أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
...
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة.
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
[6]
استخرج الدكتور محمد بخيت من شاغله الأكاديميّ بحي البرَكة «كرتون كسلا» في شرق النيل - وهو شاغلٌ سَكَنَ به الحيَّ وعاشَرَ أهلَه لشهور في العامين 2010 و2012 - تصوُّراً للتقسيم الاجتماعيّ غَيْر الذي كان استقرّ في الأدب السياسيّ تحت عنوان «التعدُّد» الإثنيّ، العِرقيّ، الثقافيّ، الدينيّ... إلخ. وجد الدكتور محمد في كرتون كسلا ما أرشَدَه إلى خريطةٍ أخرى غير الفسيفساء العِرقيّة الإثنيّة الدينيّة؛ خريطة تنشأ بالدرجة الأولى من تنوُّع سُبل كسب العيش، وبالدرجة الثانية من تحوُّل هذه السّبل عبر التاريخ المادّي؛ وهي بذلك مخروطٌ اجتماعيٌّ في الزمان والمكان، كائنٌ متحوّلٌ في التاريخ، وليست خريطةً صمَديّةً ساكنةً كما مفهوم الفسيفساء الذي أغشى البصائر. واقترب الدكتور محمد بخيت بهذا التصوّر من مفهوم «الطبقة الاجتماعيّة» كما عَنَّ للشيخ الإزيرق، المرحوم كارل ماركس، في المَلَجة الصناعيّة الإنجليزيّة خلال القرن التاسع عشر، المفهوم العسير على بساطته حتى أنّ صاحبه قَلَّبَ أوجُهَه بالتمحيص ألّا يُفلت منه بقرينة النظرة الأولى، في نوتة أخيرة من كتابه العظيم «رأس المال». وأوّلُ نظرةٍ باعثةٌ على الجنون، كما في شِعْرِ المرحوم محمد بشير عتيق، وليس الإفهام، «من أوّل نظرة، رشَقَتْني عيونو، جذَبَتْني فنونو، وبقيت مجنونو»، أو كما قال.
دخل أهل كرتون كسلا، ومايو، وسائر إقليم «الكُونِكا» الحضريّة، قاموس السياسة المعاصرة بعبارة الفسيفساء الصّمَديّة، العبارة التي زكّتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، ونشوةُ الشّوكة تسري بقادتها، خلال أعوام الفترة الانتقاليّة لاتفاقيّة السلام الشامل (2005-2011) بينها وحكومة السودان. كان بعضُ وعدِ قادة الحركة الشعبيّة أنَّ شُغلَهم اكتشافُ اسمٍ وصوتٍ سياسيٍّ لهذا الجمهور الحضريّ الفائض، ورشَّحوا لذلك عبارة «المُهمَّشين» في مقابل «المركز» بوصفه ثوباً واسعاً يَشمل نازحين وغلابة. وأضاف عليهم المُرشّح الرئاسي ياسر سعيد عرمان، في تخريجٍ تالٍ، النساءَ والشبابَ، كيفما اتفق، وفئاتٍ أخرى بحسب ما واتته البلاغة. لكنْ، لم يَبلُغ هذا السّعي مدرجاً بعيداً؛ إذ تعَسَّر على قادة الحركة أن يَرْعوا ذمّة الفسيفساء التي قامت لنصرهم في مشاهد عظيمة، في استقبال الدكتور جون قرنق المهيب، ثم الليالي السياسيّة لحملة الزعيم ياسر عرمان «الأمل والتغيير» في أطراف الخرطوم، حتى نَطَّ نَطَّته الشّهيرة وسالت دموع شيعته المكلومة جداول. فضَّل قادة الحركة الشعبية، آخرَ الأمر، سلامةَ القوميّة الجنوبيّة على هذا «اللَّمُوم» مطموس الهويّة. وتيَتَّم «المهمّشون» في سوقٍ سياسيّةٍ لا تسير فيها عُمْلتُهم إلا أن يكونوا أجساداً مُقاتِلة. بل قَلَبَ قادة الحركة، وقد قامت دولتُهم كنزُ الفرح، ظهرَ المِجَنّ، وبِسْراع، لكلِّ مَن لم يَلحق بركب القوميّة الجنوبيّة، وإنْ كان جنوبياً ود جنوبيّة، وظلّ في محطّة «سودان جديد، وِييي»، ينتظر غودو التي تأتي ولا تأتي، كغَشِيم لم يفهم من حرب التحرير شيئاً.
وربما كان منشأ الصعوبة التي حالت دون أن يكشكش سَطْل المهمّشين بقوّة؛ أنَّ مثل الهُجنة التي تفرَّغ لدراستها الدكتور محمد بخيت في كرتون كسلا، وأدهشت من قَبْله الدكتور عبده سيمون في مايو بروحيّتها الكونيّة من جاكرتا إلى داكار، تتمنَّع على الترجمة السياسيّة في صورة الفسيفساء الساكنة، زنج وعرب وما بينهما؛ فتعشيقتها ليست أوتوماتيك، فَوْوْو! فما هي إذن أبعاد هذا المخروط الحادّ كما تلمّسه الدكتور محمد بخيت عن قرب في دراسته الإثنوغرافيّة؟ لهذا الغرض، عاد الدكتور محمد بخيت إلى ساعة الأزمة الطاحنة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، منشأ الكُونِكا الواسعة، وفيها تلازَمَت كوارث أخذت بخناق بعضها البعض: الجفاف القارّيّ العظيم الذي ضرَب سهول كردفان ودارفور وتلال البجا، الحرب الأهليّة في جنوب السودان، وكساد اقتصاد القطن في السهل الزراعيّ الوسيط الذي كان قوام الدولة المركزيّة.
استقبل حضَرُ الخرطوم الغارق في الكساد أفواجاً غالبةً ممّن تقطّعت بهم سُبل العيش، وحينها لم تكن قدرة اقتصاده الصناعيّ، وهو موقع استقبال الأيادي العاملة، تعمل بأكثر من 30 % من طاقتها المحدودة أصلاً. نافَسَ القادمون الجددُ سابقين في المسغبة. وكانت السُّلطات في أول السبعينيات قد نقلت من تقطّعَت بهم السّبل داخل المدينة، من كرتون الخرطوم ثلاثة، وعِشَش فلّاتة، وكرتون سوبا، إلى جهة مايو. كذلك نَقلت حوالي عشرين ألفاً من النفوس من كرتون شمبات والمنطقة الصناعيّة إلى جهة الحاج يوسف التي جرى تقسيم أصلها إلى ثلاثة آلاف قطعة سكنيّة.
