Friday 8 December 2023

ما «الصوملة»: خراج لمن استطاع إليه سبيلا وفاتورة

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر»، العدد ٩ بتاريخ ٧ ديسمبر ٢٠٢٣ 

أحمد موسى، فين ستيوبوتات وتوبياس هاغمان (٢٠٢٠). "مداخيل على الحوافر: تجارة الماشية والضرائب وصناعة الدولة في الأراضي الصومالية". مجلة دراسات شرق افريقيا. مجلد ١٥. عدد ١. ص ١٠٨-١٢٧. 

بيتر د. ليتل (٢٠٠٣). "الصومال: اقتصاد بلا دولة". دار جيمس كري. 

بيتر د. ليسون (٢٠٠٧). "بلا دولة بلا لمة: الصومال قبل وبعد انهيار الحكومة". مجلة الاقتصاديات المقارنة. مجلد ٣٥. عدد ٤. ص ٦٨٩-٧١٠. 

بيوتر سزافروغا (٢٠١٦). "هل لا بد من الدولة؟ حالة الاقتصاد الصومالي". بوليتجا. مجلد ١٣. عدد ٤٢. ص ٤٠٣-٤١٩. 


استقر استعمال "الصوملة" كناية عن "بهدلة" الدولة التامة، وتدهورها إلى مزع تتنازعها فصائل مسلحة في جغرافية سكانية انقلعت أوتادها وارتدت إلى ما يشبه صورة التوحش الطبيعي في الأثر، جاهلية وعصبية. ساد هذا الاستعمال الأسطوري في الرأي العام وتكرر التحذير من "ود أم بعلو" الصوملة أو التهديد به حتى تحول نمرا كما في القصة المعلومة. ولما حضر هذا التوحش المرادف للصوملة التي طالما تردد التحذير منها بالفعل سكتت شهرزاد أو كيَّفت تحذيرها من السيناريو الصومالي إلى السيناريو الليبي. صارت الصومال كما كتب الدكتور عبدي إسماعيل سمتار، حبر الدراسات الصومالية، في كلمة صحفية "عنوانا للقنوط" وذاك ربما ما يحجب معنى الصوملة إلا ما كان على سبيل هُبّوا لنجدة أنفسكم من مصير الصومال، والله وكيل الغافلين. 

فما هي هذه «الصوملة» إذن؟

أصابت الصومال بعد انهيار نظام سياد بري في ١٩٩١ وزوال السلطان المركزي فيها بالمرة شهرة من حيث لا تحتسب في دوائر المبشرين بحرية السوق وقد "فك اللجام"، السوق الذي لا تحيط به دولة ولا يخضع لفرمان. وتراكم في هذا المعنى أدب يلهج بمدح الجغرافية التجارية "خالي دولة" التي قيل حلت محل الجغرافية الصومالية موضوع السيادة. وجاء من هذا الباب بعض أصفى النقد للتدخلات والمغامرات الدولية في الصومال، مغامرات ظل عنوانها على الدوام بعث شيء من حتى هذه الدولة التي كانت. كانت هذه التدخلات ضارة وحميدة أحد الأسباب التي سعرت من الصراع الداخلي على مزع الدولة في الصومال. 

سقط نظام سياد بري في العام ١٩٩١، وكانت تلك أحلك ساعات الحرب الأهلية التي تعود إرهاصاتها إلى الثمانينيات، إذ لم تسكن الحرب الأهلية بانهيار النظام وإنما تفاقمت وتعددت أطرافها. وكانت من نتائج الأعمال الحربية للجبهة الوطنية الصومالية في جنوبي الصومال، بخاصة في الحوض الزراعي الواقع بين نهري جوبا وشيبيلي، المجاعة المهلكة التي ضربت هذه الأقاليم في ١٩٩٢. أنشأت الأمم المتحدة بعثة خاصة بها (عملية الأمم المتحدة الأولى في الصومال) مهمتها تيسير الإغاثة (أبريل ١٩٩٢ ديسمبر ١٩٩٢)، تعرضت لهجوم شديد من رئيسها نفسه الدبلوماسي المخضرم محمد سحنون، فالبعثة في رأيه استهلكت نفسها في البيروقراطية ولم تستطع أن تقدم الكثير خارج مقديشو. بلغت كلفة مجاعة العام ١٩٩٢ ما يربو على ٢٠٠ ألف نفس، وأوراق وتقارير لا تحصى من الأمم المتحدة. 

قررت الأمم المتحدة في العام ١٩٩٣ تغيير طبيعة بعثتها من «الإغاثة» إلى «حفظ السلام»، بهدف استعادة القوام السياسي والاقتصادي للبلاد. لم تنجح هذه المساعي فالأمم المتحدة لم تستطع منع الفصائل المتصارعة من القتال فانسحبت في العام ١٩٩٥. وكان من آثار هذا الانسحاب انحسار القتال، فوجود الأمم المتحدة بعقيدة بعث "بعاتي" الدولة كان دافعا للمنافسة بين الفصائل المختلفة للفوز بطرف من جهاز الدولة الموعود متى ما هب وافقا. قام حساب الربح والخسارة للمليشيات المتحاربة على تقدير أن الحرب أوفق من السلم؛ ما دام الأمل في الغلبة هو الطريق إلى الاعتراف السياسي الذي تعد به الأمم المتحدة ضمن مشروع تجريدي الطابع لإعادة البناء، الأصل فيه هو تمييز الدولة المركزية بالأولوية. 

تجدد القتال لذلك بشدة في العام ٢٠٠٦ وقت سعى المجتمع الدولي مرة أخرى لتأسيس حكومة صومالية مركزية، وجاء في هذا السياق غزو الجيش الأثيوبي ثم تأسيس الحكومة الفدرالية الانتقالية. أتى بيوتر سزافروغا في مقاله بعبرة مهمة في هذه المسألة، أي التناقض بين مساعي المجتمع الدولي لتأسيس جهاز للدولة وحكومة كما يقول الكتاب، على صورة الدولة الغربية القائمة في المثال على عقد اجتماعي آلة شغلها الديمقراطية الليبرالية، وبين الواقع الملموس كما في عبارة اللينينية. عد سزافروغا جملة الافتراضات والعقائد المبطنة والآمال ربما التي تحيط بهذا التناقض من خطيئة النيرڤانا، تهويم السارح بغنم إبليس. وزاد أن التجربة في افريقيا وبلاد العالم عدا الاستثناء العظيم في أوروبا الغربية وأميركا تكذب مثل هذا الوعد وتسخر من عدم موضوعيته. تناسل مثل هذا الغنم الإبليسي في الأدب السياسي السوداني المعاصر حتى لم يعد بالإمكان التمييز بين ورقة والأخرى وبيان الذي يليه. وبلغ في تجريده مبلغ «البخرة»، طلاسم تفعل فعلها الموعود بالعقيدة في صانعها. بل صار مثل هذا التجريد المخل موئلا في قضايا قوامها معرفة دقيقة بالملموس وقابلية التطبيق في التجربة الحية مثل "الدمج" الذي سرح السياسيون بغنمه في مضارب قصية دونما علم يذكر بالجندي كما هو، الديدبان في باب القاعة، ماله ومعاشه ومعسكره وسلاحه ومهماته وتشوينه وهلم جرا.   

بلا دولة بلا لمة

الحقيقة أن معاش الصومال تضرر أشد الضرر في أحلك ساعات الحرب الأهلية لكن تجدد بغير عكازة الدولة وربما بسبب غيابها. هام بهذا التصور طائفة من أنصار السوق «المطلوق» وجدوا في الصومال الخالي من الدولة المركزية تجربة مخبرية تاريخية تقوم بزعمهم دليلا على سلامة مثال السوق ذاتي التنظيم. والدولة في هذا التصور هي الدولة كاملة التعريف في التجربة الأوروبية القياسية والاستثنائية في آن واحد، المؤسسة التراتبية التي تحتكر استخدام القوة في جغرافية ما، وأولى مسؤولياتها بهذا التقدير إنفاذ القانون. تخالف الوقائع الصومالية هذا التصور من صفحته الأولى فالقانون الذي ظل نافذا في مجتمعات الصومال حتى خلال الحرب الأهلية ليس ذاك الذي تشترعه الدولة صاحبة المطار وتنفذه أجهزة حكومية وإنما القانون الأهلي، القواعد التي تعارف عليها الناس لحل نزاعاتهم واستقرت بتكرار التجربة. 

برع في هذا الرصد والتقريظ للاقتصاد الذي لا تحيط به أسوار دولة مركزية الدكتور بيتر ليتل في كتابه "الصومال: اقتصاد بلا دولة" (٢٠٠٣). خلاصة ليتل أن نظاما خالفا عماده الاقتصاد غير الرسمي القائم على التجارة العابرة للحدود والتهريب والتحويلات المالية الدولية اتخذ مكان الاقتصاد الذي كانت تحرسه آلة الدولة عند نقاط الاستيراد التصدير، وفاقه فعالية. وتركيز ليتل على الفائزين في هذا النظام الخالف، زعماء العشائر ورجال الدين ورجال الأعمال الذين حققوا بالحيلة والتفاوض وتقسيم العمل بينهم والمليشيات سترا من السلم في قطاع من الصومال قاعدته الأرباح التي تحققت من انفتاح صادر الماشية بدون أي قيد حكومي، وفي المقابل ازدهار تجارة الوارد من السلع الاستهلاكية. هذا بينما تدهورت المدن إلى مخازن للمعدمين ومراكز للجريمة. 

