هذا النص الكامل لحوار مع جريدة التيار منشور في عدد اليوم ١٦ يناير ٢٠١٧، اختار المحرر أن يستبعد بعض فقراته لضيق الحيز أو كما قال.
س. بدءا، كيف تقيم الأوضاع التي آلت اليها البلاد بعد وأد الديمقراطية الثالثة؟
سؤالك يتضمن الاعتقاد أن انقلاب الجبهة الاسلامية في ١٩٨٩ مثل انقطاعا مع النظام السياسي البرلماني الذي نجم عن الانتفاضة ضد حكم جعفر نميري، وهو افتراض يصح لدرجة التحول من حكم برلماني إلى حكم سلطوي عسكري. لكن إن نظرت أبعد من ذلك قليلا، وهو زعم قد يستغربه الكثيرون، ستجد أن الانقلاب يفقد دلالة الانقطاع هذه عند اختبار محتواه الطبقي والاجتماعي.
س. ممن نزعت السلطة إذن في ١٩٨٩ ولمن آلت؟
بأي حال، لم تنزع من قوى الانتفاضة، القوى الجماهيرية التي خرجت من أطراف الخرطوم لتطيح بعرش نميري. فهذه لم تجد للسلطة طريقا بعد أن استأثرت بالقيادة العناصر المهنية النقابية من البرجوازية الصغيرة التي بدورها وجدت نفسها خارج دائرة النفوذ تماما وقد أسلمت الأمر والنهي للمجلس العسكري، أي أنها فشلت في تحقيق أهداف الانتفاضة التي نهضت لها الجماهير الشعبية وفضلت المساومة مع المجلس العسكري، أي فئة الضباط ذات نفس المنشأ الطبقي، على حلف هذه الجماهير غير مضمون العواقب.
س. من فاز إذن؟
فاز الجيش الذي ظل محتفظا بالحصانة من جنس المساءلة التي خضع لها جهاز الأمن القومي، بل ربما جاز أن المجلس العسكري وافق راغبا على مطالبة الجماهير بحل جهاز الأمن نظرا للحزازة الناشبة بين المؤسستين خاصة بعد عزل نميري للفريق عبد الماجد حامد خليل في ١٩٨١ وتعيين رئيس جهاز أمن الدولة اللواء عمر محمد الطيب في موقع نائب الرئيس بدلا عنه. يذكر طبعا أن عبد الماجد عاد وزيرا للدفاع في حكومة الصادق المهدي، لا سدنة ولا يحزنون! فاز مؤقتا الحزبان الأمة والاتحادي، ثم فازت الجبهة الاسلامية بالضربة القاضية في ١٩٨٩. لماذا؟ في هذا الخصوص يجوز الاسترسال في تكنولوجيا الحكم تحت الحكم الوطني إذا جاز التعبير. ورثت البرجوازية الصغيرة، في عبارة جون قرنق الصفوة البيروقراطية المتبرجزة، طرفا من السلطة السياسية كحليف أصغر للقيادات الطائفية من كبار الملاك الزراعيين والبرجوازية التجارية، ولم ترض بطبيعة الحال بحكم موقعها الأثير في جهاز الدولة بهذه القسمة فكان مسعاها التحرر من هذه العلاقة القابضة في صور مختلفة، أولها ربما التناقض بين صفوة الخريجين والختمية الذى انتهى إلى انقسام الوطني الاتحادي واستقلال قيادة الختمية بحزب يخصها، وأهما بطبيعة الحال اتصال النسب الطبقي في صور تنظيمية بين الصفوة المدنية والصفوة العسكرية - ضباط الجيش، أو خريجي كلية غردون وخريجي الكلية الحربية. بل يمكن القول أن مساهمة البرجوازية الصغيرة الأساسية في تكنولوجيا الحكم في بلادنا كانت اختراع “الانقلاب الثوري”، وفيه يقوم العسكريون بالانقلاب ويرتجل المدنيون ثورة من عل لا يعكر نقاءها التخليط الجماهيري، خاصة وأي تخليط فعال قد يحمل في طياته انقلابا على علاقات القوى التي تحفظ للبرجوازية الصغيرة من “أولاد البلد” موقعها المتميز في جهاز الدولة. شخص عبد المرحوم عبد الخالق محجوب نزعة حرق المراحل هذه في إطار صراعه مع البرجوازية الصغيرة في الحزب الشيوعي وقال ستفضي إلى طريق من الآلام والشرور، وقد كان. بحكم تذبذبها الشهير توزعت البرجوازية الصغيرة في ولاءاتها الآيديولوجية، يسارية، قومية عربية واسلامية وخلافه. لكن، اشتركت جميع فئاتها في عقيدة الانقلاب، إذ لا طريق يصل بها إلى السلطة سواه فصناديق الانتخابات تفرض عليها سلطة القيادات الطائفية وطريق “العمل الجماهيري الصبور والدؤوب” طويل وغير مضمون العواقب.