نشأ كرتون كسلا فائضاً عشوائيّاً على حي الحاج يوسف؛ حي «الوحدة الوطنية» الجديد. ثم أجرى المخطِّط الحضريّ قلَمَه على كرتون كسلا في 1992-1994 إلى مربّعات، يضمّ كلٌّ منها 10-18 قطعة سكنيّة، بينها ميادين صغيرة، وتتوسّط كلّ وحدة منها منطقة خدميّة، فانقلب الكرتون إلى حي البرَكة. لكنْ لم يكن هذا الانقلاب محض مكر لغويّ كيزانيّ كما يبدو من أول وهلة. الواقع أنّ النعت الجديد وافَقَ تقسيماً باطنياً بين أهل كرتون كسلا، هو تدرُّجٌ في التقاط أشاير السوق في السياق الحضريّ؛ والكُونِكا إذن ليست لُجَّةً فقط إنما لها شاطئ ومَدّ وجَزْر. من علامات ذلك في شغل الدكتور محمد بخيت ما استفاده من تكنولوجيا البناء في حي البركة؛ إذ أثبَتَ تزاوجاً بين المهارات التي جاء بها النازح والمهارات التي تعلَّمَها من البيئة الحضرية المُحيطة، بخاصة من نشأ في حي البركة حدثاً لا يعرف غيره موطناً، وذلك على شفرة ما يفوز به من دَخْل، أي نجاحه في حصاد ما تطرحه عوامل السوق من فُرَص. تشمل دورةُ الحياة في حي البركة التحضيرَ لموسم الأمطار، وذلك في مايو/ يونيو، فتنشغل الفئات العاملة بتأهيل جدران البيوت بكسوة جديدة من «الزِّبَالة» على طوب أخدر، وتجديد الأسقف من الحطب والقنا. فرَز الدكتور محمد بخيت فئةً بلغت بها المقدرة، أنْ كَسَت الجدران طبقة رقيقة من الأسمنت على باطن من الطوب الأخدر فبدت ظاهراً كأنها من طوب أحمر، سهم «العبور» إلى الطبقة الوسطى. ثم برزت فئة جديدة أقلّ عدداً دخلت بالتقيل فجاءت بالطوب الأحمر والأسمنت المسلّح عديل. وقال الدكتور محمد بخيت: زادت هذه الفئة المُنتصِرة عدداً خلال سكناه حي البركة، واتخذ هذا التحوُّل دلالة على الرفاه. هذا بينما ظلَّ سواهم من أهل الحي على سترة رقيقة من رواكيب الخَيْش والأكياس في قطع سكنيّة خالية من البناء أو في جوار بيوت قائمة. لا تحيط قطع الفسيفساء في حساب الدكتور محمد بخيت بهذا التحوّل، الذي عَدَّه تباعداً بين «فقراء» و«أغنياء»، سبق بعضُهم بعضاً وقد كانوا في مِيس واحد.
أما عوامل السوق، التي قام عليها هذا التباعد، فقد جمَعَها الدكتور محمد بخيت تحت عنوان «الاقتصاد غير المنظَّم»، ونقَل عن الدكتورة سارا بانتوليانو تقديراً من إحصاء المنظّمات غير الحكوميّة الغربيّة في العام 2011، يقول إنّه استوعب 45 % من القوى العاملة في حضر الخرطوم. في المقابل، يطرح «الاقتصاد المنظَّم» فرصاً محدودةً للعمل بأجر في المستويات الدنيا من القطاع الحكومي، بالدرجة الأولى كجنود في الجيش أو البوليس، أو كعمّال غير مَهرة في القطاع الصناعي. وجاء الدكتور محمد بخيت ببيانٍ على فضل «الاقتصاد غير المنظَّم»، وقال إنّ قدرته الاستيعابيّة غير محدودة، ويُتيح سلّماً للترقّي يتحوَّل به الكرتون إلى برَكة. وإشارة النجاح فيه هي استطاعة البعض التجريب بين نشاطٍ وآخر من نشاطات التجارة الصّغيرة، والضّعيف يقع والسّمين يقيف. يتراكم طالبو الرّبح حول نشاط واعد، التجميل «قَدِّر ظروفك» مثلاً، حتى تكسد أرباحه، فتلتقط شاطرةٌ، فاردةً نشاطاً جديداً أوفر ربحاً، تحويلَ الرصيد مثلاً، حتى يكسد بتراكم المُنافسين، وهكذا دواليك. هذا، بينما اعتمدت فئةٌ أخرى، من نساء الحيّ اللائي خَبُرن الزراعة في مواطنهنّ، على العمل المأجور في المزارع القريبة، واعتمدت غيرهنّ على مهارات منزليّة مثل صناعة الطعام وبيعه لجمهور السوق، وصناعة الخمور وبيعها، تلك التي ساءت الدكتور حسن مكي. إذن، كشَف الدكتور محمد بخيت، تحت عارض فسيفساء التعدّد تلك، عن علاقاتِ عملٍ نَجَم عنها تباعدٌ بين «أغنياء» و«فقراء»، بلغ هؤلاء القيفَة وكابَدَ أولئك الغرق.
[7]
وَقَع الدكتور محمد بخيت في حي البركة «كرتون كسلا» في الفترة 2010-2012 على مفهوم «الطبقة»، وإنْ لم يَنطق به صراحةً، ولم يكن من عدّة شغله، وقد جاء بمفاهيم من الإثنوغرافيا والأنثربولوجيا وليس الاقتصاد السياسي. لكن لم تَقْدر هذه المفاهيم على الإحاطة بما شَهِدَ من تحوّلات، ولم تسعفه في تمييز فئات التكوين الاجتماعي الضاجّ بالانقطاعات والتقلّبات أمامه، فانتهى إلى تبويبٍ «طبقيّ» بين ثلاث فئات على حدودٍ غير حدودِ العِرْق والإثنيّة واللّغة. قام تبويبُ الدكتور محمد بخيت لمجتمع حي البركة على مفصلَيْن، سُبل كسب العيش، والجيل. والمفصل الأوّل من حَرْث الاقتصاد، والثاني معاملٌ للتحوّل عبر الزّمان والمكان، معاملٌ للتغيير، وهو المعامل الذي يُشنّف تبويَبه بفطنة الديالكتيك؛ الفطنة التي تتيح إدراك التحوّلات في حال تحوُّلها وتحرُّر البصر من صنميّة الآن. فاصَلَ الدكتور محمد بخيت بين ثلاث فئات بينها قناطر، فهي ليست زنازين انفراديّة، ولكنها جهاتٌ في حوش واحد، أو حوش وَرَّاني وحوش قِدَّامي وزقاق طويل بينهما، وأكثر من باب نحو الشارع.
