أعرفي مقام نفسِك براك
ما تسألي الزول المعاك
...
تباشي كلبة ميتة
كلبة ميتة، كلبة ميتة
جنوبيين نار الضَّلِع
علي تباشي في الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
انت ساكن الكُوْنِكا
بِسْ!
حميدتي نار الضَّلِع!
الساكن جبرة نار الضَّلِع!
في المخدّة.
من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.
[1]
لَمْ يأتِ بعِلْم الكُوْنِكا مثل الدكتور ت. عبده مالك عالم سيمون، الأنثروبولوجي الأميركي الأسود المسلم، الذي زار السودان أول التسعينيات مستشاراً للحركة الإسلامية الحاكمة. وكانت مَهمّته أن يستخرج بالدراسة الباطنية «خطّة للإخاء بين المسلمين وغير المسلمين في عشوائيات الخرطوم» يُخضع بها للسلطان هذا الحزام الخطر؛ حزام الشقاء العريض المحيط بها والداخل. لكنْ تَحرَّر الدكتور سيمون من عبء الاستشارة كما وقع عليه، وخرج بكتاب فحل في علم الكُوْنِكا، هو كتاب وحيد في مكتبة الدراسات السودانية: «على صورة من؟ الإسلام السياسي والتجربة الحضرية في السودان» (دار نشر جامعة شيكاغو، شيكاغو/ لندن، 1994). انشغل سيمون في كتابه بالكشف عن السيوف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية التي فتكت بالجسوم الفردية لفائضٍ عظيمٍ من السكان في عاصمةٍ يرنو قادتُها من البرجوازية الصغيرة إلى الطهارة الإسلامية؛ فائضٌ لا موقع له في الاقتصاد الإنتاجي إلا بحسبانه جيش احتياط مهمّته أن يقوم معاملاً لخفض سعر قوة العمل.
قضى سيمون عامين إلا قليلاً في الخرطوم، وطرح في كتابه التساؤل عن الكيفيات التي يُحاول بها مجتمعٌ أفريقي إقامة نظام اجتماعي فعّال، بخاصّةٍ ما يلي ألغام العلاقة بين التنمية الاقتصادية وبيضة الدِّين؛ العلاقة التي قال عنها الإزيرق المرحوم كارل ماركس في «البيان الشيوعي» (1848) وهو يشخّص ما يطرأ على المجتمع بسِنَان السوق الرأسمالي:
«لعبَت البرجوازية في التاريخ دَوراً ثورياً تماماً. فحيثما استولت على السُّلطة حطّمَت جميع العلاقات الإقطاعية والأبوية والعاطفية. ومزّقت بلا رأفةٍ جميع العلاقات المعقّدة المتنوّعة التي كانت تشدّ الإنسان الإقطاعيّ إلى مَن هُم طبيعياً أعلى منه مقاماً، لكي لا تُبقِي على أية علاقة أخرى بين الإنسان والإنسان سوى المصلحة الصِّرفة والإلزام القاسي بـ «الدفع فوراً». لقد أغرقت أقدس انفعالات الوجد الدينيّ والحمية الفروسية ورقّة البرجوازية الصغيرة الرخيصة في صقيع الحساب الأنانيّ، وحوّلت الكرامة الشخصية إلى مجرد قيمة تبادل. وأحَلَّت حرية التجارة الوحيدة والغاشمة محلّ الحريات العديدة المعترف بها كتابةً والتي انتُزعت بأغلى التضحيات. وباختصار، فقد استبدلَتْ بالاستغلال الذي كانت تموّهه الأوهامُ الدينية والسياسية، استغلالاً صريحاً وقحاً مُباشراً ووحشيّاً. لقد جرّدت البرجوازيةُ من هالتها جميعَ ألوان النشاط التي كانت حتى ذلك الحين مُجلّلةً بالوقار وتُحاط باحترام مُقدّس. فالطبيب والقانوني والكاهن والشاعر والعالم جعلتهم جميعاً أُجَراء في خدمتها. لقد مزّقت البرجوازية الحجاب العاطفي والتأثر الذي كان يغطّي العلاقات العائلية واختزلتها إلى مجرد علاقات مالية» (ترجمة العفيف الأخضر، منشورات الجمل، بيروت/ بغداد، 2015، ص 61-62).
سَحَر الدكتور سيمون من خير الأهل، حتى في حَضَرهم الخرطومي، أنهم لم يخضعوا بعد تمام الخضوع لسِنَان السوق هذه، ولم تتملّك نفوسهم العقيدة الرأسمالية بالكلّية، بل ظلت عناصر من حياة أخرى، زمان آخر، حيّةً بينهم تردُ عنهم نوائب الاختراق الرأسمالي كفاحاً. وفسَّر جانباً من جذب الإسلام السياسي على أنه تدثّر بأطرافٍ من ثقافةٍ غير غربية وزمانٍ غير غربيّ في مواجهةِ ما ليس منه بدّ؛ في مواجهة «ابتلاء» الحداثة بعبارة الدكتور حسن الترابي. وكتابُه في جانبٍ عظيمٍ منه تشخيصٌ لتبعات المهمّة المستحيلة التي تولّت كِبْرَها الحركةُ الإسلامية في مجتمعٍ أفريقيّ هجين، أن تُخضِع المجتمع السوداني لقانون الرأسمالية الفولاذي «عندك شيل ما عندك خت» وتحتفظ ببيضة الدِّين سالمةً، وإن لم ينطق صراحةً بهذا المعنى. فكتابه بهذا التصوّر أنثروبولوجياً للهُجنة في حضرٍ قاس، اقتصاداً واجتماعاً. ولم تنجح الحركة الإسلامية في هذه المهمّة ببثّ التقوى والسلام. قامت مساجد جديدة نعم، لكن تقاصَر ظلُّها عن ستر عورة الفاقة العظيمة من نصيب البروليتاريا الرثّة، جيش الاحتياط العظيم الذي يتكئ عليه الاقتصاد الإنتاجي ولا يستوعبه.
صَدَق الدكتور سيمون في تعريفه الخرطوم التاريخية، الخرطوم التي عافها المهدي، أنها مدينة تجّار وسماسرة. وانتبَه بفطنة الغريب إلى ما يشغل أغلب وقت أهلها، فقال: «النشاط الغالب في الخرطوم هو رعاية العلاقات الاجتماعية». وقدَّر في تعريفٍ سليمٍ أنّ هذا النشاط الدائب من الزيارات والمجاملات؛ من بيت بِكَا لي بيت عرس لي عَزُومة لي قَعْدات الأمسيات، هو سبيل أهل العاصمة، فقيرهم وغنيّهم، للغَرْف من موارد وفرص شحيحة. فهذه هي المواقع التي يَسحب منها المجتهدُ عُملة «الواسطة» ليصرفها في الحصول على وظيفة، شهادة، رخصة تجارية، استثناء جمركي، إعفاء ضريبي، قرض صغير أو كبير، عطاء، وهو بهذا المعنى «نشاط اقتصادي» وليس تزجيةً لأوقات الفراغ. «يبدأ العمل في حوالي الثامنة صباحاً، ويشمل يوم العمل فسحة للفطور حوالي العاشرة. وتتبعه وجبة أخرى بين الظهر والواحدة. ويبدأ العاملون زحفاً طويلاً نحو البيوت بين الثانية والثالثة ظهراً. وليس للخرطوم حافلات نقل كافية لساكنيها من العاملين. ويصبح بذلك التزاحم في الحافلات وعبر نوافذها وعلى أسطحها طقساً يومياً». ومَن لا يجد طرفاً مِن حَبْلٍ إلى داخل هذه الشبكة سَقَط في فراغٍ اجتماعيّ وتقلّصت فُرصُه بالنتيجة.
