Friday, 23 May 2025

نأكل مما نزرع: عن تقرير بعثة الفاو للموسم الزراعي 2024/2025

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٧٨ بتاريخ ٢٢ مايو ٢٠٢٥.

أصدرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة هذا الشهر تقرير بعثتها لتقييم المحاصيل والغذاء في السودان؛ تقرير من 64 صفحة يوثّق ما شهدته البعثة من تقصّيها إنتاج الحبوب الغذائية في السودان في الموسم الزراعي 2024/2025. والتقرير حصيلة عمل البعثة الميداني في الفترة من 14 ديسمبر 2024 إلى يناير 2025، إذا قامت ثماني فرق، يتكوّن كلّ منها من مسؤولين من الفاو، ووزارة الزراعة والغابات، ووزارة الثروة الحيوانية والسمكية الاتحاديّتين، ووزارات الزراعة الولائية، بزيارة مواقع الإنتاج الزراعي في الولايات الآمنة تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية: الجزيرة والقضارف والنيل الأزرق وكسلا والبحر الأحمر والشمالية ونهر النيل وسنار والنيل الأبيض. كما قام فريق آخر بالعمل من على البعد لجمع المعلومات المتاحة عن إنتاج الحبوب في الخرطوم وولايات كردفان دارفور. كذلك استفادت هذه الفرق، بحسب ديباجة التقرير، ممّا وَرَد إليها من الأرصاد الجوية، والجهاز المركزي للإحصاء، والبنك الزراعي، ووزارات الزراعة الولائية، وإدارات المشاريع الزراعية. 

بالمختصر، قدَّر التقرير أنَّ مجمل إنتاج الحبوب الغذائية (الذُّرَة والدُّخن والقمح) في الموسم الزراعي 2024/2025 يبلغ 6.7 مليون طن، هو إنتاج يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 62%، ويقلّ عن متوسط إنتاج الأعوام الخمسة الماضية بنسبة 7%. قدَّر التقرير إنتاج الذُّرَة لهذا الموسم بـ 5.4 مليون طن، ما يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 77%، ويفوق متوسط الأعوام الخمسة الماضية بنسبة 30%. أما الدُّخن فقد قدَّر التقرير إنتاجه هذا الموسم بـ 7.92943 طن، ما يفوق إنتاج الموسم الماضي بنسبة 16%، ويقلّ عن متوسط إنتاج الخمسة أعوام الماضية بنسبة 45%. وقَدَّر إنتاج القمح الذي كان حصادُه في مارس بـ 4.90320 طن، أعلى بنسبة 30% من الموسم الماضي وأقل بنسبة 22% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. نقَل التقرير عن بنك السودان المركزي أنّ استهلاك الحبوب الغذائية المتوقَّع للعام 2025 في حدود 7.7 مليون طن، ما يترك ثغرة 2.7 مليون طن، بالدرجة الأولى القمح. أما الذُّرَة فإنها تفيض عن الاستهلاك المتوقع بـ 9.79330 طن.

هذه الأرقام بطبيعة الحال عُرضة للملاواة السياسية، ولا شكّ خضعت لجرح وتعديل وشدّ وجذب من منشَئها حتى كتابة التقرير وإجازته، ولا غرابة، فمصلحة حكومة السودان الظاهرة أن تكبت الحجّة المكررة بأن الفجوة الغذائية تساوي عجزاً في السيادة، وتمثّل بذلك إجازة «إنسانية» للسيطرة الإمبريالية. يُحمَد للتقرير أنه ذكَّر القارئة بحقيقةٍ تلتقطها التلميذة النجيبة وحتى غير النجيبة في المدرسة، وهي أنّ السودان بالدرجة الأولى تكوينٌ اجتماعيٌّ زراعيٌّ يرتبط أهلُه بالأرض، وليس تكويناً أونلاين مرتبطاً بالفيسبوك، فأغلب أهله، 65% منهم في آخر تقدير، يعملون في الزراعة. وإنتاج الحبوب الغذائية، بالدرجة الأولى الذُّرَة والدُّخن، من عُهدة مزراعي السودان، بالأدّق عُهدة «التَّرْبَال» الذي يزرع بالأسرة والعشيرة وحداتٍ من 5 إلى 100 فدّان، يُداخِلُها حسب التساهيل العملُ المأجور. وربما زادت نسبة الـ 65% هذه، تحت الظروف الراهنة، بعِلَّة الإبادة الناريّة لاقتصاد الخدمات الذي فَرْهَد لبرهةٍ في حضر الخرطوم. والحقيقة، أنّ تخليط هذين السودانَيْن؛ سودان طبقة الفلاحين المرتبطة بالأرض، وسودان طبقة المعلِّقين المرتبطة بالإنترنت، علةٌ لِلَهْوَجة عظيمة وضرر.

لا تكافئ عبارة «فلّاح» أو «مزارع» الماسخة ثقل «التَّرْبَال» وظلّه الطويل، بخاصةٍ وأنّ «الفلاح» في السياق الأوروبي مفردةُ تبكيتٍ تفيد الدَّمَاكة والسّذاجة وضِيق الأفق، واشتُهِر عند المرحوم ماركس هجاءُ رجعية الفلاحين الفرنسيين في منتصف القرن التاسع عشر، فإنهم عنده "أكوام بطاطس". وربّما واجَهَ غيرُ الناطقين بها صعوبةً أخرى في فرز هذه المواقع، خاصةً أنصار الثنائية العربية/ الإفريقية، ناس آراب وآفريكان، إذ إنّ قاموس النكتة السودانية لا يستهدف «التَّرْبَال» بالسخرية كما هو حال «الفلاح» في السياق الغربي، وإنما فرَزَ لهذا الموقع تعريفاً ظاهرُه عِرْقيّ، فموضوع السخرية هو «العربي»، وتصغيرُه «العِريبي»، وجعَل له جغرافيا في الجزيرة، فهو «عرب جزيرة» و«عرب زوط». أما «التَّرْبَال» فقوامٌ آخر، والكلمة من فعل «تَرْبَل» وتفيد التنشئة والتربية كما في قول شاعر الحَمَر يتغزل: يا رايْقَة التَّرْبَلُوكِي لَيْ، المنقة الشَّتَلُوكِي لَيْ. يتصاعد تقريظ «التربال» في التراث الصوفي درجاتٍ أُخَر، والواقع أنّ مواردَ «المَسِيد» الروحية والمادية مجنَّدةٌ لتنشئة هذا «التَّرْبَال» وصناعته، لكنْ هذه مسألة أخرى خارج مدار هذه الكلمة. 

لا يتوقّف تقرير الفاو عند «التَّرْبَال»، ولا يُعيرُه كثيرَ اهتمامٍ، وإنما يردّ استعادة إنتاج الحبوب في المناطق الآمنة من البلاد إلى وفرة الأمطار وحُسن توزيعها الزمانيّ عبر الموسم، وإلى محدودية الآفات والأمراض التي تصيب المحصول. وخلا ذلك عَرْكَس كل شيء في هذا الموسم. لم تستطع السُّلطات إصلاح الأضرار الواسعة التي أصابت البنية التحتية للريّ في المشاريع الزراعية الكبيرة، وضرَبَ التقرير مثلاً الجزيرة والرَّهَد وحلفا الجديدة، حيث ظلّت قنوات الري على انسدادها؛ والطلمبات خارج الخدمة. لم يسعف البنك الزراعي، ولا البنوك الأخرى، المزارعين بتمويل يُعتدّ به، فاقتَصَر في هذا الموسم على 7 ملايين من العملاء، بالمقارنة مع 22 مليون في العام 2022. وقصَّرت المدخلات الزراعية في جميع أوجهها، فلا بذور محسّنة ولا وقود ولا سماد من جهة السلطات. لكنْ توفَّر العمل المأجور بعِلّة الحرب والنزوح، وأضرّت وفرة العمل بسعره فتناقصت الأجور في كسلا وشمال ووسط دارفور. 

ماذا حقَّق «التَّرْبَال» إذن تحت هذه الظروف؟ زرَع حوالي 27 مليون فدان ذرة، مساحة تفوق بنسبة 15% المساحة المزروعة في العام الماضي وبنسبة 13% متوسط المساحة المزروعة في الأعوام الخمسة الماضية. ووقع أغلب هذا التمدَّد في قطاع الزراعة الآلية الذي توسَّع مساحةً بنسبة 18% عن العام الماضي وبنسبة 32% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. بصياغة أخرى، تمسَّك صغار المزارعين بالأرض في القطاع المطري وتوسّعوا قليلاً، بنسبة 2% عن العام الماضي و15% عن متوسّط الأعوام الخمسة الماضية، وتحوَّل رأسُ مالٍ جديدٍ، بعِلّة تخريب الخرطوم، إلى زراعة الحبوب الغذائية. كان لكسلا النصيب الأكبر من هذا التوسّع، إذ زادت المساحة المزروعة بنسبة 189% عن الموسم الماضي، وبنسبة 261% عن متوسط الأعوام الخمسة الماضية. أي، عوَّضت كسلا خسارة سنّار التي تولّت قوات الدعم السريع تخريب زراعتها بالفساد في الأرض. 

صمَتَ تقرير الفاو «الموضوعي» عن دَبَارة «التَّرْبَال» في التفوّق على هذه العَرْكَسة المركَّبة والمهدِّدات المتعدّدة في المال والنفس والولد، والحفاظ على إنتاج الحبوب الغذائية قَنْقَر، والحرابة نارها حمراء. يمكن بطبيعة الحال الطعن في مقدار تعافي إنتاج الحبوب بهذه الهِمّة، وظروفُ جمع المعلومات والقيود عليها معلومة، وكذلك تبعاتها السياسية، ولا ينطق تقرير الفاو بهِمّة «التَّرْبَال» هذه، وإنْ شَهِد عليها بأرقامه، فما بطولته؟ إنْ كان من أهداف الدعم السريع تصفية هذا النمط الحياتي؛ تصفية الحوض الزراعي الذي يقوم عليه «التَّرْبَال»، أو إخضاعه لمطلوبات «شَفْشَفة» الثروة بإعرابٍ نيوليبرالي عبر بوابات دبي، فقد خابَ مسعاه، آه وين يا! خرَّبت حملةُ الإرهاب التي شنّتها الدعم السريع المساكنَ والبنى التحتية للماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم والريّ؛ لم تَستثْنِ شيئاً! لكنها لم تستطع فكَّ ما بين «التَّرْبَال» والأرض من ميثاقٍ تليد. انهدَّت البنى التحتية بالقوى النارية، نعمْ، لكنْ وَقَف «التَّرْبَال» ما هَمَّاهُ شِيْ، وساعدَته برَكةٌ في الأمطار، فدَبَّر مال الزراعة ومدخلاتها، وجازَفَ الوقود، واستطاع بحَوْل الله تنظيم العمليات الزراعية وإكمالها، ما هَمَّاهُ شِيْ، حتى حَصَد!  والنقاش بين الخبراء ليس حول تعافي إنتاج المحاصيل، وإنما حول درجة هذا التعافي. 

