نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ١٠١ بتاريخ ١٣ نوفمبر ٢٠٢٥.
أمَر خليفة المهدي في العام 1887 بجَرْد مطبعة «الحجر»، وكانت ملحقةً بالترسانة الحكومية في الخرطوم حتى قيام المهدية، بعد أن شاع التصرُّف الهَبَتَلِّي في مهامّها. جاء أمين المطبعة مختار محمود من أم درمان العاصمة إلى الخرطوم لاستجواب كاتب المطبعة إبراهيم المطبعجي بشأن هذه الفوضى، وصدر تقرير بمحتوياتها التي شملت «1750 جلداً من جلد الحور الأصفر الحجازي و671 جلداً من جلود الحور الأحمر الحجازي و12 جلداً من جلود البلموط المصري وخمسة قطع جلود بيضاء و22 قطعة جوخ» إلى جانب «ورق أبيض ودفاتر وما أشبه، فلكسرته [فلِكثرته] وعدم إمكان جرده جرى تستيفه بالمخازن كما هو مرغوب، بحيث إذا لا سمح الباري وحصَل أدنى خلل بها يكون متّضح». من ثمّ صدَر الأمر بإعادة تشغيلها. وضَمّ فريقُها نفراً غزيراً، عشرة أسطوات ومساعديهم وأحد عشر من الدوارين والأوادم وأربعة من المجلِّدين وستة من مساعديهم، وطَبعت خلال الحكم الوطني راتب الإمام المهدي وشرحه والمنشورات ورسالة العبادي ورسالة ود الزهرا ومطبوعات أخرى حكومية ودينية توعوية. كانت مطبعة «الحجر» بهذه الممارسة وسيلة للإعلام الحكومي، والتوجيه المعنوي، وحثِّ خيالٍ للوطن، وهو في ظلّ المهدية، وطن انقطَعَ عن الزمان الدنيوي بخطوةٍ في شان الله.
قامت الصحافة، منذ عهدها الأول في السودان، بهذه الوظائف الثلاث: الإعلام الحكومي، والتوجيه المعنوي، واختبار خيالٍ للوطن. وتقاسَمَت الصحافة الدارجة، من لدنّ «الغازيتة» التي صدرت لأول مرة عن حكومة السودان في 7 مارس 1899 حتى «أتَـر» بين يدي القارئة، هذه الوظائف الثلاث بدرجات متفاوتة تقلّ وتكثُر من صفر حتى الفورة المليونية. كانت «الغازيتة»، وعلى نهجها الصحيفة الحكومية، منبر جهاز الدولة وميكروفونه، تُعْلِم من خلاله الدولةُ جمهورَ «الأهالي» بقوانينها وفرماناتها وإرادتها، بما في ذلك ما تراه الفطرة السليمة والدِّين الصحيح. ويَدخُل في هذا الغرض كذلك التوجيه المعنوي الذي تقاسَمَت نشيدَه جريدة الحكم وجريدة المعارضة، حزبية وفئوية، فمِن كلٍّ تستقبل القارئةُ التوجيهاتِ والتعليماتِ والإرشاداتِ من باب بثّ «الوعي» الذي يأتي ولا يأتي.
فرضيّة التوجيه المعنوي المبطنة والظاهرة، بحسب قوّة عين الداعية وغضبه، أنّ القارئة صحنٌ خالٍ من المعنى سوى ما يجب إزالته، كما السكن العشوائي، ليحلّ في فؤادها «الوعي» الناظم للحياة الجديدة، كقولهم مبادئ فوق دستورية، دياراً أيديولوجية مهذّبة البنيان وشوارع معبّدة مرصوفة تخلو من «الخرافة» و«الكَرُور» المعنوي، سواءٌ أكان ذلك «يا المكاشفي» التي يُطلب بها الفرج أم «خطاب الكراهية» المبثوث في مثل «سيفك في غضاريف الرجال أرْوِيه»، معيار المرأة الفأس التي لا تشقّ الرأس، أو مثل «العقل الرعوي» الذميم إلّا إذا قام مُسلَّحا ضد «الكيزان» إياهم، و«العلف» الذي لا شفاء من إدمانه والفشل. يقع سوء الظنّ بالقارئة إذَن في موقع القلب من هَمّ التوجيه المعنوي الطاغي في جنس «المقال»، وهو الجنس الكتابي الذي تتعلّمه كلُّ تلميذةٍ في المدارس على طريقة موضوع «الإنشاء»؛ انتقل بغير عافية التصويب اللغوي والتحرير سوى النّزْر اليسير إلى صفحات الجرائد، تقوم حول فنّه في الإفحام مبارياتٌ كتابيةٌ على سُنّة «في الردّ على…». والقارئةُ بهذا التصّور مِثْلها وجمهور الدوري، درجة ثالثة أو ممتاز، مَهمّتها التشجيع والتصفيق بقوّة، والاقتراح ربما متى تيسّر استبدال هذا اللاعب بذلك أو إدانة الحَكم، تتمسّك بفريقها في لَقَى أو عَدَم، لا أحيد.
