لصالح صدام حسين ضد الأمة المسلمة، وبما أنهم مرتبطون بالاستكبار العالمي [الولايات المتحدة والقوى الغربية] وقد أصابوا الجمهورية الإسلامية بضربات قاسية منذ نشأت، فإن من ظل منهم على موقف النفاق في السجون عبر البلاد يعتبر محارب، وحق قتله."
توسع المسؤولون الإيرانيون لاحقا في تفسير فتوى الخميني لتشمل خلاف عناصر «منظمة مجاهدي خلق» شيوعيين ويساريين وليبراليين ومعارضين شتى للنظام. لم يقبل منتظري هذه الفتوى من الإمام الخميني وحز في نفسه التوسع في قتل المعتقلين فتوجه إليه برسالة وأخرى يحتج فيها على الإعدامات الجماعية. وصارت قضية إعدامات ١٩٨٨ سببا ضمن أسباب أخرى لغربة ثم شقاق مع الإمام الخميني ثم مفاصلة مع النظام انتهت بعزله في مارس ١٩٨٩ والتضييق على تلاميذه الكثيرين حتى مماته في ديسمبر ٢٠٠٩. وكان قبلها أعلن تأييده للحركة الخضراء (٢٠٠٩-٢٠١٠) وتعاطفه مع المحتجين الذين عبوا الشوارع رفضا لإعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية ونصرة للمرشح المضاد مير حسين موسوي في يونيو من ذات العام.
لم تخض سحر دليجاني في الصراع السياسي داخل أيران، الصراع الذي أدمى أسرتها ولم تشارك في المظاهرات ضد نجاد ولم تشهد نشوة الحركة الخضراء سوى كمراقبة من بعيد. نشأت طفلة هي وأخيها وابن عمها القتيل في كنف جد وحبوبة حتى إطلاق سراح والديها ثم غادرت إيران مراهقة في الثانية عشر من العمر برفقة والديها إلى شمال كارولينا في الولايات المتحدة الأميركية وفيها تعلمت حتى نالت درجة في الأدب المقارن من جامعة كاليفورنيا بركلي عام ٢٠٠٦. ثم انتقلت وزوجها إلى إيطاليا حيث عاشت لعشرة أعوام وعادت منها إلى نيويورك الأميركية حيث تقيم حاليا، فهي ابنة المهجر وخازنة ذكريات. كتبت روايتها في انجليزية أثرتها الهجنة التي ترفدها بها كل مهاجرة إليها من لغات أخرى. وتقديرها أن الرواية سُطرت في ذهنها في الفارسية ونشرت على الورق ترجمتها في الإنجليزية. وقالت كان حافزها مباشر سؤالها لوالدها عن قصة سوار من حصى التمر كان صنعه لها وهو في السجن. صادفت السوار مرة أخرى في زيارة للوالد فهاجت الذكرى واستوت الرواية في ذهنها بالحمل الذي قرب لها ما ألم بأمها التي فاجأها المخاض تحت التحقيق، والشخصية المحورية في الرواية تنويع على هذه الأم المُمْتحنة.
نالت سحر دليجاني من الحفاوة الإعلامية والأكاديمية والأدبية الكثير، المعنوي منها والمادي، هللت المجلات الأدبية بروايتها وتكرر فوزها بالمنح وترشيحها للجوائز. وتهيأ لها بهذه الحظوة بقوة موقع «الناشطة» التي تنطق في المتربول باسم شعب بعيد، يقطر منها ماء الشباب والصواب. لكن، ثبت قلبها في موقعه، يا مقلب القلوب يا الله، لم تنسخط إلى مخبرة سقيمة، ربما بفضل بر الحبوبة تلك وبركة حصى تمرات السجن. سألتها سائلة: "غادرتي إيران وأنت طفلة. هل يسر لك ذلك موقعا موضوعيا ككاتبة؟" فردت بأدب: "لست أدري بخصوص الموضوعية. لكن الأكيد أني أكتب أحسن عن الأمكنة من على البعد. والأسهل عندي أن أنقل شعور المكان كذكرى. ربما لأني كثيرة الأسفار في حياتي فاطمئن إلى الذكريات أكثر من اطمئناني للمشاهدة اليومية. وأردت أن أبث الحياة في إيران التي أعرفها، إيران التي أذكرها وأحبها. وصارت إيران بالنسبة لي في لحظة معينة جمرة شخصية،" وللقارئة أن تضيف «وهذه حدود المسألة».