كان الصومال حتى منتصف الثمانينيات تحت حكم سياد بري أكبر مصدر للماشية في العالم. وتحققت بالحرب زيادة هائلة في إنتاج وصادر الماشية حيث تحللت الحكومة المركزية التي كانت تحصد قسطا من فوائد هذا القطاع عبر الضريبة والجمارك والرسوم المختلفة. زاد على سبيل المثال حجم مبيعات الماشية في غاريسا الكينية، وهي سوق كبير للماشية الصومالية، أربعة أضعاف في الفترة ١٩٩١ إلى ١٩٩٨ وستة أضعاف في الفترة ١٩٨٩ إلى ١٩٩٨. هذا بينما عبرت في العام ١٩٩٩ حوالي ٩٥٪ من صادرات الأغنام و٥٢٪ من صادرات الضأن من شرق افريقيا إلى العالم عبر مينائي بوساسو وبربرا الصوماليين. 

تجددت كذلك الاستثمارات السريعة الربحية في القطاع الحضري بعودة بعض الاستقرار في أعقاب انسحاب القوات الاثيوبية. استقبلت الجغرافية الصومالية بغير دولة يعتد بها شركات كبرى مثل كوكا كولا وجنرال موتورز. كان أعظم النهوض في قطاع الاتصالات، وقد انفك الاحتكار الحكومي بزوال الدولة المركزية. والعلة أن الاتصالات الحديثة عماد نظام «الحوالة» ذاتي التنظيم الذي تمر عبره التحويلات المالية للمهاجرين الصوماليين في أصقاع الأرض إلى ذويهم في الوطن في استقلال تام عن النظام البنكي الدولي الرسمي. استوعب هذا النظام الأهلي في كل عام خلال العقد الأول من الألفية الجديدة حوالي مليار دولار. لذلك لم تنهار العملة الصومالية، الشلن، وظلت على فعاليتها في تجارة القطاعي في السوق المحلي وإن انهارت الدولة المركزية ومعها البنك المركزي ووزارة المالية. تدهورت قيمة الشلن بالمقارنة مع الدولار الأميركي في الفترة ١٩٨٠-١٩٩١ بمقدار ٣٠٠ مرة بينما تناقصت هذه القيمة بمقدار خمس مرات فقط في الفترة ١٩٩١ إلى ٢٠٠١ والحرب مستعرة. لا غرو إذن أن صدرت عن هذا الصومال الذي يعج بالتجارة "الكيري" عناوين مثل ورقة الدكتور بيتر ت. ليسون (٢٠٠٧) "بلا دولة بلا لمة: الصومال قبل وبعد انهيار الحكومة". 

ليست دولة واحدة، مثنى وثلاث ورباع

ربما استعجل ليسون في تقديره، والقياس عنده على الدولة المعيارية التي تحتكر العنف وتنفذ القانون معرفا بالألف واللام. لا يجد الباحث عن الدولة في الجغرافية الصومالية مثل هذا الكيان القادر القابض لكن يجد منذ حوالي العام ٢٠١٠ تشكيلات للدولة متفاوتة النفوذ والأثر: مشروع لبناء دولة واحدة والله واحد كما في الكتاب مقره مقديشو، قوامه مال ومشاريع المجتمع الدولي وكادره الصفوة الصومالية العائدة لإنقاذ البلاد؛ وتكوينات إدارية إقليمية ومحلية متعددة، متنافسة متراكبة ومتداخلة موردها ما يمكن الفوز به من «خَرَاج»، بالدرجة الأولى من صادر الماشية وعموم التجارة. بلغ الدكتور أحمد موسى علما بهذه الدول من تتبعه مسارات الماشية ومظاعنها في الجغرافية الصومالية من أقاليم رعيها حتى محطات تصديرها، فهذه دول قامت كما حرب الصومال على سيقان البهائم، نشأتها وتشكيلها وتحولاتها دالة للحيل والتنازلات الداخلة في المفاوضات حول «الخَرَاج» بين شبكات التجار وزعماء المليشيات ومستوردي الماشية الصومالية في الخليج العربي. 

لا يحد الصومال-المرعى الحدود القطرية للصومال-الدولة التي كانت، ومدار الرعي هو سهل هود الذي يمتد عبر ولاية الصومال الإقليمية في اثيوبيا وجنوب ووسط الصومال وأرض الصومال التي استقلت بنفسها حتى أرض البنط شمال شرق الصومال. بذلك فإن إنتاج وتجارة البهائم في شرق افريقيا الصومالية عملية عابرة للحدود السياسية والحدود الطبيعية في طلب الماء والكلأ وفي طلب الأسواق المربحة، يبلغ حجم الذي يعبر منها من الأغنام والضأن عبر ميناء بربره الصومالي إلى الخليج العربي ٣-٤ ملايين رأس سنويا. تمتد إذن سلاسل القيمة المخزونة في البهائم عبر حدود قطرية، بين اثيوبيا والصومال وكينيا، ودون ذلك، وتمتد كذلك العشائر التي تعمل في تجارة البهائم عبر الحدود وتنشأ بموجب ذلك علاقات نقدية متعددة تشكلها بخلاف التجارة الهويات والجغرافية السياسية والسيادة على الأرض. 

تعرَّف الدكتور أحمد موسى على ثلاث شخصيات محورية في هذه الشبكة الإنتاجية التجارية العابرة للحدود يقوم بينها تقسيم العمل: التاجر الوسيط (جيبل) والسمسار (دَلّال) وسواق الشاحنة (غاديدلاي). يشتري التاجر الوسيط البهائم من الرعاة في الأسواق الأولية والزرائب أو من تجار آخرين في أسواق أولية أو ثانوية، ثم ينقل البهائم الصغيرة (أغنام وضأن) بالشاحنات والكبيرة (أبقار وإبل) على سيقانها إلى أسواق هرجيسا وبوراو وتوغواجالي حيث يبيعها إلى المُصدرين. السمسار محترف علاقات عامة، سياسية واقتصادية عابرة للحدود، وعادة ما يكون من قرابة التاجر الوسيط، مهمته توظيف هذه العلاقات للتوفيق بين التاجر الوسيط ورعاة البهائم أو التجار الأخرين، وبين التاجر الوسيط وسائق الشاحنة، ولتيسير عبور الماشية عبر الحدود، وللتفاوض مع ممثلي السلطات المختلفة حول الضرائب والإتاوات على الطريق وفي الأسواق، وللتوفيق بين التاجر الوسيط والمصدرين. والسمسار الشاطر ينقلب وكيلا للتاجر الذي بدوره لا يتخذ خطوة إلا بعد أن يستقرئ السوق عبر عيون وكيله المبثوثة في الأسواق والحواجز. نشأت وحدة الشحن الناقلة للبهائم، الشاحنة والسائق وفريقه، في السبعينيات لضمان توصيل الكميات الكافية من البهائم في موسم الحج، وتقلصت بذلك مدة النقل بين هرجيسا والميناء في بربره من ٤-٥ أيام إلى ٣-٤ ساعات بفضل شاحنات النيسان المستعملة المستوردة من دبي. من مهام سائق الشاحنة بجانب النقل التفاوض كذلك حول الضرائب والرسوم والإتاوات على الطريق بالإضافة إلى تدبير الشحنات التي يعود بها من أسواق بيع البهائم إلى إقليم الرعي في الصومال أو اثيوبيا. 

غرست التكوينات الإدارية التي التقاها الدكتور أحمد موسى نفسها في المواقع المفتاحية في هذه الشبكة الإنتاجية التجارية، أسواق الشراء وأسواق البيع وموانئ التصدير لتحصد ما تستطيع من ضريبة، خَرَاجاً على الأنعام. و«الخَرَاج» اصطلاحا ما تفرضه الدولة على الأرض التي سيطرت عليها حربا ومحصولاتها في مقابل استغلال الزراع لها، فهو يقع للدولة بالشوكة المحضة. رد الدكتور أحمد موسى هذا التعدد في الإدارات السياسية إلى ثلاث عوامل تتابع أثرها على الجغرافية الصومالية: انهيار الدولة المركزية في ١٩٩١، عملية نشأة أجهزة للدولة عضويا بعد منتصف التسعينيات كما في أرض الصومال المستقلة أو أرص البنط والتحول الوئيد إلى نظام فدرالي بصورة أو أخرى منذ العام ٢٠٠٤. نشأت لذلك العشرات من التكوينات السياسية، بعضها قصير العمر وبعضها أقصر في جنوب ووسط الصومال لكن لم تنشأ سلطة مركزية تفرض إرادتها على كامل الجغرافية الصومالية، السلطان لمن يستطيع فرض شوكته في المكان والزمان المحددين. 

تنافست هذه السلطات المتعددة، الحكومة الفدرالية في مقديشو والحكومات الولائية التي نشأت بقرار الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية، على جمع ما تيسر من الضرائب والرسوم من صادر الماشية ووارد السلع الاستهلاكية والرخص التجارية المتنوعة بينما ركزت المليشيات المناوئة للسلطة مثل حركة الشباب المجاهدين على إتاوات تفرضها على النقل البري للماشية والسلع وحركة البيع والشراء في الأسواق في مناطق نشاطها. وكلما نشأت بؤرة للنشاط الاقتصادي، سوق أو معبر للسلع أو محطة للنقل، نشأت إدارة ما حدها الأدنى مثل الفريق القتالي في الدعم السريع، عدة رجال مسلحين ببنادق أوتوماتيكية في عربة فعالة عليهم رئيس تنعقد به الصلة مع شبكة أوسع، تريد أن تحصل ما يمكن تحصيله. ولذلك نشأت عشرات الوحدات الإدارية وتبدلت بحسب توازنات القوى وتوزيع استحقاق جمع الإتاوات. على سبيل المثال، أنشأ الرئيس الأسبق لجمهورية أرض الصومال طاهر ريال كاهن (٢٠٠٢-٢٠١٠) ٦ أقاليم جديدة و١٤ محافظة ثم أنشا خليفته أحمد محمد محمود (٢٠١٠-٢٠١٧) إقليما جديدا وسبع محافظات فزاد عدد الأقاليم الإدارية في أرض الصومال من ٥ في العام ١٩٩١ إلى ١٣ في العام ٢٠١٩. نافست أرض البنط جارتها أرض الصومال على بعض هذه الأقاليم ونشأت بذلك إدارتان في جغرافية واحدة، إدارة تتبع لأرض البنط وأخرى تتبع لأرض الصومال ونتيجة لذلك ضرائب مضاعفة على ذات البهائم والبضائع.  