هل لهذه البطولة ترجمة سياسية؟ خاطَبَ المرحوم عبد الخالق محجوب في أغسطس 1970 اجتماعاً نشبت فيه الحُمَّى بين كادر الحزب، وقد انشَقّ صفُّهم بين يديه حول الموقف من سُلطة مايو؛ هل الانقلابُ مفتاحٌ للثورة الوطنية الديمقراطية من علٍ، أم ابتلاءٌ للثورة وفتنة؟ وعَرَّف المرحوم يومَها اختبارَ الثورية بقوله "فالثورة الديمقراطية هي ثورة الإصلاح الزراعي، ولا يمكن أن تصل إلى نتيجتها المنطقية إلا باستنهاض جماهير الكادحين من المزارعين على نطاق واسع وإدخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري! والثورة الاشتراكية هي ثورة غالبية الجماهير الكادحة تتمّ بوعيهم وبرضاهم وبمشاركتهم الفعّالة في أعلى مستويات النشاط الثوري. والقوات المسلحة في بلادنا ننظر إلى أقسامها من زاوية انتماءاتها الفئوية والطبقية، ويُحدَّد دورها كجزء من الفئات الفئوية والطبقية المتصارعة في هذه الفترة أو تلك من فترات التطور الثوري" (تقرير عبد الخالق محجوب المقدّم للمؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي السوداني، ضمن: الحزب الشيوعي السوداني، «استراتيجية الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية»، بدون تاريخ، ص 157). 

كان المرحوم عبد الخالق يكتب في ساعةِ ضيقٍ وأزمةٍ شَقَّت صَفَّ حزبه، لكنّ قضيتهَ ظاهرة، و«جماهير الكادحين من المزارعين» اليوم في موقع الصَّدر، وهم الطبقة الاجتماعية ذات المصلحة المباشرة والظاهرة في إنقاذ السودان، كبلادٍ ذات سيادة، من الأنياب الطويلة والدمويّة لمراكز النهب والسلب في الإقليم والجوار، فالأرض معاشُها وقوامُ حياتها. ومن الغرور البعيد أن يظنَّ سياسيٌّ من منازلهم، أو فنادقهم في عواصم الإقليم، في نفسِهِ ورهطِهِ ولايةً على «التَّرْبَال» ومَصالِحه الديمقراطية أخْنِق فَطِّس، أو يَظنّ ثوريٌّ بإعلانٍ ذاتيٍّ في نفسِهِ كفاءةً لتعيين أولويات «التَّرْبَال»، أهي جاز الطلمبات أم الهويّة الجنسيّة. على كلّ حال، الثابت أنَّ على جمل الشِّيل هذا أنْ يزرع «العيش» في الصباح، وينجز «الثورة الوطنية الديمقراطية» في العصر، وَرُّوني العَدُوْ وأقُعْدُوا فرَّاجة!

Wednesday, 21 May 2025

We eat what we plant

This piece was published in Atar English 28.
The United Nation’s (UN) Food and Agriculture Organisation (FAO) released this month the report of its Crop and Food Supply Assessment Mission (CFSAM) to the Sudan , a 64 pages report documenting what its team had learned from a review of cereal production in the country in the 2024/2025 agricultural season. The review was conducted in the period 14 December 2024 to 5 January 2025 by eight teams composed of representatives of the FAO, Sudan’s Ministry of Agriculture and Forestry, Ministry of Animal Resources and Fishery, and the state ministries of agriculture which toured the eight states safely under the control of the Sudan Armed Forces (SAF): Al Jazeera, Gedaref, Blue Nile, Kassala, Red Sea, Northern, River Nile, Sennar and the White Nile. Another team worked remotely to collect the available information on Khartoum, Darfur and Kordofan. In addition, the report made use of input from the Government of Sudan (GoS) Meteorological Authority, Central Bureau of Statistics, Agricultural Bank of Sudan, state ministries of agriculture and agricultural schemes management authorities. 
In brief, the report states an estimated cereal (sorghum, millet and wheat) production across the country in the season 2024/2025 of 6.7 million tonnes, 62% above the output of the previous season and 7% below the average of the past 5 years. Sorghum production, said the report, is estimated at 5.4 million tonnes, 77% higher than the output of the previous season and 30% above the average of the previous 5 years. Millet production is estimated at 792 943 tonnes, 16% above the output of the previous season and 45% below the average of the previous five years. The production of wheat, harvested in March 2025, is forecast at 490 320 tonnes, 30% above the previous season and 22% below the average of the past 5 years. According to the Central Bank of Sudan, cereal consumption for 2025 is projected to stand at 7.7 million tonnes, leaving a cereal import requirement of 2.7 million tonnes, essentially wheat, while sorghum is likely to generate a surplus of 979 330 million tonnes. 
These numbers can arguably be politically debated, and they surely were at their point of generation hence the delay in the release of the report, given the GoS interest in debunking the recurring argument of food deficit equals sovereignty deficit equals humanitarian license for imperial takeover. The report however kindly reminded the reader that Sudan is critically an agricultural social formation bound to land not an online one bound to Facebook, since 65% of its peoples are engaged in agriculture. And cereal production, primarily sorghum and millet, is in the custody of its peasantry, the proverbial tarbal, working mostly family units of 5 to 100 feddans. This proportion is likely to increase under the current conditions given the effective abolition by gunfire of the service economy that bubbled for a while in Khartoum. The confusion of these two Sudans, the Sudan of the land-bound peasantry and the Sudan of the online-bound commentariat is a major cause of misreading and harm. 
“Peasant” however or the rather neutral “farmer” is a poor equivalent for tarbal which does not carry the derogatory tone of the peasant as bumpkin, Marx’s “sack of potatoes”. Interestingly, to add to the confusion of the Arab/African dichotomists, the joke glossary of the Sudan preserves the racialised “Arab” attached to Al Jazeera and often in the diminutive as a term of derogation for the country bumpkin. The tarbal is another category, it derives from a verb that translates into “cultivate” crossing into “raise” and in romance the Hamar poet says: يا رايقة التربلوكي لي، شديرة المنقة الشتلوكي لي; the lovely one raised for me, the mango succulent planted for me. The reverence of the tarbal in the Sufi tradition is another order altogether. In fact, the material and ideological resources of the maseed, Sudan’s precolonial schools, are largely dedicated to the raising of this figure, but that is probably beyond the scope of this note. 
The CFSAM report makes little of the tarbal; it attributes the relative recovery of cereal production in the safe zones of the country to adequate and temporally well distributed rainfall and limited damage by pests and disease. Almost everything else about the season went wrong. The authorities were in no position to restore functionality to the irrigation infrastructure of the major schemes, Al Jazeera, Al Rahad and New Halfa, irrigation canals remained blocked and pumps out of order. Credit availability from the Agricultural Bank of Sudan and others was severely constrained, reaching only around 7 million beneficiaries compared to 22 million in 2022. Agricultural inputs, seeds, herbicides and fertilizers, were unsurprisingly in shortage; federal and state ministries were unable to distribute any amount of certified seeds and farmers relied on what they had saved from the previous seasons. Fuel availability was limited. Wage labour was generally marked as available, a direct effect of war and displacement pushing wages down in Kassala, North and Central Darfur. 
Now under these dire conditions, Sudan’s tarbal worked an estimated 11.3 million hectares of land with sorghum, 15% higher plantation area than the previous year and 13% percent higher than the average of the past 5 years, most of the expansion being in the semi-mechanised sector which registered an 18% increase compared to the previous year and a 32% increase above the average of the past 5 years. In other words, the land-bound small peasantry held its ground and expanded slightly, 2% and 15% over the previous year and the average of the past 5 years respectively, and some capital, it might be interpreted, likely moved from the rubble of Khartoum to cereal production. The increase in plantation area was most notable in Kassala state, a gross recipient of displaced people and capital, where the planted area expanded by 189% over the past season and 261% above the past 5 years average. In effect, Kassala compensated for the decline of production in Sennar ransacked by the marauding Rapid Support Forces (RSF). 
The CFSAM report does not address the resourcefulness of the tarbal in overcoming these deficits and threats and maintaining cereal production in a time of war, devastation and displacement. The exact magnitude of the recovery of cereal production can be challenged obviously given the circumstances of data collection and the political stakes involved. What the report however documents but does not spell out is the feat of Sudan’s tarbal, the trendy term being “resilience”. If one objective of the RSF campaign was to liquidate this particular life-form or subdue it to the requirements of a neoliberal siphoning of wealth via the gateways of Dubai, it has failed. The RSF campaign of terror destroyed homes, electricity and water installations, health care facilities, schools, irrigation infrastructure, you name it, but not the ancient knot that ties the tarbal to the land. The tarbalstands tall with a whiff of baraka, says the CFSAM report without saying so; this shrewd figure managed to acquire credit, scrap together agricultural inputs, scavenge for fuel, organise and carry out agricultural processes and succeeded in maintaining cereal production to a considerable degree with the baraka of good rains and few pests, the debate is around the degree. 
Does this feat have a political meaning? Abd Al Khaliq Mahjoub, Sudan’s outstanding revolutionary and communist leader, addressed in August 1970 a fidgety extraordinary conference of the Communist Party’s cadre. Almost half of the Party’s leadership had switched lanes, from Abd Al Khaliq’s leadership to the putschist camp that unconditionally supported Jaafar Nimayri who had assumed power in the 25th May 1969 coup and declared the ‘national democratic revolution’ from above. Nimayri ended the brief and reluctant alliance with the Communist Party by kicking the three Party-loyal officers out his Revolutionary Command Council in November 1970 setting the stage for the communist coup attempt in July 1971. Abd Al Khaliq Mahjoub was tempted but not swayed by the dangling fruits of power. 
He told his fidgety comrades split over the role of the officers and the armed forces in general in the ‘national democratic revolution’: “The democratic revolution is a revolution of agricultural reform, and it cannot reach its logical conclusion without awakening the mass of peasant toilers on a large scale and their engagement in the fields of political, economic and intellectual struggle. And the socialist revolution is a revolution of the majority of the toiling masses, and it can only take place with their will and satisfaction and through their effective participation at the highest levels of revolutionary activity” (Abd Al Khaliq Mahjoub, Report to the Communist Party of Sudan cadre deliberation conference August 1970, in the Communist Party of Sudan, “Strategy of the Sudanese National Democratic Revolution”, Khartoum, nd, p. 157). 
Now, Abd Al Khaliq was writing hastily at a time of acute political crisis in his own ranks, but the point is valid. The peasant toilers are alive and well and constitute the social class with a manifest interest in salvaging Sudan as a sovereign country from the long fangs of regional predators. Politically, it would be a long shot to assume that online politicians in the mould of Hamdok et al. have a claim to make about the democratic interests of the tarbal or that self-styled revolutionary activists are in a position to dictate to the tarbal priorities, fuel for sorghum or sexual emancipation. In any case, the tarbal will have to do sorghum in the morning and “national democratic revolution” in the afternoon, the commentariat could at least offer good wishes. 

