مع كتاب دانييل بن سعيد "ماركس لزماننا" (دار فيرسو، ٢٠٠٩)، الفصل الرابع: "الطبقات أو الفاعل المفقود"
٢
انتهى الجزء الأول من هذه الكلمة إلى أن الطبقة عند ماركس "علاقة" وليست صنفا في رفوف دكان الاجتماع. وتماسك الطبقة كمفهوم لا يعود إلى إجمالي الأفراد ولا إلى علة خارقة فيها، ولا هي كذلك جملة علاقات بينية. الطبقة كما تتبع دانييل بن سعيد توجد فقط في إطار العلاقات الصراعية مع الطبقات الأخرى. والطبقة الاجتماعية في هذا التصور ليست حرزا ساكنا، كما الزريبة لكن الأقرب إلى مفهوم ماركس أن الطبقات المتصارعة، البرجوازية والبروليتاريا، في حالة تشابك كمي، والمفهوم من فيزياء الكم، ويتضمن استحالة تحديد أي عنصر من العناصر الكمية باستقلال عن العناصر الأخرى حتى وإن عزلت بين هذه العناصر مساحات شاسعة. وقضية التشابك الكمي هي أس التمايز بين الفيزياء التقليدية وبين فيزياء الكم وبذات القياس بين علم الاجتماع المدرسي وعلم اجتماع ماركس.
ميز دانييل بن سعيد بين الإثنين، علم الاجتماع المدرسي وعلم اجتماع ماركس، بقوله إن البحوث الاجتماعية تثمر معلومات مفيدة، لكن المعلومات ليست فكرا، والرصد ليس معرفة. استفاد دانييل بن سعيد هذا التصور الديالكتيكي من نقد آنتونيو غرامشي لكتاب بخارين "المادية التاريخية"، وعند غرامشي ليس تأطير علم اجتماع ماركس أو قل الماركسية أم قرون في جدول من القواعد أو المبادئ سوى ابتذال. وكتاب ماركس "رأس المال" بهذا التقدير فتح نظري قائم بذاته، حقق فيه صاحبه الانتقال من المجرد إلى الملموس بالتأليف بين متباينات. والملموس عند ماركس ليس الواقعة التجريبية التي تشغل الإحصائي وإنما تركيب مفهومي، فكرة متعينة، المحير الذي يغير اتجاه الزول في قولك "وقع ليك"!
تكشف الطبقات عن نفسها في وعبر حركة رأس المال. عرض ماركس لهذا المعنى في الفصل بعنوان "يوم العمل" من كتابه "رأس المال" (الجزء الأول، الفصل العاشر): "إن تحديد قاعدة ليوم العمل هو في تاريخ الإنتاج الرأسمالي مضمار للصراع حول حدود هذا اليوم، صراع بين رأس المال مجتمعا من جهة، أي طبقة الرأسماليين، والعمل كجماعة، أي الطبقة العاملة. وماركس إذن يحدد مستويان انتقل بينهما: مستوى العلاقات الاجتماعية مجردة وهو مستوى الإنتاج (رأس المال والعمل) ثم مستوى الطبقات الاجتماعية وهو مستوى الصراع حول يوم العمل، وهو انتقال يأخذ في الاعتبار الصراع الدائم حول تقسيم وقت العمل بين ما هو ضروري لسد تكلفة الإنتاج وما هو فائض"، يحصده الرأسمالي ربحا صرفا.
