حدد المرحوم جون قرنق في المانفستو الأول للحركة الشعبية
لتحرير السودان عام 1983، وقبل ذلك في رسالته للدكتوراة عام 1981، محل السلطة
السياسية والاجتماعية في السودان بما سماها "الصفوة البيروقراطية
المتبرجزة"، يقصد انها صعدت إلى موقعها الطبقي المتميز بفضل سيطرتها على جهاز
الدولة البيروقراطي وليس نشاطها الاقتصادي، فهي بذلك ليست برجوازية أصالة، صعودها
الاقتصادي والاجتماعي رهين بسلطتها السياسية. ساوى قرنق في تشخيصه هذا الصفوة
الشمالية والجنوبية؛ سبقت الأولى الثانية إلى موارد الدولة عبر
"السودنة" الشمالية لكن لحقت بها الثانية عبر اتفاق أديس أبابا 1972 الذي سمح لها بتدشين سطوتها "الثانوية" من خلال هياكل الحكم الذاتي
الاقليمي في جنوبي السودان.
في أطروحة قرنق صدى لتقدير رتشارد سكلار في مقالته
الموسومة "طبيعة الهيمنة الطبقية في افريقيا" (1967) أن العلاقات الطبقية في افريقيا "تتحدد في
قاعدتها بعلاقات القوة وليس الإنتاج". عند سكلار، صعود الطبقات الاجتماعية
المهيمنة في افريقيا دالة لنشأة الحزب السياسي، الآلة التي تمكنت عبرها من السيطرة
على جهاز الدولة ومن ثم الاستئثار بمواردها. عاد إلى هذه الفكرة مؤخرا كلمنس بينو
في مجلة شؤون افريقية لشرح الصعود الطبقي لصفوة الحركة الشعبية العسكرية-السياسية
في جنوب السودان. تتبع بينو كيف انتفعت هذه الصفوة من الدورة الثانية لحرب التحرير
في جنوبي السودان (1983 – 2005)، عبر سلب موارد المجتمعات المحلية بخاصة غير
الموالية للجيش الشعبي خارج مناطق تجنيده الرئيسية وفرض الضرائب العينية والنقدية
على السكان حيث استقرت سيطرة الجيش الشعبي والتجارة في الماشية والسلاح. بذلك تحقق
لصفوة الحركة الشعبية تشكيل نفسها كطبقة "ارستقراطية عسكرية" في مقابل
غمار السكان في جنوبي السودان حتى نالت الدولة، وعبرها فيض الموارد الذي أتاح لها
تجذير نفوذها وتوسيعه، بالدرجة الأولى دخل البترول والقروض والمنح الأجنبية. نقل
بينو في مقالته تقدير منظمة قلوبال وتنس أن صفوة الحكم الجنوبية نهبت فيما بينها،
بمنهج "الفساد التضامني"، ما لا يقل عن أربعة بلايين دولار منذ تشكيل
حكومة جنوب السودان شبه المستقلة عام 2005.
انتهى بينو إلى أن صفوة الحركة الشعبية شكلت من نفسها
ارستقراطية جديدة من خلال اقتصاد الحرب ثم عززت نفوذها بالغرف المباشر من خزائن
الدولة عبر محاباة شبكة الأقارب والموالين التي رعت من حولها وإتاحة المجال للأعداء
السابقين أن ينهلوا كذلك ما استطاعوا تحت خيمة الرئيس كير الكبيرة. يعضد الفساد في
تقدير بينو الهيمنة الطبقية والسياسية لصفوة الحركة الشعبية على المدى القصير لكن
يهدد بقاء الدولة بما يثير من صراعات سياسية وإثنية. بذلك، يرى بينو أن الصراع
الجاري في جنوب السودان يعود في جانب كبير منه إلى البون الشاسع بين ارستقراطية
الحكم الجديدة وفئاتها الدنيا من قادة ميدانيين ومحليين وجمهور الناس. لكن، ألا
يمكن بتمرين عقلي سهل تبديل جنوب بشمال والوصول إلى ذات الخلاصات. إن كان فساد
"الصفوة البيروقراطية المتبرجزة" تسارع حادا في جنوب السودان حتى الانفجار
الحربي في ديسمبر الماضي فسيرة قرينتها الشمالية مزمنة لا غير ربما، يميزها فيما
مضى نجاح الانقلاب كخطة للاستيلاء على السلطة المركزية كلما اشتدت أزماتها.
No comments:
Post a Comment