Monday, 12 May 2025

نوتة من علم الكونكا (٦-١٠)

 أعرفي مقام نفسِك براك

ما تسألي الزول المعاك

...

تباشي كلبة ميتة

كلبة ميتة، كلبة ميتة

جنوبيين نار الضَّلِع

علي تباشي في الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

انت ساكن الكُوْنِكا

بِسْ!

حميدتي نار الضَّلِع! 

الساكن جبرة نار الضَّلِع!

في المخدّة.

       من أغنية «نار الضَّلِع» للفنانة مروة الدولية.


[6]

استخرج الدكتور محمد بخيت من شاغله الأكاديميّ بحي البرَكة «كرتون كسلا» في شرق النيل - وهو شاغلٌ سَكَنَ به الحيَّ وعاشَرَ أهلَه لشهور في العامين 2010 و2012 - تصوُّراً للتقسيم الاجتماعيّ غَيْر الذي كان استقرّ في الأدب السياسيّ تحت عنوان «التعدُّد» الإثنيّ، العِرقيّ، الثقافيّ، الدينيّ... إلخ. وجد الدكتور محمد في كرتون كسلا ما أرشَدَه إلى خريطةٍ أخرى غير الفسيفساء العِرقيّة الإثنيّة الدينيّة؛ خريطة تنشأ بالدرجة الأولى من تنوُّع سُبل كسب العيش، وبالدرجة الثانية من تحوُّل هذه السّبل عبر التاريخ المادّي؛ وهي بذلك مخروطٌ اجتماعيٌّ في الزمان والمكان، كائنٌ متحوّلٌ في التاريخ، وليست خريطةً صمَديّةً ساكنةً كما مفهوم الفسيفساء الذي أغشى البصائر. واقترب الدكتور محمد بخيت بهذا التصوّر من مفهوم «الطبقة الاجتماعيّة» كما عَنَّ للشيخ الإزيرق، المرحوم كارل ماركس، في المَلَجة الصناعيّة الإنجليزيّة خلال القرن التاسع عشر، المفهوم العسير على بساطته حتى أنّ صاحبه قَلَّبَ أوجُهَه بالتمحيص ألّا يُفلت منه بقرينة النظرة الأولى، في نوتة أخيرة من كتابه العظيم «رأس المال». وأوّلُ نظرةٍ باعثةٌ على الجنون، كما في شِعْرِ المرحوم محمد بشير عتيق، وليس الإفهام، «من أوّل نظرة، رشَقَتْني عيونو، جذَبَتْني فنونو، وبقيت مجنونو»، أو كما قال. 

دخل أهل كرتون كسلا، ومايو، وسائر إقليم «الكُونِكا» الحضريّة، قاموس السياسة المعاصرة بعبارة الفسيفساء الصّمَديّة، العبارة التي زكّتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، ونشوةُ الشّوكة تسري بقادتها، خلال أعوام الفترة الانتقاليّة لاتفاقيّة السلام الشامل (2005-2011) بينها وحكومة السودان. كان بعضُ وعدِ قادة الحركة الشعبيّة أنَّ شُغلَهم اكتشافُ اسمٍ وصوتٍ سياسيٍّ لهذا الجمهور الحضريّ الفائض، ورشَّحوا لذلك عبارة «المُهمَّشين» في مقابل «المركز» بوصفه ثوباً واسعاً يَشمل نازحين وغلابة. وأضاف عليهم المُرشّح الرئاسي ياسر سعيد عرمان، في تخريجٍ تالٍ، النساءَ والشبابَ، كيفما اتفق، وفئاتٍ أخرى بحسب ما واتته البلاغة. لكنْ، لم يَبلُغ هذا السّعي مدرجاً بعيداً؛ إذ تعَسَّر على قادة الحركة أن يَرْعوا ذمّة الفسيفساء التي قامت لنصرهم في مشاهد عظيمة، في استقبال الدكتور جون قرنق المهيب، ثم الليالي السياسيّة لحملة الزعيم ياسر عرمان «الأمل والتغيير» في أطراف الخرطوم، حتى نَطَّ نَطَّته الشّهيرة وسالت دموع شيعته المكلومة جداول. فضَّل قادة الحركة الشعبية، آخرَ الأمر، سلامةَ القوميّة الجنوبيّة على هذا «اللَّمُوم» مطموس الهويّة. وتيَتَّم «المهمّشون» في سوقٍ سياسيّةٍ لا تسير فيها عُمْلتُهم إلا أن يكونوا أجساداً مُقاتِلة. بل قَلَبَ قادة الحركة، وقد قامت دولتُهم كنزُ الفرح، ظهرَ المِجَنّ، وبِسْراع، لكلِّ مَن لم يَلحق بركب القوميّة الجنوبيّة، وإنْ كان جنوبياً ود جنوبيّة، وظلّ في محطّة «سودان جديد، وِييي»، ينتظر غودو التي تأتي ولا تأتي، كغَشِيم لم يفهم من حرب التحرير شيئاً.

وربما كان منشأ الصعوبة التي حالت دون أن يكشكش سَطْل المهمّشين بقوّة؛ أنَّ مثل الهُجنة التي تفرَّغ لدراستها الدكتور محمد بخيت في كرتون كسلا، وأدهشت من قَبْله الدكتور عبده سيمون في مايو بروحيّتها الكونيّة من جاكرتا إلى داكار، تتمنَّع على الترجمة السياسيّة في صورة الفسيفساء الساكنة، زنج وعرب وما بينهما؛ فتعشيقتها ليست أوتوماتيك، فَوْوْو! فما هي إذن أبعاد هذا المخروط الحادّ كما تلمّسه الدكتور محمد بخيت عن قرب في دراسته الإثنوغرافيّة؟ لهذا الغرض، عاد الدكتور محمد بخيت إلى ساعة الأزمة الطاحنة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، منشأ الكُونِكا الواسعة، وفيها تلازَمَت كوارث أخذت بخناق بعضها البعض: الجفاف القارّيّ العظيم الذي ضرَب سهول كردفان ودارفور وتلال البجا، الحرب الأهليّة في جنوب السودان، وكساد اقتصاد القطن في السهل الزراعيّ الوسيط الذي كان قوام الدولة المركزيّة. 

استقبل حضَرُ الخرطوم الغارق في الكساد أفواجاً غالبةً ممّن تقطّعت بهم سُبل العيش، وحينها لم تكن قدرة اقتصاده الصناعيّ، وهو موقع استقبال الأيادي العاملة، تعمل بأكثر من 30 % من طاقتها المحدودة أصلاً. نافَسَ القادمون الجددُ سابقين في المسغبة. وكانت السُّلطات في أول السبعينيات قد نقلت من تقطّعَت بهم السّبل داخل المدينة، من كرتون الخرطوم ثلاثة، وعِشَش فلّاتة، وكرتون سوبا، إلى جهة مايو. كذلك نَقلت حوالي عشرين ألفاً من النفوس من كرتون شمبات والمنطقة الصناعيّة إلى جهة الحاج يوسف التي جرى تقسيم أصلها إلى ثلاثة آلاف قطعة سكنيّة. 

نشأ كرتون كسلا فائضاً عشوائيّاً على حي الحاج يوسف؛ حي «الوحدة الوطنية» الجديد. ثم أجرى المخطِّط الحضريّ قلَمَه على كرتون كسلا في 1992-1994 إلى مربّعات، يضمّ كلٌّ منها 10-18 قطعة سكنيّة، بينها ميادين صغيرة، وتتوسّط كلّ وحدة منها منطقة خدميّة، فانقلب الكرتون إلى حي البرَكة. لكنْ لم يكن هذا الانقلاب محض مكر لغويّ كيزانيّ كما يبدو من أول وهلة. الواقع أنّ النعت الجديد وافَقَ تقسيماً باطنياً بين أهل كرتون كسلا، هو تدرُّجٌ في التقاط أشاير السوق في السياق الحضريّ؛ والكُونِكا إذن ليست لُجَّةً فقط إنما لها شاطئ ومَدّ وجَزْر. من علامات ذلك في شغل الدكتور محمد بخيت ما استفاده من تكنولوجيا البناء في حي البركة؛ إذ أثبَتَ تزاوجاً بين المهارات التي جاء بها النازح والمهارات التي تعلَّمَها من البيئة الحضرية المُحيطة، بخاصة من نشأ في حي البركة حدثاً لا يعرف غيره موطناً، وذلك على شفرة ما يفوز به من دَخْل، أي نجاحه في حصاد ما تطرحه عوامل السوق من فُرَص. تشمل دورةُ الحياة في حي البركة التحضيرَ لموسم الأمطار، وذلك في مايو/ يونيو، فتنشغل الفئات العاملة بتأهيل جدران البيوت بكسوة جديدة من «الزِّبَالة» على طوب أخدر، وتجديد الأسقف من الحطب والقنا. فرَز الدكتور محمد بخيت فئةً بلغت بها المقدرة، أنْ كَسَت الجدران طبقة رقيقة من الأسمنت على باطن من الطوب الأخدر فبدت ظاهراً كأنها من طوب أحمر، سهم «العبور» إلى الطبقة الوسطى. ثم برزت فئة جديدة أقلّ عدداً دخلت بالتقيل فجاءت بالطوب الأحمر والأسمنت المسلّح عديل. وقال الدكتور محمد بخيت: زادت هذه الفئة المُنتصِرة عدداً خلال سكناه حي البركة، واتخذ هذا التحوُّل دلالة على الرفاه. هذا بينما ظلَّ سواهم من أهل الحي على سترة رقيقة من رواكيب الخَيْش والأكياس في قطع سكنيّة خالية من البناء أو في جوار بيوت قائمة. لا تحيط قطع الفسيفساء في حساب الدكتور محمد بخيت بهذا التحوّل، الذي عَدَّه تباعداً بين «فقراء» و«أغنياء»، سبق بعضُهم بعضاً وقد كانوا في مِيس واحد. 