أعلن على الجانب الآخر من الشط رضا بهلوي، نجل شاه إيران ووريث العرش الذي أطاحت به الثورة الإيرانية بزخمها التحرري، ملالي وشيوعيون واشتراكيون إسلاميون، أن الفرصة سانحة للإطاحة بالنظام. ناشد بهلوي من مهجره بالقرب من واشنطن قوات الأمن في البلاد الانشقاق عن الدولة وأعرب عن أمله أن تقضي الضربات العسكرية الصهيونية على إيران الجمهورية الإسلامية. وقال في بيان وكأنما يسخر من نفسه وهو الساكن واشنطن: "قد تسقط، وكما قلت لأبناء وطني: إيران لكم، وعليكم استعادتها، أنا معكم. ابقوا أقوياء وسننتصر،" مضيفا أنه لا ينوي استعادة الملكية وإنما يريد الاستفادة من اسمه لدعم حراك من أجل ديمقراطية علمانية (القدس العربي، ١٤/٦/٢٠٢٥). وكان بهلوي زار في أبريل ٢٠٢٣ حائط البراق، حائط المسجد الأقصى الغربي، الذي يسميه اليهود «حائط المبكى» في مناسبة ذكرى المحرقة النازية ضيفا على وزيرة شئون الاستخبارات الإسرائيلية جيلا جملئيل وصرح وقتها: «أريد أن يعرف شعب إسرائيل أن الجمهورية الإسلامية لا تمثل الشعب الإيراني، يمكن إحياء الرابطة القديمة بين شعبينا لصالح كلا الشعبين." واختار صورة أسطورية لهذه الرابطة الذي ربطت والده بالكيان الصهيوني وتربطه هو باستخباراته فقال: "قبل ٢٥٠٠ عام حرر كورش الكبير الشعب اليهودي من الأسر وساعدهم في إعادة بناء هيكلهم في القدس" (القدس العربي، ١٨/٤/٢٠٢٣).
ألقم الدكتور عبد الكريم سروش، الفيلسوف الإيراني العظيم، أستاذ الفلسفة السابق في جامعة طهران والأستاذ الزائر في جامعة ميريلاند بعد سياحة في الأكاديميا الغربية شملت هارفادر وبرنستون وييل وكولومبيا ولايدن وبرلين وصاحب «التناقض الجدلي» (طهران، ١٩٧٨) و«فلسفة التاريخ» (طهران، ١٩٧٨) و«أرحب من الآيديولوجيا» (طهران، ١٩٩٤) و«بسط التجربة النبوية» (طهران، ١٩٩٩) و«الصراطات المستقيمة» (طهران، ١٩٩٩) ضمن مؤلفات عديدة أخرى، ألقم نجل الشاه وأشباهه حجرا كبيرا، أو صاروخا بالستيا إن طلبت المبالغة، فقال من موقع الحرية ببساطة "لن يحرركم نتنياهو":
