Tuesday, 17 December 2024

بيرتس: لا هو من أهل الجمرة ولا واطيها

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد  ٥٧ بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠٢٤

نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في أكتوبر الماضي «ورقة بحثية» للدكتور فولكر بيرتس، المسؤول الأول في «بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لتقديم المساعدة خلال الفترة الانتقالية في السودان (يونيتامس)» لخص فيها ما استفاد من مهمته في السودان لانتقالات قادمة تحت عنوان «انتقال السودان نحو الحرب وحدود المساعي الحميدة للأمم المتحدة». قامت البعثة التي تولى أمرها الدكتور فولكر بيرتس في يوليو ٢٠٢٠ على إثر طلب من حكومة السودان وانحلت ولايتها في فبراير ٢٠٢٤ بطلب من حكومة السودان. جمع بيرتس في كلمته الطويلة نسبيا، والمكتوبة بضمير الأنا، فعلت وتركت، للعارفة بهذا التاريخ القريب بين «مرافعة الدفاع» و«النقد الذاتي». وتمييز «ورقة بحثية» ربما مجاملة مستحقة لأكاديمي مخضرم وأستاذ للعلوم السياسية ومؤلف غزير الإنتاج شغل منصب مدير هذا المعهد لخمس عشرة سنة خلت (٢٠٠٥ ٢٠٢٠) قبل أن يتحول إلى دبلوماسي دولي. 

أول ما بدأ به بيرتس كلمته هو حساب العلل الباطنة فيها وحالت ربما دون تحقيق أهدافها الأربعة، فانتهت إلى مربع الحرب، ما يعرف في رطانة الأمم المتحدة بالتفويض ونصه: "المساعدة في الانتقال السياسي والتقدم باتجاه حكم ديمقراطي وتعزيز حماية حقوق الإنسان واستدامة السلام بما يستجيب للأهداف رقم ٥ و١٠ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة، ولا تسألني ما هي؟]؛ دعم مسارات السلام وتنفيذ اتفاقيات السلام المستقبلية، بما يستجيب للأهداف رقم ٨ و١٠ و١١ و١٢ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة]؛ تقديم العون لبناء السلام وحماية المدنيين وسيادة القانون، وعلى وجه الخصوص في دارفور وفي المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) بما يستجيب للأهداف ٥ و١٠ و١١ و١٦ و١٧ [من أهداف التنمية المستدامة]؛ دعم إتاحة المساعدات الاقتصادية والتنموية، وتنسيق المساعدات الإنسانية من خلال ضمان نهج تكاملي لوكالات الأمم المتحدة والتمويل والبرامج المتاحين من خلالها؛ ومن خلال التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وبما يستجيب لجميع أهداف التنمية المستدامة." 

فصل بيرتس بين ثلاث مراحل لبعثته: الشراكة المدنية العسكرية حتى الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، ما بعد الانقلاب، والحرب بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع، وقال قدمت بعثته مساعيها الحميدة في دور الميسر والميسر الشريك بخاصة في مرحلة ما بعد الانقلاب وإن كان تفويضها لا ينطبق حرفا سوى على المرحلة الأولى. وترجمة ذلك أن البعثة انشغلت بما لا يعنيها بنص تفويضها. ثم أضاف أن البعثة لم تكن مفوضة ولا قادرة على «حماية المدنيين»، وإن توقع البعض بغير دليل أنها جاءت لتحل محل بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي المشتركة في دارفور (يوناميد). فشغلها بنص تفويضها وبممارسة المرحلة الأولى علاقات عامة، "سعت إلى بناء علاقات مع السلطات وأطراف سياسية واجتماعية فاعلة، وأطراف أخرى إقليمية ودولية، وساعدت الحكومة الانتقالية على تعريف أولوياتها بما في ذلك تطبيق خطة قومية لحماية المدنيين، والإصلاح القانوني، وبناء قدرات جهاز البوليس والقضاء والتخلص من الألغام. كما عملت جاهدة مع مجموعات النساء ومجموعات أخرى من المجتمع المدني وساهمت في دعم الحوارات بين المجتمعات." 