أما عوامل السوق، التي قام عليها هذا التباعد، فقد جمَعَها الدكتور محمد بخيت تحت عنوان «الاقتصاد غير المنظَّم»، ونقَل عن الدكتورة سارا بانتوليانو تقديراً من إحصاء المنظّمات غير الحكوميّة الغربيّة في العام 2011، يقول إنّه استوعب 45 % من القوى العاملة في حضر الخرطوم. في المقابل، يطرح «الاقتصاد المنظَّم» فرصاً محدودةً للعمل بأجر في المستويات الدنيا من القطاع الحكومي، بالدرجة الأولى كجنود في الجيش أو البوليس، أو كعمّال غير مَهرة في القطاع الصناعي. وجاء الدكتور محمد بخيت ببيانٍ على فضل «الاقتصاد غير المنظَّم»، وقال إنّ قدرته الاستيعابيّة غير محدودة، ويُتيح سلّماً للترقّي يتحوَّل به الكرتون إلى برَكة. وإشارة النجاح فيه هي استطاعة البعض التجريب بين نشاطٍ وآخر من نشاطات التجارة الصّغيرة، والضّعيف يقع والسّمين يقيف. يتراكم طالبو الرّبح حول نشاط واعد، التجميل «قَدِّر ظروفك» مثلاً، حتى تكسد أرباحه، فتلتقط شاطرةٌ، فاردةً نشاطاً جديداً أوفر ربحاً، تحويلَ الرصيد مثلاً، حتى يكسد بتراكم المُنافسين، وهكذا دواليك. هذا، بينما اعتمدت فئةٌ أخرى، من نساء الحيّ اللائي خَبُرن الزراعة في مواطنهنّ، على العمل المأجور في المزارع القريبة، واعتمدت غيرهنّ على مهارات منزليّة مثل صناعة الطعام وبيعه لجمهور السوق، وصناعة الخمور وبيعها، تلك التي ساءت الدكتور حسن مكي. إذن، كشَف الدكتور محمد بخيت، تحت عارض فسيفساء التعدّد تلك، عن علاقاتِ عملٍ نَجَم عنها تباعدٌ بين «أغنياء» و«فقراء»، بلغ هؤلاء القيفَة وكابَدَ أولئك الغرق.

 

[7]

وَقَع الدكتور محمد بخيت في حي البركة «كرتون كسلا» في الفترة 2010-2012 على مفهوم «الطبقة»، وإنْ لم يَنطق به صراحةً، ولم يكن من عدّة شغله، وقد جاء بمفاهيم من الإثنوغرافيا والأنثربولوجيا وليس الاقتصاد السياسي. لكن لم تَقْدر هذه المفاهيم على الإحاطة بما شَهِدَ من تحوّلات، ولم تسعفه في تمييز فئات التكوين الاجتماعي الضاجّ بالانقطاعات والتقلّبات أمامه، فانتهى إلى تبويبٍ «طبقيّ» بين ثلاث فئات على حدودٍ غير حدودِ العِرْق والإثنيّة واللّغة. قام تبويبُ الدكتور محمد بخيت لمجتمع حي البركة على مفصلَيْن، سُبل كسب العيش، والجيل. والمفصل الأوّل من حَرْث الاقتصاد، والثاني معاملٌ للتحوّل عبر الزّمان والمكان، معاملٌ للتغيير، وهو المعامل الذي يُشنّف تبويَبه بفطنة الديالكتيك؛ الفطنة التي تتيح إدراك التحوّلات في حال تحوُّلها وتحرُّر البصر من صنميّة الآن. فاصَلَ الدكتور محمد بخيت بين ثلاث فئات بينها قناطر، فهي ليست زنازين انفراديّة، ولكنها جهاتٌ في حوش واحد، أو حوش وَرَّاني وحوش قِدَّامي وزقاق طويل بينهما، وأكثر من باب نحو الشارع. 

الفئة الأولى جيلٌ مخضرمٌ من الزعامات الأبويّة، عُمَد ورجال عشائر ورجال دِين، مَعاشُهم سَلْخٌ من رأس المال الاجتماعي، فما يجدونه من حظوةٍ هو دالّةٌ لمكانتهم الاجتماعيّة وما يستطيعون من سُلطة على محدوديّتها في محيطهم المباشر. فمنهم صاحب الموقع في «اللجنة الشعبية» إيّاها؛ القائم على توزيع الأراضي أو تسليعها، فيكتب لنفسه وأهله قطعة رقم (...) تلو الأخرى. ومنهم الرجل الأوّل في السوق، قوَّال المحليّة، مَن يختار لنفسه الدكّان الناصية على الزّلط، ويحرم غريمه من الرّخصة التجارية أو يسلّط عليه جماعة الضرائب. ومنهم وصلة ديوان الزكاة في المنطقة، يحدِّد مَن الأرملة التي تستحقّ العون، ويُقَوِّل على الأخرى ببيع العَرَقي، ويوزّع بطاقات التأمين الصحّي على أهلٍ وأحبابٍ ويُمسِكُها عن آخرين، طَليقِ البنت وأهلِه. ومنهم صاحب العِمَّة السياسيّة الكبيرة، سمسار الجماهير الذي يجمع الناس كيفما اتّفق ليوم المَسيرة ويوم الانتخابات مقاولةً، الواحد بعشرة وسكراتش، تعال وجيب معاك أخوك. وقد تجتمع هذه الشخصيّات في نفسٍ واحدة، بَنْجْ متعدّد الوظائف كالمفتاح الإنجليزي؛ عشرة سُنون وسِنَّة.

والفئة الثانية جيلٌ تالٍ من المتعلّمين، منهم مَن نشأ في كنف الجيل المخضرم فاستفاد ممّا أتاحت تلك المجازفات من تراكمٍ وتحرّرٍ من كَدّ المعاش طفلاً، فسَلَك في التعليم وتدرَّجَ حتى بلغ مهارة الوظيفة ولو نَفَرْ في البوليس، أو من وَجَد نفسَه عند شطّ الكونكا بقَضْم التضخّم وتدهور المعاش، فجاء إلى حي البركة نازحاً. ضمَّ الدكتور محمد بخيت إلى هذه الفئةِ الباعةَ بأجناسهم، من صاحب الدكّان الناصية إلى ستّ الشّاي وستّ العَرَقي. والمشترك بين هؤلاء وأولئك أنهم جميعاً ممن وَجدوا موقعاً في السوق واقتصاده، واتّصلت أسلاكهم بهذه الكبّانيّة الكبيرة إذا جاز التعبير، وصارت لهم بذلك مصلحة مشتركة في رعاية قواعد «النظام» أيّاً كانت، يَعرفُ أحدُهم بأيّ وسيلةٍ يَبلُغ الرّخصة التجاريّة، وبأي ثمن، وكيف يراوغ جماعة المحليّة، وبأي تكتيكات، وكيف يتفادى بأس النظام العام، بِجازِفها. 

أما الفئة الثالثة، الأحدث والأعظم، فهي الفائض الذي لا موقع له يَعتدُّ به في «النظام» قائماً سوى كاحتياطٍ يَنْكَشِح حول بنائه؛ كُسَّار طوب ورمل وروث، فهو داخل فيه وليس منه في آن واحد، فائضٌ من «الشمّاسة» و«العصبجيّة»، معاشُهم في «الشّفْشَفة» بصور مختلفة، والزمالة بينهم «العصابة»، فريق عمل لمهمّة تتجدّد بالنجاح وتنهدّ بالفشل. ومَوقعُهم «بَرّاني» على قواعده، فلا وسيلة لهم للاستفادة من هذه القواعد، لا ينفعهم شيئاً أنّ زوجة زعيم اللجنة الشعبية الجديدة هي أختٌ لصاحب البنشر السُّكُرْجي من الحِلّة الفوق، ومن أراد رخصةً لكُشكٍ فلصاحب البنشر واسطةٌ ونصيب. فلا وسيلة لهم للفوز بنصيبٍ من الثروة الاجتماعيّة غير «المُزازاة» فوق المجازفات أو «شَفْشَفة»، وهي «هَمْبَتَة» بغير النُّبل الشاعري، حُجَّتهم على الناس: إنتَ أبوك بيدِّيك، نحن البيدِّينا منو؟

وعقدة «الشّفْشَفة» كما «الهَمْبَتة» أنها لا تَبلُغ التراكم، فآخر محطّتها الاستهلاك، وتبدأ الدّورة من جديد. وغرَضُ بطل العصابة الأوّل كغرض «الهَمْبَاتي» مِن قَبله؛ «مُتْعَتِي وعَجَنِي»، في الآن، وليس غداً. لذلك قد تهجم عصابة محترفة على سوق 6 في الحاج يوسف للَهْوِ يومٍ وحفلة دي جي لا غير. وللعصابة، متى نجحت، شفرةٌ من الإشارات غير المنطوقة تشمل «تعليمات» الهجوم والانسحاب قد لا تدركها حتى عصابة منافِسة. 

وللعصابات أسماء وشعارات وأزياء. قامت في الحاج يوسف عصابة «لوست بويز» لبطلها «تنقو»، وقَبْلها في جمهورية الكَلاكلة، منذ منتصف التسعينيات، عصابة «أولاد جون» التي انشقّت لاحقاً بالصراع على القيادة والسيطرة والفوز بالبنات إلى «السعادة» و«آوت لو» لزعيمها الشبلي. ولبطل العصابة قياسٌ كذلك، فما هو في القانون نهبٌ وأذىً جسيمٌ وشغبٌ وتهديدٌ للسلامة والطمأنينة العامة عنده مفخرة، خاصّة إنْ كسَر بها حاجزاً فبلغ خبرُه الصحيفة أو التلفزيون. ويميِّز العُصبَجي المحترف بين «السرقة» و«النهب» فلا يسرق خلسةً، ولكن ينهب بقوّة وحُمرة عين. والعُصبَجي في موقع متقدّم ضمن هذه الفئة، فهو بطلُها بما أصابَ من فتوّةٍ وقدرةٍ، ويُميِّز نفسَه باللِّبس والهندام على نمطٍ كوسموبوليتي من طراز الهيب هوب الأميركي، بنطلون شوّال وتلاتة أربعة فنايل وسايد كاب وسلاسل، وكذلك الرّقص والحفلة. ودون العُصبَجي المحترف فئاتٌ أوسع وأقلّ حظاً، مَن يعرِّفهم البوليس بعبارة «معتادي الإجرام» وفيهم الحرامي المتواضع، مَن يسرق ملاية أو مراية عربيّة، والنشَّال، ومروِّج البنقو، ومُروّج الآيس، ومن لم يُحسن أيّاً من هذه الوظائف فيبيع المتعة في الخور، فما طبقتهم؟

 

[8]

ما هي إذَن الطبقة الاجتماعيّة التي شهد الدكتور عبده سيمون، الأنثربولوجي الأميركي المسلم، على موقعها «البرَّاني» في اقتصاد «المُجامَلة» الخرطومي، والتي عرَض وسائلَ بقائها في كُونِكا مايو، معاشاً ومعنىً، وأملاً في هدمٍ عظيمٍ تتحرَّر به من هذا الجحيم؟ وهل هي الطبقة الاجتماعيّة ذاتها التي احترز منها الدكتور حسن مكي وحذَّر، وقال إنها صارت رهناً للكنيسة العالمية ومَطيَّةً لصليبيِّين جُدد، ظاهرُ شُغلِهم التعليمُ وأوجُهٌ أخرى للعون الإنساني، وباطنُه الفتنة؟ ثم رشَّح الدِّينَ القويمَ وسيلةً لتحييد هذا الخطر المحيط. وهل هي ذاتها الطبقة الاجتماعية التي اكتَشَف طرَفاً منها الدكتور محمد بخيت في «كرتون كسلا» وفرَزَها من فائزين في جوارها الاجتماعيّ دخلوا السُّوقْ «قدِّر ظروفك»، بينما ظلَّت عناصرها «عُصبجيَّة» و«شمَّاشة» خارج الدوائر التبادليّة لهذا الجوار، سِكَّتُهم السَّلب بقوّة، أو الشَّلِب بحَرْفَنة، ما استطاعوا إليه سبيلا؟

تقترب القارئةُ من هذه الطبقة الاجتماعية، وقد تتساءل إنْ كانت هي تلك التي شغَلت الدكتور عبده مالك سيمون والدكتور حسن مكي والدكتور محمد بخيت، كلٌّ من موقعه. الأوّل بوصفه أنثربولوجياً مُسلماً، جاء به دربُ النُّصرة إلى خرطوم التسعينيات، ليُسعف الحركة الإسلامية السودانية وهي تحاول، كيفما اتّفق، أن تصنع طريقاً جديداً بالمشي في هامشٍ كونيٍّ، والمحاذيرُ الإمبرياليّة تحيط بها، والمخاطر، ولم يعد هنالك اتّحاد سوڤييتي يعاند لمصلحة للجنوب الكونيّ في مقابل المركز الأمريكي المنتصر. والثاني بوصفه كادراً في هذه الحركة، يريدُ أن يَنفُذَ إلى هذه المخاطر بعِلْم محلّيٍّ يُرشِد به السُّلطانَ الجديدَ إلى مواقع الحذر. والثالث بوصفه عالمَ إثنوغرافيا، يُريد أن يَستخرج من فسيفساء الإثنيّات والثقافات والأديان عِلماً بالهامش داخل المدينة في زمانٍ واعدٍ بالسّلام.