الفئة الأولى جيلٌ مخضرمٌ من الزعامات الأبويّة، عُمَد ورجال عشائر ورجال دِين، مَعاشُهم سَلْخٌ من رأس المال الاجتماعي، فما يجدونه من حظوةٍ هو دالّةٌ لمكانتهم الاجتماعيّة وما يستطيعون من سُلطة على محدوديّتها في محيطهم المباشر. فمنهم صاحب الموقع في «اللجنة الشعبية» إيّاها؛ القائم على توزيع الأراضي أو تسليعها، فيكتب لنفسه وأهله قطعة رقم (...) تلو الأخرى. ومنهم الرجل الأوّل في السوق، قوَّال المحليّة، مَن يختار لنفسه الدكّان الناصية على الزّلط، ويحرم غريمه من الرّخصة التجارية أو يسلّط عليه جماعة الضرائب. ومنهم وصلة ديوان الزكاة في المنطقة، يحدِّد مَن الأرملة التي تستحقّ العون، ويُقَوِّل على الأخرى ببيع العَرَقي، ويوزّع بطاقات التأمين الصحّي على أهلٍ وأحبابٍ ويُمسِكُها عن آخرين، طَليقِ البنت وأهلِه. ومنهم صاحب العِمَّة السياسيّة الكبيرة، سمسار الجماهير الذي يجمع الناس كيفما اتّفق ليوم المَسيرة ويوم الانتخابات مقاولةً، الواحد بعشرة وسكراتش، تعال وجيب معاك أخوك. وقد تجتمع هذه الشخصيّات في نفسٍ واحدة، بَنْجْ متعدّد الوظائف كالمفتاح الإنجليزي؛ عشرة سُنون وسِنَّة.
والفئة الثانية جيلٌ تالٍ من المتعلّمين، منهم مَن نشأ في كنف الجيل المخضرم فاستفاد ممّا أتاحت تلك المجازفات من تراكمٍ وتحرّرٍ من كَدّ المعاش طفلاً، فسَلَك في التعليم وتدرَّجَ حتى بلغ مهارة الوظيفة ولو نَفَرْ في البوليس، أو من وَجَد نفسَه عند شطّ الكونكا بقَضْم التضخّم وتدهور المعاش، فجاء إلى حي البركة نازحاً. ضمَّ الدكتور محمد بخيت إلى هذه الفئةِ الباعةَ بأجناسهم، من صاحب الدكّان الناصية إلى ستّ الشّاي وستّ العَرَقي. والمشترك بين هؤلاء وأولئك أنهم جميعاً ممن وَجدوا موقعاً في السوق واقتصاده، واتّصلت أسلاكهم بهذه الكبّانيّة الكبيرة إذا جاز التعبير، وصارت لهم بذلك مصلحة مشتركة في رعاية قواعد «النظام» أيّاً كانت، يَعرفُ أحدُهم بأيّ وسيلةٍ يَبلُغ الرّخصة التجاريّة، وبأي ثمن، وكيف يراوغ جماعة المحليّة، وبأي تكتيكات، وكيف يتفادى بأس النظام العام، بِجازِفها.
أما الفئة الثالثة، الأحدث والأعظم، فهي الفائض الذي لا موقع له يَعتدُّ به في «النظام» قائماً سوى كاحتياطٍ يَنْكَشِح حول بنائه؛ كُسَّار طوب ورمل وروث، فهو داخل فيه وليس منه في آن واحد، فائضٌ من «الشمّاسة» و«العصبجيّة»، معاشُهم في «الشّفْشَفة» بصور مختلفة، والزمالة بينهم «العصابة»، فريق عمل لمهمّة تتجدّد بالنجاح وتنهدّ بالفشل. ومَوقعُهم «بَرّاني» على قواعده، فلا وسيلة لهم للاستفادة من هذه القواعد، لا ينفعهم شيئاً أنّ زوجة زعيم اللجنة الشعبية الجديدة هي أختٌ لصاحب البنشر السُّكُرْجي من الحِلّة الفوق، ومن أراد رخصةً لكُشكٍ فلصاحب البنشر واسطةٌ ونصيب. فلا وسيلة لهم للفوز بنصيبٍ من الثروة الاجتماعيّة غير «المُزازاة» فوق المجازفات أو «شَفْشَفة»، وهي «هَمْبَتَة» بغير النُّبل الشاعري، حُجَّتهم على الناس: إنتَ أبوك بيدِّيك، نحن البيدِّينا منو؟
وعقدة «الشّفْشَفة» كما «الهَمْبَتة» أنها لا تَبلُغ التراكم، فآخر محطّتها الاستهلاك، وتبدأ الدّورة من جديد. وغرَضُ بطل العصابة الأوّل كغرض «الهَمْبَاتي» مِن قَبله؛ «مُتْعَتِي وعَجَنِي»، في الآن، وليس غداً. لذلك قد تهجم عصابة محترفة على سوق 6 في الحاج يوسف للَهْوِ يومٍ وحفلة دي جي لا غير. وللعصابة، متى نجحت، شفرةٌ من الإشارات غير المنطوقة تشمل «تعليمات» الهجوم والانسحاب قد لا تدركها حتى عصابة منافِسة.