شاهد الوقائع لكن أن دور مسؤول البعثة الأول فولكر بيرتس لم يقتصر على العلاقات العامة، فقد كان وبعثته طرفا مؤثرا في الصراع السياسي المحتدم ما قبل الانقلاب في ٢٠٢١ وما بعده، وإن قال وكرر أنه محض ميسر لعملية سياسية يمتلك زمامها أمرها السودانيون. شرح بيرتس أن بعثته كانت فقيرة جدا بالمقارنة مع مليارات يوناميد وحشودها من القوات والموظفين، فلم تتجاوز ميزانيتها ٣٤ مليون دولار في العام ٢٠٢١ بجهاز بشري عدده ٣٢٠ موظف سوداني وغير سوداني بما في ذلك ٢٨ مراقب عسكري و٤٢ ضابط بوليس من غير السودانيين. 

سرد بيرتس بإسهاب ضمن تاريخ انتقائي للفترة الانتقالية تركيزه فيه على الأنواء السياسية أنشطة للبعثة كان هو بطلها احتسبها «مساعي حميدة»، وللتذكير ضمن تفويضها ما قبل الانقلاب وخارج تفويضها نصا ما بعد الانقلاب. قال تدخلت البعثة بإحسان لتيسير دورة من المباحثات بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) جناح الحلو، وشاركت في تمويل ودعم أعمال اللجنة الدائمة لوقف إطلاق النار في دارفور، وهي ضلع من هندسة اتفاقية جوبا للسلام مسار دارفور. وقال دعت البعثة إلى «خفض التصعيد» في أعقاب انقلاب المدرعات وانشطار الحرية والتغيير فريقين ثم اعتصام القصر. وأضاف أن الجميع، عسكريين ورئيس وزراء وسياسيين في الحرية والتغيير وقادة الحركات المسلحة، استقبلوا هذه المساعي الحميدة بترحيب، بل حملوا البعثة ومسؤولها الأول رسائل لبعضهم البعض. أضاف بيرتس أنه توسل شخصيا القيادة العسكرية أن تعزف عن أي خطة انقلابية فالأمم المتحدة والفاعلين الدوليين الآخرين سيسمون الانقلاب انقلابا!

كتب بيرتس أن الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ أنهى الشراكة المدنية العسكرية وأجهض الانتقال السياسي، ومن ثم لم يكن لبعثته غرض بحرف تفويضها، فأعادت تعريف أولوياتها وصارت «المساعي الحميدة» هي شاغلها الأساس. ثم عدد من بعد ذلك محطات لهذه المساعي: مشاورات حول العملية السياسية استمرت ستة أسابيع في يناير ٢٠٢٢، والآلية الثلاثية التي ضمت البعثة والإيغاد والاتحاد الإفريقي بغرض تشجيع الحوار بين الأطراف العسكرية والمدنية، ثم ورش العمل الخاصة بالاتفاق الإطاري. وقال بيرتس في هذا الصدد أن سياسيي الحرية والتغيير المجلس المركزي عبروا عن توقعهم أن تلعب الولايات المتحدة «دورا قويا خلف الكواليس» لإيجاد حلول للأزمة الماثلة، بحسبان أن شوكة الولايات المتحدة أعظم أثرا من الأمم المتحدة وسواها من الفاعليين الدوليين.          

