Thursday 4 July 2024

عبثيْةْ، بت الكلب

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٣٦ بتاريخ ٢٧ يونيو ٢٠٢٤.

جوشوا كريز، خلود خير ورجاء مكاوي، السودان يتضور جوعا، مجلة «عرض نيويورك للكتب»، ٢٣ يونيو ٢٠٢٤.

صدر هذا المقال في مجلة «عرض نيويورك للكتب»، مجلة رصينة حسنة التحرير، وقضيته الأولى إقامة الدليل على أن أهل السودان على باب الله، جوعى تقطعت بهم السبل في أوار حرب هم فيها ضحايا وكفى. ولذا لا قوامة لهم على أنفسهم وإن حملوا السلاح للقتال والدفاع عن أنفسهم وانصلب تربالهم للزراعة بما تيسر وفاحت بني كربو في قيزان خلاويهم للسائل والمحروم وقامت وسطهم لجان طوارئ ومطابخ جماعية؛ ومهمة المجتمع الدولي هي إنقاذهم، وأن لم يقم بهذه المهمة فشل مرة وأخرى وأدمن الفشل.

وطن الُكُّتّاب الثلاثة هذه الخلاصة في تاريخ للحرب واقتصاد الغذاء والجوع بين يدي الدولة وريثة الاستعمار، دولة ٥٦. أحسن الُكُّتّاب عرض هذا التاريخ من التفاضل في الشبع والجوع بين حواضر السودان وأريافه لكن زاغ عنهم تشخيصه، فردوا أمره إلى حكم "طبقة ضيقة من النخب العربية ذات القاعدة في السودان النيلي"، وجعلوا بذلك العرق محل الطبقة الاجتماعية. وهذا زعم مستقر في الأكاديميا الغربية عن السودان، المفاصلة فيه بين «عرب» ظالمين و«غير عرب» مظلومين وعلى الباغي تدور الدوائر. وتكررت في المقال كلمة عرب ١٢ مرة بأكثر من معنى، فطغمة الحكم الضيقة في حوض النيل عرب، والجنجويد من أهل دارفور عرب، والعرب في الإمارات العربية عرب. ولا تمييز في المقال لهذه الانزلاقات في مدلول «آراب»، فكله صابون.

لهذا السهو عن تمايز الطبقة الاجتماعية عن العرق تبعات، فمتى ما كان مدار الصراع العرق والثقافة انسد الطريق أمام الحل التقدمي وانفتح الأفق أمام التطهير العرقي. وهي القضية التي وقف لها المرحوم عبد الخالق محجوب منافحا عن "أحفاد الزبير باشا" في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥ ومن تبع خطته من بعد ذلك بإحسان. فقال لحقهم التاريخ واستفادوا الدروس والعبر ونشأت وسطهم منظمات تقدمية ديمقراطية بما في ذلك الحزب الشيوعي. بل قبل حتى جون قرنق ببعض هذا المعنى فالخصم عنده في مانفستو الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لعام ١٩٨٣ "طبقة بيروقراطية متبرجزة" نسبها في الاقتصاد الاستعماري. أما غير العرب فهم لموم من أقوام مختلفة لا ينشغل الُكُّتّاب كثيرا بتمايزهم كقولهم قرى غير العرب حول الفاشر. لا تحيط شفرة عرب وغير عرب بحرابة السودان الحالية، ولذلك لم يجد الُكُّتّاب بدا من تعطيلها على وجه السرعة، وإن ابتدروا بها شغلهم، فقالوا أججت الحرب التي اندلعت في الخرطوم الانقسامات العرقية حول الأرض والسلطة ولذلك انقطعت الصراعات بين العرب وغير العرب في جنوب وغرب كردفان عن المعركة حول الخرطوم أو كادت، هذه غير تلك. ولم يأت الُكُّتّاب بطبيعة الحال على ذكر صراعات عرب وعرب كمثل حرب السلامات والهبانية المستمرة أو صراعات داخل جماعة عربية واحدة كمثل حرب بيوت المسيرية على بابنوسة أو اعتزال المحاميد من شيعة موسى هلال حلف الماهرية وآل دقلو، فمن أعرب من غيره؟