س. ماذا حدث في ١٩٨٩ إذن؟
هاجرت فئات واسعة من البرجوازية الصغيرة إلى الجبهة الاسلامية، التي غدت وقت عقدت صلحها مع جعفر نميري حزب هذه الطبقة الاجتماعية بامتياز. لم يعد الحلف مع القيادات الطائفية يكفيها كما لم تعد تجذبها الآيديولوجيات التي راجت في عصر التحرر الوطني، الاشتراكيات بتخريجاتها القومية العربية والناصرية وكذلك الشيوعية الأممية. يطول شرح أسباب هذه التحول لكن بعض ذلك ربما تحول طموحات فئات واسعة من هذه الطبقة الاجتماعية من ميري السودان فقير الخزائن إلي سوق العمل الخليجي. بانقلاب ١٩٨٩ استأثرت هذه الفئات من البرجوازية الصغيرة بالسلطة السياسية صافية لنفسها، لا يشقها سوى الحلف المتوتر بين المدنيين والعسكريين والذي انتهى كما هو متوقع بغلبة العسكريين وتضعضع المؤتمر الوطني إلى حزب بيد الرئيس. ما تبع ذلك يقرأ بالإشارة إلى هذا الموقع الطبقي فقد أخذت هذه الفئات تصنع دولة على صورتها، بما في ذلك تدهور الاقتصاد الريفي والاعتماد شبه الكلي على الريع، إن كان ريع البترول أو الذهب أو الأرض، فالبرجوازية الصغيرة تشغل موقعا ثانويا في عملية الإنتاج لا هي تزرع وهي لا هي تصنع لكنها تأكل وتلبس!
س. في السياسات التي انتهجتها حكومة الانقاذ منذ 27 عام هي العمل علي تفكيك وضعضعة القوي الاجتماعية هل هنالك قوة إجتماعية معينة يمكنها أن تحدث التغير الان بعد هذه التطورات؟
عملت السلطة على تفكيك القاعدة المادية للقوى الاجتماعية التي يمكن أن تشكل تهديدا لها، بعض ذلك ما كان سياسات منهجية وفق خطة التمكين وبعضه كان ارتجالا فرضته موجبات البقاء السياسي. لن استرسل في هذا الموضوع كثيرا لكنه مهم حينما يطرح مثل سؤالك عن ماهية القوى الثورية التي يمكن أن تحدث التغيير بحسب عبارتك. منتهى هذا التحولات كان ضعضعة الأساس المادي وكذلك الآيديولوجي الذي كان يسند نفوذ القيادات الطائفية. في هذا الخصوص التزم الاسلاميون المادية التاريخية أكثر من خصومهم الشيوعيين بمراحل ونفعتهم. لم تبدأ هذه التحولات عام ١٩٨٩ بطبيعة الحال..لكن تسارعت بشدة حين أصبحت الدولة بيد الاسلاميين أداة للهندسة الاجتماعية. أرخ الأستاذ كمال الجزولي لها بتاريخ انشاء بنك فيصل عام ١٩٧٧. تصديقا لذلك، تحدث حسن الترابي في نادي مكة في نوفمبر ١٩٨٤ بمناسبة مرور عام على تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان فكان تركيزه بالدرجة الأولى على أسلمة البنوك. عبرة ذلك ليس في المقام الأول في منع الربا، فقد وجد الفقهاء الاسلاميون عبر العصور تخريجات مبدعة لتجاوز هذه التفصيلة الشرعية بما يراعي مصالح كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال. قدم مكسيم رودنسون في كتابه “الاسلام والرأسمالية” حججا كافية في هذا الصدد وانتهى إلى أن المبادئ الاسلامية لم تمنع التطور الرأسمالي للعالم الاسلامي وليس فيها ما يتعارض مع التحول نحو الاشتراكية، فالاسلام كدين لم يصدر عنه نظام اقتصادي بعينه. قضية الربا قضية دعائية بالأساس لجذب المدخرات نحو القطاع البنكي الإسلامي ووضعه في موقع تحل فيه محل البنوك التقليدية، هي دعاية مثل قولهم “شيخ المصارف”. المهم أن الفئات الرأسمالية الصاعدة وجدت في رأس المال الخليجي مصدرا جديدا للتمويل جعلها في موقع المنافس الشرس للبرجوازية التجارية والزراعية المرتبطة بالقيادات الطائفية والتي كان لها الموقع المتقدم في السوق حتى أزاحتها بالكلية. كما ترى اليوم، أبناء الصادق المهدي يستثمرون في سوق الليموزين وبعض آل المهدي الأقل حظا استأجروا أجزاء من حيشانهم الواسعة في الملازمين مطاعم، أي هبطوا في السلم الطبقي من مواقعهم الأولى في صدر البرجوازية السودانية إلى التواضع الحالي، بينما اختار التاجر الشاطر بينهم، مبارك الفاضل المهدي، منذ فترة طويلة البحث عن حل ما مع الانقاذ يتيح له ومواليه العودة إلى السوق فتكس ورجع. لم يتأخر تجار الاتحادي ورجال أعماله عن ذات السنة. عبروا من مواقع المعارضة إلى حلف البشير فصيلا تلو الأخر حتى “الأصل” بقيادة الميرغنية.
