نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥٦ بتاريخ ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤.
ختم سلطان قصير لإمبراطور تولى العرش عام ١٩٠٨ في عمر العامين ألفي عام من التاريخ الإمبراطوري الصيني و٢٦٠ عام من حكم مينغ (١٦٤٤- ١٩١٢). وذلك يوم أصدرت الإمبراطورة لونغيو، الوصية على عرش الإمبراطور الصبي بويي ووالدته، إعلان تنحيه في ١٢ فبراير ١٩١٢. مثلت هذه الوقائع نهاية لعقد من الثورات والتمردات ضد السلطان الإمبراطوري وفي سبيل الجمهورية، بلغت الأوج في ثورة العام ١٩١١ المسلحة التي انتهت بتأسيس الجمهورية الصينية في ١ يناير ١٩١٢ وعاصمتها نانجنغ تحت رئاسة زعيم الحزب الوطني (الكومنتانغ)، صن يات صن. سرعان ما انشقت الحكومة المؤقتة التي قامت بمسؤولية الجمهورية كائتلاف بين الكتل السياسية المتناحرة. وأعلنت إحداها استعادة الإمبراطورية في ١٩١٥ ليسمي زعيمها يوان شيكاي نفسه امبراطورا. وكان يوان شيكاي هذا قائد جيش الإمبراطورية ورئيس وزراء دولتها حتى انقلابه عليها، وقامت الجمهورية في أولها عهدا بينه وبين زعيم الكومنتانغ صن يات صن.
لكن لم تنجح هذه العودة بالتاريخ القهقرى، عارض الجيش خطة يوان شيكاي كما عارضه عموم الناس. مات يوان شيكاي في ٦ يونيو ١٩١٦ وكانت النتيجة فراغا تفتت فيه الجيش الإمبراطوري إلى كتل متنازعة على رأس كل منها أمير حرب طموح لا يبلغه ضعفه محل بلغ طموحه. وانقسم الحكم بالدرجة الأولى بين حكم الكومنتانغ في غوانغزو جنوبا وعاصمته نانجنغ وحكم الجيش الإمبراطوري السابق (البيانغ) في الشمال وعاصمته بكين. استطاع شيانغ كاي شك، خليفة صن يات صن على زعامة الكومنتانغ، هزيمة أمراء الحرب خلال الفترة ١٩٢٦-١٩٢٨ وتوحيد البلاد مؤقتا تحت حكومة مركزها نانجنغ، العاصمة الجنوبية للإمبراطورية البائدة.
كانت الإمبراطورية اليابانية خصما للجمهورية في الصين، وزاد شهيتها التوسعية ما شهدته من تبذل أمراء الحرب عند موائد الدول الغربية، فوق غرور طوكيو الفائق بتفوقها العسكري على دولة مينغ في الحرب الصينية اليابانية الأولى (١٨٩٤-١٨٩٥) التي كان موضوعها السيطرة على كوريا. وكانت اليابان سبقت الصين وغيرها من الجيران في جنوب شرق آسيا على سكة التحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر في عهد ميجي الإمبراطور، ذلك من خلال إصلاحات تحولت بها اليابان بطفرة من مجتمع إقطاعي منعزل إلى دولة صناعية. ولذا استضعفت جيرانها واخترعت عقائد عنصرية تبرر هذا الاستضعاف وتشرع استحقارهم.
مثلت الموارد الطبيعية والعمل الرخيص مصادر لنهضة اليابان الصناعية، وكان تأمين هذه الموارد بالإضافة إلى الأسواق المفتوحة لبيع منتجاتها وتثبيط كل نهضة مماثلة تخلق منافسين لها في الإقليم أولوية سياسية وعسكرية. لذلك، تصيدت اليابان الأسباب لشن الحرب على جارتها الصين، فاجتاحت منشوريا في ١٩٣١ وأنشأت حكومة عميلة لها في الإقليم، ثم عبرت القوات اليابانية جسر لوغو فوق نهر يانغدينغ في ٧ يوليو ١٩٣٧ مبررها البحث عن جندي ياباني مفقود في مدينة وانبنغ واشتبكت مع قوات الجمهورية إيذانا ببداية الحرب الصينية اليابانية الثانية (١٩٣٧-١٩٤٥).
اجتاحت الجيوش الإمبراطورية اليابانية البر ثم الداخل الصيني الواسع الذي ابتلع خلال سنين الحرب ثمانية مليون جندي ياباني دون أن يستقر لهم ملك، فظل احتلال اليابان للصين ديان (نقاط) وكسيان (خطوط) دون أن ينفذ بسلطان، أزهقت في هذه المغامرة ٢٠ مليون من النفوس. كان هدف الجيوش اليابانية الأول السيطرة على العاصمة الجنوبية نانجنغ والجنوب الشرقي الغني أدنى حوش اليانغتسي، وقد تحقق لها هدفها. لكن، لم تنكسر المقاومة وتجددت في ووهان في الداخل بشوكة قومية ثم قومية وشيوعية.
