Friday 4 October 2024

يدكم خليها تكون قصيرة شوية

جاء دكلان ولش، مراسل نيويورك تايمز الأول في افريقيا، وزميله كرستوف كوتي، للمرة الثانية بالثابتة في شأن المدد الحربي الإماراتي لمقاتلي الدعم السريع تحت ستار العون الإنساني وبقماشة الهلال الأحمر الإماراتي، وذلك في عدد الجريدة ٢١ سبتمبر الجاري. وسبق وجاء وزميلاه كوتي واريك شميدت بطرف من هذا العون الحربي العام الماضي في عدد ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣.

حال الحول على هذا المدد الكريم من الإماراتيين لآلة القتل والنهب التي أخرجت أثقالها في حضر السودان وريفه. رصد وولش وكوتي في تقريرهما الأخير أركان جريمة حرب إماراتية بشهادة   متحدث اتحاد الصليب والهلال الأحمر توماسو ديلا لونغا عن إرسال الاتحاد فريقا إلى تشاد للتقصي حول الأمر في ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، فعركس الإماراتيون ورفضوا دخول الفريق إلى "المستشفى الميداني" في أم جرس التشادية لأسباب أمنية. كما قال مسؤول في منظمة الهجرة الدولية لمراسلي التايمز: "يستغل الإماراتيون الهلال الأحمر كغطاء لنقل السلاح إلى مليشيا ترتكب الفظائع راهنا في دارفور."

ربما بلغ صوت مراسل النيويورك التايمز ولش، الخواجة الآيرلندي، أبعد من صوت اللاجئ السوداني الذي وجه حديثا ظاهرا إلى الوزيرة الإماراتية لانا زكي نسيبه، خلال زيارتها في منتصف سبتمبر الجاري لمستشفى تشادي لاستعراض كرم بلادها، فقال للسيدة الوزيرة ما هماه شي: "تعلمون جيدا أنتم اليد الأيمن في إيقاف الحرب وأنتم اليد الأيمن في اشتعال الحرب في السودان. لذلك ده مطلبنا. من الآن لا بنطلب أكل، لا بنطلب شراب، لا بنطلب لبس، لا بنطلب تعليم، لا بنطلب صحة، لا بنطلب مسكن. لأن الشعب التشادي ما قَصّر، وفروا لينا الحاجات دي كلها، الشعب التشادي وفر لينا الحاجات دي كلها. قاعدين في بيوتهم، وبناكل معاهم وبنشرب معاهم، وبنلبس معاهم، وكل شي معاهم. بس دايرين منكم، بس لو دايرين تكرمونا وقفوا لينا الحرب في السودان ده. تاني ما دايرين أي حاجة. وقفوا لينا الحرب الفي السودان ويدكم خليها تكون قصيرة شوية. جزاكم الله خير."

والصوت ومداه، وما يُسمع وما يُذاع وما يُعتد به وما يُطمس في موقعه، ما يُؤخذ به وما يُهمل، دالة للشوكة، لا للحقيقة. ومن ذلك حقيقة حرب رأس مال حكام الإمارات على شعوب السودان، سيان فيها الوكيل لشيوخ الإمارات والمقاوم لبأسهم، المُنْفَنِس والقائم، فالحرب على كليهما. لا تبلغ هذه الحقيقة اللوغاريثمات الدولية للشوكة سوى كفضيحة تُوارى في غبار الكلام الماسخ عن ضرورة وقف العدائيات والتصدي للمأساة الإنسانية، حرب تتنكر كسلام. ويبلغ شِعر الشوكة أقصى الكهانة في مثل الذي صدر من البيت الأبيض في مناسبة زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الإمارات العربية المتحدة، ولقائه الرئيس بايدن. أمن القائدان بحسب بيان البيض الأبيض على أن الشراكة الدفاعية الاستراتيجية بين بلديهما قائمة وديناميكية، وعبرا عن قلقهما العميق من الأثر المأساوي للعنف في السودان على الشعب السوداني والبلاد المجاورة، وأكدا ألا حل عسكري للصراع في السودان، وأمنا على موقفهما الثابت حول ضرورة العمل الملموس والعاجل لتحقيق وقف مستمر للعدائيات؛ العودة إلى العملية السياسية والتحول إلى حكم يقوده المدنيون. وأضافا أن الأولوية الآن هي لحماية المدنيين، بخاصة النساء والأطفال وكبار السن، فعلى من يتهكمان؟ هل على اللاجئ الذي أشار بسبابته إلى سحت الهلال الأحمر الإماراتي لسان حاله: الله الغني. 

Saturday 24 August 2024

واه يا عبد الودود: ماركس عند الحدود

هذا تلخيص بالعربية من ورقة الدكتور آدم هنيه والدكتورة رفيف زيادة "اضطراب مغزى الحدود: الهجرة والعرق والطبقة اليوم". صدرت في مجلة «المادية التاريخية»، م ٣١.٣ (٢٠٢٣)

تعرض الورقة للهجرة الدولية وطبيعة الحدود القومية من موقعي الطبقة والعرق. وتبدأ بشغل المرحوم ماركس عن الاجتماع القائم على إنتاج السلع وتبعات ذلك على مستوى الدولة السياسية والمواطنة ومن ثم الحدود والقومية، أي الصيغ الجغرافية للرأسمالية في مقابل التكوينات ما قبل الرأسمالية. ثم تنتقل إلى تكوين الطبقة والعرق في السوق الكوني المعاصر بالنظر إلى (١) حركة قوى العمل عبر الحدود وعمليات التكوين الطبقي، (٢) الهجرة وتحديد قيمة العمل، و(٣) العمل القسري وغير الحر.

يبدأ المؤلفان على سنة ماركس بتجمير مفهوم الحدود، وتمييز الشكل من المضمون، وهذا التمييز وإدراك الديالكتيك الرابط بين طرفيه ركن ركين من أركان ماركسية ماركس إذا جاز التعبير. يعتمد الأدب الخاص بالحدود تعريفا وظيفيا للحدود، والافتراض أنها موجودة لأنها تقوم بوظائف معينة في خدمة رأس المال (أو الدول الرأسمالية) فهي تخفض من قيمة قوى العمل، تقسم السكان، وتوفر قاعدة قومية للشوكة الدولية وما إلى ذلك. هذه هي وظائف الحدود، ولا غنى عنها في طريقة عمل الرأسمالية.

يفترض هذا التصور أن «شكل» الحدود نفسه كما يبدو لوعي السكان أمر بديهي كما القماشة التي تنطبع عليها تقسيمات العرق والطبقة. والقضية على سنة ماركس هي تمحيص هذا الشكل، والتساؤل لماذا اتخذت الرأسمالية الشكل الجغرافي لوحدات قومية ذات سيادة تحدها حدود وتنظمها ممارسات حدودية وأنظمة للمواطنة. وسنة ماركس في هذه المسألة تمييزه بين جوهر حقائق الاجتماع ومظاهرها المباشرة ومن ثم تاريخية الحدود. فالحدود كما انطبعت في الدولة الرأسمالية غير الحدود في التكوينات ما قبل الرأسمالية. وانتقد ماركس «المظاهر» أو «الظنون»، كما في بيت عبد الرحمن الريح "خالفت الطبيعة وتابعت الظنون" في درة الحقيبة المتأخرة "لو انت نسيت". وكشف الازيرق عن غتغتة هذه «المظاهر» على الطريقة الفعلية التي يعمل بها الاجتماع. ويخالف المرحوم ماركس في واقع الأمر ما استقر في خاطر اليسار الجزافي ويساريين جناح أم فكو من صدع بين «المادي» و«المثالي»، ومصدره قراءة مخاتلة، لا تنقصها البلادة، لاستعارة ماركس الشهيرة «القاعدة/البناء الفوقي»، الاستعارة التي طوحت بفطن قراء كثر للمرحوم ماركس. 


الحدود وتدليس الشكل القومي

يرتبط تجنيد العرق كتصنيف اجتماعي ارتباطا وثيقا بنشأة الدولة القومية التي تأسر أفرادا أحرارا بالنية، لكل منهم حقوق مواطنة ضمن حدود بينة هي مناط السيادة. وتمثل الفروقات العرقية وعقائد التفوق العرقي منذ القرن الخامس عشر قاعدة طموحات الدول القومية المتنافسة في سعيها لتأمين الجغرافية والموارد. ونشأ في هذا الخضم طيف واسع من التصنيفات الأخرى التي تتداخل والهوية العرقية السيادة، المواطنة، الإثنية، الجنسية، وما إلى ذلك، وكلها ترتبط في أصلها بتطور عالم يبدو ظاهرا مقسما بنظام دقيق بين دول قومية. والحدود في هذا السياق لا غنى عنها، فهي التي ترسم خريطة القوميات وكل التصنيفات الاجتماعية القائمة على الشكل القومي. فما هو هذا الشكل القومي؟ ما هذا الانطباع المرسل أننا نعيش في عالم يتكون من دول قومية ذات حدود قطعية؟ 

تثبت ورقة الدكتور هنية والدكتورة زيادة، لله درهما، مسألتين: الأولى أن الحدود تنشأ مباشرة من طبيعة الرأسمالية كنظام اجتماعي عصبه إنتاج السلع، والثانية أن هذا الانطباع هو في آخر الأمر تدليس آيديولوجي لحقائق اجتماعية، ومن ثم يطرح الكاتبان اضطراب مغزى الحدود في اتصال مع التكوين المشترك للعرق والطبقة.