تشكيلات الدولة التي التقاها الدكتور أحمد موسى هي إذن - باستثناء مقديشو المجتمع الدولي - حصيلة مساومة مستمرة بين التجار، تجار الماشية في المقام الأول، وبين تكوينات مسلحة، واسعة الحيلة قليلة العنف كالتي سادت في أرض الصومال وأعلنت الجمهورية، وقليلة الحيلة شديدة العنف كحركة الشباب المجاهدين على «خَرَاج» الأرض في هيئة أنعامها. مدح بعض التجار حركة الشباب من هذا الباب لتواضع نسبة الضريبة التي تفرضها ولفعاليتها في منع تعدد الدفع في نقاط العبور والحواجز التي تسيطر عليها، لكن ساء التجار من الحركة تشدد عناصرها ومقاومتهم لمساومات فردية فوق المساومة. تصدر حركة الشباب كما تصدر كل من السلطات الأخرى المتنافسة فواتير للدفع، بختم وعلامة. هذه الفواتير هي في الحقيقة الدساتير المادية لتشكيلات الدولة المتنافسة على الريع الصومالي ففي كل فاتورة مستخلص هذه العلاقات بين الشوكة والاقتصاد، بين جامع الضرائب ودافعها، بما فيها من أكراه وطواعية. يدفع تاجر البهائم ضريبته ويجمع فاتورته فيتخلص من أذى السلطات، تضمن له الفاتورة عدم الدفع مجددا في التفتيش القادم فيفدي ماله، ثم يضيف قيمة الفاتورة إلى سعر البهيمة، وينتقل عبئها بذلك منه إلى المشتري، المستورد ثم المستهلك في جدة ودبي. والدولة التي وجد الدكتور أحمد موسى هي هذه العلاقة الملزمة بين الطرفين، فاتورة مختومة مبرئة للذمة، والخائن الله يخونه.  

Friday 1 December 2023

الصومال عنوان القنوط في افريقيا، والسودان على السكة الخطرة

نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر» ، العدد ٨ بتاريخ ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٣. 

مقدمة

نشر الدكتور عبدي اسماعيل سمتار هذه الكلمة المُشفقة في ١٦ مايو الماضي في جريدة «ديلي مافرك»، جريدة أسبوعية تصدر في جنوب افريقيا. والدكتور نائب في البرلمان الصومالي الفدرالي، وأستاذ فوق العادة في قسم العلوم السياسية في جامعة بريتوريا (جنوب افريقيا) وأستاذ الجغرافية في جامعة منيسوتا (الولايات المتحدة الأميركية).

سمتار يعرف بالضبط ما يتحدث عنه، "حافظ لوحه تمام". فهو عالم مدقق صدر له في العام ١٩٨٩، قبل اندلاع الحرب الأهلية الصومالية في ١٩٩١، كتاب عمدة في الدراسات الصومالية بعنوان «الدولة والتحول في الريف في شمال الصومال ١٨٨٤-١٩٨٦»، عرفه صاحبه بأنه دراسة في منشأ التكوين الاجتماعي الصومالي كهامش رأسمالي. نظر سمتار في دراسته بصورة باطنية في كيفيات ارتباط ريف الصومال بالسوق العالمي والتحول من الرعي للكفاية المعيشية في المجتمع الصومالي ما قبل الاستعمار إلى الرعي النقدي التجاري في الصومال المستعمرة وما بعد الاستعمار. واتخذ سمتار هذا التحول النوعي في الرعي بابا للتعرف كذلك على التحولات في التكوينات الاجتماعية، فالقبيلة وقد ولغت السوق العالمي لم تعد القبيلة القديمة ولا الدولة هي التي كانت، بل عبرتا إلى فضاء جديد جرسه رنين المال. 

من ضمن ما أراد سمتار في كتابه أن يحرر دراسة الصومال من "سواقة الخلا" التي تعد شقاء أهله كارثة طبيعية أصابت دواب بشرية ويدخل بهم رحاب التاريخ. كتب في مقدمة كتابه أن محاولات تفسير المشكلة الصومالية ظلت مقصورة على الطبيعيات أو ما شابهها في شأن البشر، يرد أصحاب الأقلام فاقة أهل الصومال إلى جفاف المناخ وقلة الأمطار وفقر الموارد ثم فساد القطاع العام، وحجة سمتار الطويلة في كتابه أن عوامل الطبيعة والفساد كوابح ثانوية أمام التنمية لكن لا تشكل هذه العوامل الكابحة بأي حال مضمونها، الله أكبر. وغرض كتاب سمتار بحسب صاحبه تجديد النظر في هذا المضمون، في أصول عجز التنمية في الصومال وفك العزلة عن الدراسات الصومالية بطلاقها من نظريات التحديث التقليدية وبعث عزائم الاقتصاد السياسي فيها بدراسة مصاب الصومال ضمن أزمة التنمية الرأسمالية في الهامش الكوني. 

عليه تصدى سمتار لثلاث قضايا، قال عنها أمهات القضايا: (١) طبيعة المجتمع ما قبل الاستعمار، وتنظيم الإنتاج والتوزيع فيه عشية الاستعمار؛ (٢) أسس الدولة الاستعمارية ودولة ما بعد الاستعمار بما في ذلك نمو الاقتصاد الاستعماري، صيغ تدخل الدولة في الاقتصاد الريفي وتبعات هذه التدخلات؛ (٣) وبمعرفة تكوين الاقتصاد الاستعماري في الصومال أوان الاستقلال التعرف على الطبعات الاجتماعية التي ورثت الدولة (١٩٦٠-١٩٨٥) وتبعات استراتيجتها التنموية على الرعاة والفلاحين الذين يشكلون الغالبية العظمى من أهل الصومال. 

تفجر التكوين الاجتماعي الذي كتب عنه سمتار بالحرب الأهلية التي اشتعلت في ١٩٩١، لكن تعود إرهاصاتها إلى بواكير الثمانينيات ضمن الصراع بين نظام سياد بري والقوى المعادية له، صراع تحول بآخر الثمانينيات إلى ميادين القتال، حيث اشتبكت القوات المسلحة الصومالية تحت إمرة سياد بري منذ العام ١٩٨٨ مع عدة مجموعات مسلحة مناطقية التكوين، الحركة الوطنية الصومالية في الشمال والشمال الشرقي، الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال في الشمال الشرقي والمؤتمر الصومالي الموحد في الجنوب. 

أطاح جنود المؤتمر الصومالي الموحد آخر الأمر بنظام سياد بري بعد معارك عزلوا فيها مقديشو عن محيطها ثم سيطروا على المدينة وتفرق الجيش الصومالي بين الفصائل. لكن انقدحت منافسة شرسة بين قادة المؤتمر الصومالي أنفسهم، بالدرجة الأولى بين محمد فرح عيديد وعلي مهدي محمد، على غنيمة العاصمة، فدمروها دون أن يفوز أحدهم بها. هذا بينما رفضت الفصائل المسلحة الأخرى التعاون مع المؤتمر وتسارع تناسلها، تخرج هذه من تلك، الحركة الوطنية الصومالية والتجمع الديمقراطي الصومالي، ثم جيش رحانوين للمقاومة في الجنوب وجبهة صوماليا الموحدة والجبهة الديمقراطية الصومالية والحزب الصومالي الموحد إلى جانب الحركة الوطنية الصومالية في الشمال الذي أعلن الاستقلال. 

يعرف الصوماليون الفترة ديسمبر ١٩٩١ مارس ١٩٩٢ باصطلاح "بُرْبُرْ" أو المصيبة، إذ قضى خلال أربعة أشهر من القتال في مقديشو ٢٥ ألف شخص، ونهبت الفصائل المسلحة المنقسمة على نفسها جهاز الدولة والمدينة الأولى في البلاد. هرب المليون ونصف صومالي إلى خارج البلاد خلال هذه الفترة القصيرة ودفعت المعارك ٢ مليون آخرين إلى معسكرات النزوح. ساهمت في هذا الانفجار عوامل بعضها فوق إرادة الصوماليين، منها تركة الاستعمار الذي قسم الشعب الصومالي إلى خمس دويلات، وتركة مُعامل الحرب الباردة الذي يسر بقاء دولة "نهب مصلح" ثم الآثار التراكمية للحروب مع دول الجوار، بالدرجة الأولى حرب الأوغادين (١٩٧٧-١٩٧٨) ضد اثيوبيا، وفي داخل الصومال التناقض ما بين جهاز الدولة المركزي والأطراف. 

عاد سمتار بما كسب من معارف بعد اندلاع الحرب الأهلية في الصومال ليرد عن أهله المقولات الفاسدة عن شر ساكن وجوهري فيهم بعلم مبروك مثل ورقته «تدمير الدولة والمجتمع في الصومال: ما هو أشفى من الاصطلاح القبلي» (مجلة الدراسات الإفريقية الحديثة، دار جامعة كمبردج للنشر، مجلد ٣٠، العدد الرابع، ديسمبر ١٩٩٢)، جاء في فلسفتها أن "إدراك وضع ما لا يتساوى ومعايشته، فعناصر تجربة بعينها هي بالأحرى إشارات إلى أن عوامل أخرى أخفى تفعل فعلها". عاب فيها سمتار على معارضي نظام سياد برى رفضهم النظر أبعد من الجنرال وبطانته وبذلك غاب عنهم العدو وقعدوا في واقع الأمر فراجة وبلادهم تفلت من بين أيديهم. حكموا برفضهم الخوض في أي تحليل جاد قاس وعداءهم للعلم النقدي على الشعب الذي أرادوا تحريره بالهلاك، فمن يا ترى القاضي؟ 

///

ترجمة كلمة الدكتور عبدي اسماعيل سمتار في العربية. 