تجد القارئةُ، عند هذا الاقتراب، رايةً قديمةً غرَسها المرحوم كارل ماركس في موقعٍ اجتماعيٍّ شبيهٍ ضمن كَدِّه في القرن التاسع عشر؛ راية عليها حصيلةُ ما استفاده من تجربة ثورات 1848 الأوروبيّة مناضلاً من أجل الديمقراطية ومحرّراً لجريدةٍ مقاتلة، «جريدة الراين الجديدة» التي أعلنَت عن نفسها بديباجةٍ «لسان حال الديمقراطية» مهمّتها تثقيف الثورة. وكانت جريدة المرحوم جريدة يوميّة صدرت من كولون الألمانية بأفق أوروبيّ من 1 يونيو 1848 حتى 19 مايو 1849 حين سطَت عليها السُّلطات وطرَدت محرِّرَها المرحوم ماركس الطَّردةَ التي انتهت به لاجئاً دائماً، حتى قضى في كرسيِّهِ وقد انشغل أهلُ بيته عنه بالوَنَسة في الحديقة؛ لاجئاً «بِدُونْ»، بعدما نزعت السُّلطات الألمانية أوراقه الثبوتية. قال الرقيب البوليسيّ في قرار منع صدور جريدة المرحوم: «تعاظَمَ مَيلُ «جريدة الراين الجديدة» في أعدادها الأخيرة إلى استفزاز القرّاء لاحتقار الحكومة القائمة، وتحريضهم على الثّورة العنيفة وإقامة جمهورية اجتماعيّة… وبذلك قُرِّر إلغاء حقّ الضّيافة الذي طالما أساء استغلالَه محرِّرُها الدكتور ماركس بكلِّ وقاحة. ولمّا لم يتقدَّم الأخيرُ بطلبٍ للسّلطات لتمديد إقامته في هذه الأقاليم، فقد صَدَر الأمر بأن يغادرها خلال 24 ساعة. وإنْ لم ينفِّذ هذا الأمر طوعاً فسيجري إبعادُه قسراً عبر الحدود». صار الدكتور ماركس، محرِّر الجريدة، بهذه النفي «كارل ماركس»، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

التقى المرحوم ماركس هذه الطبقة في أُوَار ثورات 1848، ونفَى عنها في «المانفستو الشيوعي» كلَّ سَمْتٍ ثوريٍّ إلا انتداباً. و «المانفستو الشيوعي» في نشأتِه هو خلاصةُ ما أصاب ماركس، وصَفِيُّه فردريك إنجلز، وزوجتُه جني ماركس، من علم الصراع الاجتماعي، من وحي الثورة والثورة المضادّة في 1848، وكتبَه ثلاثتُهم في ديسمبر 1847/ يناير 1848. بل أبَّدَ ماركس سوءَ الظنّ بهذه الطبقة بقلمه الحادّ، فهي عنده «البروليتاريا الرثّة، الحثالة المتعفّنة المستسلمة لمصيرها، المنحدرة من أكثر طبقات المجتمع القديم وضاعةً، فهي قد تنجرُّ إلى الحركة وراء ثورةٍ بروليتاريّة؛ إلا أنّ ظروف حياتها تجعلها أكثر استعداداً لبيع نفسها خدمةً للمناورات الرجعيّة» (كارل ماركس وفردريك إنجلز، «مانفستو الحزب الشيوعي»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلّد 4، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1977، ص 472).

لم يتوسَّع المرحوم كارل ماركس في المانفستو الشيوعي لشرح سوء الظنّ العظيم هذا. لكنه نَجَدَ القارئةَ في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850»، وهو بعضُ شغله من العام 1850 الذي نضجت فيه «المادّيّة التاريخيّة» إذا صحّ التعبير، بتفسيرٍ من التجربة لحُكمِه الغليظ. كتَبَ عن البروليتاريا الرثّة أنها «كَوَّنت في المدن الكبرى كتلةً متمايزةً للغاية عن البروليتاريا الصناعيّة، ومورداً لتجنيد اللصوص والمجرمين من جميع الأنواع، ممن يعيشون على فتات المجتمع. أناسٌ دون مهنة محدّدة، مشرّدون، أناسٌ دون سكنى أو مأوى، ويتفاتون حسب درجة تحضُّر الأمّة التي ينتمون إليها، لكن لا يتخلّون أبداً عن طابع الصّعلقة الرّثّ». والمرحوم كارل ماركس لا يتجنَّب التاريخ متى وَقَع، لذا شَهِد لبعض شباب البروليتاريا الرثّة من جهةٍ بالبسالة النادرة و«أشدّ الأعمال بطولةً وأكثر التضحيات سُموّاً»؛ ومن جهةٍ أخرى بـ «أحطَّ لصوصيّةٍ وأقذر فساد».

وحساب المرحوم كارل ماركس مع هؤلاء، أنّ الحكومة المؤقّتة في فرنسا، والتي قامت بفضل ثورة فبراير 1848، أمّ الثورات الأوروبية، والتي نشأت بها الجمهورية الفرنسية الثانية، قد جنَّدت البروليتاريا الرثّة في وحداتٍ سريعةِ الحركة باسم «الحرس المتنقّل» لدعم «الحرس الوطني» في قمع البروليتاريا الباريسية التي شاركت البرجوازيّة في الثورة، ثمّ انقلبت البرجوازية عليها وقت استقلَّت بمطالبها. وكتب المرحوم ماركس، شاهداً متدبِّراً على العصر، أنَّ الحكومة الانتقاليّة جنَّدت عناصر البروليتاريا الرثّة في وحدات، تضمّ كلٌّ منها ألفَ شابٍّ مقاتل في عمر الخامسة عشرة إلى العشرين، بأجر فرنك واحد وخمسين سنتيماً في اليوم. ثمّ توسَّع عددُهم حتى بلغ أربعة وعشرين ألفاً، وكسَتْهم بزيّ خاصّ يُميِّزهم عن العمّال ذوي القمصان الزرقاء، وجعلت على رأس كلّ وحدةٍ منهم ضابطاً نظاميّاً من صفّ البرجوازية، وأنها خلَبَت ألباب هؤلاء الجنود اليافعين بنجوى الفداء من أجل القضية؛ قضية «الجمهورية».

وأهمّ نظرات المرحوم ماركس في مسألة «الحرس المتنقِّل» أنَّ البروليتاريا الباريسية واجهت في جنود «الحرس المتنقِّل» جيشاً من داخل صَفِّها و«من رَحِمها» بعبارة رائجة، رجال أشدّاء لكنهم «طُرُش». وهلَّلت البروليتاريا الباريسية أوّل الأمر لهذا الصفّ القتالي، لجند «الحرس المتنقّل»، لسرعتهم في الدعم وهم يعبرون شوارع باريس في خيلاء. وقال ظنَّت فيهم البروليتاريا الباريسيةُ الوفاءَ، واحتفت بهم كأولادها جاءوا مسلَّحين لحراسة متاريس الثورة، واعتبرتهم الحرسَ البروليتاري، في مقابل الحرس الوطني البرجوازي. وقال المرحوم ماركس في عبارةٍ صَمَدَت رنّانةً في عقل كلّ قارئةٍ حصيفةٍ حتى اليوم: «كان خطأً مغتفراً» (كارل ماركس، «صراع الطبقات في فرنسا 1848 1850»، ضمن «أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 26). فلمّا أجاز لهم المرحوم ماركس الغفرانَ مؤرِّخاً، وقد كال لهم السُّبابَ مناضلاً، فموقعُهم كان بعبارته ألعوبةً في يد البرجوازية التي فَتَنَت بين فئات البروليتاريا، فجنَّدَت الرثَّ منها لقمع المُنتِج.

 

[9]

غَفَر المرحوم كارل ماركس، بوصفه مؤرِّخاً للبروليتاريا الباريسية، حُسْنَ ظنِّها بالبروليتاريا الرثَّة، وكان قد كالَ السُّبابَ للبروليتاريا الرثَّة مناضلاً في ثورة 1848، والعِلَّة ربّما أنَّ حسابَ التاريخ لا يقوم على خطأ وصواب، والعِبْرة غير التجربة. وتجد القارئةُ عند صَفيِّ المرحوم ماركس ورفيقِه في نضالات 1848 المرحوم فردريك إنجلز سوءَ ظنٍّ شبيهٍ مَرَدُّه أيضاً إلى التجربة. سطَّر المرحوم إنجلز، بوحيٍ من انكسار الثورة في 1848، كُتيِّبَه «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، واستعرض فيه من باب المقارنة التربوية ما وَقَع في البلاد الألمانية عام 1525 من تمرُّدٍ واسعٍ للفلّاحين بعدسةِ وقائع الثورة والثورة المضادّة في 1848-1849. وكان المرحوم إنجلز، وكُنيَتُه «الجنرال» بين الأحباب، على خلافِ دودة الكتب المرحوم ماركس، صاحبَ تجربةٍ عسكريةٍ، وعالِماً بالشّوكة، وله في المسألة نظراتٌ، إذ تطوَّع صبيّاً في المدفعية البروسية في برلين عامي 1841-1842، وقاتَلَ متمرِّداً في ثورة 1848 من أجل إسقاط ملكيّة بروسيا وانتزاع السُّلطان على حرف دستور فرانكفورت، وهو الدستور الذي تَوافَقَ عليه أوَّلُ برلمانٍ منتخَبٍ لكلّ ألمانيا، وانهزَمَ مع المنهزمين في انتفاضة البرفلد عام 1849 بعد معارك ضارية ضدّ الجيش البروسي، كما حارَب في صفِّ جيش بادن الشعبي وانهزم صفُّه كذلك شرَّ هزيمة.