وضربة البداية أعسر شغل ماركس وجوهرة بناءه: «شكل» السلعة كقولك "حركة في «شكل» وردة". وينفع القارئة في موضوع «الشكل» أو «المظهر» أو «الظنون» قوله تعالى "إن بعض الظن إثم". وإدراك تحولات «شكل» الوردة فتح من فتوحات ماركس لكنه ليس فتح حصري، فمثله عند المرحوم عبد الرحمن الريح: "أيام كنت ساذج كنت راقي وحنون، تغريك العواطف وتشجيك الفنون، أما الآن فصرت تقول الحب جنون." وعتب المرحوم عبد الرحمن على المحبوبة تحولها عن محتوى الحب كعاطفة وذوق إلى مظهره كجنون. وقصيدة المرحوم عبد الرحمن الريح، درس في الديالكتيك، تصلح موضوعا لكورس المرشحين في حزبنا رد الله غربته. ومثل ذلك اكتفاء اليساريين جناح أم فكو بنبذ المسيد كمظهر اجتماعي رجعي في ظنهم وغربتهم عنه كمعسكر لإعادة إنتاج التربال ومسكن للاقتصاد القيمي، شيلني وأشيلك، عندك خت ما عندك شيل، كمثل غربتهم عن الدين، تجريد الاجتماع وضامن هذا الاقتصاد القيمي في الزمان والمكان، "روح عالم لا روح فيه" بعبارة الإزيرق، في مجتمع لما ينقطع عن منابته قبل الرأسمالية. 

على كل حال، لب شغل ماركس هو تمييز الجديد في مجتمع يقوم على تعميم التبادل السلعي في مقابل التبادل السلعي العرضي والمحدود جغرافيا في المجتمعات ما قبل الرأسمالية. على خلاف صيغ الاجتماع البشري ما قبل الرأسمالية حيث تنظم الحياة الاجتماعية علاقات قسر وإذعان مباشرة يتقابل الناس في المجتمع الرأسمالي كأفراد مستقلين ملاك سلع. ولأن البشر كائنات اجتماعية تتطلب العلاقة بينهم وبين الطبيعة وإعادة إنتاج أنفسهم توزيعا للعمل الاجتماعي بمقادير محددة. ووسيلة التوزيع لهذه المقادير تحت شروط تعميم الإنتاج السلعي تبادل نتائج عملنا، أي السلع، فيما بيننا. وعقدة المجتمع الرأسمالي هي أن ملاك السلع الأفراد يتخذون القرارات الخاصة بالإنتاج، متى وكيف تنتج السلع، وباستطاعة المجتمع رغم ذلك تنظيم توزيع العمل الاجتماعي بمقادير محددة بما يضمن   بما تيسر استمراره. وهدف شغل المرحوم ماركس الأساس كان الإجابة على سؤال كيف وكيف؟ ولذا بدأ شغله بالطبيعة المزدوجة للسلعة، فهي موضوع للنفع، تأكلها وتشربها وتلبسها وتسكر بها، وهي كذلك حاملة لمقدار معين من العمل الاجتماعي المجرد. ومن ذلك خلص إلى مفهوم «القيمة» كمنفلة لتنظيم توزيع وقت العمل الاجتماعي المجرد، الوقت الذي يستغرقه انتاج سلعة ما. 

وعند المرحوم ماركس الرأسمالية ليست مجتمع قائم على التبادل وكفي إنما هو مجتمع قائم على «استغلال» قوة العمل. ومعظمنا لا يملك سوى «قوة العمل» هذه كسلعة يعرضها باستمرار في سوق الله أكبر. ولذا انتهى المرحوم ماركس إلى أن طبيعة العمل البشري تحت نير الرأسمالية مزدوجة الحرية: معظمنا حر من وسائل الإنتاج، أي خلو منها، لا نستطيع إليها سبيلا، ومعظمنا كذلك أحرار أن نبيع قوة عملنا كما يناسبنا. وشرط الحرية الثانية استبعاد القسر المباشر من عملية الإنتاج. وإن كان الواقع يكذب هذه الحرية الصورية. فالرأسمالية لا تستغني عن هيئات ودرجات متفاوتة من العمل القسري، بما في ذلك العمل المنزلي الذي يقيد حرية المرأة، ويحبسها في روتين بليد جنن لينين.

كذلك يتصل ملاك وسائل الإنتاج، البرجوازية ست الاسم، ببعضهم البعض كأحرار متساوين في تبادل السلع، كما لا تنبع السلطة السياسية مباشرة من الامتيازات العرفية. لكنه مجتمع يقوم على الهيمنة الطبقية ورباطه صيغ من التنظيم الاجتماعي والشوكة التي تؤمن حقوق الملكية الخاصة وعمليات التبادل. أين القوة السياسية إذن؟ تتشكل هذه في المجتمع الرأسمالي، وهذه ميزته، خارج مدار العلاقة بين رأس المال وقوة العمل في مجال مستقل هو السياسة، وهذا «مظهر»، مظهر المفاصلة بين المجال السياسي والمجال الاقتصادي. القضية الرئيسة مما سبق أن بين «شكل السلعة» ونشأة الشخوص كمواطنين في التجريد (بدون اعتبار للعمل الذي يقوم به أي منهم أو موقعه الموروث أو الاعتباري، أفندي ولا شيخ حلة، جده حامد أب عصا أو جده جنيد) ضمن دول ذات سيادة رباط وثيق. وتقوم المفاضلة الظاهرية بين المجالين السياسي والاقتصادي على تجريد البرجوازي والعامل كمواطنين متساوين ظاهرا لكل منهم ذات الحقوق، ظاهر الأمر، ضمن الحدود التي تسيطر عليها الدولة السياسية.

تنشأ من هذا الرباط التصنيفات الاجتماعية المختلفة التي تعبر عن الانتماء القومي أو الارتباط بجغرافية ما ومن ثم دولة ما - المواطنة، العرق، الإثنية، الجنسية وما إلى ذلك. والوطن بهذا المعنى تكريس للتمايز بين المواطن والأجنبي، نحن وهم. نحن من هنا والجماعة ديل من زحل. من ناحية أخرى، الوطن جرافة لتدمير التصنيفات الرجعية والامتيازات القديمة، هو مجال صيانة حقوق المواطنة. فحقيقة الانتماء مجلبة لمنافع أخرى (بالمقارنة مع غير المنتمين)، وقاعدة المساواة الظاهرة بين مواطنين. والتعبير عن حقوق المواطنة مجالها قانون تضمنه قوة الدولة التي تبسط سيادتها على جغرافية معينة وتقيم شخوص الأفراد كرعايا لهذه القوة المجردة.

 

توطين «شكل السلعة» في جغرافيات 

بطبيعة الحال لم يتم توطين «شكل السلعة» في وحدات جغرافية ضربة لازب وفي كل مكان مرة واحدة. دفعت عوامل أزمة الإقطاع المتطاولة والحروب المتعددة والصراع الاجتماعي الحاد في أوروبا الغربية نحو بزوغ الصيغ القومية وظهور تصنيف المواطن/الأجنبي، سمة الانتماء القومي. جرى هذا التحول بطريقة متباينة زمانيا ومكانيا على مدى السوق العالمي، وارتبط تعزيز الانقسام بين المواطن والأجنبي ارتباطا وثيقا بالعرق كحد للاختلاف بحيث تطابق الانتماء القومي مع هوية اثنية أو لغوية أو عرقية معينة. وقد تباين تعزيز هذا الانقسام واختلف عبر جغرافية السوق العالمي. وقام هذا الارتباط بين الانتماء القومي والهوية العرقية على سوابق في التاريخ الأوروبي، منها عقيدة التفوق العرقي للجيوش المسيحية التي حاولت التخلص من الحكم الإسلامي في الأندلس في القرن الثالث عشر، والامبراطوريات الاستعمارية وفرض حدود قومية على الجهات التي خضعت للسيطرة الأوروبية. ونشأت عن كل ذلك تقسيمات عرقية وسمت هؤلاء الناس وأولئك بأنهم غير أحرار. واتصل كل ذلك مع ترتيب هرمي لتقسيمات ثانوية داخل الحدود القومية للأمم التي وقعت تحت نير السيطرة الغربية، تقسيمات على أساس الهويات الإثنية والطائفية والطبقية. خلاصة الأمر، أن بزوغ الدول الرأسمالية ترافق مع اتجاه للتمييز وليس للتسوية، لتعزيز الفروقات المناطقية والثقافية في صورة فروقات «عرقية».

وللمرحوم ماركس في هذه المسألة مبضع، تتميز به الأفكار والتقسيمات الذهنية التي نتوسل بها فهم العالم عن العلاقات الاجتماعية الداخلة في تكوين الرأسمالية كنظام اجتماعي الأساس فيه تعميم الإنتاج السلعي. ومهارة المرحوم ماركس لا تكمن كما في الابتذال الدارج في تأسيس قوامة اقتصادية ينتصب فيه «المادي» على «المثالي» كما قد تشي بذلك استعارة القاعدة والبنية الفوقية وإنما في نفي إمكانية عزل «المثالي» كمجال للواقع يفارق «المادي» أول الأمر. ونقد ماركس للمثالية في كتابه «الآيديولوجيا الألمانية» بمثابة مقارعة للمثالية ألا سبيل لتمييز المادي عن المثالي، فإنكار ماركس للمثالي إنكار أولي لاستقلاله عن «المادي». وتركيز ماركس وانجلز في «الآيديولوجيا الألمانية» على هذا الفصال بين الوعي والأفراد الذين هم بشخوصهم وظروفهم قاعدة هذا الوعي، وبذلك «المثالي» مستحيل موضوعيا. 

بهذا المنظور فإن المفاهيم التي نتفكر بواسطتها في العالم الدولة والقانون والعرق والحدود والانتماء القومي.. الخ هي أشكال الوردة التي يبدو فيها العالم لناظرنا، وفاعليتها حقيقية لا شك لأن هذه المفاهيم تدفعنا وتحفز أعمالنا. لكن الواجب ألا نقع في فخ أن هذه الأشكال، هذه «المظاهر»، كما في أغنية المرحوم محمد أحمد عوض المعروفة، مستقلة عن ذواتنا كبشر، وفيها يلوم المحبوبة تفضيلها المظاهر من زينة الدنيا الزائلة على محبته الأكيدة. وهي إذن صيغ مفاهيمية تعبر بفعالية اجتماعية عن الظروف والعلاقات المحيطة بنمط تاريخي من أنماط الإنتاج، أشكال مثالية تتجلى عبرها لوعينا العلاقات المادية التي يقوم عليها مجتمعنا. وأي تصور سوى ذلك هو في واقع الأمر تحنيط وتأبيد لهذه الأشكال باعتبارها تمثيل مستقل للواقع الموجود فعلا. 