وللعصابات أسماء وشعارات وأزياء. قامت في الحاج يوسف عصابة «لوست بويز» لبطلها «تنقو»، وقَبْلها في جمهورية الكَلاكلة، منذ منتصف التسعينيات، عصابة «أولاد جون» التي انشقّت لاحقاً بالصراع على القيادة والسيطرة والفوز بالبنات إلى «السعادة» و«آوت لو» لزعيمها الشبلي. ولبطل العصابة قياسٌ كذلك، فما هو في القانون نهبٌ وأذىً جسيمٌ وشغبٌ وتهديدٌ للسلامة والطمأنينة العامة عنده مفخرة، خاصّة إنْ كسَر بها حاجزاً فبلغ خبرُه الصحيفة أو التلفزيون. ويميِّز العُصبَجي المحترف بين «السرقة» و«النهب» فلا يسرق خلسةً، ولكن ينهب بقوّة وحُمرة عين. والعُصبَجي في موقع متقدّم ضمن هذه الفئة، فهو بطلُها بما أصابَ من فتوّةٍ وقدرةٍ، ويُميِّز نفسَه باللِّبس والهندام على نمطٍ كوسموبوليتي من طراز الهيب هوب الأميركي، بنطلون شوّال وتلاتة أربعة فنايل وسايد كاب وسلاسل، وكذلك الرّقص والحفلة. ودون العُصبَجي المحترف فئاتٌ أوسع وأقلّ حظاً، مَن يعرِّفهم البوليس بعبارة «معتادي الإجرام» وفيهم الحرامي المتواضع، مَن يسرق ملاية أو مراية عربيّة، والنشَّال، ومروِّج البنقو، ومُروّج الآيس، ومن لم يُحسن أيّاً من هذه الوظائف فيبيع المتعة في الخور، فما طبقتهم؟
[8]
ما هي إذَن الطبقة الاجتماعيّة التي شهد الدكتور عبده سيمون، الأنثربولوجي الأميركي المسلم، على موقعها «البرَّاني» في اقتصاد «المُجامَلة» الخرطومي، والتي عرَض وسائلَ بقائها في كُونِكا مايو، معاشاً ومعنىً، وأملاً في هدمٍ عظيمٍ تتحرَّر به من هذا الجحيم؟ وهل هي الطبقة الاجتماعيّة ذاتها التي احترز منها الدكتور حسن مكي وحذَّر، وقال إنها صارت رهناً للكنيسة العالمية ومَطيَّةً لصليبيِّين جُدد، ظاهرُ شُغلِهم التعليمُ وأوجُهٌ أخرى للعون الإنساني، وباطنُه الفتنة؟ ثم رشَّح الدِّينَ القويمَ وسيلةً لتحييد هذا الخطر المحيط. وهل هي ذاتها الطبقة الاجتماعية التي اكتَشَف طرَفاً منها الدكتور محمد بخيت في «كرتون كسلا» وفرَزَها من فائزين في جوارها الاجتماعيّ دخلوا السُّوقْ «قدِّر ظروفك»، بينما ظلَّت عناصرها «عُصبجيَّة» و«شمَّاشة» خارج الدوائر التبادليّة لهذا الجوار، سِكَّتُهم السَّلب بقوّة، أو الشَّلِب بحَرْفَنة، ما استطاعوا إليه سبيلا؟
تقترب القارئةُ من هذه الطبقة الاجتماعية، وقد تتساءل إنْ كانت هي تلك التي شغَلت الدكتور عبده مالك سيمون والدكتور حسن مكي والدكتور محمد بخيت، كلٌّ من موقعه. الأوّل بوصفه أنثربولوجياً مُسلماً، جاء به دربُ النُّصرة إلى خرطوم التسعينيات، ليُسعف الحركة الإسلامية السودانية وهي تحاول، كيفما اتّفق، أن تصنع طريقاً جديداً بالمشي في هامشٍ كونيٍّ، والمحاذيرُ الإمبرياليّة تحيط بها، والمخاطر، ولم يعد هنالك اتّحاد سوڤييتي يعاند لمصلحة للجنوب الكونيّ في مقابل المركز الأمريكي المنتصر. والثاني بوصفه كادراً في هذه الحركة، يريدُ أن يَنفُذَ إلى هذه المخاطر بعِلْم محلّيٍّ يُرشِد به السُّلطانَ الجديدَ إلى مواقع الحذر. والثالث بوصفه عالمَ إثنوغرافيا، يُريد أن يَستخرج من فسيفساء الإثنيّات والثقافات والأديان عِلماً بالهامش داخل المدينة في زمانٍ واعدٍ بالسّلام.
تجد القارئةُ، عند هذا الاقتراب، رايةً قديمةً غرَسها المرحوم كارل ماركس في موقعٍ اجتماعيٍّ شبيهٍ ضمن كَدِّه في القرن التاسع عشر؛ راية عليها حصيلةُ ما استفاده من تجربة ثورات 1848 الأوروبيّة مناضلاً من أجل الديمقراطية ومحرّراً لجريدةٍ مقاتلة، «جريدة الراين الجديدة» التي أعلنَت عن نفسها بديباجةٍ «لسان حال الديمقراطية» مهمّتها تثقيف الثورة. وكانت جريدة المرحوم جريدة يوميّة صدرت من كولون الألمانية بأفق أوروبيّ من 1 يونيو 1848 حتى 19 مايو 1849 حين سطَت عليها السُّلطات وطرَدت محرِّرَها المرحوم ماركس الطَّردةَ التي انتهت به لاجئاً دائماً، حتى قضى في كرسيِّهِ وقد انشغل أهلُ بيته عنه بالوَنَسة في الحديقة؛ لاجئاً «بِدُونْ»، بعدما نزعت السُّلطات الألمانية أوراقه الثبوتية. قال الرقيب البوليسيّ في قرار منع صدور جريدة المرحوم: «تعاظَمَ مَيلُ «جريدة الراين الجديدة» في أعدادها الأخيرة إلى استفزاز القرّاء لاحتقار الحكومة القائمة، وتحريضهم على الثّورة العنيفة وإقامة جمهورية اجتماعيّة… وبذلك قُرِّر إلغاء حقّ الضّيافة الذي طالما أساء استغلالَه محرِّرُها الدكتور ماركس بكلِّ وقاحة. ولمّا لم يتقدَّم الأخيرُ بطلبٍ للسّلطات لتمديد إقامته في هذه الأقاليم، فقد صَدَر الأمر بأن يغادرها خلال 24 ساعة. وإنْ لم ينفِّذ هذا الأمر طوعاً فسيجري إبعادُه قسراً عبر الحدود». صار الدكتور ماركس، محرِّر الجريدة، بهذه النفي «كارل ماركس»، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
التقى المرحوم ماركس هذه الطبقة في أُوَار ثورات 1848، ونفَى عنها في «المانفستو الشيوعي» كلَّ سَمْتٍ ثوريٍّ إلا انتداباً. و «المانفستو الشيوعي» في نشأتِه هو خلاصةُ ما أصاب ماركس، وصَفِيُّه فردريك إنجلز، وزوجتُه جني ماركس، من علم الصراع الاجتماعي، من وحي الثورة والثورة المضادّة في 1848، وكتبَه ثلاثتُهم في ديسمبر 1847/ يناير 1848. بل أبَّدَ ماركس سوءَ الظنّ بهذه الطبقة بقلمه الحادّ، فهي عنده «البروليتاريا الرثّة، الحثالة المتعفّنة المستسلمة لمصيرها، المنحدرة من أكثر طبقات المجتمع القديم وضاعةً، فهي قد تنجرُّ إلى الحركة وراء ثورةٍ بروليتاريّة؛ إلا أنّ ظروف حياتها تجعلها أكثر استعداداً لبيع نفسها خدمةً للمناورات الرجعيّة» (كارل ماركس وفردريك إنجلز، «مانفستو الحزب الشيوعي»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلّد 4، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1977، ص 472).