لم يعتمد الدكتور سيمون الماركسيةَ بحرفٍ ظاهرٍ في شُغله، لكنه التقَط بعينِ صقرٍ التمايزاتِ الطبقيةَ التي يُكابد أهلُ هذه القرية بين مترفين ومعدمين، وميّز المضاربةَ في العُملة الأجنبية الواردة إليها من حصاد شغل مغتربيها، بأنها بابٌ عظيمٌ للتراكم، إلى جانب هياكل شبه إقطاعية في الإنتاج الزراعي. وقال صار «الاغتراب» بوجهٍ أو آخر سياسةً حكومية، فالدولة تستثمر في التعليم لتُنتج «مغتربين» صالحين للعمل في دول الخليج العربي بالدرجة الأولى، ومداخيل هؤلاء تمثّل قسطاً مُعتبراً من حصيلة الدولة من النقد الأجنبي، بينما يتدهور أي شعور بالعمل المُنتَج داخل البلاد بسبب اللهاث الدائب الذي يَسِمُ هذا النشاط، الساعات الطويلة في المواصلات بين مواقع العمل والسكن، وصفوف الانتظار الممتدّة للخدمات والسلع الأساسية، دَعْ عَنك السّعي المُضني بين المكاتب الحكومية لقضاء حوائج بيروقراطية تتناسل بعضُها من بعضٍ كالطفيليات؛ مِن إذْن وتصديق وشهادة وتوثيق. وخَلُص إلى أنّ تثبيط الشعور بجدوى أيّ عملٍ مُنتَج تبعه كذلك تحوّلٌ في تعريف ما هو «مُنتَج» بالفعل، مِن «المهندس الرَّسَم البُنَا» إلى «راجْل المَرَة الحِلو حَلا»، أيْ مِن «مَن كَدَّ وَجَد» في ظهر كرّاس المدرسة ذاك إلى مغامرة «اقتصاد الشَّلِب». كما تأمَّلَ مليّاً في الزيادة المُطّردة في قيمة الأرض بالمقارنة مع قيمة العقار، الأمر الذي أدّى إلى تسارع التدهور العقاري في مركز العاصمة وازدهار البناء في مواقع طرفية قليلة السكّان نسبياً لأغراض تجارية، فترتفع أسعار الإيجارات، ما يدفع بأعداد متزايدة من الأسر إلى هامش المدينة الأقصى. وسجَّل ما هو معلومٌ من أنّ بَيْن مُلّاك البيوت قليلي الحيلة مَن انتقل للسكن في مواقع طرفية ليعيش من إيجار داره الحضري.
خَلُص الدكتور سيمون إلى فاعليّة عمليّتين متناقضتين؛ فمن ناحيةٍ، تجرف الغابةُ الحضريّةُ العلاقاتِ الاجتماعية؛ منجم الموارد والفرص، ومن ناحيةٍ أخرى يبذل الناسُ جهوداً جبّارة لحفظها عبر صيانة الولاءات الموروثة، سواءٌ أكانت الأهل أم القبيلة أم الطريقة الصوفية. لكنْ تتحوّل هذه الروابط بدوران هذا الديالكتيك إلى صيغ مبتسرة مِن الذي كانت عليه. وفاعليَّتها لم تعد كامنة فيها أصالةً، وإنما آزِرة تعويضية في غياب صيغ بديلة. لذلك لم يعد الشباب من الناس يؤمنون بقدرة النظام الاجتماعي على تيسير شؤونهم وتحقيق رغباتهم في النجاح الفردي. لكن لا يجدون بُدّاً من مسايرته؛ مسايرة الهياكل الأسرية التقليدية لبلوغ الموارد التي لا بدّ منها بِيَد هذا العمّ في البوليس وتلك الخالة في إدارة الجامعة. وهذه المُسايرة هي ما يَحُول بينهم وبين فوضى يهابونها: شطّ الكُوْنِكا.
[2]
فما الكُونِكا إذن؟ تَجمَع اللفظةُ، في أغنية القونة المشهورة، بين دلالات المكان والوظيفة والحال، وهذا مصدر بلاغتها، فهي موقعٌ كبيرٌ لتجميع مياه الصرف الصحي جنوب الخرطوم جوار حي مايو. وكان الحي - منذ نشأته في حوالي 1970 في خلاءٍ خالٍ من الجِيرة جنوبَ ما كان يُعرَف بـ«الحزام الأخضر» سوى قرية عِدْ حسين - ملاذاً لطالبي المأوى ممن تقطّعت بهم السبل في بطن المدينة.
قام حي مايو أوّل أمرِه، كما قامت ديوم الخرطوم في عصرٍ سلف، فوق النّزع الجبريّ على موزاييك قومي/ لغوي؛ ففيه حي قُورُو، وحي تِبن، وحي عرب، وحي مساليت، وحي نوبة، وحي فور، وحي القرعان، وحي فلّاتة. واستمرّ «عشوائي» لمّا يكتمل تخطيطه السكني، ولمّا يخترقه سلطان الدولة بحقّ، حتى اليوم، تكتظّ في مساحته المحدودة بأربعين كيلومتراً مربعاً حوالي مليون نفْس بحسب الإحصاء السكّاني لعام 2008.
ونشأت في حي مايو أول مدرسة ابتدائية في العام 1973، ثم تلتها أخرى، وظلّ هذا حاله حتى العام 1989. ثم تولّت منظّمة الدعوة الإسلامية أمر التعليم فيه صدَّاً للتبشير المسيحي وتعميراً لإخاء «إسلامي» في حزام الخطر هذا؛ المهمّة التي شارك فيها الدكتور عبده مالك عالم سيمون مستشاراً، فتوسَّع التعليم المدرسي حتى صارت المدارس حوالي الستّين مدرسة (الانتباهة، 5 أكتوبر 2021). ومن هذه المهمة خرج الدكتور سيمون بكتاب تناولنا بعضاً من درسه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
اجتمعَت في مايو نفوسٌ من مصادر شتّى، الجامعُ بينها أنها فائضٌ بشريّ في مدينةٍ شحيحة الموارد، رصَد منها الدكتور كمال محمد جاه الله الخضر (مركز البحوث والدارسات الأفريقية، جامعة أفريقيا العالمية) ضمن عمل ميداني في العام 2008/2009: عمّال المنطقة الصناعية الخرطوم الذين كان يأويهم كرتون الخرطوم 3 جهة الصهريج في شارع الغابة؛ عشش فلاتة الذي صار بالإعمار الجديد حي النزهة، كرتون سوبا الكبير والذي كان يضمّ العمالة المهاجرة التي جرى تشغيلها مؤقتاً في تشييد مباني مستشفى سوبا الجامعي والأبحاث البيطرية وكلية علوم الغابات والمراعي ومرافق حكومية أخرى في مواقع أخرى في العاصمة وجرى ترحيلهم إلى مايو في 1972؛ كَمْبو بُرّي الذي كان يضمّ عمّالاً في الهيئة القومية للكهرباء؛ متفرّقين من عشوائيات نشأت في جهة سباق الخيل واللاماب.