فوق ذلك، لا تعكس هذه الأشكال المفاهيمية عند المرحوم ماركس الواقع الاجتماعي والسلام، لكنها تطفف في ذلك، وهذه هي قضية نقد ماركس للاقتصاد السياسي؛ وهي الإطار الذي يضع فيه المرحوم ماركس المساواة المزعومة بين الأفراد في مقابل تعميم شكل السلعة. وعند المرحوم ماركس الحرية المزدوجة للعمل والمساواة الظاهرة بين أصحاب السلع لا تعنى بالضرورة استقلال المجال السياسي عن المجال الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي. لكن يبدوان كذلك نتيجة لعلاقات الملكية الأساس التي تسم المجتمع الرأسمالي وما تطمسه من استغلال واقع فعلا ومكنون في شكل السلعة والسلطة التي تتمتع بها البرجوازية في المجتمع. فالتحرر السياسي وأسه الفرد الحر قضائيا صاحب الحقوق المتساوية يطمس حقيقة الدولة كصيغة من صيغ الحكم الطبقي، الصيغة التي تولت كبرها البرجوازية لتنظيم سلطانها على المجتمع. 

من جهة أخرى، لا يجوز آن تنتهي هذه الحجة عند محطة أن هذه المفاهيم التي نستعين بها لفهم العالم خاطئة بمعنى أننا نخطئ في شهودنا العالم. فالعالم في واقع الأمر يبدو أنه يعمل وفق هذه المفاهيم ويتبعها سلوكنا، فضبطها على هذه الوجهة المعينة دالة للقوانين والمؤسسات الاجتماعية التي نؤسس، ونسعى في واقع الأمر لتصويب الأمور متى وجدنا أن حقوق مواطنتنا عرضة للانتهاك. لكن، لا يجوز أن نجعل ظاهر الواقع في محل الواقع نفسه، وإلا لكانت كل العلوم مما لا داعي له بعبارة المرحوم ماركس. تبدو لنا هذه المفاهيم كما يبدو السراب يحسبه الظمآن ماءً، نراها لكنها تخادع، تستر حقيقة أنها صيغ فكرية تعبر عن «علاقات أولية» لشكل السلعة. ونستثمر في فعاليتها التفسيرية وعلاقات السببية التي تصل بينها باعتبارها قوى مستقلة منفصلة عن البشر المشهودين. وعليه نفشل في كشف حقيقة أن هذه المظاهر تحجب المحتوى الفعلي لعلاقات الملكية الأولية.

ومن آثار تأبيد الدولة في الوعي بما في ذلك مفاهيم المواطنة والسيادة ذلك الميل العميق لتصور الجغرافيات التي تحيط بها الحدود القومية كوحدات متعينة منفصلة تحيط في داخلها بعلاقات اجتماعية حسنة الترتيب. ولذلك يطغى في الحياة اليومية تصور الحدود القومية كقطع الأحجية المصورة، وحدات منفصلة مكتملة سابقة للكل، والكل جماعها، ولكل منها خصائص باطنية تقوم بمعزل عن الكل المحيط. وبذلك نرى الوحدات القومية كحقائق أولية والتكوين الاجتماعي (الأممي) كنتيجة تنشأ عن العلاقات التبادلية بين هذه الوحدات. وبهذه الطريقة نضع المظهر في موضع المخبر، ونتصور ما هو في الحقيقة «علاقة» موجودا قويما وبذلك تغيب عن ناظرنا واحدية الكل. 

وللمرحوم ماركس تخريج فلسلفي لهذا الانزلاق النظري، فهو ملك «العلاقات الباطنية» وعنده العلاقات بين الموجودات (وكذلك المفاهيم) ليست برانية، خارجية عنها، وإنما جوانية، بل هي ما يشكل جوهرها. وأي مسألة خاضعة للدراسة عند المرحوم ماركس هي جملة علاقات تداخلها جوانيا كجوهر فيها تلك الأطراف منها التي نميل أن نراها برانية عنها ترتبط بها بطرف قصي. والموجودات إذن عند المرحوم ماركس ليس مكتفية بنفسها، قديمة، مستقلة، ذاتية، لكنها في الواقع الأمر تتكون عبر العلاقات التي تصلها ببعضها البعض، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. هذه العلاقات لا تقوم برانية عن الموجودات، بل هي داخلة فيها، جوانية، ومن جوهر طبيعتها. وسبيل المرحوم ماركس هو اكتشاف هذه العلاقات المتعددة بين الموجودات وحركة هذه العلاقات عبر الزمان والمكان بدلا عن اعتبار موضوعات الدراسة وحدات بناء مستقلة كل واحدة منها عن الأخرى، يمكن المقارنة بينها لكن تظل في أسها منعزلة عن بعضها البعض. 

وبهذا التصور فالوحدات القومية هي المظهر الملتبس للواقع الاجتماعي الموجود فعلا، ويفرض علينا سبيل المرحوم ماركس إدراكها كعناصر متصل بعضها ببعض لنظام كلي هو السوق العالمي، ذو المحتوى العالمي والمظهر القومي. وعلينا إذن الانتقال من ثنائية القومي والعالمي إلى اعتبار واحدية السوق العالمي والعلاقات المتبادلة بداخله وهو سوق تقوم فيها دول متعددة تتمايز بينها بالشوكة.

 

الحدود، الهجرة والتكوين الطبقي 

تتكشف بمنظار ماركس إذن وظيفة الهجرة العابرة للحدود في السوق العالمي، فهي وسيلة السوق التي تغرف بها البلدان المكونة للأحزمة الأكثر ثراءً من الاقتصاد العالمي من "جيش العمل الاحتياطي" ما تحتاجه قوة عمل، مدربة وغير مدربة، مهنية ويدوية، رسمي وكيري. وجيش العمل الاحتياطي بعض من فائض السكان حول العالم، حوض واسع من المادة البشرية القابلة دوما للاستغلال بثمن بخس يغرف منه رأس المال بحسب الضرورة تبعا لمده وجزر تراكمه.

والطابع الملموس لهذه الحركة التراكمية شأن تاريخي شديد التنوع بحسب كل قطاع اقتصادي وكل إقليم بشري. والنقطة الرئيسة أن حركة قوى العمل عبر العالم تهدم كل آزرة قومية لمنابت الطبقات العاملة وتكوينها. الهجرة إذن بمنظور المرحوم ماركس عملية للتكوين الطبقي، اقتران للعمل من جهة ما في العالم مع رأس المال في جهة أخرى. ودونك على سبيل المثال اغتراب الخليج العربي الذي اقترنت به قوة من أقاليم آسيا وافريقيا مع رأس المال في قطاعات الخدمات والإنشاءات والإنتاج الغذائي. بهذا المعنى الهجرات باطنة في تكوين الدول الرأسمالية. من ذلك في التاريخ البريطاني ازدواج التمدد الامبريالي وموجات متتالية من الهجرة التي أذنت بتجنيد قوميات ومجموعات مستضعفة بعينها في جيش العمل، مثل العمال من جزر الكاريبي وعاملات النسيج البنغلاديشيات والعمال اليهود ومؤخرا العمال من الاتحاد الأوروبي، وما هذه الهجرات سوى حركة فائض السكان - فائض قوة العمل - من حول العالم إلى بريطانيا. وتكرر مثل هذا النمط في دول أوروبية أخرى وفي المستعمرات الاستيطانية.

أما خارج أوروبا فقد كانت حركة البشر الكبرى عبر الحدود القومية بعلة الحروب أو الأزمات الأخرى هي كذلك عنصرا داخلا في عملية تجنيد العمال والتكوين الطبقي. ويشكل هؤلاء النازحون المبعدون بغض النظر عن حقوقهم وأوضاع تشغيلهم قسطا من قوة العمل في بلدان عديدة اليوم. يشكل اليوم اللاجئون السوريون أعظم كتلة نازحة من البشر في العالم، وجد بعضهم أنفسهم في لبنان والأردن وتركيا، وصاروا يشكلون نسبة مقدرة من سكان هذه البلاد بالإضافة إلى موجات سابقة من النازحين (الفلسطينيين بالدرجة الأولى)، ١٠٪ من سكان الأردن، ٢٥٪ من سكان لبنان. والنازحون بذلك جزء من «جيش الاحتياط» العامل في هذه البلاد، والهجرة بهذا التقدير لبنة من لبنات التكوين الطبقي. 

ومتى ما عرضنا للهجرة كطرف في عملية التكوين الطبقي تبين الدور الحاسم للحدود في تعيين فئات العمال وحصارها وتشكيل العلاقات بينها. وغرض رأس المال في هذه المسألة مزدوج، فهو من ناحية يطلب حبس قوة العمل في موقعها ومن أخرى يحتاج إلى تحريكها من موقع إلى آخر. والحدود بهذا المعنى وبحسب القيود المختارة التي تفرضها على صنوف الحركة البشرية تعمل كمصفى دائب التغير يضبط وقع وسرعة وعدد ونوع المهاجرين، يقيد حركة هذه المهاجرة ويستقبل تلك إلى داخل الأراضي الوطنية. الحدود إذن متعددة الأغراض انتخابية وتخلق بفرضها هذا القيد السيادي وحل ذاك وبفاعلية المهاجرين أنفسهم أجناسا متباينة من العمال. 

