مع كتاب دانييل بن سعيد "ماركس لزماننا" (دار فيرسو، ٢٠٠٩)، الفصل الرابع: "الطبقات أو الفاعل المفقود"
١
يشغل الصراع الطبقي موقعا مركزيا في فكر ماركس، لكن ما هي هذه الطبقة؟ ستجد قارئة ماركس "الطبقة" مبثوثة في نصوصه الكثيرة، ويمكن جمع مادة حول الطبقة من هذا الاقتباس أو ذلك، لكن لا تجد علما نصيا مانعا بالطبقة. وما يمكن جمعه من صفحات "رأس المال" يشي لكن لا يشفي، يقدم مؤشرات ربما لدراسة قادمة، وهي ما لم يحققه ماركس في حياته وإن طرح السؤال بالبنط العريض في الصفحة الأخيرة من الجزء الثالث من رأس المال، ثم انقطعت المخطوطة. يتساءل ماركس: "ما الذي يؤلف طبقة؟" ويقول: "الجواب عن ذلك يأتي تلقائيا من الإجابة عن السؤال لآخر: ما الذي يجعل العمال المأجورين والرأسماليين والملاك العقاريين يؤلفون الطبقات الاجتماعية الكبرى الثلاث؟" ثم يضيف: "إن ذلك، من النظرة الأولى، تماثل الإيرادات مع مصادر الإيرادات. فهناك ثلاث مجموعات اجتماعية كبرى تعيش عناصرها، أي الأفراد الذين يؤلفونها، من الأجور والربح والريع العقاري على التوالي، أي من استخدام قوة عملهم ورأسمالهم وملكيتهم العقارية."
وماركس عدو النظرة الأولى إذ يحيط نفسه بالنقد مباشرة: "ولكن، ومن وجهة النظر هذه، سيؤلف الأطباء والموظفون، على سبيل المثال، أيضا طبقتين، لأنهم ينتمون إلى مجموعتين اجتماعيتين متمايزتين، فيلما يتلقى أعضاء كل واحدة من هاتين المجموعتين إيراداتهم من المصدر الواحد نفسه. ولسوف ينطبق نفس الشئ ذاته على تشعب لا نهائي في المصالح والمراتب يؤلفه تقسيم العمل الاجتماعي بين العمال وكذلك بين الرأسماليين والملاك العقاريين – فالأخيرون مثلا ينقسمون إلى مالكي مزارع كروم، مالكي حقول زراعية، مالكي غابات، مالكي مناجم، مالكي مصائد أسماك." وهنا تنقطع المخطوطة (كارل ماركس ١٨٩٤. رأس المال المجلد الثالث. ترجمة فالح عبد الجبار. دار الفارابي. ص ١٠٨١)، تسكت شهرزاد، بنت البلد، عن الكلام المباح.
لا يبدو إذن من النظرة الأولى أن ماركس أفصح عن مفهوم حسن التطويق للطبقة، والمسألة عماد في فكره، وربما أجل هذه المهمة أو لم تتضح جوانبها في ذهنه. لكن مثل هذا النقد لشغل ماركس قد يصح على مسائل أخرى لم يفصح فيها ماركس عن تصورات متكاملة، فهو لم يتطرق بتفصيل لمفهوم الأزمة عنده أو لمفهوم الزمان وهو مدار التاريخ. ففيما كان يزجي ماركس وقته إذن؟ كان يعالج قروحه المتكررة، ويصد عن رقبته الدائنين وهو الفقير إلى الله حقا، ويسعى رزقا قليلا بوسيلة مقالاته الصحفية، ويحلحل مشاكل أسرته ويكتب سيلا من الخطابات يبثها عبر العالم، ويتآمر لنصرة الطبقة العاملة، وقبل كل شيء يكتب ويعيد كتابة وينقح ويحرر ويجلي كتابه "رأس المال".
وما النظرة الأولى؟ أسراب يحسبه الظمآن ماء؟ فعلم ماركس عن الطبقة ببسطامه السياسي. الثابت أن ماركس لم يركن إلى التبسيط في شأن الطبقة ولم يجمد مفهومها بتجريد صوري تصبح به كما في البدعة السوفييتية أو بهذا القياس في فقه العوضرازقية، قديمة أو جديدة، جدول تصنيف. تستفيد قارئة أعمال ماركس السياسية ("الصراعات الطبقية في فرنسا"، "الثامن عشر من برومير"، "الحرب الأهلية في فرنسا") مفهوما شبكيا للطبقة كنظام من العلاقات قوامه الصراع، وليس جدولا لعناصر ذات جوهر ثابت. الطبقة عند ماركس علاقات اجتماعية وليست هدية، وشرط المفهوم أن تدرك المتأملة دلالة "علاقة" في إعلان المغنية ندى القلعة الوقائي: "اللكزس هدية ما علاقة شخصية". أحلت المغنية صنف الهدية وحرمت العلاقة التي قد تحيط به، والطبقة كذلك علاقة صراعية تنشأ عنها مفردات مادية. لا يصح إذن ابتسار مفهوم ماركس للطبقة إلى جملة خصال تسم الوحدات المكونة للطبقة أو إلى جملة هذه الوحدات، فهي كل علائقى، وليس حساب إجمالي.