كذلك توسّع حي مايو أيّما توسُّع بالنازحين من الجفاف والتصحّر الذي أصاب إقليمَي كردفان ودارفور ضمن جفاف حزام الساحل في 1983-1985 والحرب المتطاولة في جنوبي السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ودارفور، فانضمّ إلى فائض الحضر فائضٌ أعظم من الريف الحربي إلى جانب أقوام مهاجرين من أقاليم حربية مجاورة، من يوغندا وأفريقيا الوسطى والكنغو الديمقراطية وتشاد. رصَد الدكتور كمال محمد جاه الله الخضر، وهو عالم لسانيات، بين مجتمع مايو حوالي 99 جماعة قومية، و60 لغة (منها 7 من مجموعة وسط وغرب أفريقيا، 28 من مجموعة جبال النوبة، 5 من المجموعة الدارفورية، 11 من مجموعة جنوب السودان، إلى جانب العربية).
أما دلالتا الوظيفة والحال، فإنهما بلاغة غليظة، الكُونِكا بحيرة للصرف الصحي، تُخمِّر الفضلات البشرية، وساكنُها لا لزومَ له، «كلبة ميتة» كما تنعته الأغنية، فهو كما الكُونِكا ذاتها؛ إخراجُ المدينة الذي هو جزءٌ منها لكن لا موقعَ له في هذا الكلّ. تختفي الفضلات البشرية تحت الظروف الحضرية الميسورة في جُبٍّ غامضٍ متى ما انبجست من الجسد البشري سِيد الشِّي، فالجالسة على الكابنيه تضخّ الماء بدفع محبس لامع على الغائط الذي لا تكدِّر ناظرها به وتغتسل، فينحدر به الماء النقيّ في أنبوب يزعج منه صوته، ويعود الكابنيه بملء الماء نقياً على بياض سوى ربّما ما قد يلحق بالسطح الأملس من قذارةٍ تنظُيفها من عهدة شخصٍ آخر في ساعةٍ غير. ولذلك، فهو على مستوى التجربة اليومية لا يشكّل جزءاً من هذا العالم ولا يبلغ مكاناً فيه. لكن، لا يختفي الغائط في واقع الأمر، ولا يغادر أرضاً ولا سماءً، فإنه من بيئة الكوكب كما الكُونِكا وساكنها، جزء من بيئة المدينة. واختفاؤه خدعة بصرية، أو بالأصح خدعة أيديولوجية، تُظهر غير ما تُبطن، الخدعة التي قال عنها المرحوم الإزيرق، كارل ماركس، إنها نصيبُ النظرة الأولى، ونصَح أن ارجِع البصرّ كرّتين كما في الأمر القرآني.
درَس الدكتور عبده مالك عالم سيمون أحوال مايو ضمن مستشاريته، وقال عنه في كتابه «على صورة من؟ الإسلام السياسي والتجربة الحضَرية في السودان» (دار نشر جامعة شيكاغو، شيكاغو/ لندن، 1994) إنه إقليمٌ «غير مرئيّ»، جُبّ عميق، قاطنوه «لا يقوون على البقاء خارجه لفقرهم وقسوتهم»، وهو «خلو من العمل بأجر، وتعيش أحياء بحالها في هذا الإقليم على عائد السرقة». جاء الدكتور سيمون بواقعةٍ من العام 1992، قال دمّرت القوى الأمنية طرفاً من مايو فأزالت آلاف الرّواكيب والعشش، ذلك بعد محاولة متردّدة في أواخر عهد الرئيس الأسبق نميري لإزالة كامل الإقليم تصدّى لها جماعة بسلاح ناري مسروق من نقطة البوليس القريبة. شهد الدكتور سيمون على هِمّة غير المسلمين من مجتمع مايو في تعزيز ذواتهم بالدِّين، وقال إنّ أهل «كريم المعتقدات» بعبارة دستور جعفر نميري، ثم اتفاقية السلام الشامل للعام 2005، قد أقاموا شعائرهم كما اتّفق بضرب الطبول في الأزقة عند الغروب، فنافسَت أذان المساجد. ونقل الدكتور سيمون «انتشار الفتيات اليافعات في الشارع الرئيس أوّل المساء لبيع الخدمات الجنسية لأصحاب الدكاكين وصغار التجّار الذين جمعوا للتو حصيلة اليوم». كما نقل حركة طلاب المركز الإسلامي الإفريقي القريب في جماعاتٍ إلى ماخور معلوم، «البيت الأبيض»، لقضاء السهرة «حيث تساعدهنّ بنات اللاجئين من ضحايا عيدي أمين، جزار يوغندا، على إنفاق مال المنح السعودية السخية المبثوث من جوهانسبرغ إلى الجزائر لجذب شباب المسلمين إلى المركز.
واقتصادُ حي مايو عند الدكتور سيمون شبكة من المبادلات، لا إنتاج فيها: يدسّ رجل بضعة أوراق نقدية في كفّ امرأةٍ تلقاءَ زجاجة من العَرَقي المُعزَّز بحمض البطاريات فتعطيها زوجَها الذي يدسهّا هو الآخر في يد فتاةٍ ناهد هي ابنة الزبون الذي اشترى لتوّه الخمر مقابل الجنس، فتعيد الفتاةُ المالَ إلى أبيها الذي يشتري به خمراً مرة أخرى. يصبّ في هذه الشبكة ربما عائدٌ يفوز به الابن اليافع الذي استطاع بجاكة ماكرة شفشفة جالون بنزين أو جالونين من عربة البوليس، فيهبها والدته التي تشتري شاياً وسكّراً تبيعه المبشّرين الذين يبذلون جهداً عظيماً لهداية ابنها إلى الدِّين الحقّ. وربما انضمّ إلى فرقةٍ من الشبّان الذين يطوون المسافة عبر الخلا في مارشٍ قاصدٍ لهَمْبتة لوري عابر اضطرّ إلى التوقّف في نقطة تفتيش قصيّة.
يجتمع السّكارى والتائهون في مايو أول الليل لتبادُل اللكمات في طقسٍ يوميّ ينشغل بنتائجه الترزيّة صباحاً، فيخيطون الجلاليب المُدمَّمة وقد مزّقتها حرب الليل مرةً أخرى أسمالاً فوق أسمال. هذا بينما تنقل كارّو وأخرى حمولات البَنْقُو في السَّحَر تترصّدها فرقٌ من السماسرة في طرف الإقليم. توسّع الدكتور سيمون في مشاهد الدراما القاسية التي مسرحُها مايو، فهذا الصبيّ الكنغولي من كيسنغاني البعيدة انتظَر رفيقاً له شهوراً عدّة على وعدٍ بثلاثة جرامات من الزئبق الأحمر بنيّة تهريبها معاً إلى مدينة جدّة السعودية. وهذه المرأة تُجادل ابنتها حول مصير حفيدها ذي السنوات الستّ الذي طردته من العشّة قبل أربعة أشهر لأنه أصرّ على الالتحاق بالمدرسة. وهذا الرجل الذي ماتت زوجته للتوّ بالسلّ الرئوي هبَّ على غنماية ضالّة فكسَر عظم رقبتها بيديه العاريتين وخالته تجري مسرعة عبر الأزقّة تحمل إنجيلاً في يدها إلى فكي محترف تتوسّل إليه أن يكتب على كلّ من شهد الواقعة برهةً مؤقتةً من النسيان، خوفَ أن يَخرج للغنماية سيّدٌ يطلب الثمن.
