نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٧٤ بتاريخ ٢٤ أبريل ٢٠٢٥.
قام في ١٥ أبريل الجاري مؤتمر في لندن دعت له الحكومة البريطانية لتدبير شؤون السودان وقعد قبل أن يقوم مستقيما، تمخض فولد فأرا. انتهى إلى بيان قصير من رئاسة المؤتمر لم يتفق عليه أقطابه، كررت فيه رئاسة المؤتمر عبارات تقية عن ضرورة وقف الحرب وإسعاف المدنيين. جاء تصميم المؤتمر ليوافق الذكرى الثانية لاندلاع حربنا «العبثية»، وهي العبارة الأثيرة لوصف ما بنا عند مراقبي أحوال السودان من غير أهله ومن يوالونهم الرأي ويرفدون تصوراتهم كومبارس أو كورس، كيفما اتفق. و«العبث» غير المعنى، طرد من التاريخ يرشح بالكبر الاستشراقي. وللمقارنة، للقارئة أن تتساءل إن كان يصح وصف حروب يوغوسلافيا السابقة على عنفها أو دمويتها بالعبثية. وعادة ما يسفر أرباب «العبثية» عن باطن لهذه العبارة غير ظاهرها بردهم الحرب إلى أسباب هيكلية عميقة أو مؤامرة متينة للنظام السابق، فإما «عبثية» أو «هيكلية» أو «مؤامرة» ولا يجتمعن بغير تفسير قويم.
على كل، دعت الحكومة البريطانية لمؤتمر لندن وزراء خارجية وممثلين مرموقين لكل من كندا، تشاد، مصر، اثيوبيا كينيا، المملكة العربية السعودية، النرويج، قطر، جنوب السودان، سويسرا، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للتباحث في مصاب السودان واهتبال طريق ما إلى الأمام. وكشكول القوى الدولية والإقليمية حول الطاولة دلالة على مدى تبضع شؤون السودان في بازار علاقات الشوكة الدولية وفشله دلالة أعظم على انسداد هذا الطريق غير الموجود، زقاق ضيق أعمى تحيط به أسوار حصينة من المصالح الغيرية.
غاب، أو قل غُيّب عن مؤتمر لندن أي طرف سياسي سوداني محلي ذو اعتبار حق ونفوذ. لكن بينما اجتمع الدبلوماسيون في لانكاستر هاوس، وشغل حجاجهم قاعاته الفخمة، عرض أهل السودان غريزتهم الديمقراطية لايڤ في شوارع لندن. والمبنى من العصر الامبريالي البريطاني (شيد في العام ١٨٢٥) تتخذه الخارجية البريطانية دار ضيافة منذ العام ١٩١٣، وكان مسرحا لأفلام شرلوك هولمز ومؤخرا بالإيجار لمثل مسلسل «التاج» عن حياة الملكة الزابيث الثانية. تظاهر خارج هذا المبنى المئات من أهلك الذين «هبوا» للنصرة في يوم عمل ضد تخريب الدعم السريع للبلاد وحياة أهلها، ومنجزاتها المادية وتاريخها وروحيتها، بالمختصر تهديده كامل التكوين الاجتماعي وليس «الدولة» وبس مقطوعة الطاري، ونددوا بالمجهود الحربي الإماراتي الممتد خلال عامين من الحرب لصالح وكيلها الدعم السريع. ولم يعد هذا المدد الحربي سرا فقد ثبت قطعا وجزما، وبلغ من حيث الحجم والمدى مبلغا بعيدا بما في ذلك خط إمداد جوي مستمر ينقل السلاح والذخائر والمرتزقة من جهات الأرض، حتى بلغاريا وكولومبيا. وفاق بذلك كل ما طرأ على السودان من تدخل حربي في تاريخه الحديث من حيث التكنولوجيا القتالية والدعائية إلا ربما باعتبار قياس العصر الحملة البريطانية الناجحة لاحتلال السودان في أصيل القرن التاسع عشر.
حام في «الأجواء» اللندنية تلك نفر مختار من الأعلام السياسيين السودانيين هيأت لهم يد الدبلوماسية الخفية التواجد في لندن في ميقات المؤتمر، نفر من حطام الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة على نظام الرئيس البشير، وما زالوا على تلك الموجدة تقدمهم ذات اليد أو الأيادي على أنهم بديل السودان المدني الديمقراطي أو الأمناء عليه. اختصرت جريدة «الغارديان» البريطانية في كلمة تحرير قصيرة بمناسبة العيد الثاني لحربنا «العبثية» الحجة التي تقول بها الحكومة البريطانية وكذلك هذا النفر من السياسيين السودانيين الذين اتفق وجودهم في لندن أوان مؤتمرها. وتطرأ ذات الحجة بصورة وأخرى مع تعديلات متباينة في الصياغة أو السمت في الآراء المكتوبة والمنطوقة لقسط عظيم من مجتمع «خبراء السودان». وهذه شبكة مجاملة تجمع فريقا متعدد الأجيال من الأكاديميين، والعاملين في العون الإنساني الدولي، والدبلوماسيين والأمنجية ومخبريهم المحليين الذين يقوم معاشهم منذ عهود على أزمات السودان، معاش تحققت به سير مهنية ناجحة ومواقع أكاديمية مرموقة واستشارات لدول غالبة ومنظمات مهيبة، هذا وإن فشل العديد منهم حتى ساعتنا هذه في تعلم اللغة العربية أو أي لغة أخرى من لغات ناس السودان العديدة.