س. هل يعني هذا أن المؤتمر الوطني نجح في قيادة البرجوازية السودانية؟
عبر الرئيس البشير عن طموحاته في هذا الصدد بوضوح شديد حين اقترح قبل عامين اندماج حزبي الأمة والاتحادي مع المؤتمر الوطني في حزب واحد تحت مسمى “مؤتمر الأمة الاتحادي”. المعنى هنا أن المؤتمر الوطني تحققت له بدرجة كبيرة قيادة البرجوازية السودانية ويسعى لتكتمل له قيادتها السياسية بضم الفئات التي ما زالت تحتفظ بصوت سياسي مستقل عنه. تتكرر هذه المساعي بصيغ عديدة، كتحالف أهل القبلة وكذلك حوار الوثبة وحديث رجالات المؤتمر الوطني المتكرر عن ضرورة التوافق على ثوابت “وطنية” تصون الدولة مهما تغيرت الحكومات. مما سبق يبدو واضحا من هي القوى ذات المصلحة الموضوعية في تحول ثوري، وليس انتقال ديمقراطي وكفى الله المؤمنين شر القتال. في الواقع، يسعى حتى الاسلاميون، وطني وشعبي وسلام عادل والاصلاح الآن، إلى صيغة من التحول الديمقراطي مأمون العواقب يحفظ المصالح طويلة المدى للقوى الاجتماعية التي تحقق لها التمكين منذ إنشاء بنك فيصل في ١٩٧٧.
س. هل تبخس التحول الديمقراطي؟
لا أقصد بهذا التمييز تبخيس التحول الديمقراطي كهدف مباشر لكن تكررت علينا التجربة في ١٩٦٤ وفي ١٩٨٥ بهزيمة الديكتاتورية ثم عودتها دون نظر في القوى الاجتماعية التي تفرخ هذه الديكتاتوريات كقانون للثورة المضادة إذا جاز التعبير. عبر مسطول عن علاقات القوى السائدة بأمنية معقدة، قال يريد أن يعيش في “عالم زين”، هذا العالم الجميل زاهي الألوان الذي يطل عليه عبر الدعاية من خلال شاشة التلفزيون لكن لا يجد إليه سبيلا. هذا في رأيي خط الصراع الاجتماعي في بلادنا، بين ساكني عالم زين وبين الذين انسدت أبوابه أمامهم. هؤلاء هو أصحاب المصلحة الأولى في الإطاحة بعلاقات السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإعادة تركيبها بما يجعل للتحول الديمقراطي محتوى يتجاوز انتقال السلطة بين فئات متنافسة تشترك في الواقع في مصالحها الطبقية وليس في امكانها حتى تخيل مناهج لإدارة موارد البلاد وتوزيع ثرواتها وانتاجها خارج الصندوق الرأسمالي.