يعرض ماركس في موقع آخر من "رأس المال" (الفصل الرابع عشر حول "تقسيم العمل والصناعة") لما يقع على المنتج الصناعي من تدجين، تفرض عليه الصناعة الحديثة أداء مهمة جزئية ضمن عملية إنتاج سلعة ما مدى الحياة، مهمة تندبغ بها ذاته. وقارن ذلك بتوارث الحرف في مجتمعات سابقة، النجار والحداد والفران والبنا، إما تكلست وصارت طوائف متخصصة مهنيا أو نشأت عنها تحت شروط تاريخية أخرى روابط حرفية. يفصل ماركس أكثر في الذي يصيب المنتج الصناعي الفرد من أثر نزوع رأس المال نحو زيادة الإنتاجية الاجتماعية للعمل. وقال تنقلب وسائل تطوير الإنتاج أدواتا لاستغلال المنتجين والهيمنة عليهم فتحيل العامل إلى بعض إنسان، تحط من شأنه ليصبح ملحقا بالآلة، تدمر المحتوى الفعلي لعمله بتحويل العمل إلى شقاء وعنت، وتفاصل بين العامل والمحتوى الثقافي لعملية الإنتاج بذات القدر التي تستوعب به هذه العملية العلوم كقوة مستقلة، تمسخ الظروف التي يعمل فيها، وتخضعه خلال عملية الإنتاج إلى نظام تسلطي. بالمختصر تحول وقت حياته إلى وقت عمل. يُتَاتِي ماركس هذا المنتج الكسير، الإنسان المبتور، في نصه مَتَاتاة نحو أفق الطبقة بنت الصراع. يطرح ماركس تناقضات أحوال المنتجين ويجاهد فك طلسم تحريرهم وهو عنده مفتاح مستقبل البشرية دون أن يركن إلى تصور أسطوري لقدرات الطبقة العاملة. عند ماركس يختم القسر الصامت للعلاقات الاقتصادية ختمه بهيمنة الرأسمالي على العامل غصب كي:
"تنشأ عن تقدم الإنتاج الرأسمالي طبقة عاملة تعتبر بحكم تعليمها وتقاليدها وعاداتها مطلوبات نمط الإنتاج الرأسمالي قوانين طبيعية مبينة. يحطم تنظيم الإنتاج الرأسمالي، متى اكتمل نضجه، كل مقاومة...تحتم القوة القهرية للعلاقات الاقتصادية هيمنة الرأسمالي على العامل. يمكن ترك مصير العامل في الظروف المعتادة لقوانين الإنتاج الطبيعية هذه، فاعتماده على رأس المال، حيث تنشأ هذه القوانين من شروط الإنتاج نفسها وتضمن هذه الشروط استدامة سيطرة هذه القوانين".
يقارن ماركس في مواضع أخرى تطبيع القهر بحكم نفاذ قوانين الاقتصاد متى ما بلغت الرأسمالية النضج بنشأة الرأسمالية أول أمرها وقتما لم تجد البرجوازية بدا من الاعتماد الدائم على تدخل الدولة لفرض علاقات السوق الرأسمالي فرضا بالحديد والنار. لم يعش ماركس ليرى هذه الضرورة تتجدد باختراق السوق الرأسمالي لمجالات تتفتق باختراق الرأسمالية حاجيات تتلو حاجيات وسدها، تسد بتوسيع القد، بما في ذلك تسليع الشعور؛ كما لم يشهد ديمومة هذا الاختراق بحبس جغرافيات بحالها في تخوم النظام الرأسمالي خارج هذا العالم كمستودعات ضخمة للمواد الخام والبشر، تزازي بها الرأسمالية مزازاة.
على كل حال، يؤكد ماركس للمابيهو في أكثر من موضع مركزية "العلاقة" في تكوين كل من الطبقتين الرئيستين في النظام الرأسمالي، البرجوازية والبروليتاريا. يعرض في المجلد الأول من "رأس المال" لعلاقة الاستغلال، العلاقة الصراعية التي تربط بين العامل كمنتج والرأسمالي كرأسمالي علاقة موضوعها العمل الضروري وفائض العمل. ثم يعرض في المجلد الثاني لدورات رأس المال كتتابع لعمليات بيع وشراء العمل في سوق الله أكبر فتظهر علاقة الاستغلال كعلاقة بين العامل كونه أجير يبيع قوة عمله والرأسمالي كونه صاحب (رأس) مال، علاقة موضوعها المفاوضات بين الإثنين حول قوة العمل كسلعة، ومن ذلك:
"تنشأ العلاقة الرأسمالية حصرا في خضم عملية الإنتاج وإن كانت متضمنة في عملية التداول، في الظروف الاقتصادية المتباينة التي تحيط بمن يشتري ومن يبيع قوة العمل ويقابلون في كنفها بعضهم البعض، في علاقتهم الطبقية. لا داع لذكر أن المعادلة التي تحكم تداول المال كرأس مال ... لا تستقيم إلا على أساس علاقات رأسمالية تامة، لأنها تفترض توفر طبقة من العاملين بأجر بأعداد كافية منتشرين في المجتمع."