اختصار ما سبق أن جيش الاحتياط من العمال صار جيشا كونيا، جيشا أمميا. لكن ليست هي الحدود التي تخلق هذا الجيش الاحتياطي الأممي، بل والسنة من المرحوم ماركس علاقة رأس المال والعمل التي تجعل من سكانا بعينهم فائضا بشريا. وهذه عملية دائبة التحول منابتها العواقب المتباينة للتراكم الرأسمالي على المستوى العالمي. ومتى ما طلبت الدارسة التعرف عليها بجد وجبت الإحاطة بتواريخ الاستعمار والامبريالية والتركيز العالمي لرأس المال والحروب والأزمات السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك. والحدود تتوسط بصورة أو أخرى بين جوانب من تمثلات الرأسمالية الكونية وتؤطر توزيع فائض السكان بين التكوينات القومية والعلاقات بينها.

 

تلبيس القومية

يقودنا المعنى الذي بلغناه مع ماركس للحدود إلى تلبيس القومية كشكل، وهي جذر تصوراتنا الراهنة عن الحدود. فالقوميات أو التكوينات القومية وفقا لتصور المرحوم ماركس ليست مخازن مغلقة للناس تحبس بداخلها علاقات اجتماعية خاصة، بل لا ينشأ الشكل القومي لقوة العمل سوى بالعلاقات التي تقوم بين التكوينات القومية، العلاقات بين بعضها البعض. وهذه العلاقات جوانية في تكوين القومية. فالرأسمالية البريطانية على سبيل المثال، وبريطانيا تشغل موقعا في قمة الهرم العالمي للدول، تمتد علاقاتها عبر العالم. وهذه العلاقات جوانية في تكوين فائض العمالة على المستوى العالمي، كما يساهم فائض العمالة العالمي هذا في تكوين الرأسمالية البريطانية، ولذلك قانون: "نحن هنا لأنكم هنالك." أو بعبارة ستوارت هول: "أنا السكر في قعر كوب الشاي البريطاني." وعلى ذلك قس.

فالهجرة بهذا المعنى عملية اقتلاع وشفشفة وبالتالي تكوين طبقي وهي من تبعات الطريقة التي تعيد بها الرأسمالية تكوين نفسها على المستوى العالمي. ولا سبيل إذن لإدراك مبنى الهجرة بغير الاعتبار في تبعات الامبريالية، السالف منها والمعاصر. فالشفشفة على مستوى العالم خلاصة ما تفعله الولايات المتحدة وبريطانيا في أصقاع الأرض، كان ذلك بالعنف الحربي أو بالوسائل "السلمية" المتعددة التي يفرض بها المركز الامبريالي الهياكل المالية والسياسية للسوق العالمي، فما الحرب إذن وما السلام؟ صاغ المرحوم ماركس هذا المعنى بعبارته الصريحة: "إن تراكم الثروة في هذا القطب يقابله تراكم الشقاء وعذاب الكدح والجهل والبربرية والبهدلة في القطب الآخر." ويقدح المرحوم ماركس المعنى في ذهن القارئة، لو كنتم تتفكرون، قدحا؛ وقدحه يكشف معنى حركة البشر عبر الحدود اليوم، ليس سبهللية وإنما حركة مشروطة بتراكم رأس المال وتراتب النظام الدولي.

فما العرق إذن؟ يتصل العرق اتصالا مباشرا بدور الحدود الباطني في عمليات التكوين الطبقي المتباينة، فبها ينشأ العرق كهيئة للتدافع بين قوى العمل المتنافرة جغرافيا. والعنصرية بهذا التصور هيئة لتدليس الواقع الاجتماعي الذي سبق بيانه: صنمية المواطنة والدولة القومية، ولهذه العنصرية صور شتى، منها في الدعاية الليبرالية الغربية عبارات «التعدد الثقافي» و«التسامح» و«احترام التعدد»...الخ. وجميعها تستبطن هوية معيارية (أوروبية بيضاء) وغيرها تعدد. وبذلك يعاد تكوين الطبقات العاملة كأقوام متباينة منقسمة على نفسها. وليست هذه ظاهرة حديثة، بل هي من خلقة الرأسمالية التي صنفت كل قاطن خارج الغرب كمخالف عرقي بقياس المواطن المعياري الذي ينتمي إلى الداخل الرأسمالي، ضمن حدود الدولة الرأسمالية. وفي كل صور العنصرية يصعد شبح «المهاجرة» كمنتهكة للبيضة القومية، والمهاجرة غير الشرعية فوق ذلك درجات فهى تجسيد هذا الانتهاك لحما ودما.

 

الحدود، العرق، وقيمة قوة العمل:

أجسامنا ليه جسمين 

الهجرة تحت سلطان الرأسمالية إذن عملية للتكوين الطبقي عرقية السمت، فما دور الحدود والعرق في تعيين قيمة قوة العمل؟ تتحدد قيمة قوة العمل عند المرحوم ماركس، مثلها وأيما سلعة أخرى، بوقت العمل اللازم لإنتاج هذه السلعة ومن ثم إعادة إنتاجها. وما ذاك سوى وسائل المعيشة اللازمة لحياة قوة العمل وتجديدها. وعليه، فقيمة قوة العمل، وليس سعرها، دالة لعاملين إثنين: التغيير في وسائل المعيشة أو التغيير في قيمتها. ولذا كتب المرحوم ماركس أن عناصر تاريخية ومعنوية تدخل في تعيين قيمة قوة العمل وهذه بعبارته وقف "بمستوى الحضارة الذي بلغته البلاد" و"الظروف ومن ثم العادات والتوقعات التي رافقت نشأة طبقة العمال الأحرار." أثارت تعليقات المرحوم ماركس هذا سيلا مستمرا من الأسئلة والقضايا في الأدب الخاص بالطبقة العاملة وشؤونها، ومن ذلك، هل يصح تعيين قوة العمل سلعة، ولأي درجة يحدد الصراع الطبقي قيمة العمل، وهل هذا عامل مستقل عن عملية الإنتاج نفسها، والعلاقة بين العمل المنتج وغير المنتج، أي الداخل مباشرة في إنتاج السلع والعمل وغير الداخل فيه؟ وخلاف ذلك علاقات القوة داخل البيوت التي هي موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل.

والقضية التي تطرحها علينا الهجرة الانفصام بين موقع إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل وموقع بيع قوة العمل، الانفصام الذي تتوسطه الحدود ويكوي بميسمه جسم العاملة المهاجرة من البلد «أ» إلى البلد «ب» وقلبها. يشمل حساب الوقت الاجتماعي اللازم لإنتاج قوة العمل لعاملة في بلدها الأم «أ» مصارف عديدة، التعليم والتدريب والرعاية الصحية والبنى التحتية وتكلفة إعادة الإنتاج الاجتماعي من معيشة وتربية وما إلى ذلك. لكنها متى هاجرت إلى البلد «ب» لا تنتقل معها هذه التكلفة. ويرث رأس المال في البلد «ب» العاملة المهاجرة دون أن يتكلف وقت العمل الاجتماعي العظيم الذي داخل تكوينها. وتبلغ البلاد الجديدة «ب» جاهزة، تكلفة قوة عملها في واقع الأمر أقل من متوسط تكلفة قوة عمل العاملة المماثلة التي نشأت في ذات البلد. وانتقالها من «أ» إلى «ب» نقل مباشر للثروة، الدعم السلعي المذموم في أدب الصندوق والبنك الدوليين، من البلد «أ» إلى رأس المال في البلد «ب»، لكن السلعة هذه المرة قوة العمل لا البنزين. ويماثل هذا النقل للثروة المتجسدة في العاملة المهاجرة من البلاد الأفقر إلى البلاد الأغنى في واقع الأمر استخراج المواد الخام وربا الديون وما إلى ذلك، شفشفة. 

ينطبق هذا التقدير على كل صنوف العمل المهاجر، الماهر وغير الماهر، الشرعي وغير الشرعي، فسلاسل القيمة لا تعتل بأسباب وكيفيات الهجرة متى وقعت. والقضية بهذا التصور تفوق اللت والعجن حول «نزيف العقول» فالعقدة ليست في كسب أو خسارة المهاجرة المعينة والبلد التي هاجرت إليها، بل في حقيقة الحدود الفاصلة بين منشأ العمل وموقع بيعه وبالتالي حصاد فائض العمل. والحدود القومية بهذا التصور على سنة المرحوم ماركس مُعامل حدي لحصاد القوة العمل. وتتدثر هذه الفروقات القومية في قيمة قوة العمل بثوب العرق والنوع، بل هي معطونة فيهما. فالعمال من هنالك يستحقون ثمنا أقل من العمال من هنا، فهم في آخر الأمر يتوقعون ثمنا أقل، وإنه لمن حسن حظهم أنهم وجدوا عملا على الإطلاق. تتخذ إذن هذه الفروقات الجغرافية في قوة العمل هيئة آيديولوجية عنوانها العرق. وهذه الهيئة ليست مسخا آيديولوجيا وكفى فهي واقعة حقة، فنحن نميل لرؤية العالم بهذه الطريقة والعرق فعلا يسم الفروقات في قيمة العمل. فالعامل البنغلاديشي في الخليج العربي يستحق في التصور الدارج ويتلقى أجرا أقل من مثيله المصري والمصري يستحق ويتلقى أقل من مثيله السعودي، والخادمة المنزلية من جنوب السودان في ديار الخرطوم التي كانت تستحق وتتلقى أجرا أقل من مثيلتها الحبشية. لكن هذه الهيئة رغم فعاليتها تدليس آيديولوجي للواقع الاجتماعي، فهي تعتمد صلة سببية بين التبعة الوراثية وقيمة قوة العمل في محل العلاقات الاجتماعية التي تحدد هذه القيمة، وتجعل ما هو عرضي جوهرا. وبذلك فأن قبول هذه الهيئة الآيديولوجية على ما هي عليه دون تمحيص لا يخدم سوى تأبيد واقع الحال. 