س. كيف تشخص أزمة البلاد الحالية؟
عند تشخيص أزمة بلادنا المركبة تتردد مقولات المركز والهامش وصراع الهوية وهي صحيحة لا شك لكنها لا تصف العلة، فتاريخ بلادنا الحديث هو في صورة من الصور قصة الاختراق الرأسمالي لمجتمعات انخرطت تدريجا في السوق الرأسمالي العالمي. لك أن تفكر في هذه التاريخ مثلا عبر بوابة “الكبانية”، جنس الشركات الخرطومية في القرن التاسع عشر التي كانت تدير تجارة الرقيق من مسارح الاسترقاق في جبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب السودان إلى السوق الداخلي ثم سوق الصادر. ثم أنظر في تحولات “الكبانية” هذه عبر العصور يتغير مصدر التمويل وتتغير السلع، في الغالب مواد خام، لكن ظل جوهرها ساكن، ممول أجنبي يجني القسط الأكبر من الأرباح، وكيل محلي بما في ذلك السلطة الحكومية يجني القسط الأقل من الأرباح لكن يسيطر بفضل هذه العلاقة مع رأس المال الدولي على السوق الداخلي وعلى وسائل النقل ومنافذ التصدير كما يفرض بفضل السلاح الوارد إليه من مراكز القوة الأجنبية سيطرته على الأرض والموارد، مادية وبشرية، أو على الأقل يحاول فرض هذه السيطرة. تعمل “الكبانية” وفق أولويات الاستثمار التي يحددها السوق العالمي وليس وفق أولويات وطنية لتطوير قوى ووسائل وعلاقات الانتاج ونمو سوق محلي، ولا يعنيها في كثير أوقليل الخراب البشري والاجتماعي الذي تحمل معها أينما حلت. إذا اعتبرت في تاريخ الكبانية هذا، على سبيل المثال كبانيات الخرطوم المتخصصة في الرقيق في القرن الثامن عشر، شركة السودان الزراعية بتمويل بريطاني أول القرن العشرين، مشاريع الزراعة الآلية بتمويل سخي من البنك الدولي، بنك فيصل وأخوانه، كونسورتيوم النيل للبترول وأخوانه بشراكة صينية ماليزية هندية، الشركات الخليجية والتركية والصينية التي أخذت مؤخرا تستولى على الأراضي الزراعية في أقاليم البلاد المختلفة، قائمة الشركات الطويلة التي تنشط في تعدين الذهب، اكتشفت ربما حبلا من مسد يصل فصول تاريخ بلادنا الدموي بعضها ببعض. قوام هذا التاريخ الرئيس الاختراق الرأسمالي بوسيلة “الكبانية” والعلاقات السياسية والاجتماعية التي نجمت عن ذلك بين مركز السلطة، أي وكلاء الكبانية وأولهم السلطة الحاكمة، والمجتمعات صاحبة الموارد التي كانت هدفا للاستغلال الرأسمالي.
س. لماذا فشلت المعارضة طوال الـ27 سنة الماضية من إحداث التغير او بصيغة اخري لماذا لم تهزم حكومة المؤتمر الوطني؟
القوى المعارضة للانقاذ متعددة اللافتات لكنها بالقياس السابق قوى تمثل فئات من البرجوازية السودانية فقدت موقع القيادة الطبقية بتدهور الأساس المادي لسيطرتها، أي القيادات الطائفية، وهذه أصبح من الصعب جدا أن تستعيد هذا الموقع أو كما قالت فاطمة أحمد ابراهيم “ما بتشمها تاني قدحة”. ثم قوى المقاومة المسلحة في الريف، وهذه على عدالة قضيتها عاجزة حتى الآن ايديولوجيا أن تكتشف قانونا دخليا يوحد خط الصراع الاجتماعي كما نصح المسطول كما أن منظور قياداتها محدود بقضايا الاضطهاد القومي في كل اقليم حربي، دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، بما لا يتجاوز مطلوبات التجنيد للقتال. الأهم أن هذه القوى مثلها والجيش الشعبي لتحرير السودان غلب عليها منطق العسكرة دون السياسة فنجحت في تجنيد المقاتلين لكن فشلت أيما فشل في فض علاقات الاضطهاد في المجتمعات التي تنشط وسطها فلم تقدم محتوى تقدميا للتحرير المنشود. قارن مثلا محصلة التحرير في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحركة الشعبية شمال في جنوب كردفان أو في المناطق التي كانت تحت سيطرة حركة عبد الواحد أو حركة العدل والمساواة في دارفور بما استطاعت حركة تحرير شعب التقراي وحلفاؤها من تحقيقه في مناطق نفوذها قبل انتصارها على نظام الدرك في اثيوبيا أو ما استطاعت مؤخرا حركة التحرر الكردية من تحقيقه في روجافا شمال سورية فيما يخص قضية المرأة.