يعرض ماركس في المجلد الثالث من "رأس المال" لإعادة إنتاج رأس المال، ومتى ما أخذت القارئة بالثلاث قضايا مجتمعة، الإنتاج، والتداول، وإعادة الإنتاج، بان أن الطبقات لا يحددها حصرا استخلاص فائض القيمة أو التمييز بين العمل المنتج والعمل غير المنتج بل يحددها تواطؤ بين علاقات الاستغلال في الإنتاج، علاقة الأجر والعمل المنتج في مقابل غير المنتج في التداول، وتوزيع العائد في إعادة إنتاج رأس المال ككل. بذلك فإن من منطق "رأس المال" أن العاملين في حقل التداول (النقل والتجارة والترويج...الخ) ينتجون فائض قيمة لصاحب العمل ويقع عليهم ما يقع على أقرانهم الطبقيين من عمال الإنتاج من استغلال، تعلقوا الرأسمالية، بروليتاريا ولو كره العوضرازقية.
يختص المجلد الثالث بالدورة الرأسمالية ككل، إعادة إنتاج الرأسمال نفسه وديمومته، لكن لا يفصل في ظروف هذا التجديد الدائب ومنها التعليم والخدمة الصحية والإسكان وسواها من شروط الحياة والعمل، وهي مسائل لا سبيل لتقصيها دون معالجة دور الدولة الوسيط. يؤشر ماركس في هذا الاتجاه باصطلاحه على صيغ العمل "غير المادية" والتي يعتبرها ذات دور وسيط نحو الإنتاج الرأسمالي فيذكر في هذا الباب "مصانع التعليم" حيث ينتج المعلمون ليس بإزاء تلاميذهم ولكن بإزاء المؤسسة التعليمية. يستعد ماركس إذن في المجلد الثالث لتوطين الطبقات في نظامه، فمحدداتها التي تكشفت في المجلدين الأول والثاني استخلاص فائض القيمة في عملية الإنتاج وبيع قوة العمل في عملية التبادل في رباط والحركة الكلية للتنافس وبسط معدل الربح وتخصص رأس المال الوظيفي في هذا المجال وذاك وتوزيع العائد. ولا تتكشف حقيقة الطبقات سوى بإدراك هذا الكل الديالكتيكي، هذا بخلاف المفهوم الصوري الذي يرى الطبقة جملة من الأفراد يؤدون وظيفة اجتماعية واحدة. ويستحق شرح ماركس لهذه المسألة، وربما كتبه والقروح تمنعه الركون الهادئ إلى مقعده، الاقتباس كما هو:
"نخلص من الذي سبق شرحه (بخصوص بسط معدل الربح من خلال المنافسة) أن كل رأسمالي فرد، والرأسماليون جماعة، كل في مجال إنتاجه الخاص، يساهم في استغلال الطبقة العاملة ككل بواسطة رأس المال ككل، يساهم في مستوى هذا الاستغلال، ليس فقط من ناحية الولاء الطبقي في عمومه، لكن بصورة اقتصادية مباشرة. ذلك لأن متوسط معدل الربح يعتمد على مستوى استغلال العمل ككل بواسطة رأس المال ككل، ذلك بافتراض كل الشروط الأخرى بما في ذلك كفاية قيمة رأس المال الثابت الكلي. عليه، لدينا شرح حسابي دقيق لسبب وحدة الرأسماليين ككل، كأنهم طائفة ماسونية، في مقابل الطبقة العاملة ككل دون اعتبار لما يشوب علاقات الرأسماليين فيما بينهم من نقص للود ومنافسة." من ثم لا يمكن ابتسار العلاقات الطبقية في صيغة المواجهة المباشرة بين المدير والعامل في موقع العمل. الاستغلال عند ماركس ظاهرة اجتماعية تمور في باطنها المنافسة وبسط معدل الربح وتحديد زمن العمل الضروري اجتماعيا.
استفدت في هذه الكلمة من كتاب جون غريبين "البحث عن قطة شرودنغر: فيزياء الكم والواقع" (١٩٨٤، دار نشر بانتام، نيويورك) وكتاب كيفن آندرسون "ماركس ومجتمعات الأطراف: عن القومية والإثنيات والمجتمعات غير الغربية" (٢٠١٠، دار جامعة شيكاغو للنشر).
No comments:
Post a Comment