فضل بيرتس أن يميز لنفسه دورا فوق دور بعثته فقال إنه شخصيا ظل على اتصال وثيق مع رئيس الوزراء حمدوك ومع البرهان وقادة الجيش. وقال أسر له البرهان في آخر ٢٠٢٢ خلال مشاورات حول الاتفاق الإطاري أن الوقت صار مناسبا لاستئناف الانتقال وفض الانقلاب. وقرظ تقريظا شديدا "المشاورات السياسية" التي قامت بجهد من البعثة وقال شملت ١١٠ اجتماعا مع أكثر من ٨٠٠ شخص، ممثلين عن المجتمع المدني والحكومة والأحزاب السياسية والحركات المسلحة ومجموعات النساء ولجان المقاومة وجماعات المال والأعمال، والمجموعات الرعاة، والنازحين والمنظمات السودانية في المهاجر وخلافهم، سمك لبن تمر هندي. لكن أعيت «الاصطكاكة» التي غلبت على هذه المجهودات بلاغته، فهذا الطرف رفض وهذا قاطع وهذا تمنع وذاك تشكك.. الخ. واختار أعمال نقابة المحامين والاتفاق الإطاري كأفضل ما خلصت إليه مجهودات عديدة فيها المتوازية وفيها المتناقضة خلاصة لكل ما سبق، فهي الأوسع والأشمل وإن قاطعتها الكتلة الديمقراطية ولجان المقاومة دع عنك "المؤتمر الوطني المحلول وطوائف أخرى ومجموعات ذات صلة بنظام البشير السابق." وللقارئة أن تتعاطف مع الدكتور بيرتس الذي قال أنه أصبح هدفا لتهديدات طالت شخصه في لحم ودم من «الحركة الإسلامية» بقيادة علي كرتي وعناصر أخرى ذات صلة بنظام البشير ما أن اقتربت ثمرة الاتفاق الإطاري أن تنضج في اتفاق نهائي أخير. 

عرض الدكتور بيرتس الخلاف حول «الدمج»، مقدمة الحرب، في صفحتين كأنهن انتزعن من تقرير لمراسل صحيفة أجنبية يتعرف لتوه على السودان لكن مجتهد. وأضاف أنه من موقعه كممثل للأمين العام للأمم المتحدة حذر مجلس الأمن من «توترات متصاعدة بين المكونين العسكريين» منذ بداية العام ٢٠٢٣، وطلب من دولتين، لم يسمهما، التدخل بإحسان للتوسط بين قائد الجيش وقائد الدعم السريع. ثم جاء بروايات ثلاث عن "الطلقة الأولى" وظنون حول كل رواية، بعضها من «قوالات» ضباط معاشيين. انتهى هذا القسط من كلمة الدكتور بيرتس بأن قفز من ظله فانتقل من ضمير الأنا الذي التقى به البرهان وانخرط في مشاورات مع الأطراف وحذر مجلس الأمن إلى ضمير الغائب فقال عن نفسه وبعثته: «لم يؤد غياب رئيس البعثة عن السودان ونزع الاعتراف به من قبل أحد الطرفين المتحاربين إلى القضاء على وظيفة يونيتامس في المساعي الحميدة وإن أقعدت بها." ويلههم الأمل.  

ما العبرة إذن؟ انتقل الدكتور بيرتس في باب الدروس والعبر إلى مقعد التصحيح، فالمجتمع الدولي هو الذي فعل وترك، أما البعثة ورئيسها فصحيفة من «المساعي الحميدة». قال أساء المجتمع الدولي تقدير بأس القوى المعارضة للانتقال السياسي، وعين الإسلاميين وأطراف أخرى ذات صلة بالنظام السابق، ثم قال كانت البعثة فقيرة قليلة الموارد وانتهى إلى أن التوقعات المنتظرة من البعثة فاقت قدراتها، ثم ختم بتقريظ أخير فكتب أن تجربته شاهد على قدرة بعثة سياسية صغيرة نسبيا على التلاؤم وبيئة متغيرة ووقائع غير منظورة. 