فما عناصر هذه الحجة؟ عرضت الغارديان على القارئة صراعا دمويا على السلطة بين جنرالين، وسكانا قيد التقتيل المطلوق على يد الجانبين، ومصالح دول أخرى، وسياسيين مدنيين ديمقراطيين مظلومين أزاحهم الجنرالان من السلطة في انقلاب، وإسلاميين متعصبين يتآمرون خلف الكواليس لاستعادة الحكم، وانقسامات إثنية متعاظمة. لكن لا تمييز لوزن أي من هذه العناصر أو لترتيبها، تضطرب بغير تحديد كأنها عناصر تعويذة، ضرس شمال لغنماية بها عرج في ساقها الأمامي اليسار ودم أم سيسي بيضاء بنقطة سوداء في جبهتها إلى جهة اليمين قليلا، وخرزتين ومحلب أصلي. وصارت بهذا التشكيل «العبثي» عقيدة دوغمائية تقاوم الاستقصاء والبحث المكين. وها قد مر عامان على الحرب، والحرب كما الثورة وأوقع معمل لتسارع التاريخ بالخطوة العريضة. لكن يظل المنظار على ما هو عليه، على طريقة الكلام الأول ما بتحول، فيمر التاريخ دورة كأن لم يحدث شيء، مكانك سر. والعقدة أن هذا المنظار يعكس ما يختلط في ذهن الناظر من تصورات لا ما يطرأ على موضوع النظر، فهو يكشف للناظر ما يبطن من تصورات «استشراقية» عن دراما كبرى، مقتلة ومؤامرة وخيانة ومجاعة ومسغبة وأبطال عكس ما إنك، تتواتر أحداثها الجسيمة، لكن آخر الأمر لا يحدث شي البتة وتنتهي حليمة عند قديمها الذي بدأت منه. يغيب عن هذه الدراما الناس سوى كضحايا للمجازر والخراب، عناصر كومبرس في فيلم آكشن، يشغلون الخلفية حتى تنتهي المشاهد.
تتنوع الخلاصات التي يخرج بها مجتمع «الخبراء» هذا من هذه التعويذة بدرجة أو أخرى، بحسب الاختيار أو المزاج الآيديولوجي، لكن قاعدة هذه الخلاصات في أحيان كثيرة وليس في كلها متى قبلنا ببعض الماركسية المبتذلة حافز قليل الستر من المصالح المهنية. انتهى العالم بشؤون السودان آلكس دو ڤال في كلمة له والحرب بعد في شهرها الأول إلى شماتة ظاهرة فقال الحرب حساب على مئتي عام من تاريخ الخرطوم المدينة في السلب الجشع، حساب على فظائع نسبها لأحفاد الزبير باشا، وقال حولوا كل ما هو خارج الخرطوم إلى "قحط اجتماعي واقتصادي." قد تتساءل القارئة إذا كان من الإنصاف اختزال تاريخ مئتي عام من الحياة الحضرية بعمرانها وصراعاتها في هذا التصور المبتذل للتاريخ أو إذا كان من الإنصاف نسبة ملايين النفوس فيهم المحسنة والمناضلة والداية والمعلمة الله يزيدها، والركع والسجود، إلى بطل مضاد من القرن التاسع عشر. أما نعت كل ما هو خارج الخرطوم بالقحط الاجتماعي والاقتصادي فعبارة درامية من خارج التاريخ، وتستحق القارئة تفسيرا لركل نيالا ثاني أكبر مدينة في البلاد وعاصمة دارفور الفاشر ومدن الجزيرة الناعسة وغيرها تحت القطار المَرَّ. أما المقارنة فتفتح الباب للتساؤل عما ينتظر مثل لندن، عاصمة الإمبراطورية البريطانية حتى غربت شمسها، من حساب متى أخذنا بفلسفة آلكس دو ڤال للتاريخ.
