نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٥٧ بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠٢٤.
نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في أكتوبر الماضي «ورقة بحثية» للدكتور فولكر بيرتس، المسؤول الأول في «بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لتقديم المساعدة خلال الفترة الانتقالية في السودان (يونيتامس)» لخص فيها ما استفاد من مهمته في السودان لانتقالات قادمة تحت عنوان «انتقال السودان نحو الحرب وحدود المساعي الحميدة للأمم المتحدة». قامت البعثة التي تولى أمرها الدكتور فولكر بيرتس في يوليو ٢٠٢٠ على إثر طلب من حكومة السودان وانحلت ولايتها في فبراير ٢٠٢٤ بطلب من حكومة السودان. جمع بيرتس في كلمته الطويلة نسبيا، والمكتوبة بضمير الأنا، فعلت وتركت، للعارفة بهذا التاريخ القريب بين «مرافعة الدفاع» و«النقد الذاتي». وتمييز «ورقة بحثية» ربما مجاملة مستحقة لأكاديمي مخضرم وأستاذ للعلوم السياسية ومؤلف غزير الإنتاج شغل منصب مدير هذا المعهد لخمس عشرة سنة خلت (٢٠٠٥ – ٢٠٢٠) قبل أن يتحول إلى دبلوماسي دولي.
أول ما بدأ به بيرتس كلمته هو حساب العلل الباطنة فيها وحالت ربما دون تحقيق أهدافها الأربعة، فانتهت إلى مربع الحرب، ما يعرف في رطانة الأمم المتحدة بالتفويض ونصه: "المساعدة في الانتقال السياسي والتقدم باتجاه حكم ديمقراطي وتعزيز حماية حقوق الإنسان واستدامة السلام بما يستجيب للأهداف رقم ٥ و١٠ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة، ولا تسألني ما هي؟]؛ دعم مسارات السلام وتنفيذ اتفاقيات السلام المستقبلية، بما يستجيب للأهداف رقم ٨ و١٠ و١١ و١٢ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة]؛ تقديم العون لبناء السلام وحماية المدنيين وسيادة القانون، وعلى وجه الخصوص في دارفور وفي المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) بما يستجيب للأهداف ٥ و١٠ و١١ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة]؛ دعم إتاحة المساعدات الاقتصادية والتنموية، وتنسيق المساعدات الإنسانية من خلال ضمان نهج تكاملي لوكالات الأمم المتحدة والتمويل والبرامج المتاحين من خلالها؛ ومن خلال التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وبما يستجيب لجميع أهداف التنمية المستدامة."
فصل بيرتس بين ثلاث مراحل لبعثته: الشراكة المدنية العسكرية حتى الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ما بعد الانقلاب، والحرب بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع، وقال قدمت بعثته مساعيها الحميدة في دور الميسر والميسر الشريك بخاصة في مرحلة ما بعد الانقلاب وإن كان تفويضها لا ينطبق حرفا سوى على المرحلة الأولى. وترجمة ذلك أن البعثة انشغلت بما لا يعنيها بنص تفويضها. ثم أضاف أن البعثة لم تكن مفوضة ولا قادرة على «حماية المدنيين»، وإن توقع البعض بغير دليل أنها جاءت لتحل محل بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي المشتركة في دارفور (يوناميد). فشغلها بنص تفويضها وبممارسة المرحلة الأولى علاقات عامة، "سعت إلى بناء علاقات مع السلطات وأطراف سياسية واجتماعية فاعلة، وأطراف أخرى إقليمية ودولية، وساعدت الحكومة الانتقالية على تعريف أولوياتها بما في ذلك تطبيق خطة قومية لحماية المدنيين، والإصلاح القانوني، وبناء قدرات جهاز البوليس والقضاء والتخلص من الألغام. كما عملت جاهدة مع مجموعات النساء ومجموعات أخرى من المجتمع المدني وساهمت في دعم الحوارات بين المجتمعات."
شاهد الوقائع لكن أن دور مسؤول البعثة الأول فولكر بيرتس لم يقتصر على العلاقات العامة، فقد كان وبعثته طرفا مؤثرا في الصراع السياسي المحتدم ما قبل الانقلاب في ٢٠٢١ وما بعده، وإن قال وكرر أنه محض ميسر لعملية سياسية يمتلك زمامها أمرها السودانيون. شرح بيرتس أن بعثته كانت فقيرة جدا بالمقارنة مع مليارات يوناميد وحشودها من القوات والموظفين، فلم تتجاوز ميزانيتها ٣٤ مليون دولار في العام ٢٠٢١ بجهاز بشري عدده ٣٢٠ موظف سوداني وغير سوداني بما في ذلك ٢٨ مراقب عسكري و٤٢ ضابط بوليس من غير السودانيين.