انعقد منطق كلمة الدكتور بيرتس على تناقضين إثنين، فهما الخيط الناظم لتحليله وقوام عقيدته، الأول بين العسكريين والمدنيين، والثاني بين مدنيين مساندين للانتقال الديمقراطي وآخرين معادين له، ثم تقاطع هذا وذاك حتى صفى عنده مربع من المدنيين المساندين للانتقال الديمقراطي، هم حزب الخير الذي يستحق رافعة يونيتامس والمجتمع الدولي وما زال، حزب طرد منه «الشارع» ولجان المقاومة وقوى أخرى لم يهضمها. لكن غاب عن الدكتور بيرتس أن يأخذ من تجربته وما شهد بالقناطر المفتوحة بين مربعات هذه الخريطة الذهنية أو ربما إعادة رسمها، فعلة يونيتامس ورئيسها بالزبط في العجز عن التلاؤم مع بيئة متغيرة وظروف غير منظورة، عكس ما إنك. تقدم الدكتور بيرتس لوظيفة رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة في السودان لما رأي في نفسه من كفاءة لمهمتها ونال الوظيفة وكسب أجرها وفوائدها، وكان طرفا فاعلا عالي الصوت كثيف الحضور في صراع انتهى بالحرب وتقع عليه مسؤولية ردها في آخر كلمته إلى ضمير الغائب. وليس ثمة محكمة للمسؤولية السياسية يكمن أن يجرجر إليها تربال في بحر أبيض مثل الدكتور بيرتس. ولا يقرأ التربال انجليزية الدكتور بيرتس الناصعة في مرافعته عن نفسه. وليس الدكتور بيرتس هو الطرف الذي يستحق المناقشة والحوار حول مستقبل السودان، حربا أو سلما، في ساعة الضيق والعنت هذه، فلا هو من أهل الجمرة ولا هو واطيها. لكن، ربما قرأ الدكتور ضمن ما قرأ وهو محسن للعربية الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».


Monday, 9 December 2024

دولة الرئيس وانغ شن وي: الخائن الشهيد

 نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد  ٥٦ بتاريخ ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤

ختم سلطان قصير لإمبراطور تولى العرش عام ١٩٠٨ في عمر العامين ألفي عام من التاريخ الإمبراطوري الصيني و٢٦٠ عام من حكم مينغ (١٦٤٤- ١٩١٢). وذلك يوم أصدرت الإمبراطورة لونغيو، الوصية على عرش الإمبراطور الصبي بويي ووالدته، إعلان تنحيه في ١٢ فبراير ١٩١٢. مثلت هذه الوقائع نهاية لعقد من الثورات والتمردات ضد السلطان الإمبراطوري وفي سبيل الجمهورية، بلغت الأوج في ثورة العام ١٩١١ المسلحة التي انتهت بتأسيس الجمهورية الصينية في ١ يناير ١٩١٢ وعاصمتها نانجنغ تحت رئاسة زعيم الحزب الوطني (الكومنتانغ)، صن يات صن. سرعان ما انشقت الحكومة المؤقتة التي قامت بمسؤولية الجمهورية كائتلاف بين الكتل السياسية المتناحرة. وأعلنت إحداها استعادة الإمبراطورية في ١٩١٥ ليسمي زعيمها يوان شيكاي نفسه امبراطورا. وكان يوان شيكاي هذا قائد جيش الإمبراطورية ورئيس وزراء دولتها حتى انقلابه عليها، وقامت الجمهورية في أولها عهدا بينه وبين زعيم الكومنتانغ صن يات صن. 

لكن لم تنجح هذه العودة بالتاريخ القهقرى، عارض الجيش خطة يوان شيكاي كما عارضه عموم الناس. مات يوان شيكاي في ٦ يونيو ١٩١٦ وكانت النتيجة فراغا تفتت فيه الجيش الإمبراطوري إلى كتل متنازعة على رأس كل منها أمير حرب طموح لا يبلغه ضعفه محل بلغ طموحه. وانقسم الحكم بالدرجة الأولى بين حكم الكومنتانغ في غوانغزو جنوبا وعاصمته نانجنغ وحكم الجيش الإمبراطوري السابق (البيانغ) في الشمال وعاصمته بكين. استطاع شيانغ كاي شك، خليفة صن يات صن على زعامة الكومنتانغ، هزيمة أمراء الحرب خلال الفترة ١٩٢٦-١٩٢٨ وتوحيد البلاد مؤقتا تحت حكومة مركزها نانجنغ، العاصمة الجنوبية للإمبراطورية البائدة.