نشأت في هذا التاريخ خطة ماو زيدونغ لتحرير الصين، وقال في تشخيصه عام ١٩٣٥ وقد احتلت اليابان منشوريا أن الصين ظلت لمئة عام تحت سيطرة شبه استعمارية تهيمن عليها عدة دول إمبريالية ولا تبلغ سوى شبه الاستقلال. وخطة اليابان تحويل كل الصين من شبه مستعمرة تتقاسم السيطرة عليها عدة دول إمبريالية إلى مستعمرة تحتكرها اليابان لنفسها. رفع حزب ماو، الحزب الشيوعي الصيني، وقتها شعار «الجبهة المتحدة» ضد الإمبريالية اليابانية، وقال الخيارات ثلاثة: المقاومة أو الاستسلام أو التردد بين الإثنين.
وضح ماو أن العمال والفلاحين يطالبون بالمقاومة وكذلك البرجوازية الصغيرة فقد نهضت بين الطلاب والموظفين وصغار المنتجين حركة معادية للإمبريالية اليابانية وشارك طلائعهم في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧. ثم تساءل عن موقع البرجوازية الوطنية وملاك الأراضي والبرجوازية العميلة لرأس المال الأجنبي (الكمبرادور) وأجاب أن كبار الملاك والكمبرادور انحازوا مبكرا إلى الإمبريالية فالثورة من أي نوع وصنف أهون عليهم من الإمبريالية، وشكلوا بذلك معسكر «الخونة» الذين اندمجت مصالحهم والإمبريالية. أما الرأسمالية الوطنية فقد كان فريق منها حليف في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧ وغادرت الحلف الثوري خشية على مصالحها وقت اشتداد الأزمة. وميز ماو بعقيدته في الثنائية التي تشق كل واحد، الرأسمالية الوطنية، التي قال هي أقل إقطاعية من الملاك وأقل كمبرادورية من الكمبرادور، بين فريقين، فريق عظيم المصالح ورأس المال الأجنبي وملاك الأرض الكبار، وفريق قليلها.
وقال هذا الفريق الثاني، قليل الارتباط برأس المال الأجنبي، سيرتبك، فهو من ناحية لا يحبذ الإمبريالية لكنه كذلك يخشى الثورة. ولذا شارك هذا الفريق في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧ ثم تحول في آخر الأمر إلى حلف الكومنتانغ وتحلل من عهده مع الطبقة العاملة. لكن لم يفز هذا الفريق من الرأسمالية الوطنية بأي مكسب يذكر، بل هدمت الإمبريالية اليابانية كل ما شيدته الرأسمالية الصينية من مصالح تجارية وصناعية وتركتها «مفلسة»، ولذلك الأقرب أن يلتحق هذا الفريق وإن تلكأ بصفوف «الجبهة المتحدة» ضد الإمبريالية اليابانية.
في مقابل ماو وحزبه الثائر، قام الاحتلال الياباني فوق الشوكة الحربية على شبكة واسعة من «المتعاونين»، أغلبهم من حطام النظام السياسي القديم: موظفين سابقين في البلاط الإمبراطوري تقطعت بهم السبل، وضباط سابقين في جيشه تحولوا إلى أمراء حرب ثم وكلاء كما تيسر، وسياسيين تفرقت أحزابهم أيدي سبأ بقيام الجمهورية الموحدة في ١٩٢٨، ومنشقين عن الكومندانغ لم يجدوا المواقع التي أملوا فيها وقت قامت الجمهورية الجديدة في العام ١٩٢٨، ومغامرين وجدوا في الجيش الياباني مركبا نحو سلطان ما، وطيف واسع من المغتربين الصينيين «خبراء الصين»، محترفين للسياسة مجالهم الحيوي اليابان وحواضر جنوب شرق آسيا بخاصة في سنغافورة وماليزيا.
نشأت من أخلاط من هؤلاء لجان للحكم وكيلة للاحتلال الياباني على أن تتشكل من هذه اللجان حكومة جديدة موالية لليابان تحل محل الجمهورية. تأسست فعلا في ١٤ ديسمبر ١٩٣٧ «الحكومة المؤقتة لجمهورية الصين» في بكين تحت إمرة جيش شمال الصين الإمبراطوري الياباني. وما إن سقطت شانغهاي ونانجنغ تحت الاحتلال حتى شكل الجيش الغازي، جيش وسط الصين الإمبراطوري الياباني، حكومة أخرى تحت إمرته في ٢٨ مارس ١٩٣٨، «الحكومة المعدلة لجمهورية الصين». ثم قامت عدة حكومات إقليمية أخرى في غوانغزو وفي ووهان حيثما سيطر الاحتلال وكانت النتيجة جهاز حكم خاضع للسيطرة اليابانية متعدد المراكز.