"أكثر ما يؤلم، عندما نرى مجموعةً من المرتزقة، لا يحملون من هويّتهم الإيرانية إلا اسمها، بينما هم إسرائيليّون في الحقيقة، يحتفلون بينما الناس في عزاء. يعربون عن بهجتهم، ظنّاً منهم أنّ هؤلاء المجرمين المغتصبين، قادرون على وهب الحريّة للإيرانيّين، وأنّهم قادرون على إيجاد وطنٍ آمنٍ لنا، وأنّ بإمكانهم أن يكونوا رسل السلام والأمن لنا. هم لا يعلمون أن لا أحد أقرب إليهم من أبناء الوطن. ولا يمكن لأيّ أجنبيٍّ أن يحلّ محلّ ابن جلدتهم. ولا يمكن لمن لا يشاركنا اللغة والدين أن يحتلّ مكان إخواننا في اللغة والدين". وأضاف: "إننا في الواقع، نواجه أزمةً تاريخيّةً كبرى، وأعلم أنّ الكثيرين يعارضون الحكومة، ربّما بسبب الخيبة أو الإحباط من بعض السياسات، لكن هذا لا يعني أن يتمسّكوا براية العدوّ، وأن يفرحوا لظفره وإنجازاته، وينسوا شعبهم، وأن يتوهّموا بأنّ الغرباء أقرب إليهم من شعبهم. على أيّ حال، نحن ندين هذه الجرائم، وهذه الاعتداءات وهذه المجازر، وهذه الإبادات. ونتقدّم بالعزاء لشعب إيران، ونشاركهم الحداد، على ما قدّموه ويقدّمونه من الشهداء، ونفتخر بأنّ في إيران رجالاً يمضون على طريق الشهادة والتضحية، وهم يدافعون بوجودهم وإيمانهم عن أرضهم ووطنهم ودينهم".
ظل سروش وفيا للبرق التحرري الذي جاءت به الثورة الإيرانية في ١٩٧٩، ذلك البرق الذي ألهم كذلك زائر إيران الثورية ميشيل فوكو فعاد منها وقد أدرك مغزى عبارة المرحوم ماركس «الدين روح عالم لا روح له» واقعة حقة، واقعة شرحها باستفاضة في «المقالات الإيرانية» (غاليمارد، باريس، ١٩٩٤؛ تعريب عومرية سلطاني، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، ٢٠٢٠). "لم تخضع إيران لاحتلال قوى كولونيالية قط، فقد كانت منطقة نفوذ تقاسمها الانجليز والروس إبان القرن التاسع عشر، تبعا للسائد آنذاك قبل العصر الكولونيالي. ثم حل عصر النفط، ووراءه الحربان العالميتان، والصرع في الشرق الأوسط والمواجهات الكبرى في آسيا. وفي قفزة واحدة انتقلت إيران إلى وضع ما بعد كولونيالي؛ لتدور في فلك الولايات المتحدة، وتبدأ تبعية طويلة الأمد دونما وجود كولونيالي مباشر؛ أي أن الهياكل الاجتماعية للبلاد لم يجر تدميرها جذريا، بل لم تتعطل كلية بفعل تدفق عائدات النفط. لقد أثرى ذوو الامتيازات من هذه العائدات بالتأكيد، وانتشرت المضاربة، وسمحت بإعادة تجهيز الجيش بالمعدات، لكنها لم تخلق أي قوى جديدة في المجتمع. ربما أضعفت البروجوازيات في البازارات، وقوضت المجتمعات الريفية بسبب الإصلاح الزراعي، لكنهما صمدتا رغم تداعيات التبعية لأمريكا، والتغييرات التي أحدثتها" (ص ٨٠).