كانت الإمبراطورية اليابانية خصما للجمهورية في الصين، وزاد شهيتها التوسعية ما شهدته من تبذل أمراء الحرب عند موائد الدول الغربية، فوق غرور طوكيو الفائق بتفوقها العسكري على دولة مينغ في الحرب الصينية اليابانية الأولى (١٨٩٤-١٨٩٥) التي كان موضوعها السيطرة على كوريا. وكانت اليابان سبقت الصين وغيرها من الجيران في جنوب شرق آسيا على سكة التحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر في عهد ميجي الإمبراطور، ذلك من خلال إصلاحات تحولت بها اليابان بطفرة من مجتمع إقطاعي منعزل إلى دولة صناعية. ولذا استضعفت جيرانها واخترعت عقائد عنصرية تبرر هذا الاستضعاف وتشرع استحقارهم. 

مثلت الموارد الطبيعية والعمل الرخيص مصادر لنهضة اليابان الصناعية، وكان تأمين هذه الموارد بالإضافة إلى الأسواق المفتوحة لبيع منتجاتها وتثبيط كل نهضة مماثلة تخلق منافسين لها في الإقليم أولوية سياسية وعسكرية. لذلك، تصيدت اليابان الأسباب لشن الحرب على جارتها الصين، فاجتاحت منشوريا في ١٩٣١ وأنشأت حكومة عميلة لها في الإقليم، ثم عبرت القوات اليابانية جسر لوغو فوق نهر يانغدينغ في ٧ يوليو ١٩٣٧ مبررها البحث عن جندي ياباني مفقود في مدينة وانبنغ واشتبكت مع قوات الجمهورية إيذانا ببداية الحرب الصينية اليابانية الثانية (١٩٣٧-١٩٤٥). 

اجتاحت الجيوش الإمبراطورية اليابانية البر ثم الداخل الصيني الواسع الذي ابتلع خلال سنين الحرب ثمانية مليون جندي ياباني دون أن يستقر لهم ملك، فظل احتلال اليابان للصين ديان (نقاط) وكسيان (خطوط) دون أن ينفذ بسلطان، أزهقت في هذه المغامرة ٢٠ مليون من النفوس. كان هدف الجيوش اليابانية الأول السيطرة على العاصمة الجنوبية نانجنغ والجنوب الشرقي الغني أدنى حوش اليانغتسي، وقد تحقق لها هدفها. لكن، لم تنكسر المقاومة وتجددت في ووهان في الداخل بشوكة قومية ثم قومية وشيوعية.

نشأت في هذا التاريخ خطة ماو زيدونغ لتحرير الصين، وقال في تشخيصه عام ١٩٣٥ وقد احتلت اليابان منشوريا أن الصين ظلت لمئة عام تحت سيطرة شبه استعمارية تهيمن عليها عدة دول إمبريالية ولا تبلغ سوى شبه الاستقلال. وخطة اليابان تحويل كل الصين من شبه مستعمرة تتقاسم السيطرة عليها عدة دول إمبريالية إلى مستعمرة تحتكرها اليابان لنفسها. رفع حزب ماو، الحزب الشيوعي الصيني، وقتها شعار «الجبهة المتحدة» ضد الإمبريالية اليابانية، وقال الخيارات ثلاثة: المقاومة أو الاستسلام أو التردد بين الإثنين. 

