Monday, 27 January 2025

مدن من هذا الخيال المشترك

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد  ٦٠ بتاريخ ٩ يناير ٢٠٢٥

إبراهيم عوض: نحيي الاخوان الذين أتوا إلينا من كوستي إلى أم درمان. لهم التحية. ونيابة عن العريس. لمشاركتهم لينا هذا الحفل الجميل الصغير المتواضع. وكما علمت طبعا إنو الأخ بشير صاحب أغنية «سلوى» من أبناء كوستي. بالنيابة عنهم أنا أتقدم بأغنية «سلوى» لأنهم من ناس كوستي طبعا.

الجمهور: أوووو

إبراهيم عوض: شايف، العنصرية ظهرت أهي! ها ها ها... نغني أغنية «سلوى» إرضاءً لخاطر أخوانا وأخواتنا لأنهم بكرة طبعا بكرة حيسافروا بكرة لي كوستي. 

الجيتارات والجمهور: تا ررررم، ورا، تا ررررم، ورا...

والكمنجات والترومبيت.


إبراهيم عوض: وووو، وووه... حاجة تمام. 

ويغني الفنان الذري «سلوى» لصاحبها بشير عبد العال، الشاعر والملحن والمطرب، من أبناء كوستي، والأغنية معروفة. 

قدر المرحوم إبراهيم عوض في مقدمته لأغنية «سلوى» في حفله يومها في بقعة أم درمان أن لأهل المدن عنصرية، هي بعض ولاءهم للجغرافية الاجتماعية التي هي مدينتهم، عنصرية يضحك بها المتحدث ويسلخ النكت، تظهر للعلن في تقاطع الدروب بين مختلفين. ومن ذلك ما قام في الحفل بين أهل العريس وجماعته من كوستي وقوم العروس في البقعة من تفاخر وكيد بالأماكن. وهي بذلك ليست عنصرية من حيث المحتوى لكن تعزيرا كما في اصطلاحنا «أخدر»، عنصرية أو قل عصبية خضراء. تقع القارئة على مثلها في جنس كتابي قوامه ذكريات المدن في الصحف السيارة يضم بالضرورة إعلانا مثل "كوستي مدينة استثنائية". 

وكل مدينة بقياس المحب استثنائية، فعند طارق عبد الله الريح (جريدة الصيحة، ٢١/٨/٢٠٢٢): "وحقيقة مدينة كوستي تعج بالمبدعين من فنانين وشعراء وأدباء وموسيقيين والحلة الجديدة معقل الفن والإبداع الفنان الجميل الخلوق هاشم محمد إسماعيل والنور عبدالعال وبشير عبدالعال والموسيقار الراحل حمودة عبدالباقي والموسيقار الراحل عبدالله عمر الشهير باسم عبد الله بيز والموسيقار الراحل الأستاذ قمر حمودة والموسيقار العظيم الراحل الأستاذ إبراهيم الجاك والموسيقار عمر حسن محمود عمر كوستي والموسيقار الفخيم الأستاذ هاشم أحمد سالم والراحل عبدالرحمن يوسف والفنان الراحل عادل فراشه والموسيقار الراحل علي الحريري من أمهر عازفي آلة الأكورديون وأستاذنا الموسيقار الفخيم الخلوق محمد علي حسين زمبا أستاذ الأجيال والمربي الفاضل والموسيقار محمود عثمان يابس وشقيقه التجاني عثمان يابس والموسيقار عامر شاويش والموسيقار الجميل بشرى بشير أيقونة الوسط الفني بكوستي والموسيقار الراحل أستاذنا رمضان أبوجي والموسيقار الجميل طارق عبدالرحيم عازف الجيتار المميز ورفيق دربه الموسيقار عادل عوض الله والموسيقار حيدر عوض بوب والموسيقار الدكتور محمد العصامي عوض والفنان عادل صديق وأشقائه عبدالله صديق وعمر صديق والموسيقار الفخيم حسن التوم والموسيقار عبدالمنعم ترنتي والقائمة تطول."

وستجد القارئة عن كل «قرية» باللفظ القرآني مثل هذا البذل "الفخيم" بعبارة كاتب كوستي، يطرى فيه الحبان بسليقة انسيكلوبيدية على طريقة «موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن» للمرحوم عون الشريف قاسم أو إن طلبت نسبا أقدم «طبقات ود ضيف الله في أولياء وصالحين وعلماء وشعراء السودان»، وإن خلت من تبويبهما. إلا أن عناصره الزهو الحضري بالفنانين والأدباء والمدرسين والموظفين وغيرهم من أعلام الحضر. وهنالك من أحسن فأخرج تاريخا غير مدرسي أو تاريخ روائي على ذات النسق أو ما يشابهه، فتقرأ من المرحوم الدكتور سعد محمد أحمد سليمان «الخرطوم عبر العقود: النشأة والتطور ١٨٢١ ١٩٧٠» (دار السداد، الخرطوم، ٢٠٠٦)، ومن الأستاذ أحمد عبد الوهاب محمد سعيد «الخرطوم أيام زمان: ذكريات وخواطر عن الخرطوم» (منشورات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية، الخرطوم، ٢٠٠٥)، وعند شوقي بدري «حكاوي أم درمان» (الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، ٢٠٠٩)، وعند محمد فقير «نوافذ على الأمس» عن جزيرة بدين ونواحيها (دار عزة للنشر، الخرطوم، ٢٠١٦)، وعند الدكتور عون الشريف قاسم «حلفاية الملوك التاريخ والبشر» (دار جامعة أم درمان الإسلامية للنشر، أم درمان، ١٩٨٨) وعند أمير تاج السر «مرايا ساحلية: سيرة مبكرة» عن مدينته بورتسودان (المركز الثقافي العربي، بيروت، ٢٠٠٠)، وغيرها كثير. 