الحرب العبثية في السودان نسخة من الجنون الذي لا طائل منه الذي طرد ثلاثة أجيال من الصومال وليس من نهاية في الأفق. خارطة طريق المستقبل في السودان إذا ما استمر هذا الخبال هو ما حاق بالصومال. 

الصومال أكثر دول افريقيا تجانسا من حيث الثقافة والاجتماع. ما يقارب ١٠٠٪ من السكان مسلمون ويتكلمون ذات اللغة. وهذا التجانس الثقافي ربما هو الذي ألهم النضال ضد الحكم الاستعماري ومثل زخما لأكثر الجمهوريات ديمقراطية في ستينيات القرن الماضي. 

كانت قناعة الآباء المؤسسين للصومال أن سكان البلاد سيطورون مع الزمن هوية سياسية مدنية متماسكة تعمق ما وفرته لهم القاعدة الثقافية الباهرة. كان لفئات انتهازية من الطبقة السياسية أجندات مغايرة ووجدوا في دولة ما بعض الاستعمار وسيلة للاستغلال الطائفي لموارد البلاد الشحيحة. 

أطاح العسكريون بالنظام الديمقراطي العزيز في العام ١٩٦٩. استمرت الديكتاتورية العسكرية القاسية لواحد وعشرين عام ثم بعثت الفصائل الطائفية المتعددة حربا أهلية فظيعة قتلت مئات الآلاف من الناس، وشردت الملايين غيرهم ما خلق بيئة كقطعة من جهنم للشباب وجرف ما تبقى من الهوية القومية المدنية المشتركة.

مرت ٣٢ عام منذ انهيار الحكومة القومية في الصومال. سادت الساحة السياسية منذئذ أقاليم ذات قاعدة عشائرية وتفرقت مجتمعات الصومال إلى طوائف سياسية حصرية العضوية. 

الحكومة الصومالية الفدرالية اسما لا أمل فيها لفسادها وعدم كفاءتها. أساس التعيينات الوزارية صلة الرحم، وأساس التعيين والترقية في الخدمة المدنية وقوى الأمن الهوية الإثنية لا المؤهلات ولا الجدارة ولا الشخصية. 

تعد منظمة الشفافية الدولية الصومال بين أكثر البلدان فسادا في العالم لعقد مضى، وربما جاز للمرء أن يضيف أن النظام السياسي في الصومال بين أكثر النظم طائفية في الأرض.

قطعة من الجحيم

نجمت عن هذه الفوضى السياسية الأزمة الإنسانية والاجتماعية المفزعة والمستمرة في الصومال لثلاثة عقود. يرزح السكان تحت أوضاع معيشية مريعة. تحول أكثر من ثلاثة ملايين صومالي إلى نازحين يعيشون في معسكرات فظيعة. هوى متوسط الأعمار أول الحرب الأهلية إلى ما بين الثلاثين والأربعين ثم تصاعد رويدا، لكنه يبقى بين الأدنى في العالم. ضاع التماسك الاجتماعي وذبلت الثقة بين الناس.

دفعت النساء بالذات الثمن الأعظم لفوضى الإثنين وثلاثين عام الماضية. وقع عليهن عبء إبقاء الأسرة على قيد الحياة اقتصاديا بالإضافة إلى دورهن التقليدي في خدمة البيوت وما يتعلق بذلك من مسؤوليات.

ثانيا، تزايدت الجرائم ضد النساء بصورة درامية لا سابقة لها في تاريخ الشعب الصومالي. وثالثا، طاحت المكاسب التعليمية التي حققنها البنات الصوماليات خلال العقدين السابقين للحرب الأهلية. كذلك تقلصت المنجزات التعليمية للأولاد بحدة ولكن بدرجة أقل من البنات.

مستقبل الشباب، غض النظر عن فوارق الذكور والإناث، هو الذي تبضع وقد أصبح انعدام الأمن حياتيا واجتماعيا أمرا مزمنا. خلقت عوامل التعليم الضعيف والمحدود، الفساد السياسي والقبلية السياسية ومعدلات البطالة والجريمة والإرهاب المفرطة ظروفا مروعة تثمر القنوط.

لمحات من اليأس والأمل

خلقت البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية الفوضوية ظروفا معيشيا لا يمكن احتمالها لمعظم الصوماليين. دمرت هذه الظروف الفظيعة حيوات وأرزاق كما تشهد وتبين اللمحات التالية من حياة بعض سكان العاصمة مقديشو، مشاهد تفطر القلوب.

البقاء في العشوائيات المعدمة

تعيش هذه الأسرة المكونة من سبعة أشخاص في أحد عشوائيات مقديشو. الوالد في عمر السبعين والوالدة تصغره بعشرين عام. للإثنين خمسة أطفال، لم ينل أي منهم أي قسط من التعليم فالحكومة الصومالية ليس بوسعها توفير تعليم بدائي مجاني أو أي نوع من العون العام للسكان في العاصمة.

كان الأب جاما عاملا طوال حياته، ودخله بالكاد يقيم أود الأسرة. أخذ الأب يتعاطى الحشيش ثم الكحول القاتل محلي التصنيع وقد أرهقته سنين من العمل المضني. زاد هذا من العسر الواقع على الأسرة وبالنتيجة انضم الابن إلى أبيه في تعاطي المخدرات. هدم إدمان الرجلين ما بتقى من مبنى الأسرة، والأم مرعوبة كل الرعب من المصير الذي ينتظر أفراد أسرتها متى ماتت.

لا يستطيع حتى الشطار الهرب

نشأ عبده في أسرة ميسورة الحال نسبيا في مقديشو ودرس الطب في أحد جامعاتها. تدرب في المستشفيات المحلية وسرعات ما صعد السلم الوظيفي. تزوج الطبيب واستطاع مجابهة أعباء أسرته الصغيرة. أتخذ الطبيب الشاب، في غياب مجال معافى للنشاط الاجتماعي والترفيه في المدينة التي مزقتها الحرب، يخالط جماعات على الساحل حيث الحشيش والمخدرات والكحول مع زملاء له من الناجحين مهنيا. تضررت حياته الأسرية والعملية في المحصلة وفشل في مزاولة عمله وفي رعاية نفسه. لجأ والداه بابنهما إلى مركز لعلاج الإدمان، لكن تأخر هذا المجهود ولم يعد يجدي نفعا لأسرته كسيرة القلب.

المغتربون العائدون يفسدون صبية بريئة

تبلغ عائشة من العمر ٢٥ عام ولها عدة أخوان وأخوات. والدتها سيدة أعمال ووالدها مدرس. تعلمت عائشة في المدارس المحلية لكن لزمت الدار. التقت هذه المرأة شابة في عمرها عادت للتو من الإمارات العربية المتحدة، بدت لها ودودة وراقية وظريفة. دعت الصديقة الجديدة عائشة إلى "مرقات"، أولا في المقاهي ولاحقا في أندية حي ليدو حيث تنتشر المخدرات. صارت عائشة ورفيقاتها الجديدات زبونات معتمدات في المنطقة طارت المخدرات بألبابهن. لم يعرف والدي عائشة بما لحق بالبنت حتى مرضت وسارعا بها إلى المستشفى. أجرى الأطباء فحوصات الدم التي أظهرت لاحقا إصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسب (HIV). أهدرت بذلك حياة شابة واعدة في غابة المخدرات في مقديشو وهباءً صار عناء الوالدين الطويل.

الهروب الكبير

هربت أسرة محمد من مقديشو إلى مقديشو بعد ولادته مباشرة، ذلك خلال المجاعة التي كان مركزها مدينة بيدوا في العام ١٩٩٢. وقعت الكارثة عندما أصيب والد الأسرة برصاصة طائشة ولم بعد منذئذ قادرا على مزاولة عمل اليومية الذي كان يمتهنه. انتقلت مسؤوليات الوالد إلى محمد في عمر الثامنة، شغله "التلاقيط".

أصابت الأسرة حظا عندا مد موظف في منظمة غير حكومية صغيرة والدة محمد بقرض صغير لتنشئ عملا تجاريا وترسل الولد إلى المدرسة. يسر هذا القرض حياة محمد وأسرته ومكنه من إكمال المدرسة الثانوية ثم درجة جامعية في الإدارة العامة. فوق ذلك، تدرب محمد في المنظمة ثم التحق بها موظفا بدوام كامل. تزوج محمد وله عدة أطفال وأمله أن يكمل درجة عليا في مجاله. 

مستقبل مظلم

تستمر معاناة غالب الشعب الصومالي غير المحدودة بعد ٣٢ عام من بداية الحرب الأهلية في البلاد وانهيار الدولة. بذلت بعض المنظمات غير الحكومية والإنسانية جهودا يحتذى بها للحفاظ على الحياة في البلاد، لكن تظل هذه الجهود غير كافية في مقابل حجم المشكلة. لم يقلص إعادة تكوين حكومة مركزية وحكومات محلية من مدى معاناة الناس، فالحكومة في المستويين قعد بها الفساد والقبلية وعدم الكفاءة. يستحق عمل بعض المنظمات كل إعجاب وقد غير من مصير أسر صومالية كثيرة. لكن، لا تستطيع المنظمات تحمل أعباء الحكومات المركزية والمحلية مثل توفير التعليم والدفع بالتنمية الاقتصادية وكبح المخدرات والإدمان.

سيستمر الإفقار والعنت الجماعي لا محالة حتى تستطيع الصومال ترتيب شؤونها السياسية. يواجه السودان ذات المصير ما لم تتراجع الفصائل المختلفة على وجه السرعة من حافة الهاوية الإنسانية.