س. تعني أن الحركة الشعبية نجحت عسكريا نسبيا لكنها فشلت في بقية الجوانب الأخرى في المناطق المحررة؟
مثلها والجيش الشعبي في جنوب السودان كان جل اهتمام الحركات المسلحة تجنيد المقاتلين، طوعا وقسرا ولم تهتم إلا هامشيا بموارد الثورة سوى القتال في مجتمعاتها. في هذا الخصوص، تساءل المرحوم محمد ابراهيم نقد في كلمة بمناسبة الميلاد الثاني لاتحاد الكتاب السودانيين عن الموقع الذي تحتله قضية اللغات المحلية عند الفصائل المسلحة، هل اجتهدت بأي قدر في رعايتها وتطويرها أو التوسل بها للتعليم مثلا؟ في جبال النوبة، فضلت الحركة الشعبية أن تستبدل العربية باللغة الانجليزية كلغة تعليم مدرسي ولم تشغل نفسها كثيرا بتحرير لغات النوبة، فما التحرر القومي إذن؟ بالرغم من كل ذلك تظل مساهمة الحركات المسلحة الأولى أنها فرضت أسئلة جديدة على الطبقة السياسية لا يمكن بأى حال تجاوزها، أسئلة العلاقة بين مركز السلطة والأقاليم وقضايا القوميات وتوزيع الثروة القومية، وجميعها كانت غائبة عن النخب الحاكمة حتى عهد قريب، النخب التي صرخ في وجهها المرحوم حسن الطاهر زروق في برلمان الاستقلال بقضايا العدالة الاجتماعية فردت عليه بنقطة نظام. بهذا المعنى، لم يعد من الممكن تصور تحول سياسي يكنس هذه القضايا بعيدا عن الأنظار كما حدث بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة مارس/أبريل ولا يمكن تصور عقد سياسي جديد يعيد تكوين مركز السلطة دون أن يفرد موقعا للقوى الاقليمية. بل إن أحد إسرار نجاح المؤتمر الوطني في البقاء هو ما حققه من توسع في الطبقة الحاكمة بادراج الطامحين من الأقاليم المهمشة في هياكله وفي تركيب السلطة متى ضمن ولاءهم. قال الطيب حسن بدوي، وزير الثقافة الاتحادي وابن جبال النوبة، في لقاء إعلامي بعد تعيينه أنه لو ظل على ولاء أهله لحزب الأمة لما أدرك من أمره شيئا فالنفوذ في حزب الأمة يحسب بالنطفة والعلقة بينما أتاح له المؤتمر الوطني الصعود السياسي. العبرة هنا أن المكتب السياسي لحزب الأمة صار تحت سيطرة الإمام الصادق المهدي هيئة عائلية لذريته وأزواجهم وقليل من أهل الثقة ولا يمكن تصور أن ينال الطيب فيه موقعا بأخوي وأخوك مهما بلغت مهارته بينما فتح المؤتمر الوطني سلم الصعود حتى الميس المعلوم للراغبين الموالين وفي ذلك يتنافس المتنافسون. قال الطيب في لقاء آخر أنه يرى نفسه امتداد للشهيدين مكي علي بلايل وعيسى ضيف الله. إن كان من أفق للمعارضة القائمة فهو يبدأ بفهم ما الذي وجده مكي وعيسى والطيب في الحركة الاسلامية ففاق عندهم ميزانا مر المظلمة القومية ولا بد ذاقوا منها ما ذاقوا كما فعل المرحوم يوسف كوة.
س. كيف تنظر لدعوات الشباب مؤخراً للعصيان المدني ومامدى فاعليته واسهامه في التغيير؟
بتشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة. بطبيعة الحال يصعب الحديث عن الشباب ككتلة سياسية واحدة فهم فئة عمرية تتوزع ولاءاتهم كغيرهم من الفئات العمرية. لا تنس أن الشباب هم أيضا من يقاتلون على الجبهات في كل جانب، في قوات الدعم السريع وفي الجيش الشعبي (شمال). بالتالي لا تستقيم هذه المناقشة بغير ضبط المقصود، في هذه الحالة فئات واسعة من الشباب الحضري التواقين إلى نظام سياسي يعبر عن طموحاتهم، وقد ابتكروا بوسائل التوصل الاجتماعي أنماطا من الدعاية وأساليب الحشد جربوا فاعليتها بدعوتي العصيان في نوفمبر وديسمبر من العام الماضي. بذلك أضافوا إلى علبة أدوات الاحتجاج وسيلة جديدة. المهم أنهم بذلك جذبوا إلى ساحة العمل السياسي فئات كانت غائبة عنها، بل عفت سياسة الأحزاب المستقرة بالمرة وفضلت عليها مشاغل مستقلة كمثل ما فعل “الحواتة” وشباب شارع الحوادث. العبرة أن الشغف بالعمل العام والخدمة الاجتماعية ما زال حيا لم تكتمه المحاولات المستمرة للتدجين في قوالب ثابتة ولن يعدم كل من حدثته نفسه بالنضال وسيلة إلى ذلك.
