نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٧ بتاريخ ٢٥ أبريل ٢٠٢٤.
انهار في مارس الماضي توازن ضعف بين العصابات المسلحة والقوى الأمنية في عاصمة هاييتي بورتوبرنس لصالح الأولى واستطاع تحالف من العصابات بقيادة جيمي شيريزيه، الشهير بجيمي باربكيو أو جيمي مشاوي، أن يفرض سلطانه على العاصمة. فتح رجال العصابات أبواب السجون، وسيطروا على الميناء وأحرقوا مقار الشرطة والمحلات التجارية كما حاصروا المطار وشنوا حربا للنهب والسلب على الأحياء السكنية. هذه الفوضى عند جيمي مشاوي، الضابط السابق في القوات الشرطية الخاصة، هي عين التحرير، الذي قال هو هدف الثورة المسلحة على النظام القديم.
والنظام القديم عند جيمي مشاوي هو الفصل الأخير من تهافت طبقة الحكم في هاييتي والذي كانت بدايته اغتيال الرئيس جوفينيل موييز في يوليو ٢٠٢١ بيد فريق من المرتزقة ضمن مؤامرة طال فيها الاتهام زوجته حتى. بلغ رجل الأعمال موييز سدة الرئاسة بانتخابات كثرت فيها الطعون في نوفمبر ٢٠١٦، وهي انتخابات بديلة للانتخابات التي انعقدت في أكتوبر ٢٠١٥ وانتهت بخلاف مشهود على سلامة حسابها وتهم بالتزوير لصالح موييز حتى فرض المتظاهرون المحتجون على "الخج" إلغاءها بالمرة.
اختار موييز قبل اغتياله بيومين آرييل هنري رئيسا للوزراء، لكن وقف بينه وبين المنصب سلفه كلود جوزيف بعون قادة الجيش الهاييتي، وكلود جوزيف هذا هو المتهم الأول في اغتيال موييز. انتقل السلطان لآرييل هنري بفضل مجموعة من الدبلوماسيين سموا أنفسهم المجموعة المحورية، أولاد قلبا، ضمت السفراء المعتمدين لكل من الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، كندا، فرنسا، ألمانيا واسبانيا في هاييتي إلى جانب ممثلي الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية في البلاد. اجتمع رأي هؤلاء أن آرييل هنري، السياسي المخضرم وجراح الأعصاب، هو الأنسب لرئاسة الوزراء وأجبروا كلود جوزيف على التراجع. وعد هنري أول عهده بعقد انتخابات جديدة في أقرب فرصة وتوصل في ١١ سبتمبر ٢٠٢١ إلى تفاهمات مع قادة الأحزاب وقوى سياسية مهاجرة من ضمنها اتفاق على تشكيل حكومة انتقالية بالتراضي بين الجميع وتعيين لجنة انتخابية مؤقتة مهمتها تنظيم انتخابات عامة آخر العام ٢٠٢٢.
لكن سرعان ما عزل آرييل هنري أعضاء لجنة الانتخابات المتفق عليها من مواقعهم وأعلن تأجيل الانتخابات حتى إشعار آخر ثم أعلن حكومة جديدة في ٢٤ نوفمبر ٢٠٢١ بدون اعتبار لعهد ١١ سبتمبر ٢٠٢١. ثم عاد وجدد عهوده السياسية مع أحزاب معارضة وممثلين للمجتمع المدني في ٢١ ديسمبر ٢٠٢٢ واعدا بعقد الانتخابات في العام ٢٠٢٣ على أن تتولى حكومة منتخبة السلطة في فبراير ٢٠٢٤ ويقوم مجلس أعلى لشؤون الانتقال مكون من ثلاثة أفراد بالإشراف على الجهاز الحكومي والتعيينات في المناصب السياسية.