Friday 10 November 2023

كمال الجزولي: كانْ مع الأحبابْ نجمُه شارق

May be an image of 1 person
كمال الجزولي ١٩٤٧-٢٠٢٣

ترك المرحوم كمال الجزولي، الذي لبَّى نداء ربه إلى فسحة الأبدية في مساء ٥ نوفمبر الجاري بمدينة القاهرة في عمر السادسة والسبعين، إرثاً سخياً لا يجتمع لنفس واحدة سوى بشقاء عظيم. شقاؤه المعلوم مع الأدب والفكر والثقافة والنضال الذي لا ينقطع؛ وشقاؤه مع تزكية النفس المناضلة؛ وغير ذلك أوجه أخرى لحياة الإنسان يعرفها عنه أصدقاؤه وأحبابه، من ذلك صداقاته الواسعة وإخوانياته وحُبُّه الناس في كل صور اجتماعهم. وبعضُ ترجمة هذا الحب عند المرحوم كمال الجزولي نكتةٌ لاذعةٌ وسخريةٌ غير متوقعة وتفكُّهٌ في الأقدار والمصائر، قد يحسبها الجاهل بفضله "طَنْقَعة". وحاشاه حاشاه، فهو في واقع الأمر مُحِبٌّ، أذاع حُبَّهُ للناس أدباً فصيحاً وعلماً نافعاً ورأياً ساطعاً ونضالاً جسوراً وخُوّةً صادقة، وكذلك عداءً بيّناً لا مراء ولا مداهنة فيه. 

لا تنبئ السيرة الذاتية المسيخة التي يحيط بها جدولٌ عن وظيفة كمال الجزولي الحقَّة. وكان في كل أحواله «مثقفاً عاماً» مثله كمثل محمود درويش أو إدوارد سعيد أو جان بول سارتر، المثقف الذي يقف عند ناصية مبادئ وقضايا كونية لا يحول عنها منافحاً ومدافعاً ومرافعاً في كل جبهة. ولقد انشغل بهذه الوظيفة وملأت عليه شغاف نفسه. وكان تخوفه الأكبر أن ينزلق عن هذه الوظيفة أو يرتبك في امتحانها الطويل أو "ينسخط" لسعي سواها بأي دافع كان. تكرر نطق كمال بهذا المعنى في أكثر من موقع، وقصيدته الجليلة "هسيس" بنت هذا الشاغل بتزكية النفس المناضلة في الوفاء لمعنى وتطابق ذلك مع المبنى والمسعى، فها هو يزجر خوفه، وهو في قبضة السلطان يهدده الفناء لسان حاله: مالي أراكِ تكرهين جنة البرّ بالحقيقة:

(١)

ليسَ القتلُ ما أخافُهُ،

ليسَت

المِيتةُ المُفجِعَةْ،

ليسَ انفجارُ هذا البابِ، فجأةً، أو دخولُهم،

عندَ منتصفِ الليلِ، بالأسلحةِ الُمشرَعَةْ،

لا.. 

ليسَ دَمِي الذي يسـبحُ في قيحِـهِ، 

ولا جُمْجُمَتي التي تتشظَّى على.. 

الجِدارْ، 

لكنما أخوَفُ ما أخافهُ.. 

هوَ الخوفُ ذاتُهُ، 

ذاكَ الذي.. إذا غفِلتُ عنهُ، 

لحظةً، 

سَرَى إلى مسـامِ الرُّوحِ، 

ناقـلاً.. وساوسَ المعاذيرِ الُمنَمنَمَاتِ في.. 

هسيسِ 

الانكسارْ، ذاكَ الأنيقُ، السَّاحرُ، الذي يجـعلُني.. 

أرامقُ.. 

اختِضاضَ نصـلِهِ الماسِّـيِّ، 

ريثما أعشُو.. 

لبُرهةٍ أو.. 

بُرهَتَينْ، 

لحظتَها 

ينهَلُّ، بغتَةً، فيشطِرُني.. 

إلى نصفَينْ، 

نصفٌ هُناكَ، في ملكوتِ وهمِهِ، 

يموتُ 

مرَّتينْ ونصفٌ هُنا 

يموتُ بَينَ.. بَينْ! 

(٢) 

إنَّكَ ميِّتٌ، 

وإنَّهم ميِّتونَ، 

ولا فَكاكْ، 

فاجهَرٌ، إذن، برفضِكَ الأبيِّ ههُنا، 

تجهَر بهِ هناك، 

ومُتْ 

هُنا، 

تحيا.. هُناكٌ !

عبّر كمال في ذات الموضوع من جهة أخرى، عن سقم المثقف منزوع البركة، الذي يدور في حلقة نفسه لا يفارقها إلا ليعود إليها، في "القصيدة الجبلية": 

قالوا له: الحريق في البلد

هل مس، قال: في شارعنا أحد

قالوا النيران في شارعكم تلتهم الأشجار والحجارة. 

أطارت، قال، منها

نحو بيتنا شرارة

قالوا له: رماداً صار بيتك

هذا المساء

صاح: غرفتي 

وأجهش بالبكاء. 

وقف كمال في كل حال لهذا الوسواس الذاتي بالمرصاد، يُبطلُ مفاعلاته بانغماسه المطرد في شغل الحرية الجماعي. فهو وإن بلغ فردانية يُشار إليها بالبنان، في مزاج وطابع كتابته التي يتعرَّف عليها القارئ بيسر كماركة مسجلة، وفي خصاله الشخصية، بل حتى في لباسه وهيئته، التزم على الدوام العمل الجماعي، في جماعة سبقته إلى الوجود أو أخرى بادر بخياله التنظيمي ودأبه المعلوم بإطلاقها من العدم. وشُغْلُ كمال بهذا المعنى واحدٌ وتاريخ التنظيمات الديمقراطية، تجده بارزاً في محاضرها وصاعداً على منابرها وسخياً كريماً في تأمين متطلباتها مالاً وعيناً ودياراً وترحيلاً. سكَنَتْ بعض هذه التنظيمات في واقع الأمر مكتبه وداره، وشُغِلَتْ باستقبالاتها ومآدبها أسرته الكريمة. ووقف كمال الجزولي المحامي في المحاكم ينافح عن شخصياتها الاعتبارية والأفراد من عضويتها، حتى صار هذا أمراً من طبائع الأشياء، وأخذ البعض حتى يستنكف تأخر الأستاذ عنهم في سوح القضاء ولو لعلة مرضية. لهذه الأسباب كان كمال بصورة وأخرى تربويّاً صاحب سنن حسنة تطابقت فعلاً وقولاً. 

ماذا ترك إذن هذا المثقف العام من إرث؟

أعظم كسب كمال ربما هو خدمته الطويلة المبدعة للغة العربية كحامل للفكر. واللغة حوض التفكير ومورده، ولا يقوم سوى من داخلها. أحسن كمال الاحتطاب في قواميس العربية والظعن في مصادر الثقافة العربية الإسلامية، سواء كان ذلك من حواضرها التقليدية أو في تخومها السودانية، لينطق بقضايا العصر في سلاسة وقبول. وجعل ذلك ديدنه في مواجهة تيارات حبس العربية في الفكر الديني وصيغ الإسلام السياسي. وكان لهذا الاحتطاب عظيم الأثر في تحرير العربية للكُتّاب من معاصريه واللاحقين لتقول: "حاء حقوق ديمقراطية وعين عدالة اجتماعية وصاد صراع ودال ديالكتيك من واقعنا ما من أكتر". ووطَّنَ بذلك هذه وسواها من المفاهيم، الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية والتعددية، في حوض لغوي وثقافي تنهل منه قارئة الصحيفة اليومية، فلم تعد بذلك طنين غريب بحرف عربي من جنس "التقاطعية" وهلم جرّاً. 

خدم كمال بذلك الثقافة التحرّرية أكثر من خدمته السياسة في معنى التدافع على طلب السلطان، صدقة جارية بلغ بها عقولاً وأفئدةً كانت بغير خدمته مغلقة على "ما يُستفاد من الحديث". وأشاع تعريفاً بالكِتَابِ وذوقاً له بإصراره على إثبات مصادره في المقال الصحفي، فهو يُغرِي القارئة التي تطلب المزيد: علينا جاي. لذلك لا يقتصر أثر كمال على دوائر المشايعين بصورة أو أخرى، الديمقراطيين بعبارة الحزب الشيوعي، بل رفع للثقافة الديمقراطية بعبارة برنامج الحزب الشيوعي راياتٍ في قلاع للرجعية بعبارة عصر آخر: جَذِبْ جَد! وبعضُ شاهدِ هذه الراياتِ ظلُّ كمال الطويلُ في أدب حزب الأمة، كان ذلك في كثير من أدب المرحوم الإمام الصادق المهدي المتأخر أو في أدب كريماته الصحفيات والسياسيات. 

وعلى ذكر الديمقراطية، جَمَّر كمال "الديموقراطية" كما كان يكتبها، الديمقراطية البرلمانية، للشيوعيين بعزيمة نقدية غير اعتذارية، وقد تهاوى صرح الاتحاد السوفييتي وأسنت سمعة الديمقراطيات الشعبية بما كسبت. بلغ كمال بهذا النقد في «الشيوعيون السودانيون والديموقراطية» (دار عزة للنشر، الخرطوم، ٢٠٠٣) محطات لم تكن لتتأتى للمرحوم محمد إبراهيم نقد ورفاقه في "وثيقة الديمقراطية مفتاح الحل للأزمة السياسية جبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن" (دورة اللجنة المركزية أغسطس ١٩٧٧). ساهم كمال بذلك مع غيره في تهيئة الشيوعيين لعالم "نهاية التاريخ" المزعوم، ولم يعد للحزب الشيوعي ولقضاياه تكأة في الذي تحقق أو لم يتحقق على يد الرفاق السوفييت. وكرّس جهداً عظيماً لفضِّ الوحدة الميكانيكية بين الديمقراطية البرلمانية وعقيدة الخصخصة و"السوق أم فَكّو"، فسحةً في الفكر والخيال، بل وأملاً، لمن أراد تغيير العالم وهز ثوابت نهاية التاريخ بنصل جماهيري. 