س. هؤلاء الشباب خارج الأطر التنظيمية هل هذا يعني ان القوى السياسية عجزت عن احتواء هذه الطاقات؟
نعم، لم تعجز فقط، بل تتخوف من هذه الطاقات وترتعد مما يمكن أن تحدثه في البنى الحزبية من تغييرات. تريد الأحزاب أن يأتيها المنتسبين خاضعين موالين لا مبتكرين مجددين. تريد منهم الرضى بالقسمة إذا جازت العبارة، وحتى هذه تتناقص كما تشهد بذلك مصاعب الحزب الشيوعي مع المناضلين الشباب الذين تجذبهم شعاراته ويلهمهم تاريخه ومتى ما اجتهدوا في اجتراح ما يتلاءم مع تجربتهم السياسية صدهم بحملات التأديب ولفظهم بدعوى الحفاظ على جسد الحزب، أي تمائم المحفوظات الحزبية كأن الحزب أيقونه لا يلحقها الزمان والمكان. قارن ذلك بفورة النشاط في حزب المؤتمر السوداني الذي أتاح للراغبين من شبابه فرص التجريب والخطأ والصواب فنهض ليصبح حزبا حيا يمشي بين الناس وليس فقط مكتبا سياسيا يصدر البيانات عند اللزوم. في هذا الخصوص يجب الانتباه إلى مسارعة الأحزاب والحركات المسلحة لحصاد فوائد النشاط المدني على مصاعبه. أصدر ياسر عرمان سيلا من الرسائل التعليمية إلي أصحاب دعوة العصيان المدني أيا كانوا في استعجال مقلق خوفا من أن يفوته اسقاط النظام أيان ميقاته فدعى إلى خلق مركز موحد للمعارضة، وهي دعوة ملتبسة لحركة سياسية ترى النشاط المدني حلقة ثانوية لعملها العسكري. فوق ذلك، وجه ياسر رسائل أكثر خطورة إلى ضباط الجيش يطلب منهم بلفظ مستتر اهتبال الفرصة والانقلاب على النظام فعاد من سكة ثورة أبطالها المظلومين المهمشين إلى سكة الانقلاب البرجوازي الصغير كأن لم يك شيئا، وهزم بذلك العصيان المدني قبل أن ينجح حتى. الحقيقة، حتى ياسر ربما يخشى الثورة التي يدعو لها فقد تأتي بقوى يجهلها وقيادات لا يعرف لها اسما وميزة كأصحاب دعوة العصيان المدني وأبطال سبتمبر ٢٠١٣ وتسحب من تحت أرجله البساط وقد استقر له بالحرب والتفاوض موقعا في الطبقة السياسية السائدة. صوب الواثق كمير زميله ياسر في رسالة قصيرة يطلب فيها من قيادة الحركة الشعبية شمال أن تعمل بما تنصح به وتوجه قدراتها إلى النشاط المدني بين الجماهير بدلا عن انتظار معادلة مفاوضات حربية ترسم حدودها في المقام الأول التوازنات الاقليمية ومصالح القوى العظمى مع حكومة السودان. ختم الواثق رسالته القصيرة ببلاغة موحيه فكتب لقراءه “والله أعلم”. أليس هذا هو الارهاق الخلاق الذي نصح عبد الله علي ابراهيم بالاعتراف به؟
س. يقارن منتسبو النظام الحاكم الدعوة للتغيير بالأوضاع التي آلت اليها بعض بلدان المنطقة كسوريا واليمن وليبيا هل تعتقد في حال حدوث تغيير يمكن أن تتحول أوضاع البلاد لهذا النموذج؟ولماذا؟
هذا ادعاء القصد منه بث الذعر في النفوس وتعميق الهوة بين حضر البلاد الذي لم تغشاه الآثار المباشرة للصراع المسلح والمجتمعات التي ظلت تزرح تحت نيران القتال منذ عقود وأوضاعها لا تختلف نوعيا عن أمثلة ليبيا واليمن. فعالية هذا الادعاء انه يعكس في جانب منه الانقسام الطبقي في البلاد كما شرحه المسطول بين “عالم زين” والعوالم غير الزين خارجه فالنظام يقول بذلك أن حشودا فوضوية ستطيح بهذا العالم الجميل ومصالح قاطنيه متى انفتحت أبواب التغيير السياسي. الرد على ذلك اللهم آمين. النظام يسوق نفسه كمدافع عن مصالح الطبقات الاجتماعية العليا في وجه الذين لا يملكون ما يخسرونه، ويجتهد في ابتكار التكتيكات لتعميق الانقسامات العرقية والقبلية التي تحول دون توحد قوى مضادة له من جمهور الخاسرين خارج عالم زين وبالمقابل توحيد وتوسيع قاعدته الاجتماعية بالدعاية القومية. انظر مثلا كيف أعاد في دعايته تدوير شعارات وسيرة الحركة الوطنية لتصب في تصوير السودان الذي يريد. تشاهد في الاعلام مثلا سيرة للعطبراوي خالية من أي شبهة تخريب ثوري عمالي، عطبرة فيها خلفية سياحية من الزمن الجميل وليس مستودع لتجارب ثورية رائدة، وتشاهد تخريجات مصورة للأغاني الوطنية على طريقة روتانا سينما لا مكان فيها للصراع الاجتماعي تأكيدها على الوحدة القومية وتقرأ أبيات محجوب شريف الملهمة على لافتات دعاية المؤتمر الوطني ترافق صورة الرئيس البشير.. حنبنيه والذي منه. رد الناس على مثل هذا التشويه الدعائي بسيل السخرية من النظام ورموزه الذي أصبح مادة يومية للتسلية في وسائل التواصل الاجتماعي ربما أضحك اللاذع منه حتى الرئيس البشير نفسه الذي أصبح عند شباب الأمن مجرد “عمك”.