البرجوازية والبروليتاريا طبقتان اجتماعيتان، نعم، لكن الطبقة ليست صنفا وليست سمة، ومن ثم فمن التزوير تصوير البرجوازية أو البروليتارية كأنها سمة لشخص بعينه. البروليتاريا مجموعة من الناس، كينونة مركبة، البروليتاري الفرد فيها وحدة تكوينية لنظام شمسي، كما أفراد النحل وحدات تكوينية لخلية النحل. لكن تربط الناس الذين يكونون طبقة اجتماعية بعينها ببعضهم البعض علاقات اعتماد متبادل على خلاف الوحدات غير الحية أو حتى الحيوانات، علاقات اعتماد ذات طابع اجتماعي، علاقات إنس. والعلاقة بين الطبقة الاجتماعية وبين أعضاء هذه الطبقة علاقة بين كينونة مركبة والعناصر المكونة لها. فهل الطبقة إذن حقيقة عليا عابرة لأفراد هذه الطبقة؟ أذا صح ذلك، فهي فاعل أسطوري أو تكاد. يتهم ماركس غريمه برودون صراحة بهذه الدروشة ويقول خطأه أنه "شخصن الموضوع"، اتخذ من المجتمع أو من الطبقة شخصا، ويتذمر شديد التذمر من كل من "يجعل من الكلمات أشياء". يرفض ماركس تصوير الطبقة كشخص أو فاعل واعي موحد الذات على طراز الفاعل العاقل في علم النفس. وأفرد لذلك نقدا في هوامش كتابه "الآيديولوجيا الألمانية". وقال عيب الفلاسفة الألمان الذين وجه إليهم نقده أنهم اتخذوا مفهوما صوريا للطبقة، أي جعلوا محل المفهوم شيئا، كأنهم قوم موسى اتخذوا العجل إلها وقت أعجزهم مفهوم الإله. قال ماركس ابتسروا الأفراد إلى عينات حية للمفهوم المجرد، جنس دروشة! من ذلك توبيخ ماركس لماكس شتيرنر الذي أكد في أكثر من موقع أن كل فرد هو ما هو عليه بعلة الدولة، كما أن البرجوازي هو عينة من البرجوازية، فكأنما البرجوازية كانت موجودة قبل وجود الأفراد المكونين لها. الطبقة عند ماركس توجد فقط في إطار العلاقة الصراعية مع الطبقات الأخرى، علاقة وليست هدية، وتماسك الطبقة كمفهوم لا يمكن رده إلى إجمالي الأفراد، فالطبقة لا هي فاعل فوق الفاعلين، سوبر مان اجتماعي، ولا هي علاقات بينية، حيته ما حياني!
ومن هذا التخليط الذي بهدل بعلته ماركس غريمه برودون يتسرب التصور الفاشي الذي يوحد بين الفرد والمفهوم، بين عجل قوم موسى والإله. وترجمة ذلك على سبيل المثال التوحيد بين الرأسمالية بنت الكلب واليهود الأفراد في دعاية الاشتراكية القومية، النازية الألمانية، وهو توحيد دعائي انتهى إلى المقتلة المعلومة. ومن ذلك أيضا ما تسرب إلى وجدان مقاتلي مليشيا الدعم السريع في رد مظلمة اجتماعية الخصم فيها طبقة "الكيزان" أو "الجلابة"، وهي طبقة اجتماعية، إلى أفراد. من ثم، جاز بهذا التصور هدم دارهم وسلب مالهم وإهدار دمهم ولو كان نصيبهم من عز الجلابة بيت جالوص بالإيجار في أم بدة كرور. هذا بينما فلتت "العلاقة" من هذا الإعدام الميداني، وتجددت، كما نشأت أول مرة في حزام الاسترقاق على يد مثل الزبير باشا رحمة الجلابي الكبير صاحب المليشيا التي فتكت بسلطنة دارفور، في هيئة شركة الجنيد وغيرها لصاحبها محمد حمدان دقلو، أكبر جلابي فيك يا بلد.
No comments:
Post a Comment