البقاء المُجرّد هو كلُّ مقصد من التقى الدكتور سيمون، فالفتيات اللواتي احترفن الدعارة يبذلن جهوداً مُضاعفة لتفادي الالتهابات التي تُضرُّ أعضاءهن ومن ثم سلعة بيعهنّ. والشيخ النوباوي يحاول ما يستطيع أن يتذكّر أسماء أسلافه في لحظة صفاء نادرة مع مولود جديد. والراعي البقّاري لا يجد في جلبة مايو مثل هذا الصفاء لإكمال صلاته ولو أخلص. والتاجر الفلّاتي يطمس النهار بحثاً عن ورقة نقدية يظنّ أنه دسّها في شقّ في الزاوية الشمالية الشرقية من أوضة الجالوص المُتهالكة التي هي مفخرته. وبعض المتحذلقين يدّعون أنهم يستطيعون حفظ أسماء كلّ من وطِئوا من النساء والصّبية واتخذوا هذا السجلّ شهادةً على أنهم في أتمّ الصحة العقلية. وقال هؤلاء إن لمكان مثل مايو مغزىً ما وغرضاً، و«الله لن يجد مندوحة من التدخّل قبل الميقات المحدّد في الأزل بدافع الفضول وليس الغضب». وقال صبيّ نوباوي للدكتور سيمون في جماعة «إنّ الأميركيين متى ما ضاقت بهم الوسيعة في بلادهم سيجدون وطناً ثانياً في مايو»، رغم مصاعبه، فلِمَ إذن يصنعون أفلاماً سينمائية لا عدد لها عن حياة العشوائيات.
أَدْهَشَ الدكتور سيمون من مجتمع مايو قدرةُ أهل بعض البيوت على الحديث بلا انقطاع، لا يصمتون إلا لماماً، قصّة في ضَنَب قصّة، مختلقة ومعدّلة ومنحولة وواقعة، واستخرج من هذا الكلام المتّصل دليلاً على التفتّت الاجتماعي، والحكي محاولة لترميم هذا التفتّت في الوعي. أما قانون مايو الأول عند الدكتور سيمون، قانون الكُونِكا، فهو ليس العُصبة الإثنية أو العُصبة القبَلية أو العُصبة الدينية أو العُصبة الطبقية، وقد انحسر كلُّ تصوّرٍ للجماعة سوى مهارة عمومية في رصد كلِّ داخلٍ وخارجٍ بسلسلة من العيون، وإنما اهتبال كلّ فرصة لـ «الشَّلِب»، والانفتاح على كلّ سَهوة خاطفة في سجن الواقع، واختلاسها بقوّة لعقد تحالف مؤقّت مع هذا أو ذاك أو هؤلاء خارج الكُونِكا؛ بقصد تعزيز احتمالات «شلب» ناجح. وأقصى العلم الخداع، وأقصى الخداع أن ينجح في يومٍ ما فكي ماهر في تصميم «عمل» ما، يدسُّ به النوم العميق في عيون أهل البيوت الرخيّة في المدينة ريثما يتسنّى نقل جميع ممتلكاتهم.
[3]
انتهى الدكتور سيمون، في تقصّيه أحوال الكُونِكا كما ظهرَت له في حي مايو بجنوب الخرطوم، إلى أنّ هذا مخزنٌ لفائضٍ من البشر لا مَوقعَ لهم في الإنتاج السلعي، فهُم تَكْأَتُه الزائدة، ولا عاصمَ لهم في الاقتصاد المعنويّ للمُجاملة، الذي هو تأمينُ أهل الخرطوم المدينة من مثل هذا التدهور الذي يَفتِك بالكينونة، بل نَضَا الإملاقُ أغلبَ السّتر عن اجتماعهم. وقال نشأَتْ وَسْطَهم روحيةٌ جديدةٌ، بدرجة أو أخرى، هي هُجنةٌ كذلك بين العقائد. فالمسلم لا يَقوَى على إسلامه، والمسيحيّ يتفسّخ إيمانُه، ومن يؤمن بالأسلاف ينشز عن احترامهم وقد هجروه. فلا يستطيعُ من يقوم عَيْشُه على مالِ «الشَّفْشَفة» الذي يَقْطُر قَطراتٍ متباعداتٍ، قطرةً وأخرى، في خيران جافّة من التبادل الأوّليّ، قزازة عَرَقي في مقابل وَطَرٍ أو بعضِه، تلقاء كمْشَة فول في محلّ دُلقان لتَلتِيق الجلّابيّة المَشْرُوطة؛ أن يُحافظ على فرز الفجور من التّقوى، وقد صارا قُرْصَاً من عجين الدُّوم جَفَّ. ومدارُ هذه الرّوحية الجديدة شفراتٌ وطلاسم من هُجنةِ ما سبق لجلب المنفعة الآن وفوراً، آندروس فوار، وليس في غدٍ منتظرٍ ويومٍ آخر. تُترجِم هذه الروحيّةُ المشروخةُ ما تَهشّم من حياةٍ وليس فيها ما يَجْبُر، فلا تَبلغ وظيفة «أفيون الشعوب» حتى؛ وإنما هي علامةُ تقصيرِه عن فاعلية الأفيون.
استفاد الدكتور سيمون من «كُونِكا» الخرطوم شاغلاً بحثياً طويل الأمد بفائض المدينة الملعونة، العشوائيّات، في غير المِتروبول، في مدن أفريقيا وآسيا؛ من جاكرتا إلى داكار كما في عنوان أحد كتبه السخية («حياة المدينة من جاكرتا إلى داكار»، دار نشر روتلدج، نيويورك/ لندن، 2010). ورَدَّ الدكتور سيمون جانباً من هذه الخصيصة الباطنة في المدينة في غير المِتروبول للتورُّم بالعشوائيات وقاطنيها، إلى تصميمٍ استعماريٍّ أوّليّ كانت به المدينة نفسُها أداةً لاستخلاص الموارد من نُظم إنتاج ريفيّة معيشيّة وهيكل قسري لتجنيد العمالة الحضَريّة وضبطها دون كثير اعتبار لهندسة خدماتها وعَيْشها كوحدةٍ عضويةٍ تنمو بأهلها. وكان حُكم مثل هذه المدينة في الغالب وكالةً لشتيتٍ من الموظّفين والضبّاط العسكريين حَطّوا عليها من علٍ، شاغلُهم الضّبطُ والرّبطُ لعناصر كشكوليّة من القوميّات والمناطق لمّا تنشأ بينهم واسطةُ عَقدٍ حضرية سوى كجُزرٍ في لُجّة.
استخرج الدكتور سيمون من شُغله نمطاً كونياً، إذا جاز التعبير، حالت به طبقات من السُّلطاتُ غيرُ كاملة النفاذ؛ السّلطات الجزئية والضعيفة، من الأعيان والصفوة العسكريّة وكارتيلات التجّار والأسر الطاغية والروابط السياسية، دون بزوغ هياكل فعّالة للدولة؛ هياكل مسألتُها رفاهُ المواطن الحضَريّ في عمومه. وبهذا تصبح مثل هذه المدينة الأفريقية والآسيوية مَفازاً لقِلةٍ، فنشاطُها الاقتصاديّ وخَراجُه لا يستوعب سوى فئة من قاطنيها، ويَستبعد لضيق مواعينه غيرَهم، الذين يدفع بهم توالي الكشّات إلى حزامٍ من «الكُونِكا»، جغرافياً وقانونياً. فانقطاع الشّبكة، شبكة الوصل الاجتماعية التي يقوم عليها الاقتصاد المعنويّ لمثل الخرطوم، يَحوُل بينهم وبين الوثائق الثبوتيّة والرُّخصة التجارية وثبت الضّريبة والحساب البنكي والقرض الحسن. وإن اجتمع لديهم مالٌ من «الشَّفشَفة» أو مثلها لا يَبلُغ بهم، خلا القليل، موقعاً خارج هذا النظام التبادلي البدائي، عرَقي ووَطَر وكيس صعوط ورؤوس دجاج مقليّة.