يتكشف إدغام التصنيفات العرقية والحدود وقيمة قوة العمل في برامج هجرة العمالة المؤقتة، وغرضها تشغيل العمال من البلد «أ» لفترات محدودة بذمة مخدمين في البلد «ب» على أن يعودوا أدراجهم إلى بلد منشأهم بانتهاء عقود استخدامهم. ولهذه البرامج تاريخ طويل متصل بالعرق والعنصرية، من ذلك العمال المسخرين الذين طال استخدامهم في الإمبراطورية البريطانية بعد الإلغاء الرسمي للعبودية في منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك برامج «العمال الضيوف» التي انتقلت بها قوى عمل واسعة من شمال افريقيا وتركيا إلى أوروبا الغربية في عقابيل الحرب العالمية الثانية. وقد تجددت هذه البرامج في السنين الأخيرة في مثل استخدام اسبانيا للعمال المغاربة الموسميين في حصاد الفواكه واستخدام كندا للعمال الموسميين المكسيك في زراعة الخضر، بل بلغ الحساب أن فاقت أعداد العمال المهاجرين المؤقتين أعداد أقرانهم الدائمين.

تمثل دول الخليج العربي الست على المستوى الكوني أعظم حيازات استخدام العمالة المهاجرة المؤقتة على الإطلاق، فغالبية قوى العمل هم من المهاجرين المؤقتين. وبذلك ليست وظيفة الحدود كمُعامل حدي لغرف قيمة قوة العمل هوبلي خصلة أوروبية أو أميركية، بل هو سلاح رأسمالي. يلعب تصنيف «المواطن» في دول الخليج العربي دورا محوريا في هذا التمييز بين «ديل» و«ديكا»، فالمواطنة ميزة لفئة حصرية من القاطنين في مقابل جمهور غالب من قوة العمل محبوس في تصنيفات العرق والنوع، «الزول» و«الصديق» وهلم جرا. ويتجسد في هذه التصنيفات تشريع استرخاص قيمة قوة العمل المهاجر في الخليج. لا يقوم هذا الاسترخاص فقط على الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج العاملة المهاجرة تاريخا بل كذلك على التطبيق المعاصر لقيمة قوة العمل المهاجر على أساس الزمن الاجتماعي الضروري لإنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل المهاجر في بلد المنشأ. تتلقى العاملة المهاجرة من الهند إلى دبي على سبيل المثال أجرا يماثل تكلفة إعادة إنتاج هذه العاملة وأسرتها في بلد منشأها الهند، وليس في دبي. تتكشف مادية هذه العلاقات في الاقتصاد العالمي في حجم تحويلات المغتربين العابرة للحدود التي يدور حولها معاش حوالي واحد مليار شخص في العالم، واحد من كل سبعة من أهل الأرض، إما مرسلة أو متلقية. والعرق بهذا المعنى هيئة آيديولوجية للانفصام بين هناك وهنا، منشأ المهاجرة وموقع عملها، في وعينا؛ و«التحويلة» تجسيد مادي للوحدة الموضوعية بينهما، أجسامنا ليه جسمين، أو كما قال.

 

الهجرة، القسر والعمل «غير الحر» 

يقع الفصام بين المهاجرة وبين أرض بعينها، وبالتالي بين مبنى من العلاقات الاجتماعية، في قلب انتقالات القيمة المتنوعة موضوع شغلنا. يبدو في ظاهر الأمر أن لهذا الفصام عددا من الأسباب المباشرة الحرب، الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، العنت البيئي وهلم جرا. لكن لا يصح الاستنتاج أن ثمة تمايز بين صنفين من الهجرة، القهرية والاقتصادية. فلحركة اللاجئين عبر الحدود عللا مباشرة عنيفة لكن هذا العنف واقع كذلك بعلة الشفشفة الكونية والتحول النيوليبرالي. والحق أن هذه العلل تتصل ببعضها البعض؛ والتمييز بين أسباب دافعة وأسباب جاذبة على مستوى الفرد أو البلاد تمييز مستحيل لا يقوم إلا في التجريد، ومثل ذلك مثل عقيدة «العمل الحر». ومقال المرحوم ماركس في هذه المسألة عظيم البيان، فالعمل المأجور يبدو في هيئته طوعي لكنه في محتواه قهري، وعلى ذات المنوال حركة العاملين عبر الحدود تبدو ظاهرا حركة حرة لأفراد مخيرين لكن محتواها تسيير بجبر رأس المال. 

عليه، الفصام بين المهاجرة وأرضها ظل للفصام بين العاملة ووسائل المعيشة والإنتاج. ولا يصح هذا الاستنتاج على مستوى الإفهام فقط، فلطالما كانت حركة العاملين عبر الحدود هي الهيئة التي يتخذها إطلاق قوى العمل من الارتباط بالأرض، تحريرها للاستغلال الرأسمالي والدفع بها في دوائر سوقه. ومثل ذلك تجارة الرقيق من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر والتي كانت واقع الأمر عملية واسعة شديدة العنف والقسوة للفصام بين قوى العمل ووسائل عيشها وتحويل جيوش من الناس إلى منتجين للسلع الاستهلاكية في السوق العالمي. تزامن هذا العنف الكوني مع انتقال الفلاحين الأوروبيين من الزراعة المعيشية إلى سوق العمل المأجور. وتكررت هذه الدورة من السلب في هيئة عقود العمل الجبرية بعد الإلغاء الرسمي للرق في العام ١٨٣٣. وبها تم الفصام بين الفلاحين من جنوب آسيا وأرضهم، وتحولت هذه الكتلة من العاملين كذلك إلى إنتاج السلع الاستهلاكية في أصقاع الإمبراطورية البريطانية. وخرجت من هذه الحركة للعالمين تكنولوجيات عديدة للهجرة استبقت التكنولوجيات المعاصرة أو أذنت بها، منها جواز السفر. 

تداخلت حركة البشر هذه واختراع التصنيفات العرقية؛ بل تعود أصول العرق، فكرة «العرق» في هيئتها الحديثة، إلى هذه الحركة العنيفة للبشر عبر الحدود، الحركة التي تحسب ضمن منابت الرأسمالية. وتتكشف بهذا التصور جوانب أخرى من اتصال هجرة العمل ذات السمت العرقي مع شكل وردة «القيمة». تكشف تواريخ هذه الحركة كيف يضاعف الاقتلاع الملموس من الوطن من القابلية لعلاقات رأسمال وعمل جبرية. في هذا الباب، ميز أصحاب المزارع الاستعمارية اقتلاع الأرقاء من أوطانهم كعامل من العوامل الدافعة لقسرهم على العمل. فإنباتهم في حوض علاقات اجتماعية جديدة خلو من ستر أسرهم وعلاقات اجتماعهم في أوطانهم كان عاملا حاسما في كسر مقاومتهم لأنماط العمل الرأسمالية.  والحق كما بين المرحوم ماركس أن كل صور العمل الرأسمالي جبرية بدرجة تقل أو تزيد، والهجرة عامل يعزز هذا الطابع الأولي للعلاقة بين العمل ورأس المال. خلاصة هذه العمليات المتداخلة هو تقليل سعر عمل المهاجرة المعرفة بعرقها (بالمقارنة مع غير المهاجرة) من جهة، ومن جهة أخرى تفتيت التجربة الطبقية في أي سياق قومي.

 

خلاصة 

انتهى شغلنا وماركس حول الحدود إلى أن عقائد العرق والعنصرية ليست وسيلة انتهازية بيد الصفوة السياسية لتقسيم جمهور العاملين وتجييش الدعم الشعبي لليمين وإعادة تكوين الرأسمالية وكفى، وإن تيسر بمعرفة هذه الوسيلة الكشف عن فعالية العرق في السياسة اليومية. ما يحجبه هذا التصور هو منابت التصنيفات العرقية في التدليس الذي يسم الشكل القومي. تتعلم القارئة من المرحوم ماركس معنى باطنا لنشأة التصورات البرجوازية عن المواطنة، والدولة السياسية الحديثة، والفصل الظاهر بين المجالين السياسي والاقتصادي. ويتكشف من هذا المعنى الباطن ضلال تصورنا الدارج عن تقسيم العالم إلى وحدات قومية، وقاعدته الذهنية صورة صنمية للدولة وحدودها، اللات والعزى. ويساهم التحول عن هذا المنظور إلى منظور العاملة المهاجرة في فض هذه الصنمية وكشف خواءها بما في ذلك التصور الدارج عن الإسار القومي لقوى العمل. فحركة العمل المهاجر جوانية في التكوين القومي وركن فيه. تمثل الهجرة، ولا شك، حركة ملموسة للناس واقتلاعا لهم من حيز اجتماعي إلى آخر، لكنها تؤكد من جهة أخرى تزامن العمليتين، التشكيل القومي والاقتلاع الاجتماعي، فبينهما وحدة ديالكتيكية. 

ويساعدنا ديالكتيك المرحوم ماركس الحاد في قطع شأفة الحدود كصنم وبالتالي تفجير تصور الحدود كمخازن قومية. وهي في واقع الأمر برازخ عبور لفائض السكان النسبي من جغرافية إلى أخرى بحسب متطلبات السوق الرأسمالي. والعلاقات بين فائض قوة العمل في هذه الجهة من الحدود أو الأخرى باطن في التكوين الطبقي ضمن أي حيز قومي. فوق ذلك تخدم الحدود غرض فرز العلاقات الاجتماعية وتحديد مستويات معيشة قوى العمل المعتادة ومتطلبات إعادة إنتاجها لصالح استخلاص فائض القيمة وزيادة الربحية، وبذلك لا يمكن موضوعيا الفصل بين العلاقات الاجتماعية داخل هذا التكوين القومي وذاك، فكل مشروط بالآخر. وكل ساعة أزمة فرصة لغرف فائض قوة العمل المهاجر، شفشفتها، وحركتها من جغرافية إلى أخرى شرط لهذه الشفشفة الكونية.

انتهى.