س. كيف يمكن أن يحدث التغيير؟
كما تحدث الولادة، بعد حمل طويل.
س. بات الكثير من الشباب يضع الحكومة والمعارضة في خانة واحدة في رأيك لماذا هذا الادعاء وهل له مبرراته؟
نعم، له مبرراته فالمعارضة في غالبها تدعو الشباب إلي الماضي، تدعوهم إلي “زمن جميل” قبل ١٩٨٩ لم يشهدوه، وتكرر على أسماعهم صباح مساء ما هم فيه من بلاء، فتعليمهم عند المعارضة أي كلام وووعيهم ملتبس ونواياهم غير مضمونة بما أنهم جيل المشروع الحضاري. إذا كان للمعارضة الرسمية من رسالة فلا يمكن لوم مستقبلي الرسالة على عدم وصولها أو فشلها. لا يستقيم أن تصد الأحزاب قنواتها أمام المناضلين الشباب وتنتظر منهم في ذات الوقت أن يتقدموا للفداء من أجل استعادة ماض لم يعرفوه. تكرر المعارضة منذ انقلاب ١٩٨٩ حرفيا عبارة “استعادة الديمقراطية” كأن الديمقراطية القادمة هي ما عهدت القيادات الحزبية في ماضي سيرتها وليس ديمقراطية جديدة يشق طريقها مناضلو اليوم ويضعون لها اللبنات كما يناسب تغير الحوادث. نظر المعارضة مشدود إلي الخلف ونظر القوى الصاعدة مشدود إلى الأمام وبين الإثنين ما قال غرامشي أنه الأزمة الثورية، ماض لا يقو على الموت ومستقبل لم يولد بعد وفيها ترون الفظائع أو كما قال.
س. قال رئيس حزب الاصلاح الآن غازي صلاح الدين أن السؤال عن من هو البديل سؤال وقح كيف تنظر للامر؟
لم أقرأ سياق عبارة غازي ولذا لن أعلق عليها. لكن الواقع أنه سؤال يتردد منذ وقت طويل. نصح المرحوم التجاني الطيب في كلمة مهمة خلال عمله في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي بإجابة شافية على سؤال ماذا هو البديل، أي ما المشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تبشر به المعارضة ليحل محل الانقاذ وأى سكة تدعو إليها الناس. الوقاحة أن تكون الإجابة هي ذات سكة التطور الرأسمالي، سكة الكبانية التي أوردتنا هذه الموارد، فما سكة غازي؟
س. كيف تنظر للذين يطرحون الاشتراكية في خضم واقع عالمي واقليمي رأسمالي؟
ما لم تقله في سؤالك أنه واقع عالمي واقليمي متأزم. أثبتت الرأسمالية قدرتها على التوسع والتجدد بينما انهارت التجارب الاشتراكية على النمط السوفييتي. هذه حقائق التاريخ. من ناحية أخرى ثبت أن علاقات الانتاج الرأسمالية على نجاعتها في تتفجر بالتناقضات.طرح المفكر السلوفييني سلافو جيجيك كأمثلة على ذلك ثلاثة قضايا حاسمة لا يمكن حلها في سياق الملكية الفردية وعلاقات الانتاج الرأسمالية وتتطلب في واقع الأمر حلا شيوعيا أمميا إذا جازت العبارة. الأولى قضية التدهور البيئي التي تهدد الكوكب بأجمله. في بلادنا كانت احدى انعكاسات هذه القضية تزايد حدة الجفاف والتصحر في حزام السافنا ما أفضى إلى سلسلة الصراعات المميتة حول الأرض بين المزارعين والرعاة. هذه قضية لا يمكن حلها بأي حال وفق علاقات الملكية الفردية للأرض وتتطلب كما ذكرت حلا اشتراكيا. الثانية قضية الملكية الفكرية بما في ذلك للمكتشفات الطبية والأدوية المستحدثة، وهي مكتسبات بشرية إن تركت نهبا للاستثمار الرأسمالي كانت النتيجة الانتشار غير المسبوق للاوبئة. استطاعات معاهد بحوث في الهند وجنوب افريقيا على سبيل المثال كسر حواجز الملكية