نجحت السُّلطات الوطنية التي نشأت ما بعد الاستعمار، في عصر فَلَاحها بالاستثمار في التعليم والخدمات العلاجية، في تنشئة صفوة حضَريّة متجانسة بدرجات متفاوتة ومرتبطة بجهاز الدولة من أقاليم وقوميات متنافسة، كمثل الخرّيجين موديل 56 اللِّيْلْنا. لكنْ عَسَّرَ تدهوُر موضع هذه الدول في تراتب الاقتصاد العالمي من استمرار هذا النمط، فقد تقلّصت الموارد المتاحة للحكومات حتى شَقّ عليها الإبقاء على نظم تعليم ديمقراطية تضمن للشُّطّار «المَاهيّة» المُجزية في القطاع العام. بخاصَّةٍ وقد تعذَّر؛ بتدهور أسعار المحاصيل النقدية في السوق العالمي ومداخيلها، الاستمرارُ في سَلْخ الفائض من نظم الإنتاج الزراعي الريفيّة، دون تحوُّلٍ حازمٍ في وسائل الإنتاج وتقنياته لزيادة الإنتاجية اللعينة، ما لا يتأتّى إلا بضَخٍّ كثيفٍ مُتوالٍ لرؤوس الأموال. وهذا الفائض الريفيّ هو عماد الخزائن الحكومية ومَورد الصرف على التعليم والصحّة و«المَاهيّة» إياها. وفرَض هذا السَّلخ المستمرّ بواسطة للفائض تخلّفاً ريفياً زاد بدَوره من تراكم البشر في الحواضر، فائضاً فوق فوائض.
كان التعليم الديمقراطي على هذه العلل، بدرجةٍ من الدّرجات، درعاً واقياً من خذلان التعاضد بين الأقاليم والقوميات، ففيه تجد «الشّاطرة» موقعَ قدم لبلوغ مَرقىً غير شَطّ «الكُونِكا». من هذا الباب، ربّما قدَّر المرحوم عبد الخالق محجوب منذ العام 1970، ضمن تقريره للمؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي، وهو يكابد الانقسام، وأسعار القطن تتلكَّك، وقد ثارت على خطّته البرجوازية الصغيرة، تتلمّظ لثمار الانقلاب في مايو 1969؛ أنَّ الثورة ثورةُ أهلِكَ بعَلَفهم وليست ثورة «وعي»، وكانت يا عرب: «فالثورة الديمقراطية هي ثورة الإصلاح الزراعي ولا يمكن أن تصل إلى نتيجتها المنطقية إلا باستنهاض جماهير الكادحين من المُزارعين على نطاق واسع وإدخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري!» (تقرير عبد الخالق محجوب إلى المؤتمر التداولي، ضمن «استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية»، الحزب الشيوعي السوداني، بلا تاريخ، ص 157).
اكتملت هذه «الحلقة الشرّيرة»، وهي العبارة التي راجت لوصف ظاهر دورة الانقلاب والثورة فينا، بموجة نقل الثروة من سيطرة القطاع العام إلى القطاع الخاصّ، بدفع المؤسّسات المالية الدولية وإرهابها، ومسألتُها نقلُها مرةً أخرى من رأسماليةٍ وكيلةٍ إلى رأسمالية المتروبول، تفريغٌ مربّعٌ للثروات. تحوّلت بهذا النقل المتسارع مواردُ مشاعيّةُ الطبيعةِ، أرضاً زراعية كانت، أم معادن في باطن الأرض، أم غابات، أم مَراعيَ، أم حتى الأجساد البشرية، معامل تدوير قوة العمل؛ إلى حيازاتٍ خاصّةٍ تَغْرِف منها حلقاتٌ من المصالح من كاس عبر سوق دبي حتى بورصة نيويورك. واحتدّ التنافس على سلطان جهاز الدولة بالضرورة تبعاً لهذه الفتنة، فهو الجهاز القادر على تشريع هذا النقل وتدبيره وتمكينه وتأمينه بالقوة الجبريّة. لا غَرْو إذن أنْ نشأت حول هذه الحيازات الثمينة جيوشٌ ثانويةٌ تطالب بها أو تحميها؛ مليشيات. بخاصةٍ وقد صارت هذه الحيازات تقسيماً لموارد لا تَقبل جوهراً التسليعَ: الأرض والعمل والمال، موارد اجتماعية خصّها كارل بولياني، خصيم الماركسية، بنَعْت «السلع الكاذبة» (كارل بولياني، «التحوّل العظيم: الأصول السياسيّة والاقتصاديّة لزماننا»، بيكون للنشر، بوستن، 2001 [1944]). «الكُوْنِكا» إذن، ما يبقى وحلاً آسِناً من هذا الغَرْف الأطرش.
تعلَّم الدكتور سيمون، من سياحته في المدن الأفريقية، أنّ هذا الغَرْف قد هدَّد ما يَستُرها من بواعث التضامن، بما في ذلك شبكات المجاملة التي تصل ما بين أفراد الأسرة الممتدّة، والتي تناسخت على هيئةٍ شبيهةٍ بعلاقات استجدّت بخُوَّة التعليم والمهنة والجوار، العصبيّة الخضراء التي ضحك لها المرحوم إبراهيم عوض. زاغت الأبصار والقلوب بشهود ما يُصيب الغارفَ المُهتبِلَ من ثروةٍ سريعةٍ صارت بها التبايُنات في «المَقْدَرَة» صدوعاً وأخاديد، بخاصةٍ وقد استقَلّ هذا الغَرْف عن العمل والجهد والتأهيل التعليمي والمهني، وصار رهناً بمهارات «الشّلب». فثمّة من يغرف بكُوز فقط، وثمّة من يحبس مجرى الجدول بسَدٍّ عظيم. بل هدَّدَت مثل هذه التصدُّعات الشّعورَ الجماعيَّ بالمكان، فمدن مثل آكرا ولاغوس وداكار والخرطوم انفجرت بالتحوّلات العمرانية وانفلتت جغرافيتها الاجتماعية في عهدين أو أقل بحيث يصعب حتى على ساكنها المُداوم رسم خارطة ذهنيّة مستقرّة لها.