أعلن هنري في سبتمبر ٢٠٢٢ تخفيض الدعم الحكومي للوقود وكانت النتيجة مضاعفة أسعاره للمستهلكين وسيل من الاحتجاجات الشعبية. تمكنت العصابات المسلحة بقيادة جيمي مشاوي خلال هذه الاحتجاجات من إغلاق الميناء الذي يستقبل الوقود المستورد وتوجه هنري إلى المجتمع الدولي يطلب العون بما في ذلك العون العسكري. تجددت أعمال العنف وازدادت خطورة بهجوم ضباط البوليس المتذمرين من زيادة أعداد القتلى في صفوفهم برصاص العصابات على مسكن هنري في يناير ٢٠٢٣ وكان وقتها في موقع آخر فسلم. غادر هنري هايتي إلى غايانا في ٢٥ فبراير ٢٠٢٤ ومنها إلى كينيا لإكمال مفاوضات طالت حول نشر ألف ضابط بوليس كيني في بورتوبرنس للمساعدة على حفظ الأمن وأجبرته العصابات التي استولت على المطار والعاصمة على طلب الأمان في بورتوريكو.
لم تتمسك الولايات المتحدة ممثلة عن مجموعة أولاد قلبا كثيرا بحليفها هنري وناشدته بحسب متحدث الخارجية الأميركية في ٦ مارس ٢٠٢٤ "المسارعة بالانتقال إلى هيكل حكم جامع ومتمكن يقوم على وجه السرعة بمساعدة البلاد على الاستعداد لبعثة متعددة الأطراف للعون الأمني"، وأكدت أنها لن تقدم له أي عون لمساعدته على العودة إلى البلاد. ردد اجتماع دول الكاريبي (كاريكوم) في جامايكا الحكم الأميركي على هنري بصوت إقليمي فأعلن الوكيل المحلي اعتزال المنصب ثم استقالة حكومته متى ما اتفق الأطراف ذوي المصلحة على مجلس انتقالي للحكم بتمثيل واسع، كما ورد في الصيغة الأميركية المعروفة.
من جهته، ردد جيمي مشاوي، الذي بيده مصير العاصمة وأهلها، الوعيد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر وإبادة جماعية إذا ما عاد هنري إلى السلطة وطالب بضم شخصه إلى زمرة أصحاب المصلحة وفق العبارة الأميركية. قال رؤساء دول الكاريبي في نهاية قمتهم التي انعقدت في غياب هنري وفي حضور وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنهم يواصلون الجهود في البحث عن إطار سياسي صالح للانتقال السياسي يحقق المطلوب الأميركي في الإسراع بإكمال المهمة، قفل واحتفل. نال هذا الإعلان الرضى الأميركي فقالت الخارجية الأميركية أنها تساند "المقترح الذي تم إعداده بالتعاون بين كاريكوم [منظمة دول الكاريبي] وأصحاب المصلحة الهاييتيين للإسراع بتحقيق الانتقال السياسي عبر تشكيل مجلس رئاسي مستقل واسع التمثيل." وسيتشكل هذا المجلس الموعود من سبعة أعضاء كاملي الأهلية ومراقبين إثنين بما في ذلك ممثلين لعدد من التحالفات السياسية والقطاع الخاص ورجل دين واحد، وستكون مهمته الأولى الاستجابة للمطلوبات الملحة لشعب هاييتي بما يمكن من انتشار قوة لحفظ الأمن وتهيئة الظروف الملائمة لإجراء انتخابات حرة.
قال جيمي مشاوي لمراسل سي إن إن في مارس ٢٠٢٤ أن هدفه هو تغيير النظام في هاييتي وبناء هايتي جديدة، مهمة جند لها خلاف رجال العصابات خارج السجون أربعة آلاف آخرين خرجوا لتوهم عنوة واقتدارا من أكبر سجنين في العاصمة. لم تتحقق لمشاوي الغلبة ضد خصوم من عالم العصابات بيسر فقد قاتل على رأس عصابته لعدد من السنين ضد جماعات مناوئة في معارك حضرية بلغ ضحاياها في العام ٢٠٢٣ فقط حوالي الخمسة آلاف نفس، معظمهم من غير المسلحين. ولمشاوي غبينة مع هنري بين أسبابها أن مشاوي كان صاحب حظوة عند موييز القتيل، وبلطج رجال مشاوي لصالح موييز وتوسعت رقعة سيطرتهم في العاصمة خلال فترة حكمه حيث كانت مهمتهم قمع المظاهرات المعادية له، بخاصة من مدن الصفيح.
