نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٢٥ بتاريخ ١٥ أبريل ٢٠٢٤.
تُسطّر التقارير الإنسانية الدولية الحرب كحد قاطع بين ضحايا وناجين، ينغ ويانغ، أرقام تتراكم من القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين والمغتصبات والمعتقلين والجوعى وغير ذلك من تقاسيم الهلاك والأذى. وجمع هذه الأرقام وترتيبها وعرضها صناعة بيروقراطية بحالها، هي بعض شغل المنظمات الإنسانية الدولية، صناعة نشأت من القوامة الحديثة على الأجساد، وتشمل تعريف هذه الأجساد ودمغها وقياسها وتصنيفها وفرز الصالح منها من الطالح. وقاعدة هذا القياس والتبويب في كل حال حرث قوة العمل، هل تبقى منها شيء في الجسد المتضرر يدر فائض القيمة أم انقطع ودخلت حساب الخسارة؟ أم هي كلها من فائض قوة العمل التي لا لزوم لها في حقيقة الأمر والواجب محاصرتها حيث هي حتى لا تتسرب إلى سوق عمل محروس بالديدبان فتفسد ميزان عرضه وطلبه.
يداخل المنطق الناظم للصناعة الإنسانية المنطق الناظم للشوكة في الدول الكبرى ولهذا الظل المشترك بين الإثنين اسم هو العقيدة في «المسؤولية عن الحماية»، الصيغة المعاصرة لعبء الرجل الأبيض وقوامته. لذلك قد ينتهي شاغل إنساني كبير إلى حملة حربية كبيرة، لا للحرب إلى نعم للحرب الأكبر. وأقرب مثال معاصر الحرص المعلن على مصير أهل بنغازي خلال الانتفاضة الليبية في فبراير ٢٠١١ الذي كانت ترجمته في قاموس «المسؤولية عن الحماية» قرارا من مجلس الأمن الدولي (القرار ١٩٧٣) في ١٧ مارس ٢٠١١ يخول الدول الكبرى شن حملة حربية على ليبيا، وحدث ما حدث. وهو ذات المجلس الذي لا يعنيه مقتل أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف فلسطيني في قطاع غزة بالآلة الحربية الصهيونية خلال الستة أشهر الماضية، بمعدل واحد من كل سبعين شخصا في القطاع.
لا غرو إذن أن الباب مفتوح على مصراعيه بين الوظائف العليا في المنظمات الإنسانية الدولية وبين مواقع المسؤولية السياسية في الدول الغالبة. انقلب الطبيب برنارد كوشنير، أحد مؤسسي منظمة «أطباء بلا حدود» ومنظمة «أطباء العالم» وزيرا لخارجية فرنسا (٢٠٠٧-٢٠١٠) في عهد رئاسة نيكولاس ساركوزي، واشتهر بحماس تبشيره بما يسمى "التدخل الإنساني»، فضرب الطبول للحرب على العراق وأنذر من موقعه كوزير خارجية إيران بحرب وشيكة ما ظلت خارج بيت الطاعة الغربي. كما تحولت سامانثا باور من سفيرة للولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة (٢٠١٣-٢٠١٧) إلى مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في ٢٠٢١، وكانت صعدت الدرج السياسي عبر الصحافة الحربية في حروب يوغوسلافيا لتشغل مواقع المسؤولية في إدارات حقوق الإنسان في الحكومة الأميركية خلال عهد الرئيس أوباما، ولها يُنسب إقناع أوباما بالتدخل الحربي في ليبيا.
لا تقع لذلك قارئة التقارير الإنسانية عن الحروب على معنى للأرقام التي تتراكم سوى السعادة بالنجاة أو الذنب بها، خاصة وهي تقرأ في الغالب من موقع لا يطالها فيه الأذى الحربي الذي يخلّف مثل هذه الأرقام أو في اتصال بشغل هذا الضرب من الصناعة، صناعة الإنسانية الدولية، وما يحيط بها من مؤسسات دولية وبيروقراطية ودبلوماسية. تتحايل مثل هذه التقارير على عقمها الشعوري بالصورة والرواية، خاصة إذا كان الغرض ما يسمى في عرفها «المناصرة». وتختار في الغالب صورا لعذاب الأفراد ومعاناتهم، بصرية وسردية، تعرضها كلحم دميم، مثلها مثل سحجات وكدمات متحدث «تقدم» التي قال لا يقوم الدليل «الإكلينيكي» على اغتصاب النساء إلا بها.