يعود جزءٌ مقدَّرٌ من هذا الانفجار العمرانيّ إلى استثمار عائدات المغتربين في ملكيّة الأرض والبناء السكني، وهو استثمارهم المكاني وتأمينهم المعيشي في آخر العمر، حصيلة الشّقاء من هجرةٍ في سوق العمل الدولي. لكنْ، لا تأمن هذه الرعايةُ لعهدِ المكان من خطرٍ، فهذه العائدات المالية مُهدَّدة كذلك بالشّلب في بيئةٍ عَزَّت فيها الفرص الاقتصادية، سواءٌ أكان ذلك بتضخّم أسعار مواد البناء أم بالمضاربة في الأراضي أم بنهب المقاولين أو تهافت بنائهم، أسمنت مضروب وبلاط فشَنْك. وشخَّص الدكتور سيمون، على سكة المرحوم عبد الخالق محجوب من قبله، أنَّ تجميدَ المال في العقارات وحبسه عن النشاطات الإنتاجية ضَررٌ وكساد، إذ تستقلّ قيمةُ العقارات عن البيئة الاقتصادية المحيطة بها وتطير بي فوق. فلا يَستغربَنَّ مُستغربٌ إذن، أنْ يصحو الساكنْ أوضتين وبرندة بالإيجار في شارع باطني، الكهرباء والماء تقاسيم، والخور آسِن، على جوارِ دار مهيبةٍ بسعر مليوني دولار أخدر ويزيد عند التقاطع في الزّلط، محيطُه كارّو في بتاع بنشر في جزّار في خَدَار كيري في بتاع سجاير؛ عقار لا يمكن رعاية قيمته سوى بمزيد من الاستثمار: جنريتر استعداد، وبرميلَي جاز، وموتور عظيم لجرّ الماء حتى من أوسع مواسير المحطة، وحرس ديدَبان.
[4]
شهد الدكتور عبده مالك عالم سيمون في حي مايو بالخرطوم على روحيّةٍ هجينة، هي في بعضٍ منها تصويرٌ ثقافيٌّ لِما يصيب مجتمعاً ارتدّ موضوعياً عن آزِرَة الإنتاج إلى انتهاك «الشَّفشَفة». ويضجّ الوعي بهذا الانتهاك للذاتيّة المعذّبة، فوَعْي هذا المجتمع ليس عُصاباً أو جنوناً أو لا مبالاةً دهريّة، وإنما كُسَّارُ زجاجٍ كأنه ارتطم بصخرٍ في الواقع فتحطَّم عليه. يعتقد كثيرٌ من أهل مجتمع مايو أنّ ظروفهم المتدهورة هي من شُغل «الحكومة» التي يحلمون بالثورة عليها في هَبَّةٍ واحدةٍ مُضريّة لا تُبقي ولا تَذَر. أشار فكي نوباويّ إلى الهُجنة التي تسلّلت إلى عقيدةِ جارِه التاجر من دار حامد، الذي يكرّ مسبحةً بيَدٍ ويقلِّب حصىً خمساً بيده الأخرى؛ الأولى من الإسلام والثانية من عناصر عقيدة وثنيّة. وخَلُص الفكي النوباوي من هذا التسلّل الوثني إلى أنّ الإسلام لَمّا يدخل قلوبَ «الجَلّابة» بحقّ، وما زالت روحانيّةُ قومِهِ قادرةً أن تنفذ في هذه «المَلَجَة». عَدّ الدكتور سيمون هذه الروحيّة الهجينة ميزةً لجنسٍ جديد من الناس؛ جنس يتخلَّق في «الكُوْنِكا»، ليس في كُونِكا الخرطوم وحدها وإنّما في كُونِكا كونيّة، من جاكرتا إلى داكار، وإنْ كانت لكلّ جغرافية بشريّة خصائصُها.
لذلك ربما رَكِب «الذّعرُ الأخلاقي» ضميرَ الحركة الإسلاميّة الناهضة للحُكم بالدِّين القويم من هذا الإقليم الخطر، حيث تختلط الأنساب والعقائد والضّمائر. واعتبره الدكتور حسن مكي حزامَ سخطٍ وغربةٍ يهدّد المدينة الجديدة، ويسري في أحشائها عائداً وقد لفظَتْه. لكنْ، اكتفت الحركة الإسلامية بالذّعر وما ينجم عنه من خطّةٍ مهزومة. فلا تجد عند الدكتور حسن مكي ذِكراً لاقتصاد مايو الذّميم سوى كجريمة. ووقَعَ عنده أن خطرَ مايو هو منفَذٌ لخطر التنصير، فيأتي بها ضمن رصده للمدارس التبشيريّة في العاصمة، ومنها مدرسة كمبوني الصناعية حي مايو: «تقع المدرسة في منطقة سكنيّة مزدحمة بالسكّان وحولها أماكن صناعة الخمور البلديّة، المساحة 11554 متراً مربّعاً وهناك مساحة مسوّرة ومنفصلة من الناحية الغربية مساحتها 3385 متراً مربّعاً.. لم يكتمل بناء المدرسة حتى الآن، ولكن الدراسة بها منتظمة وقد اكتمل السُّور وبعض الفصول كما أنّ العدد الكلّي للفصول هو تسعة، اثنان كبيران من الحصير و7 من الحجر. التلاميذ عبارة عن أطفال صغار من حي مايو والعِشَش وصلوا في دراستهم للسنة الخامسة الابتدائية الآن. بالمدرسة فصول مسائية للكبار وبها مكان للكشف الطبّي في أحد الفصول مما يدلّ على أنّ أحد هذه الفصول يُستخدم كعيادة. وبالفصول مراوح كهربائيّة رغم أن المنطقة لم تُوصل لها الكهرباء بَعد، خاصة في الفصلين المنفصلين وأحدهما هو الذي به مكان الكشف الطبي» (حسن مكي، «أبعاد التبشير المسيحي في العاصمة القومية»، بيت المعرفة، أم درمان، 1990، ص 42).
عزَل الدكتور حسن مكي المدرسةَ، التي نظر إليها كجسمٍ غريبٍ، عن المحيط بها من اجتماعٍ، سوى سوق الخمر البلدي، فهي غرس كنسي وبَسْ، يقع ضمن مشروع تنصيريّ لا ينقطع، فَصّل في تاريخَه في كتابٍ آخر يتّصل بالأول (حسن مكي، «المشروع التنصيري في السودان 1843 – 1986»، المركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم، الخرطوم، 1991). ولم يقع بصَرُه على مثل الهُجنة التي قال بها الدكتور سيمون وموقعها من إعراب المدينة المرجوّة. والكنيسة التي يَرْهَب حسن تستقطب هذا الجمهور من «الجنوبيين والنوبة» وتشدّه إليها «عن طريق الأندية وتقديم الخدمات التعليميّة بلهجاتهم المحليّة وباللغة العربيّة العامّية في فصول تقوية ومدارس للأطفال وما فوق هذين المستويين». كما «تَجمَعُهم حتى لا يذوبوا في المجتمع الشمالي المسلم» (المصدر الأخير، ص 143). والخطر كلّ الخطر عند الدكتور حسن مكي من النوبة والجنوبيّين النصارى، لكن لم يشهد في تجواله على المدارس التبشيريّة في العاصمة على ما التقط الدكتور سيمون من علامات «جنس جديد» بحسب عبارته؛ جنس ذابت فيه أجناس، الميزانُ فيه لفَلاحة «الشَّفشَفة».