سرد بيرتس بإسهاب ضمن تاريخ انتقائي للفترة الانتقالية تركيزه فيه على الأنواء السياسية أنشطة للبعثة كان هو بطلها احتسبها «مساعي حميدة»، وللتذكير ضمن تفويضها ما قبل الانقلاب وخارج تفويضها نصا ما بعد الانقلاب. قال تدخلت البعثة بإحسان لتيسير دورة من المباحثات بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) جناح الحلو، وشاركت في تمويل ودعم أعمال اللجنة الدائمة لوقف إطلاق النار في دارفور، وهي ضلع من هندسة اتفاقية جوبا للسلام – مسار دارفور. وقال دعت البعثة إلى «خفض التصعيد» في أعقاب انقلاب المدرعات وانشطار الحرية والتغيير فريقين ثم اعتصام القصر. وأضاف أن الجميع، عسكريين ورئيس وزراء وسياسيين في الحرية والتغيير وقادة الحركات المسلحة، استقبلوا هذه المساعي الحميدة بترحيب، بل حملوا البعثة ومسؤولها الأول رسائل لبعضهم البعض. أضاف بيرتس أنه توسل شخصيا القيادة العسكرية أن تعزف عن أي خطة انقلابية فالأمم المتحدة والفاعلين الدوليين الآخرين سيسمون الانقلاب انقلابا!
كتب بيرتس أن الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ أنهى الشراكة المدنية العسكرية وأجهض الانتقال السياسي، ومن ثم لم يكن لبعثته غرض بحرف تفويضها، فأعادت تعريف أولوياتها وصارت «المساعي الحميدة» هي شاغلها الأساس. ثم عدد من بعد ذلك محطات لهذه المساعي: مشاورات حول العملية السياسية استمرت ستة أسابيع في يناير ٢٠٢٢، والآلية الثلاثية التي ضمت البعثة والإيغاد والاتحاد الإفريقي بغرض تشجيع الحوار بين الأطراف العسكرية والمدنية، ثم ورش العمل الخاصة بالاتفاق الإطاري. وقال بيرتس في هذا الصدد أن سياسيي الحرية والتغيير المجلس المركزي عبروا عن توقعهم أن تلعب الولايات المتحدة «دورا قويا خلف الكواليس» لإيجاد حلول للأزمة الماثلة، بحسبان أن شوكة الولايات المتحدة أعظم أثرا من الأمم المتحدة وسواها من الفاعليين الدوليين.
فضل بيرتس أن يميز لنفسه دورا فوق دور بعثته فقال إنه شخصيا ظل على اتصال وثيق مع رئيس الوزراء حمدوك ومع البرهان وقادة الجيش. وقال أسر له البرهان في آخر ٢٠٢٢ خلال مشاورات حول الاتفاق الإطاري أن الوقت صار مناسبا لاستئناف الانتقال وفض الانقلاب. وقرظ تقريظا شديدا "المشاورات السياسية" التي قامت بجهد من البعثة وقال شملت ١١٠ اجتماعا مع أكثر من ٨٠٠ شخص، ممثلين عن المجتمع المدني والحكومة والأحزاب السياسية والحركات المسلحة ومجموعات النساء ولجان المقاومة وجماعات المال والأعمال، والمجموعات الرعاة، والنازحين والمنظمات السودانية في المهاجر وخلافهم، سمك لبن تمر هندي. لكن أعيت «الاصطكاكة» التي غلبت على هذه المجهودات بلاغته، فهذا الطرف رفض وهذا قاطع وهذا تمنع وذاك تشكك.. الخ. واختار أعمال نقابة المحامين والاتفاق الإطاري كأفضل ما خلصت إليه مجهودات عديدة فيها المتوازية وفيها المتناقضة خلاصة لكل ما سبق، فهي الأوسع والأشمل وإن قاطعتها الكتلة الديمقراطية ولجان المقاومة دع عنك "المؤتمر الوطني المحلول وطوائف أخرى ومجموعات ذات صلة بنظام البشير السابق." وللقارئة أن تتعاطف مع الدكتور بيرتس الذي قال أنه أصبح هدفا لتهديدات طالت شخصه في لحم ودم من «الحركة الإسلامية» بقيادة علي كرتي وعناصر أخرى ذات صلة بنظام البشير ما أن اقتربت ثمرة الاتفاق الإطاري أن تنضج في اتفاق نهائي أخير.