سرعان ما يثلم مثل هذا الترخص في عرض المعاناة بغير حوض حيوي من الاجتماع والثقافة ليصبح بورنوغرافيا حربية، قد تغري مشاهدتها لكن لا تورث عبرة ولا معنى. مدار البورنوغرافيا الحربية جسد الضحية المكشوف، لحمها العاري من أثر الجوع أو الاغتصاب أو اختراق الرصاص أوالقصف والحريق وصنوف لا تنتهي من الأذى. ووسيلتها، صورة وسردا، خبطا فوتوغرافيا، يؤبد لحظة سقوط الضحية ويكبت السابق واللاحق من الأجندة. فالضحية اسم في محل الرمز وعمر وإثنية ودين، أي هوية - خاصة إذا كانت هذه مسألة «المناصرة» - وجرح خرج ولم يعد أوصافه كالآتي...الخ. وكلما أوغل مثل هذا الجنس الفوتوغرافي، صورة وسردا، في التفاصيل كلما اقتم سطحه، تظليل دوكو لا يكشف سوى ربما حركة شبحية، والعلة ربما ديالكتيك الجاني والضحية الذي بين قطبيه الجناية.
كيف تعرض إذن صحافة دافعها الحب والتضامن الأذى الحربي دون أن تتدهور إلى بورنوغرافيا للضحايا؟ اكتشفت الأستاذة ملاذ عماد في بابها "أصوات تحت الحصار" ربما بفطرتها النسوية سهلا ممتنعا في هذه المسألة، لا تعرض فيه خلق الله كضحايا عراة من المعنى وإنما تذيع عنهم جهودهم البطولية لامتلاك زمام أمرهم في وجه قوى جبارة وذلك بعبارتهم ونحوهم وبلاغتهم دون تدخل من ناحيتها ولا تعليق. فهي تحجب حتى أسئلتها التي تفتح بها باب الكلام، ربما "كيف، تمام؟" و"عاملين شنو مع الاشتباكات؟"، وتترك الميكروفون مباشرة ودون تسويف لأصحاب الشأن. فوق ذلك لا تعرض من هويات أبطالها شيئا، إلا ما يتسرب خلسة في سياق لقاء أخوان في الإنسانية، جنس امرأة ورجل أو مهنة. تذيع الأستاذة ملاذ عماد أصوات يومية من جغرافية حربية، وتُخرِص بذلك النزع البورنوغرافي - ده منو؟ ماله؟ - لتحل محله أشاير الحياة النابضة. لا تقابل قارئة "أصوات تحت الحصار" أبطال الحرب هؤلاء في حبس الجاني والضحية في انتظار أن ينفجر الرأس برصاصة أو ينهد الدار على الأبدان بدانة أو تنهتك النفوس بعنف مغتصب في تلك البرهة الفوتوغرافية وإنما تقابلهم في سعيهم الحياة وجريان الزمن. تقابلهم القارئة في سوق الشعبية بشتروا كيلو لحمة عادي وصافي من الهادي بي خمسة وستة ألف، أو في بيوتهم وكت يكون في دانات كثيرة وبعملوا قراصة بسكر أو في المواصلات بين الحلة والصينية السوق المركزي أو في مداخل مستشفى الرازي والفؤاد وقد أغلقت أبوابها دون مرضاهم وصارت محتكرة لجنود الدعم السريع لا غير. حتى قتلى "أصوات تحت الحصار" لم تنقطع حياتهم بغير غرض فهم أسياد عربات الكارو الذين قبض عليهم الدعامة وقتلوهم لكسرهم الحصار على الفتيحاب بنقل المواد التموينية من الجبل عبر العشرة.
والحرب التي تنقلها "أصوات تحت الحصار" ليست حربا عبثية بين جنرالين وكفى كما في التصوير الكاريكاتوري الرائج، لكنها مقاومة من أجل الحياة تدور في الأفران والدكاكين والطواحين والجزارات والأجزخانات والتكايا، يبدأ فيها اليوم بتدوين المدفعية مع صلاة الصبح ويمر عادي جدا أحيانا، المحلات فاتحة والبضاعة متنوعة، والناس تتحرك عادي لحد المغرب، يسعى فيه عساكر الجيش أرزاقهم أحيانا بالبيع والشراء. فوق ذلك تكشف "أصوات تحت الحصار" عن قماشة مشتركة بين أبطالها حيثما كانوا، في مدن العاصمة وفي الأبيض وبابنوسة والجنينة والضعين والفاشر وود مدني وغيرها، في مقابل الموت الذي يتهددهم، موت الاجتماع، موت الحلة والأهل والأسرة والدفعة والأصدقاء بالدرجة الأولى ثم موت الفرد، قماشة ستر. ذلك في مواجهة قوة للموت المجاني، "رديت حتموت، اتلاءمت حتموت، قاويتهم في عربية لا غينمة ولا اتلايقت حتموت، كذبت عليهم حتموت، اتلولوت حتموت." ومن قماشة الستر هذه أحسن ما في "أصوات تحت الحصار"، ترجمتها للأمل كممارسة يومية، ليس هبة بين يدي دلالي سوق السياسة أو حربا أخرى تصدر أوامرها مثل سامانثا باور لكن همة للجماعة، "طلع العيش، والناس طحنتو وانتهت، الفول حيكون طالع الأيام الجاية والقمح اتزرع الحمد لله قبل الضرب دا يبدأ."
No comments:
Post a Comment