انتقل هذا الجنس الكتابي في عصر الإنترنت ما قبل الفيسبوك إلى منصات للدردشة على مثال سودانيزأونلاين، ثم بعد أن حل الفيسبوك وسكن إلى مجموعات بعناوين مثل «صور ووثائق وحكايات كوستي القديمة والتاريخية» أو «ملتقى أبناء البسابير» أو «ملتقى أبناء وبنات قرية الحليلة الحلاوين». وهو تحول في الهيئة تضمن محتوى يطابق صيغ تنظيمية سلفت مثل «نادي ومجمع أوسلي بأم درمان» أو الروابط المشهورة في الجامعات على صورة «رابطة أبناء عديلة بالجامعات والمعاهد العليا». 

من ثمرة هذا الجنس الكتابي أنه يكشف للقارئة طرفا من «آيديولوجيا» الحياة اليومية في المدينة بمنظار عصبية خضراء، ففيها تقع على خيال وانحيازات وتفضيلات ومنتخبات محكية في صيغ تلامس الأسطورة البطولية من نسيج التاريخ الشفاهي مما يرويه الناس عن أنفسهم ويتحور مع الزمن وتعدد الرواة. ومزج أمير تاج السر كما شوقي بدري في تواريخهما الروائية لبورتسودان وأم درمان هذه المحكيات مزجا إبداعيا وذكرياتهما الشخصية لا يفسد للتاريخ غير المدرسي مسألة، بل يثريه، لأن قضيته سوى الوقائع تاريخ الخيال. لذلك ربما، شبه هلال زاهر الساداتي في مقدمته للطبعة الثانية لكتاب شوقي بدري «حكاوى أم درمان» الكتاب بشغل مارك توين في «مغامرات توم سوير» و«هكلبري فن»، وكتب أحمد عبد المكرم في مقدمته لذات الكتاب: "وتظل في النهاية مثل هذه الكتابات تؤكد أهميتها الأدبية لما تحمله من قيمة معرفية، غاية في الأهمية، عن دقائق التكوين النفسي والمزاجي والسلوكي وحتى نمط الذهنية وآليات التفكير في شخصيتنا الوطنية، ذات المرجعيات المتعددة ثقافيا وحضاريا."

تجد القارئة إذن في هذه المصادر عرضا للعصبية الخضراء التي أضحكت إبراهيم عوض، عصبية تفتقت في أوار ثورة ديسمبر عن «لجنة المقاومة» ست الاسم، ثم في ساعة النزال الحربي، والرؤوس تدور، عن الحمية التي وقفت بها فاشر الميرم عصية بعبارة مقاتليها، ستالينغرادية في وجه حصار وهجوم الدعم السريع المستمر لشهور متطاولة على الحي والميت. ومن عافت القتال وقد وقع تجد ذات الحمية تثير بسالات نادرة لمثل فريق الكهرباء الذي استعاد النور في سنار وسنجة غصب كي، لا من ولا أذى؛ وأطباء مستشفى الأبيض التعليمي وعلماءه، أمل خليل محمد والدسوقي حسن حميدة وأحمد ميرغني علي وحسين أحمد، الذين وجدوا فسحة في أنفسهم تحت القصف أن يدرسوا بالكشوف المعملية والإحصاء خلال أغسطس ٢٠٢٤ الزيادة في أعداد مرضى السل وأجناسه وخرج شغلهم في ورقة علمية محكمة في مجلة كوريوس (م ١٧، ع ١، يناير ٢٠٢٥)؛ وجراحي مستشفى النو، أمين ياسين ومؤمن محمد ومعتز حامد، الذين شمروا بعد غسيل بموية الجركانات وقد انقطع ماء الماسورة تحت القصف المدفعي ودانات الهاوتزر، عن حذق جراحي أسعفوا به رضيع في عمر ثلاثة أشهر بعيب خلقي نادر نشأ به طرف يشبه الساعد في غير موقعه، من ظهر الطفل عبر خرق في العمود الفقري، وبذلوا شغلهم لزملائهم عبر العالم في «تقرير حالة» محكم في «المجلة الدولية لتقارير الحالات الجراحية» (م ١٢٦: ١١٠٦٨٣ (٢٠٢٥)). لذلك، ظلم أهله كل الظلم من نسب هذه العصبية الخضراء التي ترى بها المقاتلة في الفاشر سلطانها بطل كل زمان ومكان وطبيب الأبيض مدينته جلاء كل نظر وجراح النو بقعة أم درمان أم القرى سقم فلولي بالسلطة وخلصت الحدوتة. وطرف العلة أن بعض من اعتلى منصة السياسة خلو من هذا الخيال المشترك. أما صاحب «سلوى» فعلى حبه، يشكو ولا يسلو، يشد أوتار الكهرباء على حرف «قلبي شن سوى».

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.