لم يتوسَّع المرحوم كارل ماركس في المانفستو الشيوعي لشرح سوء الظنّ العظيم هذا. لكنه نَجَدَ القارئةَ في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850»، وهو بعضُ شغله من العام 1850 الذي نضجت فيه «المادّيّة التاريخيّة» إذا صحّ التعبير، بتفسيرٍ من التجربة لحُكمِه الغليظ. كتَبَ عن البروليتاريا الرثّة أنها «كَوَّنت في المدن الكبرى كتلةً متمايزةً للغاية عن البروليتاريا الصناعيّة، ومورداً لتجنيد اللصوص والمجرمين من جميع الأنواع، ممن يعيشون على فتات المجتمع. أناسٌ دون مهنة محدّدة، مشرّدون، أناسٌ دون سكنى أو مأوى، ويتفاتون حسب درجة تحضُّر الأمّة التي ينتمون إليها، لكن لا يتخلّون أبداً عن طابع الصّعلقة الرّثّ». والمرحوم كارل ماركس لا يتجنَّب التاريخ متى وَقَع، لذا شَهِد لبعض شباب البروليتاريا الرثّة من جهةٍ بالبسالة النادرة و«أشدّ الأعمال بطولةً وأكثر التضحيات سُموّاً»؛ ومن جهةٍ أخرى بـ «أحطَّ لصوصيّةٍ وأقذر فساد».
وحساب المرحوم كارل ماركس مع هؤلاء، أنّ الحكومة المؤقّتة في فرنسا، والتي قامت بفضل ثورة فبراير 1848، أمّ الثورات الأوروبية، والتي نشأت بها الجمهورية الفرنسية الثانية، قد جنَّدت البروليتاريا الرثّة في وحداتٍ سريعةِ الحركة باسم «الحرس المتنقّل» لدعم «الحرس الوطني» في قمع البروليتاريا الباريسية التي شاركت البرجوازيّة في الثورة، ثمّ انقلبت البرجوازية عليها وقت استقلَّت بمطالبها. وكتب المرحوم ماركس، شاهداً متدبِّراً على العصر، أنَّ الحكومة الانتقاليّة جنَّدت عناصر البروليتاريا الرثّة في وحدات، تضمّ كلٌّ منها ألفَ شابٍّ مقاتل في عمر الخامسة عشرة إلى العشرين، بأجر فرنك واحد وخمسين سنتيماً في اليوم. ثمّ توسَّع عددُهم حتى بلغ أربعة وعشرين ألفاً، وكسَتْهم بزيّ خاصّ يُميِّزهم عن العمّال ذوي القمصان الزرقاء، وجعلت على رأس كلّ وحدةٍ منهم ضابطاً نظاميّاً من صفّ البرجوازية، وأنها خلَبَت ألباب هؤلاء الجنود اليافعين بنجوى الفداء من أجل القضية؛ قضية «الجمهورية».
وأهمّ نظرات المرحوم ماركس في مسألة «الحرس المتنقِّل» أنَّ البروليتاريا الباريسية واجهت في جنود «الحرس المتنقِّل» جيشاً من داخل صَفِّها و«من رَحِمها» بعبارة رائجة، رجال أشدّاء لكنهم «طُرُش». وهلَّلت البروليتاريا الباريسية أوّل الأمر لهذا الصفّ القتالي، لجند «الحرس المتنقّل»، لسرعتهم في الدعم وهم يعبرون شوارع باريس في خيلاء. وقال ظنَّت فيهم البروليتاريا الباريسيةُ الوفاءَ، واحتفت بهم كأولادها جاءوا مسلَّحين لحراسة متاريس الثورة، واعتبرتهم الحرسَ البروليتاري، في مقابل الحرس الوطني البرجوازي. وقال المرحوم ماركس في عبارةٍ صَمَدَت رنّانةً في عقل كلّ قارئةٍ حصيفةٍ حتى اليوم: «كان خطأً مغتفراً» (كارل ماركس، «صراع الطبقات في فرنسا 1848 – 1850»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 26). فلمّا أجاز لهم المرحوم ماركس الغفرانَ مؤرِّخاً، وقد كال لهم السُّبابَ مناضلاً، فموقعُهم كان بعبارته ألعوبةً في يد البرجوازية التي فَتَنَت بين فئات البروليتاريا، فجنَّدَت الرثَّ منها لقمع المُنتِج.
[9]
غَفَر المرحوم كارل ماركس، بوصفه مؤرِّخاً للبروليتاريا الباريسية، حُسْنَ ظنِّها بالبروليتاريا الرثَّة، وكان قد كالَ السُّبابَ للبروليتاريا الرثَّة مناضلاً في ثورة 1848، والعِلَّة ربّما أنَّ حسابَ التاريخ لا يقوم على خطأ وصواب، والعِبْرة غير التجربة. وتجد القارئةُ عند صَفيِّ المرحوم ماركس ورفيقِه في نضالات 1848 المرحوم فردريك إنجلز سوءَ ظنٍّ شبيهٍ مَرَدُّه أيضاً إلى التجربة. سطَّر المرحوم إنجلز، بوحيٍ من انكسار الثورة في 1848، كُتيِّبَه «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، واستعرض فيه من باب المقارنة التربوية ما وَقَع في البلاد الألمانية عام 1525 من تمرُّدٍ واسعٍ للفلّاحين بعدسةِ وقائع الثورة والثورة المضادّة في 1848-1849. وكان المرحوم إنجلز، وكُنيَتُه «الجنرال» بين الأحباب، على خلافِ دودة الكتب المرحوم ماركس، صاحبَ تجربةٍ عسكريةٍ، وعالِماً بالشّوكة، وله في المسألة نظراتٌ، إذ تطوَّع صبيّاً في المدفعية البروسية في برلين عامي 1841-1842، وقاتَلَ متمرِّداً في ثورة 1848 من أجل إسقاط ملكيّة بروسيا وانتزاع السُّلطان على حرف دستور فرانكفورت، وهو الدستور الذي تَوافَقَ عليه أوَّلُ برلمانٍ منتخَبٍ لكلّ ألمانيا، وانهزَمَ مع المنهزمين في انتفاضة البرفلد عام 1849 بعد معارك ضارية ضدّ الجيش البروسي، كما حارَب في صفِّ جيش بادن الشعبي وانهزم صفُّه كذلك شرَّ هزيمة.