وجد الغزاة اليابانيون ضالتهم في وانغ شن وي (١٨٨٣-١٩٤٤)، الذي بدأ سيرته في صفوف الكومنتانغ يتطلع إلى وراثة زعامة الحزب بعد صن يات صن. ولما مات الأخير في ١٩٢٥ حنق على خليفته شيانغ كاي شك وأعلن في ووهان حكومة مناوئة للجمهورية. ثم طلب ود الشيوعيين خصوم الكومنتانغ ولما فشلت مؤامرته تحول إلى عدو لدود للشيوعيين. وعندما اجتاحت الجيوش اليابانية الصين كان رأيه أن الصين أضعف من أن تقوى على مقاومة اليابان التي حققت بإصلاحات ميجي «التقدم» الذي عجزت عنه الصين الكسيحة، فلا طائل من الحرب ضد اليابان المنيعة، والأسلم طلب السلامة والتفاوض مع اليابانيين على أي اتفاق يحفظ «استقلال» الصين. انشق وانغ بآخر أمره عن الكومنتانغ بحزب يخصه في ديسمبر ١٩٣٨ وسلم أمره لليابانيين. وكان شرطه للتعاون أن تنصبه طوكيو رئيسا لحكومة تجمع شتات الحكومات.
عليه، وحدت طوكيو بين جيوشها في الصين لينشأ عنها جيش استكشاف الصين في سبتمبر ١٩٣٩ وشكلت في ٣٠ مارس ١٩٤٠ حكومة ائتلافية برئاسة وانغ جمعت فيها كل «المتعاونين» معها، انحصر سلطانها بطبيعة الحال في المناطق الخاضعة للاحتلال الياباني. كانت مهمة حكومة وانغ هي تجريف المقاومة للاحتلال الياباني في الريف الصيني، إما بالإرهاب الدموي كما كان الحال في الشمال الصيني أو بتمكين الموالاة في أدنى حوض اليانغتسي الخصيب.
نجا وانغ من محاولتي اغتيال، الأولى في ١٩٣٥ خلال اجتماع للجنة المركزية للكومنتانغ والثانية في العام ١٩٣٩ خلال زيارة له لهانوي وهو يبشر بالاستسلام لليابانيين. لكنه مات بالورم النقوي المتعدد، سرطان من أصناف السرطان التي تصيب خلايا الدم البيضاء، ذلك في العام ١٩٤٤ وهو يستشفى في اليابان، عام قبل انهزامها في الحرب العالمية الثانية، ودفنه أنصاره في جنازة مهيبة كشهيد. اندحرت اليابان في الحرب العالمية الثانية وفاز جيش الكومنتانغ باليد العليا في الصين أول الأمر فدخل نانجنغ فاتحا. فجر جنود الكومنتانغ قبر وانغ «الخائن» تفجيرا وحرقوا ما تبقى من جثته. وصدر تاريخ ساخر عنه في كراس عام ١٩٤٥ بعنوان «التاريخ الذميم للخونة» جاء فيه أن زهر البرقوق بكى حرقة عندما دفن وانغ في جواره. وكتبت صحيفة في شانغهاي أن روح صن يات صن استقبلت روح يانغ في العالم الآخر بهجوم شرس فطفق يبحث عن الحماية عند اليابانيين فلفظوه وردوه خائبا، وظلت روحه تهيم على وجهها لا تعرف لها مستقرا ولن تعرف إلى الأبد.
اعتمدت في كتابة هذه الكلمة على مقال ديفيد سرفاس «التعاون وبناء الدولة في الصين: تعريف دولة الاحتلال، ١٩٣٧-١٩٤٥»، مجلة «الصين في القرن العشرين»، م ٤٧، العدد ١، يناير ٢٠٢٢، ص ٧١-٨٠؛ وكتاب ديفيد باريت ولاري شيو «التعاون الصيني مع اليابان، ١٩٣٢-١٩٤٥: حدود التسوية»، دار نشر جامعة ستانفورد، ستانفورد، ٢٠٠١؛ ومقال ماو زي دونغ «حول التكتيكات ضد الإمبريالية اليابانية» [١٩٣٥]، الأعمال المختارة، م ١، دار نشر اللغات الأجنبية، بكين، الصين، ١٩٧٥؛ ومقال جيريمي تيلور «من خائن إلى شهيد: دروس مستقاة من وفاة وجنازة وانغ شن وي، ١٩٤٤»، مجلة التاريخ الصيني، م ٣: ١٣٧-١٥٨ (٢٠١٩).
No comments:
Post a Comment