يُداخِل شُغلُ التوجيه المعنوي وظيفةً ثالثةً للصحافة كما عرفناها، فعبرها تبشّر فئة كاتبة بخيالها عن الوطن، يضيق ويتّسع بحسب مواقعها الاجتماعية من لدنّ جريدة «السودان» وتعريفها «جريدة سياسية تجارية أدبية إخبارية زراعية» التي صدرت لأول مرة في أكتوبر 1903 بيد فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكريوس، أصحاب دارَي نشر «المقطم» و«المقتطف» القاهريّتين. والسودان الذي بشّرت به «السودان» مستعمرة بريطانية توسّلت الجريدةُ رسمَ خريطته المعنوية في أذهان قرّائها السوريين والمصريين العاملين في الحكومة والتجارة. وأصدَرت الجريدة لهذا الغرض أيضاً صفحةً في الإنقليزية في ديسمبر 1904، بعِلّة مستمرّة متجدّدة هي بعض تبعات اندراج السودان في عالم أكبر مكين: «اقترَح علينا كثيرٌ من كبار الموظّفين الإنقليز أن ننشر خلاصةَ أخبارٍ بالإنقليزية حتى يطّلع عليها الذين يجهلون العربية من سكّان السودان والذين تهمّهم أخباره من سكان البلدان الأجنبية، فرأينا أن نُجيب الطلب، وخصّصنا الصفحة الرابعة من الجريدة لهذا الغرض. وقد أقدمنا على هذا العمل ونحن لا نجهل الصعوبات الكثيرة التي تعترض سبيلنا، فإذا صادفنا النجاح المطلوب من نشر أخبار السودان بين الذين يهمّهم الأمر جَرَيْنا على هذه الخطة إلى ما شاء الله». تبدّلت حدود هذه الخريطة المعنوية بطبيعة الحال وتنوّعت، فهي حلقة أدبية وإذاعة لتنقّلات الموظّفين كما «رائد السودان» التي صدرت لأول مرة في يناير 1913 ملحقاً عربياً لجريدة «سودان هيرالد» يحرّرها الأديب السوري عبد الرحيم مصطفى قليلات، الموظّف بسكك حديد السودان.
فزّ سهم «رائد السودان» بالتوجيه المعنوي أيضاً، إذ لم يَرْضَ المتعلّمون بالثقافة كما قامت من حولهم، وهَمّوا بتبديلها بأخرى في حملةٍ لَمّا تنقطع: «لقد ركب السودانيون متن الشطط في أفراحهم وجروا شوطاً بعيداً في أتراحهم، وإنْ كان القِسْم الأول أكثر أهمية فلنبدأ به ونقول إنّ حفلات الزواج في السودان أصبحت من الأمور المستهجَنة التي يأباها العقل ويمجّها الذوق السليم، ولسوء الحظّ صارت من المحافظة عليها بمكان لا يستهان به وقد انبرَى لها أناس من أرباب البطالة فوضعوا لها برنامجاً غريباً جاءوا فيه من ضروب الحيل لابتزاز مال المتزوّجين ما أوصلهم إلى كياسة الأسفنج في أخذ الماء مع مزيد من الرفق والسهولة». وهذا التركيب نمطٌ مستقرٌّ في «رَدَحِي» المتعلّمين بوجعةٍ تخصّهم، في هذه الحال مال الزواج، ويمكن للقارئة أن تضع مسائل أخرى في محل «حفلات الزواج» ويصحّ «الرَّدَحِي» كما هو، من زيّ البنات حتى الاستماع إلى يوميات «الانصرافي»، فكل ما يخالف إرادة المتعلّمين مخالف بطبيعة الحال للعقل والذوق السليم.