وثورة إيران عند فوكو «نهوض» تحرري بالدين ضد العالم الذي لا روح فيه: "من المعالم التي تميز هذا الحدث الثوري هو أنه أفرز للمشهد إرادة جماعية بالكلية، وقلة من الشعوب قد أتيحت لها مثل هذه الفرصة في التاريخ. إن الإرادة الجماعية هي الأسطورة السياسية التي يستخدمها القانونيون والفلاسفة في تحليل المؤسسات أو تبريرها. إنها أداة نظرية؛ إذ أن أحدا لم يشهد «الإرادة الجماعية» يوما، وقد اعتقدت شخصيا أنها كالإله، أو كالروح؛ تستحيل رؤيتها. ولست أدري إن كنت ستتفق معي أم لا، لكننا رأينا بأم أعيننا «الإرادة الجماعية» للشعب في طهران، بل وفي شتى أنحاء إيران. وهذا لعمري مما يستحق الإشادة؛ فهو أمر لا يحدث كل يوم. علاوة على ذلك، وهنا يمكننا الحديث عن الدلالة السياسية التي يمثلها آية الله الخميني، منحت هذه الإرادة الجماعية موضوعا محددا وهدفا واحدا لا غير؛ هو رحيل الشاه. إن هذه الإرادة الجماعية التي لا تزال عامة في نظرياتنا؛ قد حددت لنفسها هدفا واضحا ومحددا في إيران، ولذلك قد اقتحمت التاريخ مجسدة. وربما يعثر الباحث – بطبيعة الحال – على ظواهر من هذا النوع نفسه في حروب الاستقلال والجهاد المناهض للوجود الكولونيالي. أما في إيران فقد كانت المشاعر القومية شديدة القوة؛ إذ أن رفض الخضوع للأجانب، والاشمئزاز من نهب الموارد الوطنية، ورفض السياسة الخارجية التابعة والتدخل الأميركي السافر والمشهود في كل المجالات؛ كانت كلها عوامل حاسمة في اعتبار الشاه عميلا للغرب. لكن الشعور القومي في رأيي كان مجرد مكون من مكونات رفض أكبر وأكثر راديكالية، وهو الرفض الذي عبر عنه شعب بأكمله، لا للأجنبي فحسب؛ بل لكل ما شكل تاريخه السياسي لسنوات وقرون خلت" (ص ٨٩-٩٠).
لا غرو إذن أن سروش الذي يعارض بطش حكام الجمهورية الإسلامية يعارض بأكثر من ذلك تصفية الثورة الإيرانية والقهقري الذي يقترحه وريث الشاه حرية لصاحبها نتنياهو. ولسروش كما لسحر دليجاني موارد أخرى ينهلان منها وأن طالت بهما الغربة، الموارد التي حفزت كل راديكالية لمقاومة الاستعمار والإمبريالية أيا كان سمتها. وربما وجدا بلاغتها الشيعية في تراث الإمام الحسين يوم عاشوراء (٦١ هجرية) في مواجهة جيش الأمويين وكان طلب أميرهم عبد الله بن زياد للإمام الحسين الاستسلام غير المشروط فخطب في أهل الكوفة قائلا وقد تكاثر عليه المخبرون وانشق صفه وقل أنصاره:
"تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحِينَ استصرختمونا والِهين، فأصرَخْناكم موجِفين، سَلَلتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحشَشَتم علينا ناراً اقتَدْناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلْباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفْشَوْهُ فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، فهلّا -لكُم الويلاتُ- تركتمونا والسّيفُ مَشِيمٌ والجأشُ طامنٌ والرأيُ لما يُستصْحَف، ولكنْ أسرعتم إليها كطَيرة الدَّبَا، وتداعيتم إليها كتهافُت الفراش، فسُحقاً لكم يا عبيد الأُمّة وشُذّاذ الأحزاب ونبَذة الكِتَاب ومُحرِّفي الكَلِم وعُصبة الآثام ونَفَثَة الشّيطان ومُطفئِي السُّنن، أهؤلاء تعضِّدون وعنّا تتخاذلون، أجل -والله- غدرٌ فيكم قديمٌ، وَشَجَت عليه أصولُكم وتآزَرَت عليه فروعُكم، فكنتم أخبثَ ثمر، شَجَىً للناظر، وأُكْلةً للناصب، ألَا وإنّ الدّعيَّ ابن الدّعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين، السِّلّة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابَت وطهُرَت، وأنوف حَميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثِر طاعةَ اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرةِ، مع قلّةِ العدد، وخذلةِ الناصر" (الحاج الشيخ عباس القمي، «نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم»، دار المحجة البيضاء/دار الرسول الأكرم، بدون تاريخ، بيروت، ٢٢٢-٢٢٣).