انتهى المرحوم إنجلز، في استعراضه الذي جمَع بين ثورات 1525 وثورات 1848، إلى قياسٍ لموقعِ كلِّ طبقةٍ اجتماعيةٍ في فوران الصراع الاجتماعيّ، فالبروليتاريا صاحبةُ الشأن، وهي عنده التي تعتمدُ بالكلّية وعلى الدوام على العمل المأجور، ما زالت قليلةَ العدد، ما يُجبرها على البحث عن حلفاء وقت احتدام الصراع، وقد وجدَتْ هؤلاء وسط البرجوازية الصغيرة وأدنى فئات البروليتاريا الحضَرية وصغار الفلّاحين والعمّال الزراعيين. وأضعفُ حلقاتِ هذا الحلف، عند المرحوم إنجلز، هي البرجوازية الصغيرة؛ فهي طبقةٌ ثرثارةٌ لا يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق، إلا إذا تحقَّق النصرُ فعلاً، يَصُكُّ صوتُ طَرْبَقَتها في الصّوالين والنوادي الآذانَ، لكنْ قد تجدُ بينَها عناصرَ طيّبةً تتّبع طريق العمّال. وأفرَدَ المرحوم إنجلز للبروليتاريا الرثّة سباباً خاصّاً فقال: «حثالة العناصر المتعفِّنة من جميع طبقات المجتمع التي تتراكم في المدن العظمى» و«أسوأ حليفٍ طُرّاً، طاقمٌ ما أشدَّ فسادِه ووقاحته». جاء إنجلز لتعضيد حُجَّته بتفصيلٍ من الثورة الباريسية عام 1848، فقال كتب العُمّال على الجدران «الموتُ للشَّفْشَافة»، وقتلوا العديد منهم بما توفَّر لهم من سلاح، ليس لحماسٍ اعتراهُم نحو الملكيّة الخاصّة لكنْ لأنّهم وجدوا أنَّ من الضروريّ فرز صفِّهم من هذه العناصر الحثالة. ثم أضاف في صيغة القانون: «إنّ كلّ قائدٍ للعُمَّال يجنِّد بروليتاريا المَجَاري هذه كحَرسٍ أو سَندٍ يثبت بفعلته هذه ولوحدها أنّه خائنٌ للحركة» (فردريك إنجلز، «حرب الفلّاحين في ألمانيا»، دار التقدم، موسكو، 1977، ص 14).

على كلّ حال، علَّل المرحومان كارل ماركس وفردريك إنجلز سوءَ ظنِّهما بالبروليتاريا الرثَّة بما وَقَع مِن تجربةٍ في 1848-1849. وكان الخطأ المغتفَر للبروليتاريا الباريسية، أنّها اطمأنّت للبروليتاريا الرثّة في أوار الصّراع، بينما جنّدت الجمهورية البرجوازيّة عناصرَ البروليتاريا الرثَّة في كتائب «الحرس المتنقّل» لقمع ثورة البروليتاريا عليها، فوجدت البروليتاريا نفسها في انتفاضتها في يونيو 1849 في مواجهة حلفٍ غالبٍ جمَعَ «ارستقراطيّة المال، والبرجوازيّة الصناعيّة، والطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة، والجيش، وحثالة البروليتاريا المنظَّمة في «الحرس المتنقّل» وكبار المثقَّفين والكهنة، وسكّان الريف. ولم تقف إلى جانب بروليتاريا باريس سوى نفسها». انهزَم صفُّها، وذَبَحت الثورةُ المضادّةُ، بعدما انتصرت، في مقتلةٍ عظيمةٍ 3 آلاف نَفْس من الثوّار، ونفَت 15 ألفاً آخرين بغير محاكمة. وغادرت البروليتاريا، بهذا الانكسار، مسرحَ الأحداث، وانزوت في كواليس التاريخ تحاولُ مرّةً وأخرى أنْ تتقدَّم من جديدٍ، لكنْ كلّ مرّةٍ بعزمٍ أضعف ونتائج أهوَن (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، ضمن: كارل ماركس وفردريك إنجلز، «الأعمال الكاملة»، م 11، لورنس ووشرت للنشر، لندن، 1979، ص 110).

اتّخذت الرّشوةُ التي تلقّتها البروليتاريا الرثّة، لتنقلب على ثوّار باريس وتسفك دماءهم في مجازر يونيو، أوّلَ أمرها، صورةَ «العمل الخيري»؛ جنَّدَت قوى الثورةِ المضادّة، تحت ستار تكوين جمعية خيرية، مَن استهدفتهم من «بروليتاريا المجاري»، بعبارة المرحوم إنجلز، في مجموعاتٍ سرّية، يقوم على كلِّ واحدٍ منها أمينٌ مختارٌ، وعلى رأس المجموع ضابطٌ عظيمٌ من حلف الرئيس؛ رئيس الجمهورية الثانية لويس نابليون بونابارت (لاحقاً نابليون الثالث)، المنتخَب في 1848 بفضل الثورة، والذي انتزَع السُّلطة لنفسه كاملةً في انقلاب ديسمبر 1849 بعد أن كسَر شوكة البروليتاريا الباريسية في انتفاضة يونيو 1849.

كتب المرحوم ماركس إنّ هذا الجيش الجديد؛ الجيش الذي تمكّن به بونابارت من السُّلطة كاملةً، قد ضَمَّ: «فُسَّاقاً متعفِّنين معاشُهم مريبٌ وأصولُهم ملتبسة، ومغامرين من نبتٍ برجوازيّ انفرَطَ أمرُهم، ومُشرَّدين صعاليك، وجنوداً مُسَرَّحين، وأُمَناء سجون مُسَرَّحين، ومجرمين هاربين حُكِم عليهم بعبوديةٍ أبديةٍ في تجديف السفن، وأوَنْطَجيّة دجّالين، ومشعوذين نصّابين، وشمّاشة، ونشّالين، ومحتالين، وقُمُرتِيَّة، وقوَّادين، ومُلّاك مواخير، وحمّالين، ومثقّفين، وعازفين متجوّلين، وزبّالين، ومُطّرِّقين، وسَمْكَرجيّة جوّالة وشحّاتين؛ بالمختصر: كامل الكتلة المتفسِّخة ملتبسة الهويّة، القصيّ منها والقريب، التي يدْعُوها الفرنسيّون  بالبوهيميّة». كوَّن لويس بونابارت من جميع هؤلاء حزبه، جمعية العاشر من ديسمبر (كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير لويس بونابارت»، المصدر السابق، ص 149). وكان حزب بونابارت عند المرحوم ماركس فعلاً جمعيةً خيريّةً في معنى أنَّ أعضاءه، كما سيّدهم بونابارت، ظنّوا في أنفسِهم استحقاقاً أنْ يُثروا على حساب الشعب العامل. وكان اختراقُ زعيمهم، زعيم البروليتاريا الرثّة، لويس بونابارت، أنْ حرَّر لهم هذه الغريزة، غريزة «الشَّفْشَفة»، وحلَّلَها، حيث اكتشف في هذه الطبقة، «سقط الطبقات الأخرى، حُثالتها، وقمامتها» ذات الغريزة التي تحفزه هو شخصياً، ووَجَد صورةَ نفسِه في هذا اللَّمُوم، فوافَقَ شنٌّ طبَقة، وصارت بذلك الطبقة التي يقوم عليها سُلطانُه بغير شرط أو فرض، جمَع منهم عشرة آلاف وسمّاهم «الشّعب». لم يغفر المرحوم ماركس للبروليتاريا الرثّة، لكن أجاز الخطأ للبروليتاريا الباريسيّة وقال «بتتعلَّم من الأيّام»، فما الدّرس؟


[10]

فرَز المرحومان ماركس وإنجلز، في لهيب الثورة والثورة المضادّة في فرنسا، خلال أعوام 1848-1849، صفَّ البروليتاريا من البروليتاريا الرثَّة، فقَرَّظا الأولى وقالا إنها «ثوريّة» وإنْ أخطأَت التصويبَ وانحبَسَت ببطش الثّورة المضادَّة في كواليس التاريخ تتحيَّن فرصةً أخرى للنهوض. وسَفَّهَا الأخيرةَ وقالا إنها كتلة ملتبسة الهويّة، متفسِّخة، من كَرُور الطبقات الأخرى، صارت بالرّشوة وحصائل «الشَّفشَفة» حزباً مقاتلاً لبونابارت في هيئة «الحرس المتنقّل» فضرَبَ بها خصومَه وأوَّلهم قرينتَها البروليتاريا صاحبة الراية الثوريّة. بل رفعت في وجهها البروليتاريا الباريسيةُ شعار «الموت للشَّفشافة» ليَصحَّ بدنُها من هذا الأذى.

لكن، لم يَطرح المرحوم ماركس مسألةَ «البروليتاريا الرثّة» السياسيّة بقوّة، لكنْ كان تشخيصُه أنّ اتجاهَها الرئيسَ أْن تكون «الأداةَ المُرتشية للتآمر الرّجعي»، وأمَلُه أنّ الثورة متى نضجت قد تكتسح البروليتاريا الرثّة هنا وهناك إلى داخل صفوفها. فالبروليتاريا الرثّة عند الشيخ الإزيرق لا تقود الثورةَ، ولا تبادر بها، وإنما تركبها «بوكسي» من مواقع رجعيّة، رشوة و«شَفشَفة». لكن لم ينكفئ المرحوم ماركس يتأمّل كفقيهٍ هندوسيّ في «الرَّحِم» الخاصّة التي خرج منها «الحرس المتنقّل»؛ الخصم العسكري المباشر للبروليتاريا الباريسية، والقوّة ملتبسة الهويّة التي جنّدها ضبّاط الحرس الوطني النظاميّون من حلفاء لويس بونابارت من الحثالة الرثّة التي أثارت غثيانه. استغنى المرحوم ماركس عن هذا التفسير «التناسلي» للتاريخ، ردّة ورشوة وخيانة، وهو تفسيرٌ في متناول اليد، حاشاه الشيخ الإزيرق. 

ماذا اكتشف إذَن؟ دشَّن المرحوم ماركس تحليله العتيد للثورة والثورة المضادّة في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر، وهي المثال المدرسيّ لشغل الديالكتيك في التاريخ، «الماديّة التاريخية» البِضَوِّي رِشِيمها، بتشريحِ القوى الدافعة لموتورات التاريخ؛ الأزيز الخلفيّ الذي يحجبه ربما صياح الأبطال وصراخ الضحايا. فعَرَض ضمن ما عرَض في «صراع الطبقات في فرنسا 1848-1850» («أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز»، مجلد 7، دار نشر كارل ديتز، برلين، 1960، ص 12-107)، إحداثيّات الأزمة الاقتصاديّة التي بلغت ذروتها في أوروبا عام 1847 ومَسَكَت نارْ في فرنسا فسَعَّرت الصّراع بين فئات البرجوازية، الحاكمة منها والخاضعة، بالدرجة الأولى، وبين البرجوازية والبروليتاريا بالدرجة الثانية.