كرَّس المرحوم كمال الجزولي بذات العزيمة النقدية جهداً عظيماً لتحرير الحقوق الديمقراطية في داخل سياق الثقافة العربية الإسلامية، واستعد لذلك بفقه واسع في «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين» (دار مدارك، القاهرة، ٢٠١٠). كان سبيل كمال إلى ذلك جوّاني لا برّاني. لم يقف بطوبه يفلق الثقافة العربية الإسلامية "صَمْ لَمْ" من خارج أسوارها، وإنما جاء على منهج المرحوم عبد الخالق محجوب في «آراء وأفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين» و«كيف ولد شعار الدستور الإسلامي»، يحرث بمعاول جديدة في تربة هذه الثقافة، يكشف عورة الدولة الدينية في التجربة الماثلة، ويزكي من مواردها وتاريخها ما يزهر حقوقاً ديمقراطية وعناصر للمواطنة كأسنان المشط، وهو ذات المسعى الذي وجد ترجمة أخرى في «الآخر» (داري علوم وتراث، القاهرة، ٢٠٠٩). صان كمال بذلك الثقافة العربية الإسلامية في السودان على هدى، واشمأز أن ينطلق فيها الريح الفاشي دون مقاومة. 

هذا بعض من كسب المرحوم كمال الجزولي وإرثه؛ وقف على هذه القضايا بالخدمة مُتحزّماً ومتلزّماً، خدمة دخل بها حبس المعتقلات مرة بعد الأخرى في عنفوان الصبا وفي مغيب العمر كذلك. لم ينقطع خطره في نظر أصحاب السلطان حتى وهو قد تجاوز السبعين وفي القلب قسطرة. ها هو أغفى إغفاءته الأخيرة بعد أن أكمل دورة حياته كما أحب واختار، مثقفاً مناضلاً، وقد انهدَّ مسرح نضاله بالبربرية الجاهزية. أخذ كمال الكتاب بقوة، قوة مناضل من جنس الذين قال عنهم برتولت برشت إنهم لا غنى عنهم:

لا يناضل الضعفاء

يناضل الأقوى ساعة ربما

ويناضل الأكثر قوة منهم لسنين عدداً

أما الأقوى فيناضلون العمر كله

هؤلاء لا غنى عنهم ولا عوض.

Saturday 28 October 2023

يا كارل: كبرت ليك تسعتاشر سنة

الطالب كارل ماركس

فيما يلي تعريب لخطاب فريد من المرحوم كارل ماركس إلى والده في ترير، وكان كارل وقتها في عمر التاسعة عشر طالبا في جامعة برلين. ظل الخطاب في حفظ أخت ماركس حتى بعد وفاته، وجادت به لابنة ماركس اليانور ابنة هذه العمة بعد أن نشرت اليانور ماركس إعلانا في الصحف وقتها تحث فيه كل من له مراسلات من المرحوم أن يجود بنسخة منها ضمن مجهودها جمع تراث والدها. احتفت اليانور بهذا الخطاب حينها كوثيقة ذات أثر يقترب فيها هذا النابغة من مفهومه الأثير "التناقض" وهو بعد حدث غض. ووجد طريقه إلى النشر مع مقدمة منها، ذلك بعد تردد، فماركس كان من الكارهين لطرح حياته الشخصية على الملأ، الأمر الذي عسر عليها قرار نشر خطابه الشخصي هذا لوالده.  

كتبت اليانور في تقديم خطاب والدها الذي نشرته جريدة «العهد الجديد» الناطقة باسم الحزب الاشتراكي الألماني في العام ١٨٩٧: أرسلت لي قبل بضعة أشهر ابنة عمتي السيدة كارولين سميث هذا الخطاب الذي وجدته ضمن أوراق المرحومة والدتها سوفي، الأخت الكبيرة لكارل ماركس. كان ماركس نفسه حين ماتت والدته، ١٨٦٣، في ترير، ولكن ولحسن الحظ لم يكن يعلم شيئا عن بقاء هذا الخطاب وحفظه في حرز أخته، وإن كان يعلم لمزقه لا شك. 

يزهر نثر المرحوم كارل ماركس في اللغة العربية ويتفتق، ويجعل من مهمة التعريب تحديا مجزيا، فمعانيه مما تقبله العربية سمتا وبلاغة، بل تكشف عنها العربية كشفا. لكن تراكبيه عسيرة مرتبكة، وهي معضلة تواجه كل قارئ لماركس سوى في النصوص التي تولاها غيره بالتحرير المُحِب كما فعلت زوجته جني فون وستفالن بنص «البيان الشيوعي» لزوجها وصديق عمره فردريك انجلز حتى صار بقلمها نصا قرآنيا أو يكاد إذا جاز التعبير. استعصى رغم المجهود كذلك نقل مفهوم «Geist» واشتقاقاته في الألمانية إلى لفظة عربية جامعة، والمفهوم من قضايا الترجمة من الألمانية عسيرة الحل. 

كان كارل واحد من تسعة أطفال من صلب هنريته وهاينرش ماركس. نشأ في ترير الألمانية، أعرق مدن حوض الراين، مدينة غلبت عليها الكاثوليكية في بلد بروتستانتي في أغلبه في كنف أسرة يهودية تحولت إلى البروتستانتية في جيل واحد. كتب الشاعر العظيم غوته بعد زيارة لترير في العام ١٧٩٣ أنها مدينة مثقلة بالتاريخ لا تجد منه فكاكا، تقهرها الكنائس العظيمة والمباني التذكارية المخصصة للأبطال الدينيين والدير والصلوات. تعرض أهل ترير لنفحات حرية عندما ضمتها فرنسا إلى أراضيها في أعقاب حروب نابليون فتسربت إليها أفكار غير جرمانية على الإطلاق مثل حرية الصحافة والحقوق الدستورية وكذلك التسامح الديني. ظل هذا الأثر التنويري قائما في ترير التي عرفها كارل، والتي عادت إلى ولاية بروسيا الإمبراطورية قبل ثلاثة أعوام من ولادته في العام ١٨١٨. 

كارل ود شيوخ، كان والده هاينرش، المولود هرشل، الابن الثالث للحبر ماير هاليفي ماركس، حاخام اليهود في ترير، وقد ورث ماير المنصب من نسيبه، وخلفه في المنصب ابنه الأكبر صموئيل، عم ماركس. والأحبار والحاخامات كثر في أسلاف ماير هاليفي، وبعض سلالتهم تعود إلى ديار بوهيميا (التشيك). وجدة كارل، زوجة ماير هاليفي، كذلك ابنة حاخام، والدها حبر ترير موسى لفوف، الذي ورث الموقع من أبيه جوشوا هيشيل لفوف واشتهر بنفوذه وصدوعه بالنصيحة. وهذا ورث المشيخة بدوره من أبيه آرون وهذا ورثها من أبيه موسى وهو من أهل لفوف في بولندا. واقع الأمر أن غالب حاخامات ترير منذ القرن السادس عشر كانوا من أسلاف كارل ماركس، والاسم نفسه ماركس لحن على الأصل موردخاي. أما والدة كارل هنريته فهي كذلك من أسرة ربانية، والدها اسحق بريسبرغ، حاخام نيمغن في هولنده، وغالب أسلافها لأبيها كذلك أحبار وكهان من أصول مجرية استقر بهم الحال في هولندا هربا من الاضطهاد، حتى أن اسمهم في الحقيقة اسم المدينة التي جاءوا منها أول أمرهم.  

كان هاينرش ماركس وقت ولادة ابنه كارل محاميا في محكمة الاستئناف في ترير، وترأس لعدة أعوام نقابة المحامين في المدينة وصار بذلك علما من أعلامها، وإن لم يخض في الشؤون العامة سوى في حدود قضايا المهنة. ومهنة هاينرش كانت عالمه وتأمينه، وقد اتخذ قرار "التحول" من اليهودية إلى البروتستانتية لدواعي مهنية. والسبب أن قوانين نابليون منحت اليهود في إقليم الراين حقوقا عديدة لكن حاصرت نشاطهم التجاري بإجراءات تمييزية خاصة بهم فقط. كتب هاينرش ماركس عندما انتقلت الولاية على الراين من فرنسا إلى بروسيا إلى الحاكم العام في الإقليم متحدثا باسم الطائفة اليهودية يطلب منه إلغاء القوانين المطبقة حصرا على اليهود. لم يكترث الحاكم العام بطلب هاينرش ماركس وحصد اليهود في الحقيقة شر العالمين. صدر منشور في العام ١٨١٨ أبقى على القوانين النابليونية حتى أجل غير مسمى بينما صدر أمر حكومي آخر يقول إن الراين سيخضع كذلك للقوانين المطبقة في بروسيا منذ العام ١٨١٢. أقرت هذه القوانين حقوقا متساوية لليهود، تساويهم والمسيحيين، لكن استثنت من هذه المساواة العمل في الدواوين الحكومية وفي سلك القانون واشترطت لذلك إذنا ملكيا. قام رئيس المحكمة العليا فون سيث في العام ١٨١٦ بجولة في إقليم الراين تعرف خلالها على هاينرش ماركس وقرظ علمه الواسع وعطاءه، ولذا أوصى بالإبقاء على هاينرش ماركس ومسؤولين يهود آخرين في الخدمة. لكن اعترض وزير العدل على هذا القرار وكان من رأيه ألا مجال للاستثناءات. لذلك لم يجد هاينرش ماركس بدا من التحول عن اليهودية للحفاظ على قوت يومه. اختار هاينرش ماركس البروتستانتية ولم يكن عدد أتباعها في ترير الكاثوليكية يزيد على المئتين، وجرى تعميده بروتستانتيا في أواسط العام ١٨١٧، واتخذ يومها اسم هاينرش بدلا عن هرشل.  