تتبّع الدكتور حسن مكي «كُونكا» الخرطوم كخريطةٍ من المدارس التبشيريّة المُريبة يقوم عليها متآمرون كنسيّون عظام من المركز الإمبريالي، وجاء بشواهد على هذا المقصد. والدكتور حسن مكي كان من الحريصين على «تثقيف» الحكم الذي قام له إخوانه وأخواته في الحركة الإسلاميّة وتربَّص بالتحدّيات التي أحاطت بالدولة الجديدة مَليّاً وتأمَّل. لكن انتهى تأمُّله عند هذه «المؤامرة» المسيحيّة. وظَلَّ الإقليم العظيم لاجتماع «الكُونِكا» منطقةَ عمىً، يحيط به، أو يحاول، جهازُ البوليس بالدرجة الأولى، ثمّ بيروقراطية التخطيط العمراني. ونمَت علاقات تبادليّة بين الاثنين، البوليس و«الكُونِكا» في «شَفشَفة» و«شَفشَفة مضادّة» إذا صحّ التقدير، ودخلت الرّشاوى والغرامات ومال الحماية دوائرَ الاقتصاد التبادليّ المزدهر في «الكُونِكا». وربّما كانت التحالفات التي انعقدت بين حضرة الصول وستّ العَرَقي هي التي فتحت لها البابَ أن تتميّز عن قريناتها بتجارةٍ مستقرّةٍ تسمح بتراكمٍ، ولو قليلٍ، فلا تعصف بأدواتها الكشّة الدوريّة، أو ربما سمحت لها حركة المعلومات بتفادي مثل هذه المطبّات بالمرّة. وطَفَّرَ نفرٌ خارج هذا الإقليم بسلالم التعليم والتجنيد ودروبٍ أخرى للمجازفات، بينما ارتدّ إليه سِوَاهم ممّن تقطَّعت بهم السُّبل في كرش المدينة فلفظَتهم بدُبُرها. وبذلك تهيّأ نوعٌ من الاستقلاب بين المدينة و«الكُونِكا»، ونشأت مناطق انتقاليّة بينهما؛ حيازاتٌ خطرةٌ فيها فائزون أو بالكاد تحت التهديد المستمرّ بالعودة حيث بدأوا، كلبة ميتة، وخاسرون ربّما عبروا وانتصروا لو اجتمَعَت إرادتُهم لمجازفةٍ كبرى، قد تبدأ بمَشْلُوبٍ حتفَ أنفه من عِبيد «خَتِف». ولحيويّةِ هذا الاستقلاب رهزٌ وقَبعٌ وصفيرٌ تجد الناظرةُ آثاراً له في ضروبٍ من التعبير: رَنْدُوك وزَنِق وسرد وقاموس ورقص وموسيقى وأزياء وحِلاقات وعمليات جراحيّة حتى وشخصيات وبطلات وأبطال. وهذا الاقتران بين البروليتاريا الرثّة وفقراء الطبقة الوسطى الحضريّة سِمَةٌ لشراسةِ قوى السوق في عصر الليبراليّة الجديدة وهي تعيد توزيعَ فئات قوى العمل، تطرح الفائضَ منها والطالحَ جانباً، وتعيد انتشار غيرهم بانتخابٍ عسير، بما في ذلك في الوظيفة الأيديولوجية، فتصعد القونة إلى المسرح رسولاً لزمانها، ويتَّبعُ الناسُ سُنّتَها، ويتحوّل الأستاذ داك، متذكِّره؟ اسمه منو كان؟، إلى موزِّع آيس. ما عرفتُه والله.
وجد الدكتور آصف بيات في القاهرة الثائرة عام 2011 مُعاملاً لهذا الاقتران، وقال: جَمَعت العشوائيّات، مثل أمبابة، الفقراءَ المعدمين من الأرياف بغير تعليم وصنعة، وفائضَ المدينة الرّثّ، وكذلك فئات من «الطبقة الوسطى» القديمة، موظّفين حكوميّين لا حيلة لهم فوق المَاهيّة، وأزواجاً جدداً من المتعلّمين، معلّمين ومحامين، لا يجدون لحَقّ الإيجار في المدينة النظاميّة سبيلاً. وكَتب بيات وقتها أنّ هذا الاقتران بين عالم الطبقة الوسطى والعشوائيات سَمَح بنقل بعض قضايا العشوائيات إلى عالم «الناشطين» والصّحافة والجامعات والروابط المهنيّة (آصف بيات، «سوقة الربيع العربي»، الأنثربولوجيا المعاصرة، م 56، ملحق 11، ص 33-43، دار جامعة شيكاغو، أكتوبر 2015). وعَرَّضَ بيات في مقاله، وفي أكثر من موقع، باشمئزازِ الصّفوة الليبراليّة المصريّة الشديد من عشوائيات القاهرة، وتخوُّفهم في ساعة الثورة أن تنقلب «ثورة الوعي» في خاطرهم إلى «ثورة جياع» فينفتح الباب لغزو «البلطجيّة» وتلويثهم قماشة الثورية. واشتُهِر بطبيعة الحال عن النظام المصريّ ما قبل الثورة وفي غمارها تجنيدُ «البلطجيّة» من العشوائيات ذاتها لقمع الثائرين، فمنها كان جندُ الثورة وجندُ الثورة المضادّة معاً. زادَ من هذا الاشمئزاز تصوُّرُ الصّفوة المصريّة أنّ دِينَ العشوائيّات هو صيغةٌ من صيغ السّلَفيّة الإسلاميّة التي تعرف كيف تخترق هذا العالم برسالةٍ روحيةٍ سهلةٍ وشبكةٍ من العلاقات الزبائنيّة تصل الجامعَ بالأسرة الممتدّة بالسوق. وكانت أمبابة في واقع الأمر موطناً في أوّل التسعينيّات للجماعة الإسلاميّة ومقاتليها، أمّا ساعة الثورة فقد كان لأهلها قدحٌ مُعلّىً في إسقاط النظام، ودَورٌ مُقدَّمٌ في أيّام ثوريّة مشهودة مثل جمعة الغضب 28 يناير 2011. فما حسابها إذن؟
[5]
جاء الدكتور آصف بيات في مقاله «سوقة الربيع العربي» (الأنثروبولوجيا المعاصرة، م 56، ملحق 11، ص 33-43، دار جامعة شيكاغو، أكتوبر 2015) بعُقدة العشوائيّات القاهريّة في ساعة الثورة، فقال خرجت منها قوىً للثورة وقوىً للثورة المضادّة كذلك. وقال انكسَفَت الصّفوة الليبراليّة المصريّة من هرج العشوائيات الماثل، وبَهَتَتْها في العموم بالإسلاميّة الراديكاليّة قولاً واحداً؛ جوهراً لا تنجو منه. جدّدت الصّفوةُ الليبراليّة المصريّة من هذا الذُّعر عقيدتَها في الانقلاب العسكريّ كحلٍّ لكلّ أزمةٍ ثوريّة، وانتهى بها الأمر إلى الكُفر علناً بما أعلنته عن نفسها من إيمانٍ بالديمقراطيّة الانتخابيّة ما دام حسابها قد انتهى إلى حكم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي، فلم تصبر لتظفر في يومٍ آخر وكشَحَت ماءَ الثّورة وجنينها معاً. نستفيد من شُغل الدكتور آصف بيات درساً قديماً، فالتعرُّف على تحوُّلاتٍ كالتي تقع بالثّورة، وبالحرب كذلك، لا يستقيم بالنّظرة الأولى والفُرشة العريضة، ولا مناص من رَجْع البصر كرّتين وأخرى، إذ لا تتكشّف بالمنظور القديم علاقاتٌ استجدّت، كأنْ لم يكُ شيءٌ. واسمُ هذا الفنّ في كتابٍ آخر «علم الديالكتيك».
فما السّبيل إلى ديالكتيك «الكُونِكَا» إذن؟ أهُو رَجْعُ صدىً لخصوماتِ الصّفوة الجامعيّة؟ إسلاميّة وعلمانيّة؟ أم أَخَذت هذه الصّفوةُ الجامعيّةُ مِزَعاً من هذا التاريخ المُرّ تغذّي بها نار خصومتها التي لا تنقطع تحت عنوان الصّفاء والتعدّد، إثنياً وثقافياً ودينياً... إلخ؟ أم هو أمْرٌ بين ذلك، أم أنّ كلّ هذا السياق «خارجيات» لا تُغني المُتبصّرة؟ لكنْ، لكلٍّ دَبَارة.