ميَّز المرحوم ماركس واقعتين اقتصاديّتين، قال كان لهما الأثر الأعظم في حشد عناصر الأزمة ثم تفجيرها: الواقعة الأولى الوباء الذي أصاب محصول البطاطس في العاملين 1845 و1846، وكان سبباً مباشراً لتصاعد الأسعار وتدهور غذاء عامّة الناس، والجوع الذي دفع بهم إلى الشوارع يسعون السياسة عام 1847 في فرنسا وفي كلّ القارّة. والواقعة الثانية: الأزمة التجاريّة والصناعيّة العامةّ التي ضربت إنجلترا في تلك الأعوام، وكانت إشارتها الأولى كسادُ أسهم السكك الحديديّة في خريف العام 1845، ثمّ إفلاس تجّار المستعمرات الكبار في خريف العام 1847، وتبعتهم البنوك الصغرى التي أفلست بتعاظم الخسارة، ثمّ الصناعات التي أغلقت أبوابها بانعدام التمويل وكساد التجارة. وقال ماركس كان لهذه الأزمة ظلٌّ طويلٌ في فرنسا، فأخرجَت جمهوراً كبيراً من الصناعيّين وتجّار الإجمالي من سوق التجارة الخارجيّة خاسرين، وأجبرتهم على العودة بأموالهم ومصالحهم إلى الداخل الفرنسي يبحثون عن موطئ قدم ومصدر ربحيّة، فكانوا من أشدّ العناصر ثوريةً في صراعهم ضدّ مُلك لويس فيليب، وأشدّهم حماسةً للجمهورية الثانية في فبراير 1848.

وتقدير المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب التي أزاحتها الجمهورية الثانية في فبراير 1848 كانت دولةً لرجال البنوك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. وجاء بنادرةٍ تقول إنّ المسيو جاك لافيت؛ المصرفيّ العَلَم، طَنْطَن وهو يصعد عتبات بلديّة باريس يومَ قامت ملكيّة لويس فيليب بالمؤامرة والانقلاب على شارلس العاشر في يوليو 1830: «الحكومة حكومتنا»، وكشف بذلك سرّ الثورة! ووضّح المرحوم ماركس أنّ البرجوازية الفرنسية لم تَطْغَ كطبقة تحت سلطان لويس فيليب، وإنما كان الأمرُ لفئةٍ منها، «شِقّ من المصرفيّين ومكوك البورصة ومكوك السكك الحديديّة ومُلّاك مناجم الفحم والحديد ومُلّاك الغابات، إلى جانب قسط من كبار مُلاّك الأراضي ما تُسمَّى الارستقراطية المالية. تمكَّنَت هذه من العرش، وأمْلَت القوانين في حجرات البرلمان، ومَنَحت وظائف الدولة، من الوزارات حتى مسؤولية التبغ».

أمّا البرجوازية الصناعية التي قالت بالجمهورية، في العاقبة عام 1847، فقد شكّلَت طرفاً من المعارضة الرسمية في واقع الأمر، وكانت أقليّة برلمانية. وبرزت معارضة البرجوازية الصناعية للملكيّة بقوّة كلما صَفَت السُّلطة للأرستقراطية المالية واشتَدّ بأس البرجوازية الصناعية في وجه البروليتاريا التي أضعفها الوأد المتكرّر لهَبَّاتها في 1832 و1834 و1839. أما طبقة البرجوازية الصغيرة، بجميع درجاتها المتعدّدة وطبقة الفلاحين، فكانتا كطبقتين خارج مدار السُّلطة، إمّا رَكَنَتا إلى المعارضة الرسميّة أو وَلَجَ أعلامٌ منهما السياسةَ بصفتهم «كفاءات» موكولين بتسطير أيديولوجيا الفئات الطبقية المتصارعة على الحُكم وترويجها؛ شُغل المتعلّمين، دكاترة ومحامين.

شرَح المرحوم ماركس باستفاضةٍ أنّ شِقّ البرجوازية المالية، ملوك المال، أحكَمَ قبضتَه على الدولة بإغراقها في الدّيون، فكان الدَّين المتعاظم هو الرّسَن الذي قاد به الدولةَ إذا صَحّ التعبير. وفوق ذلك، كان هذا الدَّين المتعاظم موضوعاً للمضاربة ولجَنْي أرباح هائلة، في استقلالٍ ظاهر الأمر عن الإنتاج، كأنما اختُلِق من عدم. يزداد العجز الماليّ للدولة عاماً بعد عام، وفي كلّ موسم للميزانية يُمْلِي ملوكُ المال من حجرات البرلمان قرضاً جديداً للدولة، يحصدون أرباحَه مضاعفةً، وترتدّ التكلفة على الجمهور، بالدرجة الأولى البرجوازية الصناعية والتجارية التي استثمرت بعض رؤوس أموالها في السّنَدات الحكومية، فتستشيط هذه غضباً من «الشّفشَفة» المواربة في هيئة ألاعيب البورصة، وتركل من جهتها العبءَ إلى أسفل. تحاول جهدَها زيادة أرباحها في مضمارَي الإنتاج والتوزيع، بتقليص أجور العمّال وتزوير السلع، من مثل الدقيق المخلوط بنشارة الخشب واللبن المطَمْبَج موية وجير، وزيادة الأسعار. وبالنتيجة، يتقلّص الاستهلاك من الجهة الأخرى، وينقلب ما كان ربحاً خسارةً مجدّدةً، وهكذا دواليك، حتى انحَلَجَت.

مثّلت المضاربات التي يتحكّم فيها ملوك المال، بمعرفتهم أسرار البورصة، وسيطرتهم على قلم البرلمان، شَركاً لصغار الرأسماليين وناشئة البرجوازية الصناعية، وخربت بيوتهم. وكان هذا الضّررُ البليغ علةَ تحوُّلهم الراديكالي نحو الجمهورية في عاقبة الأمر، جذريّةْ وْجَمَالها فريد، فشحذوا القوى للإجهاز على نظام لويس فيليب؛ النظام الذي صار لهم عدوّاً ياكُلْ عَشَاهُم، فتمكّنوا منه آخر الأمر بضُرَاع بروليتاري في فبراير 1848. ضرَب المرحوم ماركس لهذه المأكلة مثلاً؛ زيادة الصّرف الحكومي في أواخر عهد لويس فيليب إلى حوالي 400 مليون فرنك في العام، بالمقارنة مع 750 مليون فرنك هي جملة صادرات فرنسا. وقال كانت هذه المبالغ التي تمرّ بجهاز الدولة موضوعاً للعقود الهوبلي والرّشوة والاختلاس وجميع صور الاستهبال والفهلوة المالية.

كذلك سادت هذه «الشّفشَفة» في أعلى هيئات جهاز الدولة، وانبثّت حتى أدناها بين كلّ موظف إدارة وعميل صاحب مصلحة في شبّاك. لذلك كان تشخيص المرحوم ماركس أنّ ملكيّة لويس فيليب كانت في واقع الأمر شركةَ مساهمةٍ لنهب الدخل القومي الفرنسي، تتوزّع أسهُمها بين الوزراء والبرلمانيّين وحوالي 240 ألف من الناخبين وأتباعهم، يقوم عليها مديراً لويس فيليب، وتخضع لها مصالحُ قوى الصناعة والزراعة والنقل. وجميع صور الإنتاج مهدّدة محاصرة. حكومة للسماسرة، كما قالت عن نفسها، يومَ وضع مسيو جاك لافيت وزمرتُه لويس فيليب على العرش في يوليو 1830. لكنْ، هذه ربما تضاريس «كُونِكا» باريس في منتصف القرن التاسع عشر؛ «ألم يروا كم أهلكنا قبلَهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون.»

Sunday, 4 May 2025

مؤتمر لندن: شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور

 نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٧٤ بتاريخ ٢٤ أبريل ٢٠٢٥.  

قام في ١٥ أبريل الجاري مؤتمر في لندن دعت له الحكومة البريطانية لتدبير شؤون السودان وقعد قبل أن يقوم مستقيما، تمخض فولد فأرا. انتهى إلى بيان قصير من رئاسة المؤتمر لم يتفق عليه أقطابه، كررت فيه رئاسة المؤتمر عبارات تقية عن ضرورة وقف الحرب وإسعاف المدنيين. جاء تصميم المؤتمر ليوافق الذكرى الثانية لاندلاع حربنا «العبثية»، وهي العبارة الأثيرة لوصف ما بنا عند مراقبي أحوال السودان من غير أهله ومن يوالونهم الرأي ويرفدون تصوراتهم كومبارس أو كورس، كيفما اتفق. و«العبث» غير المعنى، طرد من التاريخ يرشح بالكبر الاستشراقي. وللمقارنة، للقارئة أن تتساءل إن كان يصح وصف حروب يوغوسلافيا السابقة على عنفها أو دمويتها بالعبثية. وعادة ما يسفر أرباب «العبثية» عن باطن لهذه العبارة غير ظاهرها بردهم الحرب إلى أسباب هيكلية عميقة أو مؤامرة متينة للنظام السابق، فإما «عبثية» أو «هيكلية» أو «مؤامرة» ولا يجتمعن بغير تفسير قويم. 

على كل، دعت الحكومة البريطانية لمؤتمر لندن وزراء خارجية وممثلين مرموقين لكل من كندا، تشاد، مصر، اثيوبيا كينيا، المملكة العربية السعودية، النرويج، قطر، جنوب السودان، سويسرا، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للتباحث في مصاب السودان واهتبال طريق ما إلى الأمام. وكشكول القوى الدولية والإقليمية حول الطاولة دلالة على مدى تبضع شؤون السودان في بازار علاقات الشوكة الدولية وفشله دلالة أعظم على انسداد هذا الطريق غير الموجود، زقاق ضيق أعمى تحيط به أسوار حصينة من المصالح الغيرية. 

غاب، أو قل غُيّب عن مؤتمر لندن أي طرف سياسي سوداني محلي ذو اعتبار حق ونفوذ. لكن بينما اجتمع الدبلوماسيون في لانكاستر هاوس، وشغل حجاجهم قاعاته الفخمة، عرض أهل السودان غريزتهم الديمقراطية لايڤ في شوارع لندن. والمبنى من العصر الامبريالي البريطاني (شيد في العام ١٨٢٥) تتخذه الخارجية البريطانية دار ضيافة منذ العام ١٩١٣، وكان مسرحا لأفلام شرلوك هولمز ومؤخرا بالإيجار لمثل مسلسل «التاج» عن حياة الملكة الزابيث الثانية. تظاهر خارج هذا المبنى المئات من أهلك الذين «هبوا» للنصرة في يوم عمل ضد تخريب الدعم السريع للبلاد وحياة أهلها، ومنجزاتها المادية وتاريخها وروحيتها، بالمختصر تهديده كامل التكوين الاجتماعي وليس «الدولة» وبس مقطوعة الطاري، ونددوا بالمجهود الحربي الإماراتي الممتد خلال عامين من الحرب لصالح وكيلها الدعم السريع. ولم يعد هذا المدد الحربي سرا فقد ثبت قطعا وجزما، وبلغ من حيث الحجم والمدى مبلغا بعيدا بما في ذلك خط إمداد جوي مستمر ينقل السلاح والذخائر والمرتزقة من جهات الأرض، حتى بلغاريا وكولومبيا. وفاق بذلك كل ما طرأ على السودان من تدخل حربي في تاريخه الحديث من حيث التكنولوجيا القتالية والدعائية إلا ربما باعتبار قياس العصر الحملة البريطانية الناجحة لاحتلال السودان في أصيل القرن التاسع عشر. 