 

والدك حسن محارب، غفير برج الحمام

Thursday 4 July 2024

عبثيْةْ، بت الكلب

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٦ بتاريخ ٢٧ يونيو ٢٠٢٤.

جوشوا كريز، خلود خير ورجاء مكاوي، السودان يتضور جوعا، مجلة «عرض نيويورك للكتب»، ٢٣ يونيو ٢٠٢٤.

صدر هذا المقال في مجلة «عرض نيويورك للكتب»، مجلة رصينة حسنة التحرير، وقضيته الأولى إقامة الدليل على أن أهل السودان على باب الله، جوعى تقطعت بهم السبل في أوار حرب هم فيها ضحايا وكفى. ولذا لا قوامة لهم على أنفسهم وإن حملوا السلاح للقتال والدفاع عن أنفسهم وانصلب تربالهم للزراعة بما تيسر وفاحت بني كربو في قيزان خلاويهم للسائل والمحروم وقامت وسطهم لجان طوارئ ومطابخ جماعية؛ ومهمة المجتمع الدولي هي إنقاذهم، وأن لم يقم بهذه المهمة فشل مرة وأخرى وأدمن الفشل.

وطن الُكُّتّاب الثلاثة هذه الخلاصة في تاريخ للحرب واقتصاد الغذاء والجوع بين يدي الدولة وريثة الاستعمار، دولة ٥٦. أحسن الُكُّتّاب عرض هذا التاريخ من التفاضل في الشبع والجوع بين حواضر السودان وأريافه لكن زاغ عنهم تشخيصه، فردوا أمره إلى حكم "طبقة ضيقة من النخب العربية ذات القاعدة في السودان النيلي"، وجعلوا بذلك العرق محل الطبقة الاجتماعية. وهذا زعم مستقر في الأكاديميا الغربية عن السودان، المفاصلة فيه بين «عرب» ظالمين و«غير عرب» مظلومين وعلى الباغي تدور الدوائر. وتكررت في المقال كلمة عرب ١٢ مرة بأكثر من معنى، فطغمة الحكم الضيقة في حوض النيل عرب، والجنجويد من أهل دارفور عرب، والعرب في الإمارات العربية عرب. ولا تمييز في المقال لهذه الانزلاقات في مدلول «آراب»، فكله صابون.

لهذا السهو عن تمايز الطبقة الاجتماعية عن العرق تبعات، فمتى ما كان مدار الصراع العرق والثقافة انسد الطريق أمام الحل التقدمي وانفتح الأفق أمام التطهير العرقي. وهي القضية التي وقف لها المرحوم عبد الخالق محجوب منافحا عن "أحفاد الزبير باشا" في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥ ومن تبع خطته من بعد ذلك بإحسان. فقال لحقهم التاريخ واستفادوا الدروس والعبر ونشأت وسطهم منظمات تقدمية ديمقراطية بما في ذلك الحزب الشيوعي. بل قبل حتى جون قرنق ببعض هذا المعنى فالخصم عنده في مانفستو الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لعام ١٩٨٣ "طبقة بيروقراطية متبرجزة" نسبها في الاقتصاد الاستعماري. أما غير العرب فهم لموم من أقوام مختلفة لا ينشغل الُكُّتّاب كثيرا بتمايزهم كقولهم قرى غير العرب حول الفاشر. لا تحيط شفرة عرب وغير عرب بحرابة السودان الحالية، ولذلك لم يجد الُكُّتّاب بدا من تعطيلها على وجه السرعة، وإن ابتدروا بها شغلهم، فقالوا أججت الحرب التي اندلعت في الخرطوم الانقسامات العرقية حول الأرض والسلطة ولذلك انقطعت الصراعات بين العرب وغير العرب في جنوب وغرب كردفان عن المعركة حول الخرطوم أو كادت، هذه غير تلك. ولم يأت الُكُّتّاب بطبيعة الحال على ذكر صراعات عرب وعرب كمثل حرب السلامات والهبانية المستمرة أو صراعات داخل جماعة عربية واحدة كمثل حرب بيوت المسيرية على بابنوسة أو اعتزال المحاميد من شيعة موسى هلال حلف الماهرية وآل دقلو، فمن أعرب من غيره؟

انتقل الُكُّتّاب من العرض الممتاز لاقتصاد الشبع والجوع الذي صدروا به المقال مباشرة إلى هندسة الشوكة فكتبوا أن السودان خلو من أي حكم يعتد به، بل "لا توجد دولة تستحق الاعتبار" في رأيهم، زايلي وزايل نعيمكي. وعلقوا هذا الحكم العظيم على مشجب "أصدقاء سودانيين" يتحدثون عن "وطن ممزق إلى مزع تديرها جماعات مسلحة مختلفة." لكن لم يصل الُكُّتّاب ما ابتدروا حول اقتصاد الشبع والجوع باقتصاد الحرابة القائمة، فهي حرب في تصويرهم من مرض السودان بنفسه وخلاص كده. اكتفى الُكُّتّاب في هذا الباب بنسبة كل طرف من طرفي الحرب إلى حليف اقليمي فكتبوا حالف الجيش مصر وحالف الدعم السريع الإمارات العربية المتحدة. وقد سبق الدكتوران مارك دفيلد ونيكولاس ستوكتون إلى كشف جوانب من هذه الصلات بين اقتصاد الغذاء والحرابة القائمة في السودان (مجلة «عرض الاقتصاد السياسي الافريقي»، م ٥١، ع ١٧٩، ٢٠٢٤) واسطتها سوق رأسمالية للماشية، ترد من بادية كردفان ودارفور وتتلقفها مدن الخليج العربي، تبلع جب وجب.

ما الخلاصة إذن؟ عند الُكُّتّاب الثلاثة "السودان خلو من الدولة ذات السيادة"، وشرحهم لها أن القوات المسلحة السودانية فقدت الشرعية الدستورية بالانقلاب في ٢٠٢١ ومن ثم علق الاتحاد الافريقي عضوية السودان، وعلى كل حال يسيطر الجيش بالكاد على نصف السودان. والسيادة التي يقصدها الُكُّتّاب إذن وظيفة تتحقق بالرضا الإقليمي والدولي وقد انتهى أمرها بالحرابة الدائرة الآن. عاقبة هذا التعريف للسودان كخلاء خال من الدولة ومن السيادة ولو تبهدلت هو طرح فضاءه وأرضه وأهله للسلطان الدولي. وهذا ما انتهى إليه المقال، تكأته في ذلك عقيدة غير منطوقة في قوامة «المجتمع الدولي» على غير الدولي، أي قوامة الدول الكبرى على سواها. وهي عقيدة يعود نسبها إلى «عبء الرجل الأبيض» القَيّم على أوباش متوحشين في خلاء افريقيا وآسيا لما يكملوا مطلوبات السيادة، وأضعف الإيمان وضعهم تحت الانتداب.

يقترب الُكُّتّاب من هذا التصور كل الاقتراب، فنصيحتهم للأمم المتحدة إن كانت فعلا تريد إشباع جوعى السودان أن تتحلل من كل اعتبار للسلطات في بورتسودان، وهي عندهم عين القوات المسلحة السودانية، وتنقل مركز عملياتها الإنسانية من بورتسودان إلى عاصمة في الإقليم، ورشحوا لذلك نيروبي، بحيث لا تقع تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية. ومن ثم يمكن للأمم المتحدة أن تؤسس مراكز عمليات عابرة للحدود في تشاد وجنوب السودان ويمكنها أن تتفاوض مباشرة مع القوى المحلية بما في ذلك الدعم السريع. وللأمم المتحدة إن أرادت أن تحتفظ بموقع في بورتسودان لإدارة المعونات الموجهة إلى مناطق سيطرة القوات المسلحة. وقال الُكُّتّاب لن تقوى السلطات على طرد الأمم المتحدة فالحاجة عظيمة للمعونات الإنسانية في مناطق القوات المسلحة السودانية والوضع الاقتصادي بائس. بماذا ينصح الُكُّتّاب إذن إن كان للسلطات رأي آخر؟ استغربت هذا الحماس للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية من جوشوا كريز، وقد تصدى بحذق لكشف اقتصادها السياسي في جنوب السودان، وجاء هذه القضية بحجة قوية وبيان في أكثر من مقال وكلمة بعناوين مثل «مأزق الملاك: إذا كان العمل الإنساني سياسيا، فما سياسته؟» (مجلة بافلر، ع ٧١، نوفمبر ٢٠٢٣). لكن، حربنا "عبثية"، عرب وما عرب. 

Saturday 15 June 2024

جورنال من البلد: المدينة في عين المدفعجي

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٤ بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٢٤.

صن تزو (٢٠١٨ [القرن الخامس قبل الميلاد]) «فن الحرب»، فنغربرنت للنشر.  

ستيفن غراهام (٢٠١١) «مدن تحت الحصار: العمران العسكري الجديد»، فرسو للنشر. 

جمع الجنرال الصيني صن تزو حكمة حروب «الدويلات»، ويؤرخ لها بالفترة ٤٧٥ إلى ٢٢١ قبل الميلاد، ما قبل قيام الإمبراطورية الصينية الأولى، في مؤلف صغير الحجم عظيم الأثر عنوانه «فن الحرب». تجددت حياة هذا المؤلف في الأكاديميا العسكرية الغربية مع كل مواجهة امبراطورية، خلال الحرب الأميركية على فيتنام والحروب الأميركية على العراق وأفغانستان. والكتاب في الواقع أقدم وثيقة بشرية في مسألته، وتحرير بليغ للاستراتيجية والتكتيك، اتخذه الثوار الصينيون بقيادة ماو تسي تونغ انجيلا لهم في حربهم ضد الغزو الياباني وضد خصومهم الكومنتانغ، ويعرفه الضباط في منهج تعليمهم وتدريبهم. 