انتهى المرحوم إنجلز، في استعراضه الذي جمَع بين ثورات 1525 وثورات 1848، إلى قياسٍ لموقعِ كلِّ طبقةٍ اجتماعيةٍ في فوران الصراع الاجتماعيّ، فالبروليتاريا صاحبةُ الشأن، وهي عنده التي تعتمدُ بالكلّية وعلى الدوام على العمل المأجور، ما زالت قليلةَ العدد، ما يُجبرها على البحث عن حلفاء وقت احتدام الصراع، وقد وجدَتْ هؤلاء وسط البرجوازية الصغيرة وأدنى فئات البروليتاريا الحضَرية وصغار الفلّاحين والعمّال الزراعيين. وأضعفُ حلقاتِ هذا الحلف، عند المرحوم إنجلز، هي البرجوازية الصغيرة؛ فهي طبقةٌ ثرثارةٌ لا يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق، إلا إذا تحقَّق النصرُ فعلاً، يَصُكُّ صوتُ طَرْبَقَتها في الصّوالين والنوادي الآذانَ، لكنْ قد تجدُ بينَها عناصرَ طيّبةً تتّبع طريق العمّال. وأفرَدَ المرحوم إنجلز للبروليتاريا الرثّة سباباً خاصّاً فقال: «حثالة العناصر المتعفِّنة من جميع طبقات المجتمع التي تتراكم في المدن العظمى» و«أسوأ حليفٍ طُرّاً، طاقمٌ ما أشدَّ فسادِه ووقاحته». جاء إنجلز لتعضيد حُجَّته بتفصيلٍ من الثورة الباريسية عام 1848، فقال كتب العُمّال على الجدران «الموتُ للشَّفْشَافة»، وقتلوا العديد منهم بما توفَّر لهم من سلاح، ليس لحماسٍ اعتراهُم نحو الملكيّة الخاصّة لكنْ لأنّهم وجدوا أنَّ من الضروريّ فرز صفِّهم من هذه العناصر الحثالة. ثم أضاف في صيغة القانون: «إنّ كلّ قائدٍ للعُمَّال يجنِّد بروليتاريا المَجَاري هذه كحَرسٍ أو سَندٍ يثبت بفعلته هذه ولوحدها أنّه خائنٌ للحركة» (فردريك إنجلز، «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، دار التقدم، موسكو، 1977، ص 14).
على كلّ حال، علَّل المرحومان كارل ماركس وفردريك إنجلز سوءَ ظنِّهما بالبروليتاريا الرثَّة بما وَقَع مِن تجربةٍ في 1848-1849. وكان الخطأ المغتفَر للبروليتاريا الباريسية، أنّها اطمأنّت للبروليتاريا الرثّة في أوار الصّراع، بينما جنّدت الجمهورية البرجوازيّة عناصرَ البروليتاريا الرثَّة في كتائب «الحرس المتنقّل» لقمع ثورة البروليتاريا عليها، فوجدت البروليتاريا نفسها في انتفاضتها في يونيو 1849 في مواجهة حلفٍ غالبٍ جمَعَ «ارستقراطيّة المال، والبرجوازيّة الصناعيّة، والطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة، والجيش، وحثالة البروليتاريا المنظَّمة في «الحرس المتنقّل» وكبار المثقَّفين والكهنة، وسكّان الريف. ولم تقف إلى جانب بروليتاريا باريس سوى نفسها». انهزَم صفُّها، وذَبَحت الثورةُ المضادّةُ، بعدما انتصرت، في مقتلةٍ عظيمةٍ 3 آلاف نَفْس من الثوّار، ونفَت 15 ألفاً آخرين بغير محاكمة. وغادرت البروليتاريا، بهذا الانكسار، مسرحَ الأحداث، وانزوت في كواليس التاريخ تحاولُ مرّةً وأخرى أنْ تتقدَّم من جديدٍ، لكنْ كلّ مرّةٍ بعزمٍ أضعف ونتائج أهوَن (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، ضمن: كارل ماركس وفردريك إنجلز، «الأعمال الكاملة»، م 11، لورنس ووشرت للنشر، لندن، 1979، ص 110).
اتّخذت الرّشوةُ التي تلقّتها البروليتاريا الرثّة، لتنقلب على ثوّار باريس وتسفك دماءهم في مجازر يونيو، أوّلَ أمرها، صورةَ «العمل الخيري»؛ جنَّدَت قوى الثورةِ المضادّة، تحت ستار تكوين جمعية خيرية، مَن استهدفتهم من «بروليتاريا المجاري»، بعبارة المرحوم إنجلز، في مجموعاتٍ سرّية، يقوم على كلِّ واحدٍ منها أمينٌ مختارٌ، وعلى رأس المجموع ضابطٌ عظيمٌ من حلف الرئيس؛ رئيس الجمهورية الثانية لويس نابليون بونابارت (لاحقاً نابليون الثالث)، المنتخَب في 1848 بفضل الثورة، والذي انتزَع السُّلطة لنفسه كاملةً في انقلاب ديسمبر 1849 بعد أن كسَر شوكة البروليتاريا الباريسية في انتفاضة يونيو 1849.