لم تنقطع والدة ماركس عن يهوديتها وظلت على عقيدتها حتى بعد تعميد أولادها في الكنيسة البروتستانتية ومنهم كارل في العام ١٨٢٤، وكان وقتها في سن التعليم. وسجلت المدرسة ديانة والدة ماركس "يهودية". لم تحسن والدة كارل ماركس الألمانية قط، وكانت خطاباتها مكتوبة بألمانية خام خالية من الضبط النحوي وعلامات الترقيم، بل ظلت غريبة في ترير تعيش روحيا مع أسرتها البعيدة في هولنده في لغة قومها اليديشية، وهي خلاس لغوي يتحدث بها يهود أوروبا نمت خلال القرنين العاشر والحادي عشر من أصل لغات عدة منها الآرامية والإيطالية والألمانية والفرنسية والعبرية. والأغلب أن هذه المرأة القلقة قليلة التعليم حافظت على تقاليد يهودية في دار هاينرش ماركس، هذا بخلاف الأخير الذي اعتنق بثقة أفكار التحرر الفرنسية من القرن الثامن عشر، وكان بعبارة حفيدته اليانور، ابنة كارل ماركس، "رجل فرنسي من القرن الثامن عشر يحفظ فولتير وروسو عن ظهر قلب. كتب ابن هرشل وهنرييته في مرحلة لاحقة: "يٌثقل تراث الأجيال التي خلت كما الجبال على عقول الأحياء". 

على كل حال، استطاع هاينرش ماركس تدبير شؤونه وراكم ما سمح له فوق عمله في المحاماة، أن يصبح مالكا لحقل من العنب في ترير. تشهد خطاباته على حسن تدبير للمال، وهو رب لأسرة من تسعة أطفال. كان كارل الثالث في الترتيب. مات أخوه الكبير موريتز ديفيد بعد ٤ أعوام من ولادة كارل، وصار بذلك الابن الأكبر، وبينهما أخت كارل ماركس الكبيرة سوفي التي تزوجت محاميا في هولنده وانتقلت معه إلى ماسترخت. مات كذلك أخوين وأختين بمرض السل في سن مبكرة، وتبقت أخته لويس التي تزوجت رجلا هولنديا انتقلت معه إلى كيب تاون في جنوب افريقيا، واميليا التي تزوجت مهندسا وظلت في ترير.  

حكت عَمّات اليانور، ابنة كارل ماركس، لابنة أخيهم أن كارل كان طفلا شيطانا يقودهن كما الحصين عبر طريق منحدر في ترير بأقصى سرعة ويصر أن يطعمهن كعكا يصنعه من عجين متسخ بأيدي أقذر لكن قبلوا كل هذا منه، جري الحصين وأكل الطين، لأنه كان حكاياً، وكان جزاء صبرهن أن يقص لهن من قصصه الشيقة. تعلم هذا الطفل الشقي في الدار حتى عمر الاثني عشرة سنة ثم دخل المدرسة الثانوية في ترير، حيث تلقى تعليما حديثا تشرب فيه مفاهيم عصر التنوير ومزاوجتها بين الدين والعقل على أساس من تعاليم كانط. وقع كارل الصبي تحت تأثير مدرس التاريخ وصديق الأسرة هوغو فتنباخ، المدرس المناضل الذي قاد مظاهرة للمطالبة بحرية الصحافة في العام ١٨٣٢ حصد منها رقابة البوليس السري الذي اقتحم المدرسة ليجد منشورات ممنوعة ومطبوعات ساخرة معادية للحكومة عند الطلاب. كتب الطالب كارل ماركس في آخر سنين تعليمه المدرسي، وهو في عمر السابعة عشر، مقالا عن الاختيارات المهنية ضمنه هذه الجملة: "لا يمكننا في كل حال اختيار المهنة التي توافق مطلبنا، فعلاقاتنا الاجتماعية قد تشكلت بدرجة من الدرجات قبل أن نتمكن من تحديدها." 

تصاعدت حركة حقوقية في ترير في تلك السنين حركت حتى ساكن هاينرش ماركس، قارئ فولتير وروسو، الذي لم يفارق حائط الطاعة قط. ألقى هاينرش ماركس المحامي خطبه في مأدبة عامة حض فيها ملك البلاد المفدى فردريك وليم الثالث على إجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية تليق بمقام حاكم عادل بصير، الأمر الذي جر عليه اهتمام البوليس. أنكر هاينرش في محضر التحقيق كل ما قاله في المأدبة، وأقنع المحققين أن الغنماية تاكل عشاه. ترك هذا السلوك الخانع أثرا كثيفا على العلاقة بين الوالد هاينرش والولد كارل، وقتها في عمر السادسة عشر، صارت لاحقا أزمة مستعرة تحت غطاء خطابات رقيقة مهذبة متبادلة بين الإثنين منها الخطاب التالي. ارتعد هذا المحامي، الذي كانت حياته كلها تقية في تقية، من شراسة عقل ابنه وحماسة إرادته، وحثه على ضبط نفسه واحترام كبار القوم وسادتهم، أي التلاؤم مع مطلوبات المجتمع كما هو قائم، وكان لكارل رأي آخر. 

///

 

برلين، ١٠ نوفمبر ١٨٣٧

 

والدي الغالي، 

ثمة لحظات في الحياة تقف كشواهد على زمان مضى وتؤشر كذلك بتحديد نحو وجهات جديدة. 

نشعر في ساعات الانتقال هذه بقسر أن نتأمل بعين الفكر الماضي والحاضر حتى ندرك موقعنا الحقيقي. بل يحب التاريخ نفسه ساعات التأمل هذه ويستجمع نفسه فيها ما يجعلها تبدو كميقات تراجع أو ركود بينما هي في الواقع اتكاءه لإدراك ما يعتمل بداخلها، ساعات لانشغال الفكر بنفسه.  

يصبح الفرد في مثل هذه الساعات شاعريا، فكل تحول في جانب منه كمثل شدو البجع، وفي جانب آخر استهلال قصيدة عظيمة تروم موقفا في ألوان فاقعة وإن مشوشة. ورغم ذلك نريد أن ننصب شاهدا على ما كان وانقضى علنا نستعيد بذلك في عالم الشعور ما دَرَسَ في عالم الأعمال، وهل من موقع لمثل هذا النصب أشرف من قلب الوالدين، أرق حَكَمين وأقرب شريكين، شمس الحب التي تدفئ نارها جوف مساعينا. هل من عذر مستحق لكل ما هو منكر أو معيب أكثر من اتخاذ هيئة ضرورة ملزمة. كيف يمكن ولو لبرهة صد التهمة أن ضلال النفس ولعبة الصدف المقيتة من فعل قلب سقيم. 

مر عام على وجودي هنا وها أنا ذا ألقي نظرة على ما كان من أحوال، فاسمح لي يا والدي الحبيب أن أجيب على خطابك من «إمس» [اسم مدينة في إقليم الراين]، أعرض عليك ما كان من أمري وكيف أرى الحياة، فهي عندي تعبير عن عزم روحي يتبدى في كل وجه، في العلوم والفن، والحياة الشخصية. 

نشأ حولي عالم جديد وقتما فارقتكم، عالم من الحب، حب غارق في الشغف وخال من الأمل. لم أجد من رحلتي إلى برلين، التي يممت شطرها وأنا غَرِدٌ طروب، تحثني تراويح الفكر الطبيعي، ويضرم في صدري لهب بتوق الحياة، سوى صقيع. لا بل عكرت نفسي أيما تعكير، فالصخر الذي رأيت لم يكن أكثر صلادة أو صمدية من مشاعر نفسي، والمدن العريضة لم تكن أكثر حيوية من دمي، وطاولات الحواني لم تكن أغنى أو أعسر هضما من تراكيب الخيال التي أروض، والفن لم يكن حتى يقترب من جمال جني [يقصد محبوبته وزوجته لاحقا جني فون فستفالن]

قطعت وقت وصلت برلين ما كان لي من صلات، وعزفت عن الزيارات واللقاءات وانغمست بكلياتي في العلوم والفنون. 

بطبيعة الحال كان أول إنشائي بعد الحالة الروحية التي كنت فيها الشعر المقفى، وكان ذلك الأقرب والألطف، لكن كان بعلة تكويني ونموي حتى ذلك الحين شعرا مثاليا صرفا. وكما هو حبي صار شاغل فني، جنتي، بعدا مستحيلا. تشوش كل ما هو واقعي، وسرح كل ما هو مشوش، هجاء الحاضر، مشاعر فاردة لا هيئة لها، غير ذي جذر في الطبيعة، كأنما اقتطع من شبح القمر، على النقيض التام مما هو كائن أو يجب أن يكون، تأملات بلاغية بدلا عن أفكار شاعرية. لكن ربما اتسمت قصائد الدواوين الثلاثة التي أرسلتها إلى جني بشيء من دفء الشعور والشوق إلى الزخم، وربما توق عريض لا حدود له تشكل في أكثر من هيئة وصار به قرض الشعر اطراحا. 

ولا يبلغ الشعر ولا يجوز له سوى أن يكون انشغالا جانبيا. واجبي أن أدرس القانون لكن استبد به طلب مجاهدة الفلسفة. وارتبط هذا بذاك فتلقفت من جهة هينيكوس وثيبوو والمصادر كما التلميذ، بغير شوكة نقدية، فترجمت أول مجلدين من القانون الروماني القديم إلى الألمانية، ومن جهة أخرى طفقت أبحث عن فلسفة للحقوق في غور هذا الحقل. أنشأت كمقدمة لهذه الترجمة بعض الفقرات الميتافيزيقية وواصلت مسعاي اللئيم هذا حتى بلغت القانون العام، عمل من حوالي ٣٠٠ صفحة. 