تقرأ عند صن تزو: "أعلى درجات القيادة هي إحباط خطط العدو، والأقل درجة منع التحام قوى العدو، ودون ذلك الهجوم على قوى العدو في الميدان، وأسوأ الخطط على الإطلاق حصار المدن المسورة". ويواصل: "القاعدة إذن هي عدم محاصرة المدن المسورة إذا تيسر تفادي ذلك. [...] سيدفع القائد الذي لم يعد يستطع السيطرة على توتره بجنوده مهاجمين كنمل غاص، والنتيجة مقتل ثلث الجنود بينما تظل المدينة عصية." لكن، كيف تخضع مدينة إذن؟ صارت هذه القضية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عقدة في العسكرية الغربية، نشأ حولها علم بحاله تحت عنوان «العمران العسكري الجديد»، مداره الدروس الحربية من محاولات إخضاع مدن عامرة في بلاد المستضعفين، بغداد وكابول وغزة وغيرها، ومحاولات حماية حواضر أوروبا الغربية وأميركا من هجمات منظمات قتالية غاضبة وانتحاريين أفراد.   

بعض شغل هذا العلم، جواب على سؤال: كيف تبدو المدينة لمدفعجي؟ ولا مناص، فقد تحول واحد من كل عشرة من أهل العالم إلى سكنى المدينة وتحولت كذلك الحروب من مواجهات بين تشكيلات عسكرية في «النقعة» إلى حروب كثيفة في بيئة العمران الحضري، وتضعضع كذلك التمييز التقليدي بين الحروب داخل الدول والحروب بين الدول. أما العقيدة الأهم في «العمران العسكري الجديد» فهي ألا فرق يعتد به بين مدني وعسكري، بل ما في حاجة اسمها مدنيين، فكل مدني هو إما مقاتل مخاتل، أو محتمل، أو مشروع مقاتل، أو متعاون، على كل حال هدف عسكري مشروع.

فاقمت عدة عوامل من هذا التوتر الحربي للمدينة، على إطلاقها، ومن ذلك في بيئة الكرب الافريقية: تسارع التحول الحضري، ودونك انفجار مدن مثل نيالا والخرطوم بالسكان، نازحين وغلابة ومغامرين كسيبة؛ تباعد الخليج الفاصل بين غني وفقير، توسع مسارح الصراع الدولي على الموارد، الانقلاب الكبير في الاقتصاد السياسي للدولة في ربع القرن الأخير والصدمات المتتالية لتحلل الدولة من كل دور اجتماعي، موية شراب ومدرسة وشفخانة. وملخصه أن الدولة فقدت كسوار للاجتماع عبر حزام يشق العالم، من أفغانستان حتى مالي، احتكارها للعنف وسيطرتها على الجغرافية. وكما أطبق التسليع على كل أوجه الحياة أطبق كذلك على المقاتل، فهو بضاعة في السوق، لا يهم من البائع ومن المشتري، يقاتل في مليشيا حضرية أو ريفية أو جيش خاص لصاحبه فلان أو حركة مسلحة إقليمية أو شركة أمنية أو كما تيسر، موسمي أو فُلْ تايم!  

والمدينة بهذا التصور، بغداد أو كابول أو مقديشو أو غروزني أو غزة أو الخرطوم أو الفاشر، ليست فقط موقعاً وجغرافيةً للحرب بل هي وسيلة الحرب ذاتها، وسيلة مرنة دائبة الحركة والتغير ويمكن تكييفها ظرفيا، وأول ذلك تفجير التمييز بين مدني وعسكري فيها، فكل حي مقاتل وكل موقع ميدان قتالي. وبذات القياس لا معنى للتمييز الصارم بين المحلي والإقليمي والكوني، فشبكات المال والسلاح لا تعترف بالخريطة ولا تلقي بالا للحدود القطرية.

لفلاسفة الحرب الجديدة «رطانة» خاصة، تقابل في تعقيدها وتجريدها «رطانة» فلاسفة الرأسمالية المتأخرة، من صف ما بعد البنيوية على سنة دولوز وغواتاري، وتستلف منهم عبارات ومفاهيم. فالحديث عن حروب غيرية، هجينة، غير متوازية، ريزومية أو جذمورية، أو حروب الجيل الرابع. والمدينة وفق هذا التصور كتلة ثلاثية الأبعاد تتمنع على الرصد والمتابعة بطبقات فوق طبقات من الحواجز المحسوسة، جغرافية بناءها وفضاءها، وحواجز بشرية، أهلها، وحواجز اجتماعية وثقافية، العلاقات بين أهلها وشفرتهم الثقافية. وجمع كل ذلك «الفضاء القتالي» الذي تدور فيه معركة لا تبدأ لتنتهي، هي الحرب التي هي السلام بعبارة جورج أورويل في «١٩٨٤»، حرب تدور في الشوارع والخيران والعمارات السوامق والرواكيب والقطاطي ودور العبادة، حرب شاملة كبسط الأمن الشامل، ولا تتمايز فيها التكنولوجيا السلمية أو المدنية من الحربية أو العسكرية، وأولها تكنولوجيا الاتصالات الرقمية وتطبيقاتها الشبكية في الرصد والمتابعة والتصوير والبث الحي، صوت وصورة. 

لذلك، العدسة في هذه الحرب سلاح كاسر، فهي حرب على الهواء مباشرة، تنقل وتبث للمستهلك كأداء مشهدي على شاشة يقبضها في يده، وجاذبيتها أنها وبرغم وربما بعلة دمارها الفتاك والقريب حتى الغبار على شعر الجلد، تقدم للمستهلك ما يتعطش له، هدف ومعنى للحياة ومغزى. والمشهد الحربي كما تنقله الصورة المصنعة أم فلاتر، وهي عمل فني، أوقع من الحرب نفسها، صورة فاقت الأصل وفضت الحجاب الرقيق بين الواقع والخيال، حجاب «الحرية».

المدينة في عين المدفعجي إذن خريطة يعيد تركيبها أو يطيح بمعالمها بالكلية، يفض ختمها بمدفعه ويفجر فضاءها القتالي ثم يفتح الطريق لاكتساحها الحربي بالسلاح وشبه الحربي بإعادة الإعمار على نمط جديد يحرث أرباحا طازجة بالمضاربات العقارية. ولا بد لتبرير هذا العنف الكاسح من عدو حضري أو طبقي أو عرقي جوهري الشر خارج التاريخ، لا يفارقه شره وإن قام وسطه حزب شيوعي، عدو يسكن عالما للأموات، دمه وماله وعرضه حلال بلال. ويدخل في هذا الباب إعادة رسم خريطة مدن بحالها بالقوة العسكرية كاكتساح الآلة الحربية الأميركية للفلوجة ومواقع أخرى للمقاومة العراقية وهدم الآلة الحربية الإسرائيلية للمعمار الفلسطيني فوق الأرض وتحتها بحرب ضروس أو بأوامر للإدارة العسكرية أو المدنية للمدن، ولا فرق، «إبادة المدينة» في أدب «العمران العسكري الجديد». ولكن: شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور!


Sunday 9 June 2024

جورنال من البلد: الفَشَّ غبينته خرب مدينته

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٣ بتاريخ ٦ يونيو ٢٠٢٤.

عمار المدينة في السودان النيلي من عمار السوق، بالدرجة الأولى التجارة مع العالم، وكانت أعظمها شأنا في "عصر البطولة" بعبارة الدكتور سبولدنغ سنار التي تعود نشأتها إلى العام ١٥٠٥، وقامت قبلها بنحو ثلاثين عام أربجي. أصبحت سنار عاصمة ومقرا للسلطنة بعدها بحوالي قرن، لكن تمايزتا كسوق، فسنار كانت مركزا للتجارة الملكية بيد السلطان وأربجي كانت مركزا للتجارة الخارجية بيد التجار أنفسهم. هدم جنود محمد الأمين، حاكم العبدلاب، أربجي في ١٧٨٤ وانتهت دورة حياة سنار عاصمة السلطنة بغزو إسماعيل باشا في ١٨٢١. 

والخرطوم كذلك، كان عمارها بعد اختيارها حصنا عسكريا ثم عاصمة سياسية وتجارية لدولة التركية في السودان دالة لسوقها الذي كان في أول عهده، بحسب اللورد بريدهو في ١٨٢٩، يتكون من "عشرين سقيفة تباع فيها القهوة والقمح والسكر الأسود بأسعار مرتفعة. وتباع فيها كذلك قليل من النظارات وقلادات العنق والأساور وهي كل ما تستخدمه النساء من زينة هنا، وكانت كل الكماليات تأتي من القاهرة، وأثناء رحلتها الطويلة إلى الخرطوم يرتفع سعرها مرتين أو ثلاث. وقد تجد بعض البضائع المستوردة من الهند مثل الزنجبيل المحفوظ والسكر نبات." سرعان ما فاقت الخرطوم ثروة سابقاتها، واكتسبت بحسب زائرها أ. تي. هولرويد في ١٨٣٧ "بسرعة فائقة أهمية على حساب شندي وسنار، وهي الآن مكان تتم فيه الكثير من التبادلات التجارية، بحكم موقعها الملائم كملتقى للقوافل التي تحمل المسترقين المجلوبين من الحبشة وسنار وكردفان."

تحولت الخرطوم بذلك من قرية مقر للشيخ أرباب العقائد الذي انتقل إليها من توتي في حوالي العام ١٦٩١ إلى حاضرة أممية تأخذ بألباب الزائرين، ومنهم في ١٨٥٢ الأديب الأميركي بيارد تايلور الذي خطفت قلبه: "تمتد فيها مبان على النهر لمسافة تفوق الميل. وفيها رأيت بيوتا جميلة تحيط بها حدائق من أشجار النخيل والسدر والبرتقال والتمر هندي. ولقصر الباشا (الحاكم العام) منظر وحضور يفيض بالمهابة والجلال رغم أن جدرانه لم تكن مشيدة سوى بالطوب غير المحروق. [...] كان بإمكاني أن أتأمل وأنا بالخرطوم في برية من أشجار النخيل والبرتقال والرمان والتين ونباتات الزينة المزهرة كالدفلي (ورد الحمير) والكروم المتدلية." وأضاف هي "المدينة الأكثر تميزا وأكاد أقول إنها ربما كانت المثال الوحيد للتقدم المادي في إفريقيا في هذا القرن، فهي لم تكن شيئا مذكورا قبل نحو ثلاثين عاما، ولم تكن فيها بيوتا سكنية، فيما عدا بعض الأكواخ البائسة، أو قطاطي القش التي كان يقطنها بعض الفلاحين الإثيوبيين. أما الآن فهي مدينة يربو عدد سكانها على ثلاثين أو أربعين ألفا، وتزداد المدينة يوما بعد يوم مساحة وأهمية، وغدت سوقا تجارية جاذبة لكثير من وسط إفريقيا الواسعة."

