تكرر في مناسبة ١٩ يوليو السؤال عن فقه الانقلاب وهذا شرح قصير من العام الماضي أو قبله، وقول المرحوم عبد الخالق محجوب الناصع في هذه المسألة مبذول في ورقته لمؤتمر كادر الحزب التداولي ١٩٧٠.
سلام عزيزتي،
هذا سؤال قديم جديد كما تعلمين، وخاض فيه بجدية عبد الخالق وأحمد سليمان بعد حل الحزب الشيوعي في صيف ١٩٦٥ والنفوس ضجرة وسيرة الانقلاب على كل لسان في طلب نصرة أكتوبر. وقتها وقف عبد الخالق بقوة ضد خيار الانقلاب وجاء بدفوعات في ذلك ونادى أحمد سليمان بالانقلاب وجاء كذلك بدفوعات. انتهت هذه المباراة النظرية أول شأنها إلى انشقاق الحزب الشيوعي في ١٩٧٠ بحسب الموقف من الانقلاب الذي وقع حقا، انقلاب مايو ١٩٦٩. جدد عبد الخالق أول الأمر دفوعاته القديمة ضد الانقلاب، وذلك في بيان اللجنة المركزية صباح ٢٥ مايو، وقال هذا الانقلاب يمثل سلطة البرجوازية الصغيرة أو قسم منها ولا يمثل سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية التي نرنو لها وهي اجتماع قوى طبقية تشمل العمال والمزارعين والحرفيين ليس لهم موقع في السلطة الانقلابية وليس لمنظماتهم موقع كذلك. ثم جاء بالنبوءة التي أهملها لاحقا وقال هذا طريق الآلام وسيؤدي بنا استعجال البرجوازية الصغيرة وقصر نفسها إلى هلاك أكيد، وقد كان. نحرت البرجوازية الصغيرة الحزب الشيوعي ومنجزاته وسط قوى العمل وارتد به إلى نادي مناجاة للمثقفين الثوريين أو ما شابه حتى يومنا هذا وقد انقطعت صلاته العضوية بقوى العمل حملها ما لا تطيق وفرط في عقدها المنظوم ببسالة صبورة كأنها ملك يمين وليست كذلك.
لم يلتزم عبد الخالق هذا الموقف الصافي من مايو والتشخيص الدقيق للانقلاب كوسيلة إلى السلطة واندرج في مايو بحذر ثم بحماس ثم بحذر على أساس قريب من قولك في اقتناص الممكن وكان طابعه في العلاقة مع مايو التردد المميت، والسبب المباشر فتنة جهاز الدولة التي أصابت الحزب الشيوعي والشيوعيين وقتها وكان منطقهم كمنطق اليوم. نحن نريد من جهاز الدولة تحقيق الأهداف هذه، أهداف برنامجنا، وجاءتنا الفرصة فلننهض لتحقيقها. لا يخفى عليك أن مايو اختارت أقطابا شيوعيين لشغل المواقع الأولى في الوزارات، من وزير ووكيل وزارة ومدراء أقسام الخ وضرب المثل في ذلك أن محمد سليمان سكرتير تنظيمي الحزب صار وكيل وزارة الداخلية وذلك ضمن سياسة "تطهير الخدمة المدنية" من العناصر الرجعية. بل كان الحزب ونساؤه ورجاله في طليعة الدعوة السياسية لسلطة مايو "الاشتراكية"، جند الشفيع أحمد الشيخ اتحاد العمال لنصر مايو في الموكب الشهير وكتب محمد إبراهيم نقد ميثاق الاتحاد الاشتراكي بيده وتولى التبشير به وسط الرأي العام. التفت عبد الخالق ووجد نصف حزبه في مواقع السلطة، وسدروا، انفرطت وحدة الفكر والإرادة وانحل قيدهم التنظيمي، كل يعمل بما يرى من موقعه الجديد ولا سلطان لهيئة عليه. انفراط الحزب هذا هو ما أربك عبد الخالق إيما إرباك ودفع به في الطريق الذي انتهى بانقلاب ١٩٧١. لم يجد عبد الخالق موقعا في الحزب على التزام الطاعة مثل وحدات العسكريين. والطريف أن التنوير لصغار الضباط الذين تولوا مهمة الانقلاب كان في أغلبه احتجاج على اتفاقية الدفاع المشترك بين نميري وقذافي وناصر وقاموا من ساعتهم تلك في طاعة آمريهم.
هل يجيب هذا على سؤالك عن الانقلاب؟ نعم، فأول الانقلاب كما شخص عبد الخالق ثقة فيها رعونة شديدة في قدرة البرجوازية الصغيرة من الضباط ومن في حلفهم من الأفندية في صناعة التاريخ كو كو، بقوة جهاز الدولة أو من علياء قوانينه. وقد تورط عبد الخالق نفسه في هذه المناجاة حين كتب من منفاه في القاهرة يقرظ هجمة جهاز الدولة على الأنصار في أبا باعتبارها معركة بين التقدم الذي بيد الجيش والرجعية التي أحاطت بجماهير الأنصار، وفرط في ذلك في تحليله الطبقي لعلاقات القوى وعادى المساكين بوزر أئمتهم. الثانية أن الانقلاب يدير وجهه للفوز بثقة الجماهير الشعبية عن طريق تنظيماتها المستقلة ويستبدل ذلك بعلاقات الإرشاد والأمر والنهي كما في الاتحاد الاشتراكي الذي أراد به الشيوعيون وقتها، وبقلم محمد إبراهيم نقد، كسب جماهير الريف المنتجة إلى حلف حضري قلبه الجيش التقدمي. لكن لم تنجح هذه المحاولة بل فشلت أيما فشل وتجددت علاقات القوى الريفية، القبلية والإثنية، في الاتحاد الاشتراكي على مستواه المحلي كما كانت من قبل في الإدارة الأهلية سوى أن ولد الناظر أصبح سكرتيرا للاتحاد الاشتراكي. الثالثة أن الانقلاب لا يلقي بالا لعلاقات القوى الاجتماعية، الطبقية من موقع نظر الماركسية، ويفترض أن جهاز الدولة مستقل عنها ويمكنه بضرباته المتتالية أن "يصفر العداد" إذا جاز التعبير ويبدأ من الأول. كل ذلك كذبته التجربة مع الانقلاب، في مايو ١٩٦٩ وفي يونيو ١٩٨٩، ولذا فخيره منزلق.
كما قلت، جذب الانقلاب الساعة ربما فكرة أن بإمكان انقلاب تقدمي أن يهزم مثل حميدتي، لكن من هو حميدتي؟ أهو الشخص وكفى أم هو اسم لقوى اجتماعية نهضت للسلطة وهي عماد قوته، فمتى هزم الضباط الأشاوس من الصف التقدمي المزعوم حميدتي الفرد بقت هذه القوى وتجرع الجميع الغصص لسوء تدبيرهم. يبدأ الانتصار على حميدتي بإدراك المنشأ الاجتماعي لقوته وتناقضات الاقتصاد الريفي التي جعلت المليشيا صيغة للحياة وأداة للحكم، وكيف يمكن الاقتراب منها. بديل ذلك ورطة المرحوم عبد الخالق محجوب في قوله "عنف البادية" وهو يواجه غضب الريف على الحزب الشيوعي.
No comments:
Post a Comment