لكن اكتشف مشاوي بعد مقتل صفيه موييز أن هاييتي تحت حكم هنري وقعت في يد صفوة ثرية من أهل الحظوة علامتهم لونهم «الأخدر» الفاتح حتى القمحي بينما غالب أهل البلد من السود المظاليم، وحانت الساعة أن يتولوا أمرهم بيدهم. "أول ثورة نحتاجها هي ثورة في الذهن" فقد "حولت هذه الصفوة الناس إلى هُمّل تُبّع، ولا بد أن نحارب كل هذا، نحارب ونرفع وعي الناس، وهذا شغلنا في الأحياء الفقيرة." "نشرح للناس كيف ألقت بهم البلاد إل القاع، ومتى ما أدرك الناس أن الدولة هي المسؤولة عن أوضاعهم التي يعيشونها، لن يظل شخص واحد يريد أن تستمر هذه الأوضاع. إنها مسألة وقت." بل نسب مشاوي نفسه إلى مارتن لوثر كنغ وقال ثورته المسلحة ضد نظام هنري والنظام جملة قضيتها نصرة السود المستضعفين، لكن الفرق أنه يقاتل بالسلاح بينما عَفّ كنغ السلاح.
يكرر مشاوي في مقابلاته الصحفية العديدة: "لست لصا، ولست متورطا في الاختطاف، ولست مغتصبا، أنا فقط أخوض حربا اجتماعية." واقع الأمر، بدأ مشاوي مهنته الجديدة كزعيم عصابة بعد تورطه وهو بعد ضابط في البوليس عام ٢٠١٨ في مقتلة كبيرة في حي لا سالين بلغ قتلاها فوق السبعين ومغتصبات سبع وأربعمائة دار محترق. وتهيأ له بالسيطرة على أعظم عشوائيات بورتو برنس التحكم بالشوارع التي تحيط بالعاصمة وبالدرجة الأولى بإمدادات الوقود. جعل مشاوي من هذه السيطرة ريعا مدرارا تعاظمت به قوته العسكرية. فهو رجل عصابات ورجل أعمال وصاحب يد سخية كذلك، يعرفه أهل العشوائيات كمحسن يتكفل بمصاريف المدارس عن الأسر الأرق حالا، بيده عذابهم وبيده كذلك نجاتهم.
انقطعت عاصمة هاييتي بورتو برنس عن العالم منذ سيطرت عليها العصابات تحت إمرة مشاوي وحولتها إلى "سجن كبير" بحسب صحفي مرموق ظل مرابطا في موقع آمن جنوب العاصمة. تبخرت هياكل الحكم والنظام، أي نظام، وحولت العصابات وسط العاصمة إلى هياكل محترقة وأكوام من الركام. أعلنت النشرة الحكومية التي تصدر تحت ولاية الأمم المتحدة يوم ١٢ أبريل ٢٠٢٤ قيام مجلس رئاسي انتقالي من تسعة أعضاء، سبعة مكتملي الأهلية يحق لهم التصويت، كما في المقترح الأميركي، يتولى مهام قيادة الدولة حتى انتخاب رئيس في تاريخ أقصاه ٧ فبراير ٢٠٢٦. استبعد المجلس من عضويته جيمي مشاوي باعتبار العقوبات الأممية المفروضة عليه، وقالت النشرة الحكومية كذلك باستبعاد كل مدان أو متهم في جريمة وكل مناوئ لانتشار قوة أمنية دولية في هاييتي من الانتخابات، أصابع متعددة تشير إلى مشاوي وصفه. بل وضع أولاد قلبا شرطا لعضوية المجلس الموافقة المسبقة على القوة الأمنية الكينية المنتظرة.
جاءت ردة فعل مشاوي على هذه الإعلان بين المظلومية والإرهاب، قال عن المجلس إنه خبث غير شرعي من النظام السياسي الفاسد ونده لجنوده: "اقطعوا رؤوسهم وأحرقوا ديارهم"، شعار اختلسه من شعارات حرب استقلال هاييتي أواخر القرن الثامن عشر حتى النصر في يناير ١٨٠٤، الحرب التي صارت بها هاييتي أول دولة في العالم تبطل الرق إبطالا تاما. وشعار الثورة الذي اختلسه مشاوي يعود إلى جان جاك ديسالين، أول زعيم لهاييتي المستقلة، القائد العسكري الذي تآمر مع الفرنسيين لإبعاد بطل الثورة الأول توسان لوفرتر، الكاتب والمثقف، ولما تحقق له ذلك انقلب على الفرنسيين بقوة وهزم جيش نابليون. وتاريخ هاييتي المبكر نزاع بين هذا وذاك: لا لا لا، وي وي وي!