كتب المرحوم ماركس إنّ هذا الجيش الجديد؛ الجيش الذي تمكّن به بونابارت من السُّلطة كاملةً، قد ضَمَّ: «فُسَّاقاً متعفِّنين معاشُهم مريبٌ وأصولُهم ملتبسة، ومغامرين من نبتٍ برجوازيّ انفرَطَ أمرُهم، ومُشرَّدين صعاليك، وجنوداً مُسَرَّحين، وأُمَناء سجون مُسَرَّحين، ومجرمين هاربين حُكِم عليهم بعبوديةٍ أبديةٍ في تجديف السفن، وأوَنْطَجيّة دجّالين، ومشعوذين نصّابين، وشمّاشة، ونشّالين، ومحتالين، وقُمُرتِيَّة، وقوَّادين، ومُلّاك مواخير، وحمّالين، ومثقّفين، وعازفين متجوّلين، وزبّالين، ومُطّرِّقين، وسَمْكَرجيّة جوّالة وشحّاتين؛ بالمختصر: كامل الكتلة المتفسِّخة ملتبسة الهويّة، القصيّ منها والقريب، التي يدْعُوها الفرنسيّون بالبوهيميّة». كوَّن لويس بونابارت من جميع هؤلاء حزبه، جمعية العاشر من ديسمبر (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، المصدر السابق، ص 149). وكان حزب بونابارت عند المرحوم ماركس فعلاً جمعيةً خيريّةً في معنى أنَّ أعضاءه، كما سيّدهم بونابارت، ظنّوا في أنفسِهم استحقاقاً أنْ يُثروا على حساب الشعب العامل. وكان اختراقُ زعيمهم، زعيم البروليتاريا الرثّة، لويس بونابارت، أنْ حرَّر لهم هذه الغريزة، غريزة «الشَّفْشَفة»، وحلَّلَها، حيث اكتشف في هذه الطبقة، «سقط الطبقات الأخرى، حُثالتها، وقمامتها» ذات الغريزة التي تحفزه هو شخصياً، ووَجَد صورةَ نفسِه في هذا اللَّمُوم، فوافَقَ شنٌّ طبَقة، وصارت بذلك الطبقة التي يقوم عليها سُلطانُه بغير شرط أو فرض، جمَع منهم عشرة آلاف وسمّاهم «الشّعب». لم يغفر المرحوم ماركس للبروليتاريا الرثّة، لكن أجاز الخطأ للبروليتاريا الباريسيّة وقال «بتتعلَّم من الأيّام»، فما الدّرس؟
[10]
فرَز المرحومان ماركس وإنجلز، في لهيب الثورة والثورة المضادّة في فرنسا، خلال أعوام 1848-1849، صفَّ البروليتاريا من البروليتاريا الرثَّة، فقَرَّظا الأولى وقالا إنها «ثوريّة» وإنْ أخطأَت التصويبَ وانحبَسَت ببطش الثّورة المضادَّة في كواليس التاريخ تتحيَّن فرصةً أخرى للنهوض. وسَفَّهَا الأخيرةَ وقالا إنها كتلة ملتبسة الهويّة، متفسِّخة، من كَرُور الطبقات الأخرى، صارت بالرّشوة وحصائل «الشَّفشَفة» حزباً مقاتلاً لبونابارت في هيئة «الحرس المتنقّل» فضرَبَ بها خصومَه وأوَّلهم قرينتَها البروليتاريا صاحبة الراية الثوريّة. بل رفعت في وجهها البروليتاريا الباريسيةُ شعار «الموت للشَّفشافة» ليَصحَّ بدنُها من هذا الأذى.
لكن، لم يَطرح المرحوم ماركس مسألةَ «البروليتاريا الرثّة» السياسيّة بقوّة، لكنْ كان تشخيصُه أنّ اتجاهَها الرئيسَ أْن تكون «الأداةَ المُرتشية للتآمر الرّجعي»، وأمَلُه أنّ الثورة متى نضجت قد تكتسح البروليتاريا الرثّة هنا وهناك إلى داخل صفوفها. فالبروليتاريا الرثّة عند الشيخ الإزيرق لا تقود الثورةَ، ولا تبادر بها، وإنما تركبها «بوكسي» من مواقع رجعيّة، رشوة و«شَفشَفة». لكن لم ينكفئ المرحوم ماركس يتأمّل كفقيهٍ هندوسيّ في «الرَّحِم» الخاصّة التي خرج منها «الحرس المتنقّل»؛ الخصم العسكري المباشر للبروليتاريا الباريسية، والقوّة ملتبسة الهويّة التي جنّدها ضبّاط الحرس الوطني النظاميّون من حلفاء لويس بونابارت من الحثالة الرثّة التي أثارت غثيانه. استغنى المرحوم ماركس عن هذا التفسير «التناسلي» للتاريخ، ردّة ورشوة وخيانة، وهو تفسيرٌ في متناول اليد، حاشاه الشيخ الإزيرق.
ماذا اكتشف إذَن؟ دشَّن المرحوم ماركس تحليله العتيد للثورة والثورة المضادّة في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر، وهي المثال المدرسيّ لشغل الديالكتيك في التاريخ، «الماديّة التاريخية» البِضَوِّي رِشِيمها، بتشريحِ القوى الدافعة لموتورات التاريخ؛ الأزيز الخلفيّ الذي يحجبه ربما صياح الأبطال وصراخ الضحايا. فعَرَض ضمن ما عرَض في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850» («أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 12-107)، إحداثيّات الأزمة الاقتصاديّة التي بلغت ذروتها في أوروبا عام 1847 ومَسَكَت نارْ في فرنسا فسَعَّرت الصّراع بين فئات البرجوازية، الحاكمة منها والخاضعة، بالدرجة الأولى، وبين البرجوازية والبروليتاريا بالدرجة الثانية.
ميَّز المرحوم ماركس واقعتين اقتصاديّتين، قال كان لهما الأثر الأعظم في حشد عناصر الأزمة ثم تفجيرها: الواقعة الأولى الوباء الذي أصاب محصول البطاطس في العاملين 1845 و1846، وكان سبباً مباشراً لتصاعد الأسعار وتدهور غذاء عامّة الناس، والجوع الذي دفع بهم إلى الشوارع يسعون السياسة عام 1847 في فرنسا وفي كلّ القارّة. والواقعة الثانية: الأزمة التجاريّة والصناعيّة العامةّ التي ضربت إنجلترا في تلك الأعوام، وكانت إشارتها الأولى كسادُ أسهم السكك الحديديّة في خريف العام 1845، ثمّ إفلاس تجّار المستعمرات الكبار في خريف العام 1847، وتبعتهم البنوك الصغرى التي أفلست بتعاظم الخسارة، ثمّ الصناعات التي أغلقت أبوابها بانعدام التمويل وكساد التجارة. وقال ماركس كان لهذه الأزمة ظلٌّ طويلٌ في فرنسا، فأخرجَت جمهوراً كبيراً من الصناعيّين وتجّار الإجمالي من سوق التجارة الخارجيّة خاسرين، وأجبرتهم على العودة بأموالهم ومصالحهم إلى الداخل الفرنسي يبحثون عن موطئ قدم ومصدر ربحيّة، فكانوا من أشدّ العناصر ثوريةً في صراعهم ضدّ مُلك لويس فيليب، وأشدّهم حماسةً للجمهورية الثانية في فبراير 1848.