لكن، لحضارة الخرطوم التي انشرق بها تايلور الأديب معادل ديالكتيكي في شقاء أهلها وعذاب رقيقها، سلعتها الأولى: "ونصف سكان المدينة من المسترقين الذين جلبوا من الجبال فوق فازوغلي أو من أرض الدينكا على النيل الأبيض. غير أن اشمئزاز وتقزز المرء من منظر وعادات تلك الأعراق المرذولة المسترقة يكاد يفوق شفقته ورثائه عليهم. وقد وجدت أن السير في المفازات المؤدية لسنار أقل إيلاما للروح والجسد من شق الأزقة في أمكنة سكنهم القذرة. وعلى الرغم من طبيعة سكان الخرطوم، فالسلطات تحافظ على نظافة المدينة ومنظرها العام. سيكون يوما سعيدا لروما وفلورنسا عندما تغدو طرقاتها خالية من الأوساخ بأكثر مما هو حادث في هذه المدينة الإفريقية." وفرت هذه المدينة الباذخة لزوارها كل شيء، وكتب جيمس غرانت الذي زارها في ١٨٦٣ أنه وجد فيها كل ما تطيب له النفس بما في ذلك السيجار الفاخر والنبيذ الجيد والجعة ذات الرغوة.

ورغم ذلك، لم تشبع هذه الفاتنة شهوة الخواجة لحياة غير، قتلته حرا ومللا، فاشتكى جيمس هاملتون: "يمثل موسم الأمطار الذي يمتد طوال عشرة أسابيع إلى إثني عشر أسبوع، مايو حتى يوليو، امتحانا عسيرا للأوروبي وتكوينه، فالجو عبارة عن حمام بخار، ولا مناص من تجرع المشروبات الروحية للحفاظ على الصحة. ليس ثمة بلد تبدو فيها الكحول ملائمة لكل المواسم مثل السودان. أقر بذنب أني عببت من العرقي الممزوج بالماء خلال حر الشهور التي قضيتها في السودان أكثر من الذي شربت في كل حياتي السابقة. شربت أحيانا باينت (حوالي نصف لتر) كامل في اليوم، وذلك دون أن أشعر بأدنى أعراض السكر. [...] وتراني أجد في ملل الإقامة الطويلة في مكان كهذا العذر لضحايا هذه الظروف المساكين، من يقبلون على تجاوز الحدود الضيقة بين الاعتدال في الشرب وإدمانه، هذه العادة المميتة. يتطلب التوقف عند الحدود المطلوبة شدة على النفس وسلطانا، خاصة عندما يهوي الثقل بالميزان، وتخرع الأعصاب، وتتعطل حتى الوظائف اللاإرادية للبدن ولا تستعيد عجلتها سوى بالمحفزات. لم أر من يمسك بالكلية عن الكحول في هذا المكان سوى الحاكم وأعضاء البعثة الكاثوليكية، وفي كل حال ظهر للعيان أن امتناعهم عن الشراب كان له تداعيات أسوأ عليهم من الإدمان." 

أما بقعة أم درمان فبذرتها التقوى وقوسها الركاب، بدأت حياتها نحو العام ١٦٤٦عندما انتقل إليها الشيخ حمد ود أم مريوم مع مريديه من جزيرة توتي وأنشأ فيها خلوة لكن اندثرت هذه بالحزازة مع شيخ منافس وظلت بعدها محطة تجارية ضمت مرسى الموردة وسوق صغير ومواقع لصناعة الطوب. ثم غابت عن الرادار حتى حل الإمام المهدي ديم أبو سعد في أكتوبر ١٨٨٤ لدعم حصار الخرطوم حتى النصر في ٢٦ يناير ١٨٨٥ فصارت له عاصمة للوعد، خارج التاريخ، وقد اشمأز أن يسكن عاصمة الترك الخرطوم، ثم مات عن أم درمان في ٢٢ يونيو ١٨٨٥. تحولت البقعة الروحية على يد خليفة المهدي وزعيم الدولة المهدية الخليفة عبد الله التعايشي إلى عاصمة في الزمان والمكان بمنشور صدر في ٢٧ يونيو عام ١٨٨٥ أمر فيه بإخلاء الخرطوم والانتقال إلى بقعة المهدي. بلغ عدد سكان أم درمان في ذروتها المهدية ربع مليون نسمة، مدينة انشغل رجالها بالحرب ونساؤها بصناعة الحياة. 

وقعت أم درمان الكبرى تحت ثلاث وحدات مالية، عمالات في قاموس المهدية، عمالة الشرق وتمتد من العيلفون إلى حجر العسل وعمالة الغرب وتمتد من خور شمبات إلى حجر العسل وأم درمان العاصمة وتقع تحت إمرة الخليفة شخصيا. أما التنظيم الإداري فكان من مسؤولية قادة الجيش، رؤساء المية والمقدمين، عليهم تصريف شؤون الفرقان تحت إمرتهم وأول ذلك حصر المجندين للقتال وتنظيم الحبوب والمرتبات. نشأ السوق الكبير في أم درمان في هذه البطانة العسكرية السياسية في موقعه الحالي شمال غرب الجامع وفي صلة مع الصي إلى الغرب منه. تولى رجال الدولة مهمة بناء وتنظيم السوق ومن ذلك توزيع المساطب والمحلات وجمع أصحاب البضائع المتشابهة في هذه الجهة أو تلك زيادة للمنافسة وتيسيرا للمستهلكين وأهم من كل ذلك لتعضيد سلطان مسؤولي بيت المال على التجار وزيادة دخل الدولة من إيجار المحلات. كذلك عين الخليفة شرطة للسوق ومحكمة خاصة وفرعا لبيت المال بها يسمى «ضبطية السوق» شغله جمع الضريبة من أصحاب المحلات وجمع الغرامات التي تفرضها الشرطة على مخالفي النظام العام من سكارى ومدخنين ومقامرين. 

تولى مهام تنظيم السوق مباشرة وهبي حسين عداي، مفتش شرطة المهدية في أم درمان، وكان في العهد البائد قائدا لجيش غير نظامي مساند لجيش التركية. وكان له قوة مكونة من ٢٥ شخص يطوفون بالسوق لتفقد اللحوم والخضروات ومراقبة الأسعار والأوزان والمقاييس ومنع التهريب (خاصة الرقيق والجمال)، وجمع القمامة وتنفيذ أحكام المهدية في الفصل بين الجنسين ومنع الدعارة والتدخين والتمباك وشرب الكحول والقمار والتبول والتبرز في الأماكن العامة وفاحش القول والبذاءة. توسعت محكمة السوق خلال سنوات المهدية الدولة حتى صار عدد قضاتها خمسة قضاة جل شغلهم الفصل في منازعات الديون.

كما هو متوقع تمنعت المدينة على النظام، ولم ينقطع بيع الخمر قط، اتصل في حي فنقور وحي باقرما لجمهور غزير فيه أمراء في الدولة. وصارت الجبة المرقعة، التي بدأت أول أمرها علامة للزهد، موضة عند مترفي المهدية، متسقة الألوان منسقة من فاخر القماش، تحمل الأحرف الأولى لاسم صاحبها. وسرعان ما عادت النساء إلى السوق بواقع الحال، لا يمنعهن مانع. كانت أكثر مشاريع الخليفة عبد الله حماسة وطموحا في هندسة المدينة الاجتماعية هو سعيه تطويق العلاقة بين «أولاد البلد» و«أولاد العرب» بالزواج المتبادل وتذويب اليهود والمسيحيين السابقين (المسالمة) في محيطهم كذلك بالزواج. تصور الخليفة عبد الله بهذا المعنى المهدية الدولة نحوا حضريا من عناصره مواطن تقي مهذب سمته الهجنة وسوق مرتب نظيف ومحكمة منصفة، وكانت أم درمان إنشاءً بهذا النحو وما تزال بدرجة أو أخرى، تركت فيها المهدية سوقا عامرا متحضرا: "أكبر سوف للبيع بالجملة والتجزئة، وهي موردة البضائع (الوحيدة) للأقاليم. [...] دنقلا ودار الشايقية تمد أم درمان بالتمر، وترسل بربر لها الملح والحصائر وصناعات السعف اليدوية، بينما يصل لأم درمان من كردفان الصمغ العربي والسمسم والدخن، ومن الجزيرة الذرة والدمور والقطن. وتصدر كركوج لأم درمان السمسم وكمية قليلة من الذهب." "وإذا الموءودة سئلت.. بأي ذنب قتلت"!


استفدت في كتابة هذه الكلمة من كتاب روبرت كرامر "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية ١٨٨٥ ١٨٩٨" (ماركوس فينر للنشر، ٢٠١٠) الذي صدر بتعريب الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي (دار المصورات، ٢٠١٩) وكتاب جيمس هاملتون "سيناء، الحجاز والسودان: رحلات في أرض ميلاد النبي  وعبر الصحراء الأثيوبية، من سواكن إلى الخرطوم" (ريتشارد بنتلي للنشر، ١٨٥٧) وكتاب المرحوم الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تاريخ مدينة الخرطوم" (دار الجيل، ١٩٧٩).

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.