في رسالته للدكتوراة «الهوية وتكوين نمط الحياة في العشوائيات متعددة الإثنيات: دراسة حالة في مجتمع البركة في الخرطوم، السودان» (دار نشر ليت، مونستر، 2014)، أزال الدكتور محمد بخيت، الأستاذ بجامعة الخرطوم، الحجابَ عن خارطةٍ أشمل لإقليم «الكونكا» والأقاليم «الانتقالية» التي تصله بالمدينة بعين الإثنوغرافيا. فالكونكا مكانٌ وحالٌ واجتماع، سلسلةٌ تمتدّ من مايو وسوبا الأندلس، ثم جنوباً في جهة جبل أولياء، وغرب أم درمان في أطراف دار السلام ونيفاشا وشمالها في مرزوق والفتح، وفي الخرطوم بحري كرتون كسلا «حي البركة» ودار السلام والوحدة والتكامل والتعويضات وكرتون بارونة.
قعَد الدكتور محمد بخيت لهذه المهمّة متفرّغاً، فاستأجر سكناً في حي البركة «كرتون كسلاً سابقاً» لستة أشهر (أبريل - سبتمبر 2010) وتَبِعَها بأخرى (أكتوبر 2011 - مارس 2012) واستقرّ في سكناه يشهد ما حوله مُراقباً ومُستعيناً بالمُقابلات وعدّة أخرى للأكاديميّ. وأول ما صَوَّب بهذه العدّة التعريفَ «الإثني». فقال عَرَّف الناسُ أنفسَهم أوّلَ الأمر بالإثنيّة، وقامت بينهم تصنيفاً أوّلياً، فكلُّ يَعْرف ملجأه القبَليّ بوجهٍ أو آخر؛ وهذا ما حَصَد بالنظرة الأولى. لكنْ، ما أنْ طاب له المقام وخَبُرَ محيطَه أدركَ أنّ هذا التعريف لا يُغني في واقع الأمر شيئاً، فهو دلالة فارغة كطوبةِ الحجز لغائبٍ في صفّ الرغيف. ومن يتشاركون التعريفَ الإثنيّ تُباعِدُ بينهم الممارساتُ اليومية والقيمُ والتصوّراتُ التي تُبطِّن هذه الممارسات، أو بعبارةٍ أخرى: أيديولوجيا الحياة اليومية. ولذلك جعل «نمط الحياة» محلّ الإثنية، مفهوماً لتمييز وتحليل المجموعات الاجتماعيّة المختلفة في حي البركة. وأدرَك الهويّةَ ظاهراً وباطناً إذا جاز التعبير، فهنالك الهويّة المنطوقة، وهي الدلالة الإثنيّة؛ ويعلن بها الناسُ عن أنفسِهم من قاموسهم الثقافي، وهنالك الهويّة الحيّة، وهي جماع الممارسات اليوميّة للأفراد والمجموعات، أو نمط الحياة. وانتهى الدكتور محمد بخيت بهذه «العدّة الجديدة»، باستبدال المنظور لإدراكِ ما استجدّ، إلى تمييز ثلاثِ مجموعاتٍ في حي البركة في محل الفسيفساء الإثنيّة التي تلتقطها غشاوة النظرة الأولى: الجيل الأوّل والجيل الثاني والمتعلّمون. الجيل الأوّل واقعٌ في رباط زعماء القبائل والبطون ورجال الدِّين، والجيل الثاني؛ جيلُ «الكُوِنِكا» الحَقُّ، عالَمُه زمالةُ العصابات والشمّاسة، والمتعلّمون فئةٌ مصالحُها في السّوق وقواعدِه. ليس بين هذه المجموعات الثلاث حواجزُ جوهرية، فهي ليست «سِجِنْ تأبيدة»، وإنما علاقاتٌ، والناسُ في حي البركة موزَّعون بين هذه الأقطاب الثلاثة في علاقاتٍ تصلها بكلٍّ إلى درجةٍ تقلّ أو تزيد.
اقترَب الدكتور محمد بخيت بهذا التصوُّر من مفهوم «الطبقة» المُستعصي في المَلَجَة الحضريّة في هامشٍ رأسماليّ؛ المَلجَة التي اعتنى الدكتور عبده سيمون بعرض بنائها من الخرطوم فجاكرتا إلى داكار. وهو مفهوم الطبقة الذي تعطّل عنده قلم المرحوم الدكتور كارل ماركس، الشيخ الإزيرق، في آخر مسوّدة «رأس المال»، الفصل 52، وفيه كتب شذرة لمّا تكتمل تحت عنوان «الطبقات»، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح:
«والسؤال الأول الذي تنبغي الإجابة عنه هو هذا: ما الذي يؤلِّف طبقة؟ تأتي الإجابة على هذا السؤال تلقائياً من الإجابة عن السؤال الآخر: ما الذي يجعل العمّال المأجورين والرأسماليين والمُلّاك العقاريين يؤلّفون الطبقات الاجتماعية الكبرى الثلاث؟ قاعدة ذلك من النظرة الأولى، تَماثُل الإيرادات مع مصادر الإيرادات. فهناك ثلاث مجموعات اجتماعية كبرى يعيش عناصرها، أي الأفراد الذين يؤلّفونها، من الأجور والربح والريع العقاري على التوالي، أي استخدام قوة عملهم، ورأسمالهم، وملكيتهم العقارية. ولكن من وجهة النظر هذه [وهذه للتذكير النظرة الأولى]، سيؤلّف الأطباء والموظّفون، على سبيل المثال، أيضاً طبقتين، لأنّهم ينتمون إلى مجموعتين اجتماعيتين مُتمايِزتَين، بينما يتلقّى أعضاء كلّ واحدة من هاتين المجموعتين إيراداتهم من المصدر الواحد نفسه. ولسوف ينطبق الأمر ذاته على تشعّب لا نهائيّ في المصالح والمراتب يؤلّفه تقسيم العمل الاجتماعي بين العمّال وكذلك بين الرأسماليّين والمُلّاك العقاريّين - فالأخيرون مثلاً ينقسمون إلى مالكي مَزارع كروم، مالكي حقول زراعيّة، مالكي غابات، مالكي مناجم، مالكي مصائد أسماك». [هنا تنقطع المسوّدة] .
(كارل ماركس، «رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، الجزء الثالث»، دار كارل ديتز، برلين، ط 33، 2010، ص 893).
فما مفهوم الطبقة الذي يتجلّى برَجْع البصر كَرّتين؟ ما المفهوم الذي انقطعت عنده المخطوطة، ولم يَصْفُ للمرحوم الإزيرق مكتوباً؟ قد لا ينعقد هذا المعنى بطُول التأمُّل، لكنْ قد يساعد مثل شغل الدكتور محمد بخيت على التعرّف على انزلاقٍ لمفهوم الطبقة وقد انحسر في «الكونكا» سترُ العمل المأجور وانقطع الإيراد إلا ما كان شلْباً وشفشفةً، وتدهورت التعريفات الإثنيّة إلى غلافٍ كاسد، فارغ رصاصٍ في مَلجَة صراعيّة، وتبعثرت الروحيّة في هُجنةٍ من تعويذاتٍ وتمائم أملاً في البقاء. بماذا تطفح «الكونكا» وقد انسَدّ المجرى؟