وتقدير المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب التي أزاحتها الجمهورية الثانية في فبراير 1848 كانت دولةً لرجال البنوك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. وجاء بنادرةٍ تقول إنّ المسيو جاك لافيت؛ المصرفيّ العَلَم، طَنْطَن وهو يصعد عتبات بلديّة باريس يومَ قامت ملكيّة لويس فيليب بالمؤامرة والانقلاب على شارلس العاشر في يوليو 1830: «الحكومة حكومتنا»، وكشف بذلك سرّ الثورة! ووضّح المرحوم ماركس أنّ البرجوازية الفرنسية لم تَطْغَ كطبقة تحت سلطان لويس فيليب، وإنما كان الأمرُ لفئةٍ منها، «شِقّ من المصرفيّين ومكوك البورصة ومكوك السكك الحديديّة ومُلّاك مناجم الفحم والحديد ومُلّاك الغابات، إلى جانب قسط من كبار مُلاّك الأراضي – ما تُسمَّى الارستقراطية المالية. تمكَّنَت هذه من العرش، وأمْلَت القوانين في حجرات البرلمان، ومَنَحت وظائف الدولة، من الوزارات حتى مسؤولية التبغ».
أمّا البرجوازية الصناعية التي قالت بالجمهورية، في العاقبة عام 1847، فقد شكّلَت طرفاً من المعارضة الرسمية في واقع الأمر، وكانت أقليّة برلمانية. وبرزت معارضة البرجوازية الصناعية للملكيّة بقوّة كلما صَفَت السُّلطة للأرستقراطية المالية واشتَدّ بأس البرجوازية الصناعية في وجه البروليتاريا التي أضعفها الوأد المتكرّر لهَبَّاتها في 1832 و1834 و1839. أما طبقة البرجوازية الصغيرة، بجميع درجاتها المتعدّدة وطبقة الفلاحين، فكانتا كطبقتين خارج مدار السُّلطة، إمّا رَكَنَتا إلى المعارضة الرسميّة أو وَلَجَ أعلامٌ منهما السياسةَ بصفتهم «كفاءات» موكولين بتسطير أيديولوجيا الفئات الطبقية المتصارعة على الحُكم وترويجها؛ شُغل المتعلّمين، دكاترة ومحامين.
شرَح المرحوم ماركس باستفاضةٍ أنّ شِقّ البرجوازية المالية، ملوك المال، أحكَمَ قبضتَه على الدولة بإغراقها في الدّيون، فكان الدَّين المتعاظم هو الرّسَن الذي قاد به الدولةَ إذا صَحّ التعبير. وفوق ذلك، كان هذا الدَّين المتعاظم موضوعاً للمضاربة ولجَنْي أرباح هائلة، في استقلالٍ ظاهر الأمر عن الإنتاج، كأنما اختُلِق من عدم. يزداد العجز الماليّ للدولة عاماً بعد عام، وفي كلّ موسم للميزانية يُمْلِي ملوكُ المال من حجرات البرلمان قرضاً جديداً للدولة، يحصدون أرباحَه مضاعفةً، وترتدّ التكلفة على الجمهور، بالدرجة الأولى البرجوازية الصناعية والتجارية التي استثمرت بعض رؤوس أموالها في السّنَدات الحكومية، فتستشيط هذه غضباً من «الشّفشَفة» المواربة في هيئة ألاعيب البورصة، وتركل من جهتها العبءَ إلى أسفل. تحاول جهدَها زيادة أرباحها في مضمارَي الإنتاج والتوزيع، بتقليص أجور العمّال وتزوير السلع، من مثل الدقيق المخلوط بنشارة الخشب واللبن المطَمْبَج موية وجير، وزيادة الأسعار. وبالنتيجة، يتقلّص الاستهلاك من الجهة الأخرى، وينقلب ما كان ربحاً خسارةً مجدّدةً، وهكذا دواليك، حتى انحَلَجَت.
مثّلت المضاربات التي يتحكّم فيها ملوك المال، بمعرفتهم أسرار البورصة، وسيطرتهم على قلم البرلمان، شَركاً لصغار الرأسماليين وناشئة البرجوازية الصناعية، وخربت بيوتهم. وكان هذا الضّررُ البليغ علةَ تحوُّلهم الراديكالي نحو الجمهورية في عاقبة الأمر، جذريّةْ وْجَمَالها فريد، فشحذوا القوى للإجهاز على نظام لويس فيليب؛ النظام الذي صار لهم عدوّاً ياكُلْ عَشَاهُم، فتمكّنوا منه آخر الأمر بضُرَاع بروليتاري في فبراير 1848. ضرَب المرحوم ماركس لهذه المأكلة مثلاً؛ زيادة الصّرف الحكومي في أواخر عهد لويس فيليب إلى حوالي 400 مليون فرنك في العام، بالمقارنة مع 750 مليون فرنك هي جملة صادرات فرنسا. وقال كانت هذه المبالغ التي تمرّ بجهاز الدولة موضوعاً للعقود الهوبلي والرّشوة والاختلاس وجميع صور الاستهبال والفهلوة المالية.
كذلك سادت هذه «الشّفشَفة» في أعلى هيئات جهاز الدولة، وانبثّت حتى أدناها بين كلّ موظف إدارة وعميل صاحب مصلحة في شبّاك. لذلك كان تشخيص المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب كانت في واقع الأمر شركةَ مساهمةٍ لنهب الدخل القومي الفرنسي، تتوزّع أسهُمها بين الوزراء والبرلمانيّين وحوالي 240 ألف من الناخبين وأتباعهم، يقوم عليها مديراً لويس فيليب، وتخضع لها مصالحُ قوى الصناعة والزراعة والنقل. وجميع صور الإنتاج مهدّدة محاصرة. حكومة للسماسرة، كما قالت عن نفسها، يومَ وضع مسيو جاك لافيت وزمرتُه لويس فيليب على العرش في يوليو 1830. لكنْ، هذه ربما تضاريس «كُونِكا» باريس في منتصف القرن التاسع عشر؛ «ألم يروا كم أهلكنا قبلَهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون.»
No comments:
Post a Comment