انتقل الُكُّتّاب من العرض الممتاز لاقتصاد الشبع والجوع الذي صدروا به المقال مباشرة إلى هندسة الشوكة فكتبوا أن السودان خلو من أي حكم يعتد به، بل "لا توجد دولة تستحق الاعتبار" في رأيهم، زايلي وزايل نعيمكي. وعلقوا هذا الحكم العظيم على مشجب "أصدقاء سودانيين" يتحدثون عن "وطن ممزق إلى مزع تديرها جماعات مسلحة مختلفة." لكن لم يصل الُكُّتّاب ما ابتدروا حول اقتصاد الشبع والجوع باقتصاد الحرابة القائمة، فهي حرب في تصويرهم من مرض السودان بنفسه وخلاص كده. اكتفى الُكُّتّاب في هذا الباب بنسبة كل طرف من طرفي الحرب إلى حليف اقليمي فكتبوا حالف الجيش مصر وحالف الدعم السريع الإمارات العربية المتحدة. وقد سبق الدكتوران مارك دفيلد ونيكولاس ستوكتون إلى كشف جوانب من هذه الصلات بين اقتصاد الغذاء والحرابة القائمة في السودان (مجلة «عرض الاقتصاد السياسي الافريقي»، م ٥١، ع ١٧٩، ٢٠٢٤) واسطتها سوق رأسمالية للماشية، ترد من بادية كردفان ودارفور وتتلقفها مدن الخليج العربي، تبلع جب وجب.

ما الخلاصة إذن؟ عند الُكُّتّاب الثلاثة "السودان خلو من الدولة ذات السيادة"، وشرحهم لها أن القوات المسلحة السودانية فقدت الشرعية الدستورية بالانقلاب في ٢٠٢١ ومن ثم علق الاتحاد الافريقي عضوية السودان، وعلى كل حال يسيطر الجيش بالكاد على نصف السودان. والسيادة التي يقصدها الُكُّتّاب إذن وظيفة تتحقق بالرضا الإقليمي والدولي وقد انتهى أمرها بالحرابة الدائرة الآن. عاقبة هذا التعريف للسودان كخلاء خال من الدولة ومن السيادة ولو تبهدلت هو طرح فضاءه وأرضه وأهله للسلطان الدولي. وهذا ما انتهى إليه المقال، تكأته في ذلك عقيدة غير منطوقة في قوامة «المجتمع الدولي» على غير الدولي، أي قوامة الدول الكبرى على سواها. وهي عقيدة يعود نسبها إلى «عبء الرجل الأبيض» القَيّم على أوباش متوحشين في خلاء افريقيا وآسيا لما يكملوا مطلوبات السيادة، وأضعف الإيمان وضعهم تحت الانتداب.

يقترب الُكُّتّاب من هذا التصور كل الاقتراب، فنصيحتهم للأمم المتحدة إن كانت فعلا تريد إشباع جوعى السودان أن تتحلل من كل اعتبار للسلطات في بورتسودان، وهي عندهم عين القوات المسلحة السودانية، وتنقل مركز عملياتها الإنسانية من بورتسودان إلى عاصمة في الإقليم، ورشحوا لذلك نيروبي، بحيث لا تقع تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية. ومن ثم يمكن للأمم المتحدة أن تؤسس مراكز عمليات عابرة للحدود في تشاد وجنوب السودان ويمكنها أن تتفاوض مباشرة مع القوى المحلية بما في ذلك الدعم السريع. وللأمم المتحدة إن أرادت أن تحتفظ بموقع في بورتسودان لإدارة المعونات الموجهة إلى مناطق سيطرة القوات المسلحة. وقال الُكُّتّاب لن تقوى السلطات على طرد الأمم المتحدة فالحاجة عظيمة للمعونات الإنسانية في مناطق القوات المسلحة السودانية والوضع الاقتصادي بائس. بماذا ينصح الُكُّتّاب إذن إن كان للسلطات رأي آخر؟ استغربت هذا الحماس للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية من جوشوا كريز، وقد تصدى بحذق لكشف اقتصادها السياسي في جنوب السودان، وجاء هذه القضية بحجة قوية وبيان في أكثر من مقال وكلمة بعناوين مثل «مأزق الملاك: إذا كان العمل الإنساني سياسيا، فما سياسته؟» (مجلة بافلر، ع ٧١، نوفمبر ٢٠٢٣). لكن، حربنا "عبثية"، عرب وما عرب. 

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.