حام في «الأجواء» اللندنية تلك نفر مختار من الأعلام السياسيين السودانيين هيأت لهم يد الدبلوماسية الخفية التواجد في لندن في ميقات المؤتمر، نفر من حطام الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة على نظام الرئيس البشير، وما زالوا على تلك الموجدة تقدمهم ذات اليد أو الأيادي على أنهم بديل السودان المدني الديمقراطي أو الأمناء عليه. اختصرت جريدة «الغارديان» البريطانية في كلمة تحرير قصيرة بمناسبة العيد الثاني لحربنا «العبثية» الحجة التي تقول بها الحكومة البريطانية وكذلك هذا النفر من السياسيين السودانيين الذين اتفق وجودهم في لندن أوان مؤتمرها. وتطرأ ذات الحجة بصورة وأخرى مع تعديلات متباينة في الصياغة أو السمت في الآراء المكتوبة والمنطوقة لقسط عظيم من مجتمع «خبراء السودان». وهذه شبكة مجاملة تجمع فريقا متعدد الأجيال من الأكاديميين، والعاملين في العون الإنساني الدولي، والدبلوماسيين والأمنجية ومخبريهم المحليين الذين يقوم معاشهم منذ عهود على أزمات السودان، معاش تحققت به سير مهنية ناجحة ومواقع أكاديمية مرموقة واستشارات لدول غالبة ومنظمات مهيبة، هذا وإن فشل العديد منهم حتى ساعتنا هذه في تعلم اللغة العربية أو أي لغة أخرى من لغات ناس السودان العديدة. 

فما عناصر هذه الحجة؟ عرضت الغارديان على القارئة صراعا دمويا على السلطة بين جنرالين، وسكانا قيد التقتيل المطلوق على يد الجانبين، ومصالح دول أخرى، وسياسيين مدنيين ديمقراطيين مظلومين أزاحهم الجنرالان من السلطة في انقلاب، وإسلاميين متعصبين يتآمرون خلف الكواليس لاستعادة الحكم، وانقسامات إثنية متعاظمة. لكن لا تمييز لوزن أي من هذه العناصر أو لترتيبها، تضطرب بغير تحديد كأنها عناصر تعويذة، ضرس شمال لغنماية بها عرج في ساقها الأمامي اليسار ودم أم سيسي بيضاء بنقطة سوداء في جبهتها إلى جهة اليمين قليلا، وخرزتين ومحلب أصلي. وصارت بهذا التشكيل «العبثي» عقيدة دوغمائية تقاوم الاستقصاء والبحث المكين. وها قد مر عامان على الحرب، والحرب كما الثورة وأوقع معمل لتسارع التاريخ بالخطوة العريضة. لكن يظل المنظار على ما هو عليه، على طريقة الكلام الأول ما بتحول، فيمر التاريخ دورة كأن لم يحدث شيء، مكانك سر. والعقدة أن هذا المنظار يعكس ما يختلط في ذهن الناظر من تصورات لا ما يطرأ على موضوع النظر، فهو يكشف للناظر ما يبطن من تصورات «استشراقية» عن دراما كبرى، مقتلة ومؤامرة وخيانة ومجاعة ومسغبة وأبطال عكس ما إنك، تتواتر أحداثها الجسيمة، لكن آخر الأمر لا يحدث شي البتة وتنتهي حليمة عند قديمها الذي بدأت منه. يغيب عن هذه الدراما الناس سوى كضحايا للمجازر والخراب، عناصر كومبرس في فيلم آكشن، يشغلون الخلفية حتى تنتهي المشاهد. 

تتنوع الخلاصات التي يخرج بها مجتمع «الخبراء» هذا من هذه التعويذة بدرجة أو أخرى، بحسب الاختيار أو المزاج الآيديولوجي، لكن قاعدة هذه الخلاصات في أحيان كثيرة وليس في كلها متى قبلنا ببعض الماركسية المبتذلة حافز قليل الستر من المصالح المهنية. انتهى العالم بشؤون السودان آلكس دو ڤال في كلمة له والحرب بعد في شهرها الأول إلى شماتة ظاهرة فقال الحرب حساب على مئتي عام من تاريخ الخرطوم المدينة في السلب الجشع، حساب على فظائع نسبها لأحفاد الزبير باشا، وقال حولوا كل ما هو خارج الخرطوم إلى "قحط اجتماعي واقتصادي." قد تتساءل القارئة إذا كان من الإنصاف اختزال تاريخ مئتي عام من الحياة الحضرية بعمرانها وصراعاتها في هذا التصور المبتذل للتاريخ أو إذا كان من الإنصاف نسبة ملايين النفوس فيهم المحسنة والمناضلة والداية والمعلمة الله يزيدها، والركع والسجود، إلى بطل مضاد من القرن التاسع عشر. أما نعت كل ما هو خارج الخرطوم بالقحط الاجتماعي والاقتصادي فعبارة درامية من خارج التاريخ، وتستحق القارئة تفسيرا لركل نيالا ثاني أكبر مدينة في البلاد وعاصمة دارفور الفاشر ومدن الجزيرة الناعسة وغيرها تحت القطار المَرَّ. أما المقارنة فتفتح الباب للتساؤل عما ينتظر مثل لندن، عاصمة الإمبراطورية البريطانية حتى غربت شمسها، من حساب متى أخذنا بفلسفة آلكس دو ڤال للتاريخ. 

أما جوشوا كريز وزميلتيه فاحتجوا بمصحف المجاعة أو تهديدها على الأسنة أن «سيادة» السودان انتفت، ولم يبق منها سوى سلطان القوات المسلحة، والواجب التغاضي عنها وابتدار تدخل إنساني عظيم لإنقاذ السودانيين من أنفسهم، وذلك من عاصمة إقليمية، ربما نيروبي، وقالوا مهيئة تطيب لهذا الغرض. عاد كريز إلى ذات القضية في كلمة أخيرة، وقال هذه المرة سيادة السودان خواء كخواء القصر الحطام على النيل. احتفى كريز محقا بمبادرة ونجاعة غرف الطوارئ في التصدي لمهام الطعام والعلاج في غياب الدولة التي قال طارت سيادتها. والغرف ليست وحدها فهي طرف من أرخبيل للتضامن والعون المتبادل لا يدركه مجتمع «خبراء السودان» ولا تدركه صناعة العون الإنساني الدولية لأنه لا ينطق برطانة «المنظمات غير الحكومية» ولا يعتمد على مال «المعونة الأميركية». ويقوم هذا الأرخبيل على تنظيم تغلب عليه ديمقراطية أفقية مثله ولجان المقاومة، فهي من هذه الخبرة الاجتماعية التي تضم الأسرة الممتدة وخوة الحي ونفير الحلة والقرية والطرق الصوفية ومجتمع المسيد وهيئات التجار والمزارعين وروابطهم وعصبية المهنة والدفعة ووجوه أخرى وتشكيلات للتنظيم «المدني»، سارت عندنا تحت عنوان «الأهلية» قبل أن تنطلق فينا رطانة «المجتمع المدني». وهي صور للتضامن والعون والصمود أسبق على الدولة مقطوعة الطاري وأعمق منها، والله وكيل الغافلين. 

أعاد كريز في كلمته تمييزا تكرر على لسانه وعلى لسان غيره بين غرف الطوارئ ومناضلي لجان المقاومة الذي تسلحوا للقتال "إلى جانب الإسلاميين الذين سبق وأزاحوهم عن السلطة" بعبارته. لكن لم يتطرق كريز في تمييزه إلى موضوع القتال ولا غرضه، فلا قال عن ماذا يحاربون وأو من أجل ماذا. والتمييز ساقط متى ما أخذت بحقيقة أن المتطوع بغير سلاح والمتطوع بسلاح مدفوع بضرورة حاكمة، ضرورة مقاومة الانقضاض الباطش للدعم السريع وأولياءه على كامل التكوين الاجتماعي، على بيتنا وشارع بيتنا. بل ويصعب تمييز المتطوع بغير سلاح والمتطوع بسلاح من حيث التركيب الاجتماعي فهذا هو ذاك، تتطابق نفوسهم. وربما أسعف القارئة الاعتبار في هوية «الإسلاميين» في هذا السياق، فهل العشريني الذي يلهج بعبارة «إسلامية» وهو يجابه موته مقاتلا إلى جانب مناضلي لجان المقاومة المسلحين هو صورة كرادلة «المؤتمر الوطني»، من أطاحت بهم الثورة في ٢٠١٩/٢٠٢٠، وآلة ألاعيبهم السياسية، وقد أحال العديد منهم نفسه إلى المعاش في إسطنبول يلوك ما مضى اجترارا، "الدنيا ليل وغربة ومطر." أهذا تاريخ إذن سيدتي أم جر هوا؟ 

بطبيعة الحال، لا يمكن لوم الدكتور آلكس دو ڤال ولا الأستاذ جوشوا كريز ولا سواهم من مجتمع «خبراء السودان» على القنوط من السودان وأهله من موقع المراقب، فالحالة صعبة. تجرأ سواهم لكن على أكثر وذهبوا خطوة أبعد في القنوط فقالوا ما يفيد ألا خلاص سوى بيد المجتمع الدولي القوية، دعوتهم جهرا وسرا إلى تدخل دولي عسكري في السودان بتمومة جرتق ديمقراطية كرزاي أو عدة كرزايات، فهذا سبيلهم لإنقاذ السودان من نفسه، بعبارة أخرى حرب أعظم وأشد. شغلت هذه المجلة نفسها منذ قامت بالبحث والتقصي في كل خطوة لأهل السودان أسياد أنفسهم في الاتجاه المضاد، كل خطوة للتضامن والعون المتبادل والصمود والمكابدة بما في ذلك من تناقضات وتحولات وهم يقاومون جبروت حملة إخضاع عابرة للقارات. والحق الاحتفاء والبشارة بكل مزارع استعاد الإنتاج وبلغ بالطعام السوق المتضايق، وكل عامل يصب عرقه في إعادة تشغيل الموية والنور مجازفات، وكل مهني يقوم على الجرحى والمرضى بما تيسر، وكل متطوع في تكية ومطبخ وكل كسيب بالحلال أخرج من ماله قليل أو كثير لصيانة الأسرة والجيران والحبان والمؤسسات، وكل مقاتل قام بسلاحه ضد قوى الخراب التي تفتك بأهلك. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. 

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.