أما جوشوا كريز وزميلتيه فاحتجوا بمصحف المجاعة أو تهديدها على الأسنة أن «سيادة» السودان انتفت، ولم يبق منها سوى سلطان القوات المسلحة، والواجب التغاضي عنها وابتدار تدخل إنساني عظيم لإنقاذ السودانيين من أنفسهم، وذلك من عاصمة إقليمية، ربما نيروبي، وقالوا مهيئة تطيب لهذا الغرض. عاد كريز إلى ذات القضية في كلمة أخيرة، وقال هذه المرة سيادة السودان خواء كخواء القصر الحطام على النيل. احتفى كريز محقا بمبادرة ونجاعة غرف الطوارئ في التصدي لمهام الطعام والعلاج في غياب الدولة التي قال طارت سيادتها. والغرف ليست وحدها فهي طرف من أرخبيل للتضامن والعون المتبادل لا يدركه مجتمع «خبراء السودان» ولا تدركه صناعة العون الإنساني الدولية لأنه لا ينطق برطانة «المنظمات غير الحكومية» ولا يعتمد على مال «المعونة الأميركية». ويقوم هذا الأرخبيل على تنظيم تغلب عليه ديمقراطية أفقية مثله ولجان المقاومة، فهي من هذه الخبرة الاجتماعية التي تضم الأسرة الممتدة وخوة الحي ونفير الحلة والقرية والطرق الصوفية ومجتمع المسيد وهيئات التجار والمزارعين وروابطهم وعصبية المهنة والدفعة ووجوه أخرى وتشكيلات للتنظيم «المدني»، سارت عندنا تحت عنوان «الأهلية» قبل أن تنطلق فينا رطانة «المجتمع المدني». وهي صور للتضامن والعون والصمود أسبق على الدولة مقطوعة الطاري وأعمق منها، والله وكيل الغافلين.
أعاد كريز في كلمته تمييزا تكرر على لسانه وعلى لسان غيره بين غرف الطوارئ ومناضلي لجان المقاومة الذي تسلحوا للقتال "إلى جانب الإسلاميين الذين سبق وأزاحوهم عن السلطة" بعبارته. لكن لم يتطرق كريز في تمييزه إلى موضوع القتال ولا غرضه، فلا قال عن ماذا يحاربون وأو من أجل ماذا. والتمييز ساقط متى ما أخذت بحقيقة أن المتطوع بغير سلاح والمتطوع بسلاح مدفوع بضرورة حاكمة، ضرورة مقاومة الانقضاض الباطش للدعم السريع وأولياءه على كامل التكوين الاجتماعي، على بيتنا وشارع بيتنا. بل ويصعب تمييز المتطوع بغير سلاح والمتطوع بسلاح من حيث التركيب الاجتماعي فهذا هو ذاك، تتطابق نفوسهم. وربما أسعف القارئة الاعتبار في هوية «الإسلاميين» في هذا السياق، فهل العشريني الذي يلهج بعبارة «إسلامية» وهو يجابه موته مقاتلا إلى جانب مناضلي لجان المقاومة المسلحين هو صورة كرادلة «المؤتمر الوطني»، من أطاحت بهم الثورة في ٢٠١٩/٢٠٢٠، وآلة ألاعيبهم السياسية، وقد أحال العديد منهم نفسه إلى المعاش في إسطنبول يلوك ما مضى اجترارا، "الدنيا ليل وغربة ومطر." أهذا تاريخ إذن سيدتي أم جر هوا؟
بطبيعة الحال، لا يمكن لوم الدكتور آلكس دو ڤال ولا الأستاذ جوشوا كريز ولا سواهم من مجتمع «خبراء السودان» على القنوط من السودان وأهله من موقع المراقب، فالحالة صعبة. تجرأ سواهم لكن على أكثر وذهبوا خطوة أبعد في القنوط فقالوا ما يفيد ألا خلاص سوى بيد المجتمع الدولي القوية، دعوتهم جهرا وسرا إلى تدخل دولي عسكري في السودان بتمومة جرتق ديمقراطية كرزاي أو عدة كرزايات، فهذا سبيلهم لإنقاذ السودان من نفسه، بعبارة أخرى حرب أعظم وأشد. شغلت هذه المجلة نفسها منذ قامت بالبحث والتقصي في كل خطوة لأهل السودان أسياد أنفسهم في الاتجاه المضاد، كل خطوة للتضامن والعون المتبادل والصمود والمكابدة بما في ذلك من تناقضات وتحولات وهم يقاومون جبروت حملة إخضاع عابرة للقارات. والحق الاحتفاء والبشارة بكل مزارع استعاد الإنتاج وبلغ بالطعام السوق المتضايق، وكل عامل يصب عرقه في إعادة تشغيل الموية والنور مجازفات، وكل مهني يقوم على الجرحى والمرضى بما تيسر، وكل متطوع في تكية ومطبخ وكل كسيب بالحلال أخرج من ماله قليل أو كثير لصيانة الأسرة والجيران والحبان والمؤسسات، وكل مقاتل قام بسلاحه ضد قوى الخراب التي تفتك بأهلك. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
No comments:
Post a Comment