وضح ماو أن العمال والفلاحين يطالبون بالمقاومة وكذلك البرجوازية الصغيرة فقد نهضت بين الطلاب والموظفين وصغار المنتجين حركة معادية للإمبريالية اليابانية وشارك طلائعهم في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧. ثم تساءل عن موقع البرجوازية الوطنية وملاك الأراضي والبرجوازية العميلة لرأس المال الأجنبي (الكمبرادور) وأجاب أن كبار الملاك والكمبرادور انحازوا مبكرا إلى الإمبريالية فالثورة من أي نوع وصنف أهون عليهم من الإمبريالية، وشكلوا بذلك معسكر «الخونة» الذين اندمجت مصالحهم والإمبريالية. أما الرأسمالية الوطنية فقد كان فريق منها حليف في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧ وغادرت الحلف الثوري خشية على مصالحها وقت اشتداد الأزمة. وميز ماو بعقيدته في الثنائية التي تشق كل واحد، الرأسمالية الوطنية، التي قال هي أقل إقطاعية من الملاك وأقل كمبرادورية من الكمبرادور، بين فريقين، فريق عظيم المصالح ورأس المال الأجنبي وملاك الأرض الكبار، وفريق قليلها. 

وقال هذا الفريق الثاني، قليل الارتباط برأس المال الأجنبي، سيرتبك، فهو من ناحية لا يحبذ الإمبريالية لكنه كذلك يخشى الثورة. ولذا شارك هذا الفريق في ثورة ١٩٢٤-١٩٢٧ ثم تحول في آخر الأمر إلى حلف الكومنتانغ وتحلل من عهده مع الطبقة العاملة. لكن لم يفز هذا الفريق من الرأسمالية الوطنية بأي مكسب يذكر، بل هدمت الإمبريالية اليابانية كل ما شيدته الرأسمالية الصينية من مصالح تجارية وصناعية وتركتها «مفلسة»، ولذلك الأقرب أن يلتحق هذا الفريق وإن تلكأ بصفوف «الجبهة المتحدة» ضد الإمبريالية اليابانية. 

في مقابل ماو وحزبه الثائر، قام الاحتلال الياباني فوق الشوكة الحربية على شبكة واسعة من «المتعاونين»، أغلبهم من حطام النظام السياسي القديم: موظفين سابقين في البلاط الإمبراطوري تقطعت بهم السبل، وضباط سابقين في جيشه تحولوا إلى أمراء حرب ثم وكلاء كما تيسر، وسياسيين تفرقت أحزابهم أيدي سبأ بقيام الجمهورية الموحدة في ١٩٢٨، ومنشقين عن الكومندانغ لم يجدوا المواقع التي أملوا فيها وقت قامت الجمهورية الجديدة في العام ١٩٢٨، ومغامرين وجدوا في الجيش الياباني مركبا نحو سلطان ما، وطيف واسع من المغتربين الصينيين «خبراء الصين»، محترفين للسياسة مجالهم الحيوي اليابان وحواضر جنوب شرق آسيا بخاصة في سنغافورة وماليزيا. 

نشأت من أخلاط من هؤلاء لجان للحكم وكيلة للاحتلال الياباني على أن تتشكل من هذه اللجان حكومة جديدة موالية لليابان تحل محل الجمهورية. تأسست فعلا في ١٤ ديسمبر ١٩٣٧ «الحكومة المؤقتة لجمهورية الصين» في بكين تحت إمرة جيش شمال الصين الإمبراطوري الياباني. وما إن سقطت شانغهاي ونانجنغ تحت الاحتلال حتى شكل الجيش الغازي، جيش وسط الصين الإمبراطوري الياباني، حكومة أخرى تحت إمرته في ٢٨ مارس ١٩٣٨، «الحكومة المعدلة لجمهورية الصين». ثم قامت عدة حكومات إقليمية أخرى في غوانغزو وفي ووهان حيثما سيطر الاحتلال وكانت النتيجة جهاز حكم خاضع للسيطرة اليابانية متعدد المراكز. 