الفكرية التي تفرضها الشركات الأوروبية والأميركية على مثل هذه المكتسبات العامة للبشرية التي لا يعقل حصرها بعلاقات ملكية فردية لتحقيق أرباح طائلة. الثالثة الثورة العلمية في مجال البيولوجيا الحيوية، حيث تنشد شركات ومؤسسات أميركية وأوروبية فرض الملكية الفردية على المكتشفات الجينية بينما المادة الوراثية للبشرية ملك للبشرية كلها ولا يعقل على الاطلاق تصور أن تملك شركة في كاليفورنيا حقوق الطبع لجينات يحملها كل البشر، عضو الكونغرس الأميركي والطفل الذي يدفع ترتارا غرب الحارات سيان. أضف إلى هذه القضايا على سبيل المثال قضية الهجرة التي تؤرق اليوم الحكومات الأوروبية وهي في جانب منها نتيجة للموجة المعاصرة من الاختراق الرأسمالي وشهرتها الليبرالية الجديدة. فرض التطور التكنولوجي في ظل علاقات الانتاج الرأسمالية تمركزا شديدا للنشاط الانتاجي ليترسخ الانقسام بين القوى الثمانية الكبرى التي اجتمعت فيها منجزات الثورة العلمية التكنولوجية وقوى العمل والإنتاج والخدمات المتصلة بها وبين بقية العالم. صارت وفق هذا الانقسام الكتلة البشرية خارج هذه الدول الثمانية وكذلك من لفظتهم علاقات الإنتاج في داخلها فائض من الحياة لا ضرورة اقتصادية لوجوده. بذلك صار إنسان طويلة أو الرقة أو بور أو كابول خارج دائرة الاستغلال المباشر إذا لا جدوى اقتصادية من عمله ولا ضرورة للاستثمار في حياته أقصى ما يمكن أن يبلغه أن يتحول إلى رقم في سجلات اللاجئين والنازحين التي ترعاها الأمم المتحدة نيابة عن العالم “الحر”. بعبارة روزا لوكسمبرغ العالم بين خيارين إما الاشتراكية أو البربرية، نحن في البربرية.
س. هنالك مأزق حقيقي في حال ذهاب هذه الحكومة، فكيف يتم التعامل معها. هل يتم عن طريق التسامح كالنموذج الجنوب افريقي أم عن طريق المحاسبة العادلة؟
ليس هنالك مأزق على الاطلاق.. الطريقة التي ستذهب بها الحكومة ستجيب على سؤالك. لم يتنظر من قاتلوا القذافي أن يصلوا به قاعة المحكمة واقتصوا منه على طريقتهم. عامل الجيش المصري حسني مبارك كبطل مظلوم حبسه في سرير مستشفى حتى اكتملت الثورة المضادة وعاد علي عبد الله صالح إلى واجهة الأحداث بفضل الحرب السعودية على اليمن.
س. كيف يعود الجيش إلى ثكناته مرة أخرى في ظل الواقع السياسي المتخلف الآن نتيجة لكثرة المليشيات المسلحة في الحكم والمعارضة والتدفق الهائل للسلاح لدى المواطنين في مناطق الهامش؟
الجيش هو المسؤول الأول عن هذا الواقع المتخلف بعبارتك منذ أن اتبع سنة الحرب بالوكالة، وهو اليوم صاحب القدرة القتالية الأعلى صحيح لكنه غير قادر على بسط سيطرته على السلاح وربما إيضا غير راغب. حجة التهديد الأمني هي عين حجة الجيش في مد نفوذه السياسي وقد جاء الوقت بعد عقود من الحرب الأهلية في بلادنا لطرح الأسئلة الصحيحة عن الجيش وموقعه من السياسة. الطريف أن معارضين عظام يظلون رغم هذه التجربة الطويلة على عقيدتهم في طريق الجيش القصير فتراهم يرددون في كل واقعة احتجاج اللهم انقلاب اللهم انقلاب.. كأن انقلاب أحمد الذي ينتظرون سيأتي بالرايحه على عكس انقلاب حاج أحمد الذي يمقتون، وكما قال الواثق “الله أعلم”.
No comments:
Post a Comment