انشرحت الجريدة عندنا إذَن بخرائط معنوية للوطن، فوطن «حضارة السودان» التي صدرت في فبراير 1919، كأوّل جريدة سودانية التأسيس والتحرير، مرآةٌ لصراع الخرّيجين الذاتي حول «لماذا نطلب حلّ الشراكة وتوحيد الحكومة؟ لماذا نختار الإنجليز على المصريين؟». خرج هذا الصراع إلى الشارع وسال دماً في ثورة 1924 التي نشأت بها خرائط مضادّة شغَلتها على مراحل طلائع حركة التحرّر الوطني، ولكلٍّ هاتفٌ ومنبر، «النهضة السودانية» في 1931، ثمّ «الفجر» في 1934، و«النيل» في 1935، و«صوت السودان» في 1940، و«السودان الجديد» في 1943، و«الرأي العام» في 1944، و«كردفان» في 1945، و«الصراحة» في 1950، و«الأيام» في 1953، و«الميدان» في 1954، و«صوت المرأة» في 1955 و«التقدم» الإنجليزية بشيوعية في 1964، و«اليقظة» الإنجليزية، لسان حال «الجبهة الجنوبية»، في 1965. فماذا قدّمت «أتَـر» في أثر هذا الإرث الحي؟
تراءت للقارئة بين صفحات الجرايد على الدوام جريدةٌ أخرى، تحتجب وتسفر، في كلمة العدد هذه، وفي هذا التقرير وذلك، في هذا الحوار، وفي هذا المقال وذاك، وفي هذه المذكرات المسلسلة أو في الصفحة الأخيرة «أقبض!»، تراءت جريدةٌ تقوم بخلاف الوظائف الثلاث المذكورة ومعها، في أغراض متقاطعة ومتداخلة، بالاستماع مرّة لصوت القارئة من موقع حليف لا من منبر الداعية والخطيب، جريدة ترصد الوقائع وتختبر الفرضيات، لا هي ميكروفون منبر ولا هي طبلة مشجّع. داخلت هذه الوشيجة خبر «الأيام» الشهير باقتصاره على الواقعة وإمساكه عن «الرَّدَحِي»، كما داخلت تقارير «صوت المرأة» التي لا تدسّ اختيارها ولا تستتّر، مرّة لأي زول، وداخلت همّ «الصراحة» بالتربال الأغبش الذي قال المرحوم عبد الخالق محجوب لا تقوم «الثورة الوطنية الديمقراطية» إلا به، وداخلت زاوية «كردفان» المُنفرجة بتقاطعٍ مركزُه الأبيض وليس العاصمة، وداخلت عزة «الميدان» بالماركسية لا تستنكف رصد العلاقات الاجتماعية في مثل شعر «الهمباتة» تسعى «الثقافة الديمقراطية» من واقعنا ما من أكثر، وعندي معهد وطني العزيز! فهل فعلَتْها «أتَـر»؟
اعتمدتُ في هذه الكلمة على كتاب المرحوم محجوب محمد صالح «الصحافة السودانية في نصف قرن» (الجزء الأول، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1996)، الذي صدر أول الأمر في 1971 عن دار جامعة الخرطوم للنشر، وعلى مقال الدكتورة هيثر شاركي «قرن من الطباعة: الصحافة العربية والقومية في السودان، 1899-1999» (المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، م 31، ص 531-549، 1999)، وعلى مقال الدكتورة كاثي ولكوك «تسطير الوطن: الدعاية السياسية الموجّهة إلى الخارج لحركة التحرر الجنوب سودانية» (مجلة دراسات شرق أفريقيا، م 18، ع 4، ص 556-574، 2024).
No comments:
Post a Comment