عرض الدكتور بيرتس الخلاف حول «الدمج»، مقدمة الحرب، في صفحتين كأنهن انتزعن من تقرير لمراسل صحيفة أجنبية يتعرف لتوه على السودان لكن مجتهد. وأضاف أنه من موقعه كممثل للأمين العام للأمم المتحدة حذر مجلس الأمن من «توترات متصاعدة بين المكونين العسكريين» منذ بداية العام ٢٠٢٣، وطلب من دولتين، لم يسمهما، التدخل بإحسان للتوسط بين قائد الجيش وقائد الدعم السريع. ثم جاء بروايات ثلاث عن "الطلقة الأولى" وظنون حول كل رواية، بعضها من «قوالات» ضباط معاشيين. انتهى هذا القسط من كلمة الدكتور بيرتس بأن قفز من ظله فانتقل من ضمير الأنا الذي التقى به البرهان وانخرط في مشاورات مع الأطراف وحذر مجلس الأمن إلى ضمير الغائب فقال عن نفسه وبعثته: «لم يؤد غياب رئيس البعثة عن السودان ونزع الاعتراف به من قبل أحد الطرفين المتحاربين إلى القضاء على وظيفة يونيتامس في المساعي الحميدة وإن أقعدت بها." ويلههم الأمل.
ما العبرة إذن؟ انتقل الدكتور بيرتس في باب الدروس والعبر إلى مقعد التصحيح، فالمجتمع الدولي هو الذي فعل وترك، أما البعثة ورئيسها فصحيفة من «المساعي الحميدة». قال أساء المجتمع الدولي تقدير بأس القوى المعارضة للانتقال السياسي، وعين الإسلاميين وأطراف أخرى ذات صلة بالنظام السابق، ثم قال كانت البعثة فقيرة قليلة الموارد وانتهى إلى أن التوقعات المنتظرة من البعثة فاقت قدراتها، ثم ختم بتقريظ أخير فكتب أن تجربته شاهد على قدرة بعثة سياسية صغيرة نسبيا على التلاؤم وبيئة متغيرة ووقائع غير منظورة.
انعقد منطق كلمة الدكتور بيرتس على تناقضين إثنين، فهما الخيط الناظم لتحليله وقوام عقيدته، الأول بين العسكريين والمدنيين، والثاني بين مدنيين مساندين للانتقال الديمقراطي وآخرين معادين له، ثم تقاطع هذا وذاك حتى صفى عنده مربع من المدنيين المساندين للانتقال الديمقراطي، هم حزب الخير الذي يستحق رافعة يونيتامس والمجتمع الدولي وما زال، حزب طرد منه «الشارع» ولجان المقاومة وقوى أخرى لم يهضمها. لكن غاب عن الدكتور بيرتس أن يأخذ من تجربته وما شهد بالقناطر المفتوحة بين مربعات هذه الخريطة الذهنية أو ربما إعادة رسمها، فعلة يونيتامس ورئيسها بالزبط في العجز عن التلاؤم مع بيئة متغيرة وظروف غير منظورة، عكس ما إنك. تقدم الدكتور بيرتس لوظيفة رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان لما رأي في نفسه من كفاءة لمهمتها ونال الوظيفة وكسب أجرها وفوائدها، وكان طرفا فاعلا عالي الصوت كثيف الحضور في صراع انتهى بالحرب وتقع عليه مسؤولية ردها في آخر كلمته إلى ضمير الغائب. وليس ثمة محكمة للمسؤولية السياسية يكمن أن يجرجر إليها تربال في بحر أبيض مثل الدكتور بيرتس. ولا يقرأ التربال انجليزية الدكتور بيرتس الناصعة في مرافعته عن نفسه. وليس الدكتور بيرتس هو الطرف الذي يستحق المناقشة والحوار حول مستقبل السودان، حربا أو سلما، في ساعة الضيق والعنت هذه، فلا هو من أهل الجمرة ولا هو واطيها. لكن، ربما قرأ الدكتور ضمن ما قرأ وهو محسن للعربية الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».
No comments:
Post a Comment