وجد الغزاة اليابانيون ضالتهم في وانغ شن وي (١٨٨٣-١٩٤٤)، الذي بدأ سيرته في صفوف الكومنتانغ يتطلع إلى وراثة زعامة الحزب بعد صن يات صن. ولما مات الأخير في ١٩٢٥ حنق على خليفته شيانغ كاي شك وأعلن في ووهان حكومة مناوئة للجمهورية. ثم طلب ود الشيوعيين خصوم الكومنتانغ ولما فشلت مؤامرته تحول إلى عدو لدود للشيوعيين. وعندما اجتاحت الجيوش اليابانية الصين كان رأيه أن الصين أضعف من أن تقوى على مقاومة اليابان التي حققت بإصلاحات ميجي «التقدم» الذي عجزت عنه الصين الكسيحة، فلا طائل من الحرب ضد اليابان المنيعة، والأسلم طلب السلامة والتفاوض مع اليابانيين على أي اتفاق يحفظ «استقلال» الصين. انشق وانغ بآخر أمره عن الكومنتانغ بحزب يخصه في ديسمبر ١٩٣٨ وسلم أمره لليابانيين. وكان شرطه للتعاون أن تنصبه طوكيو رئيسا لحكومة تجمع شتات الحكومات. 

عليه، وحدت طوكيو بين جيوشها في الصين لينشأ عنها جيش استكشاف الصين في سبتمبر ١٩٣٩ وشكلت في ٣٠ مارس ١٩٤٠ حكومة ائتلافية برئاسة وانغ جمعت فيها كل «المتعاونين» معها، انحصر سلطانها بطبيعة الحال في المناطق الخاضعة للاحتلال الياباني. كانت مهمة حكومة وانغ هي تجريف المقاومة للاحتلال الياباني في الريف الصيني، إما بالإرهاب الدموي كما كان الحال في الشمال الصيني أو بتمكين الموالاة في أدنى حوض اليانغتسي الخصيب. 

نجا وانغ من محاولتي اغتيال، الأولى في ١٩٣٥ خلال اجتماع للجنة المركزية للكومنتانغ والثانية في العام ١٩٣٩ خلال زيارة له لهانوي وهو يبشر بالاستسلام لليابانيين. لكنه مات بالورم النقوي المتعدد، سرطان من أصناف السرطان التي تصيب خلايا الدم البيضاء، ذلك في العام ١٩٤٤ وهو يستشفى في اليابان، عام قبل انهزامها في الحرب العالمية الثانية، ودفنه أنصاره في جنازة مهيبة كشهيد. اندحرت اليابان في الحرب العالمية الثانية وفاز جيش الكومنتانغ باليد العليا في الصين أول الأمر فدخل نانجنغ فاتحا. فجر جنود الكومنتانغ قبر وانغ «الخائن» تفجيرا وحرقوا ما تبقى من جثته. وصدر تاريخ ساخر عنه في كراس عام ١٩٤٥ بعنوان «التاريخ الذميم للخونة» جاء فيه أن زهر البرقوق بكى حرقة عندما دفن وانغ في جواره. وكتبت صحيفة في شانغهاي أن روح صن يات صن استقبلت روح يانغ في العالم الآخر بهجوم شرس فطفق يبحث عن الحماية عند اليابانيين فلفظوه وردوه خائبا، وظلت روحه تهيم على وجهها لا تعرف لها مستقرا ولن تعرف إلى الأبد. 


اعتمدت في كتابة هذه الكلمة على مقال ديفيد سرفاس «التعاون وبناء الدولة في الصين: تعريف دولة الاحتلال، ١٩٣٧-١٩٤٥»، مجلة «الصين في القرن العشرين»، م ٤٧، العدد ١، يناير ٢٠٢٢، ص ٧١-٨٠؛ وكتاب ديفيد باريت ولاري شيو «التعاون الصيني مع اليابان، ١٩٣٢-١٩٤٥: حدود التسوية»، دار نشر جامعة ستانفورد، ستانفورد، ٢٠٠١؛ ومقال ماو زي دونغ «حول التكتيكات ضد الإمبريالية اليابانية» [١٩٣٥]، الأعمال المختارة، م ١، دار نشر اللغات الأجنبية، بكين، الصين، ١٩٧٥؛ ومقال جيريمي تيلور «من خائن إلى شهيد: دروس مستقاة من وفاة وجنازة وانغ شن وي، ١٩٤٤»، مجلة التاريخ الصيني، م ٣: ١٣٧-١٥٨ (٢٠١٩). 


 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.