برز هنا بالدرجة الأولى التقابل بين الواقع والمأمول، التقابل الذي يسم المثالية، عطب مضر نجم عنه التقسيم الخاطئ التالي. جاء أولا ما نعته بميتافيزيق القانون، أي المقولات الأولى والتأملات وتعريف المفاهيم منعزلة عن القانون فعلا وكل تمثلات القانون، كما يتطرق لها فيشته، لكنها عندي أحدث وأفرغ مضمونا. وفي ذلك، كانت الهيئة غير العلمية للدوغمائية الرياضية، حيث يراوح المرء حول المسألة، يجادل يمنة ويسرة، دون أن تنبلج كقضية حية، كانت من البداية عائقا أمام إدراك الحقيقة. يتيح المثلث للرياضي أن ينشئ ويثبت، لكن يظل المثلث محض خيال في الفراغ، لا يتطور إلى ما هو غير ذلك. لا بد أن يضع المرء هذا المثلث بإزاء أشياء أخرى، فيتخذ المثلث عندها مواقع جديدة، وهذا الاختلاف الناجم عن تحول ذات الأشياء في المواقع هو ما تصدر عنه علاقات وحقائق جديدة. في المقابل، يجب في حال التعبير الملموس عن مفاهيم حية كما القانون والدولة والطبيعة، وكل الفلسفة، رصد تقلب الموضوع في تطوره الباطني ولا يصح فرض تقسيمات اعتباطية، بل يجب ترك التناقضات المبطنة في منطق كل مسألة تطرح نفسها حتى تتحقق وحدتها الذاتية. 

تبع ذلك الجزء الثاني حول فلسفة الحقوق، أي بحسب رأيي وقتها فحص تطور الأفكار في القانون الوضعي الروماني كأنما تطور الأفكار في القانون الوضعي (ولا أقصد بذلك في شأن تعريفاته المحضة) يمكن أن يكون أمرا مختلفا عن تطور مفهوم الحقوق الذي تضمنه الجزء الأول. 

قسمت هذا الجزء بدوره إلى فصلين، نظرية الحقوق مفهوما وموضوعا، بحيث تشمل الأولى المفاهيم المحضة للنظام النظري في تتابعها وعلاقاتها ببعض كما تقسيمها وإحاطتها، ويشمل الثاني في المقابل المحتوى، تكاثف الشكل في مضمون. واشتركت بذلك والسيد فون سافيني في خطأ وجدته لاحقا في كتبه العلمية عن الملكية مع الفرق أنه يسمي التعريفات المفاهيمية «الموقع الذي يتخذه هذا المبدأ أو ذلك في النظام الروماني (المصطنع)» ويسمي التعريفات الموضوعية «تعاليم الوضعيات التي أقر الرومان لها مفهوم ثابت» بينما فهمت من ناحيتي تحت باب الهيئة بنائية صياغات المفهوم وتحت باب الموضوع السمات الضرورية لهذه الصياغات. والخطأ الذي وقعت فيه ظني أنه يمكن ويجب أن يتطور هذا منفصلا عن ذلك، الهيئة منفصلة عن الموضوع، وبذلك انتهيت إلى سكرتير صاحب أدراج وليس إلى هيئة، أدراج أفرغت فيها الرمل. 

والمفهوم ما هو سوى وسيط بين الشكل والمضمون. ولا بد في طرح فلسفي للحقوق أن يقترن الأول بالأخير، فالشكل لا يجوز سوى أن يكون دالة للمضمون. وبذلك وصلت إلى تقسيم ييسر عرض المسألة وتصنيفها لكن أهدرت بذلك روح القانون وكنهه. كل القانون مقسم ما بين المقترن وغير المقترن بعقد. لتوضيح ذلك صممت هذا الجدول حتى التقسيم إلى الحق العام الذي أعرض له تحت باب الشكل: 

()                 الحق الخاص

)    حول الحق الخاص المشروط بعقد

) حول الحق الخاص غير المشروط بعقد

)    حول الحق الخاص المشروط بعقد

أ.      القانون المدني

ب.   قانون الملكية

ج. قانون الملكية الخاصة

أ. القانون المدني 

١. عقد معاوضة

٢. عقد ضمان

٣. عقد تبرع

١. عقد المعاوضة

٢. عقد شراكة. ٣. عقد إيجار

٣. عقد الإيجار:

١. ما دام يختص بالخدمات. ٢. أ عقد الإيجار فعلا (ليس في معنى الإيجار الروماني أو إيجار الأرض). ب. تفويض

٢. ما دام يختص بالاستخدام 

أ) استخدام الأرض (لكن ليس في المعنى الروماني المحض)، ب) السكن المنزلي (في المنزل الخاص، ولاحقا في منزل الغير). 

٢. من عقود الضمان

١. عقد التحكيم

٢. عقد التأمين

٣. من عقود التبرع

٢. عقد تأييد. 

١. كفالة. ٢. فضالة

٣. عقد هبة 

١. هبة. ٢. وعد

ب. قانون الملكية

١. عن عقد معاوضة

٢. تبادل في معناه الأصلي

١. تبادل فعلي. ٢. قرض (ربوي). ٣. بيع 

٢. من عقود الضمان

مساومة 

٣. من عقود التبرع

٢. إعارة. ٣. إيداع

لكن، لماذا أصر على تحبير الصفحات بأمور صرت إلى رفضها. يطغى التقسيم الثلاثي على كل النص الذي كتبته بتعقيد مرهق، كما أسأت استغلال المفاهيم الرومانية حتى أحشرها حشرا في نظريتي، لكن فزت من جهة أخرى بتصور عام عن مادة الدراسة، بل وبحبها بطريقة أو أخرى. 

بان لي في نهاية القسم بالقانون المدني خطل كل ما أنشأت، والذي يقارب التصميم الكانطي [من كانط]، ثم يخالفه في التنفيذ، كما بان لي استحالة الكشف عن حقيقة أي أمر دون الفلسفة. عليه، جاز لي أن ألقي بنفسي في حضن الفلسفة وأنشئ نظاما ميتافيزيقيا جديدا، أدرك بنهايته، منقادا، خبال هذا النظام وخبال كل مساعي السابقة.  

في كل ذلك، حرصت على نقل مقتطفات من كل الكتب التي قرأت، وجعلت ذلك عادة لي، فنقلت من "لاوكون" من لسنغ، و"إرفين" من سولغر، وتاريخ الفن لفنكلمان، والتاريخ الألماني من لودنس، هذا بالإضافة إلى ملاحظات نقدية وتعليقات. بجانب ذلك، ترجمت كتاب تاسيتس "جرمانيا" وكتاب أوفيد "تريستريا" كما بدأت بتعلم الإنجليزية والإيطالية مباشرة من كتب اللغة والقواميس، وإن لم أحقق أي تقدم. قرأت كذلك كتاب كلاين عن القانون الجنائي وجميع أوراقه المنشورة، وكل ما استجد من الأدب، وإن وقع ذلك عرضا. 

بحثت في آخر الفصل الدراسي مرة أخرى عن ملاهي الاستغراق وألحان التهكم، لكن أدركت حتى في ديواني الذي أرسلته إليكم، أن المثالية تطل برأسها عبر فكاهة مصطنعة ("سكوربيون وفلكس") ودراما فانتازية ("أولانم")، حتى تسيطر بالكلية وتنقلب فنا شكليا خالصا خال من القضايا الملهمة ومن الأفكار الحية.  

رغم ذلك، هذه القصائد الأخيرة هي الوحيدة التي أفقت فيها، كما بعصا سحرية وآآخ! أي ضربة كاسرة كانت، إلى حقيقة أني بعيد كل البعد عن ملكوت الشعر الحقيقي، يبرق لي من المدى كما قصر الجنية، وتناثر كل ما أنشأت هباءً.  

استبد بي الشعر في ليالي الفصل الدراسي الأول وأنا مشغول بهذه الشؤون المختلفة. وخبرت صراعات داخلية عديدة ومحفزات خارجية، فلم أخرج منها بكثير من الكسب وأهملت في هذا السبيل الطبيعة والفن والعالم وصددت أصدقاء. يبدو أن بدني نفسه انشغل بهذه التأملات، ونصحني طبيب بالسياحة في البلاد. لذلك ولأول مرة قمت بجولة عبر المدينة حتى البوابة ثم إلى شترالوف. لم أدرك أنني سأنضج هناك من هيئة الهزال الشاحب التي كنت فيها إلى صلابة البدن وتماسكه.  

سقطت ستارة، وتهاوى أقدس أقداسي وصار لا بد من تتويج آلهة جديدة. 

انتقلت من المثالية التي طعمتها وللمناسبة بعناصر من كانط وفيشته إلى البحث عن الفكرة في الواقع نفسه. إن كانت الآلهة قطنت سابقا فوق الأرض فقد صارت الآن في مركزها. 

كنت قرأت متفرقات من الفلسفة الهيغلية فلم أطرب للحنها المتحجر المشوه، وأردت أن أغوص مرة أخرى في بحرها لكن بقصد الوصول إلى أن طبيعة العقل ضرورية وملموسة ومستحقة كما الطبيعة البدنية. لم أعد راغبا في ممارسة فنون الوقوف عند الأسوار بل أردت الخروج باللآلئ الصافية إلى وضح النهار.  

كتبت حوارا من ٢٤ صفحة: "كليانثس، أو مبتدر الفلسفة وتطورها الضروري". وحدت في هذا الحوار لدرجة من الدرجات بين الفن والعلم، وقد افترقا بالكلية. قمت لأمرى سواحا مهرولا، وأنشأت عرضا فلسفيا ديالكتيكيا للألوهية وكيف تتبدى مفهوما في الدين والطبيعة والتاريخ. ومقولتي الأخيرة هي مبتدر النظام الهيغلي. تعرفت لهذا العمل بدرجة من الدرجات على العلوم الطبيعية، على شلنغ وعلى التاريخ، وكانت كتابته علة لصداع لا ينتهي، كتبته بصورة [كلمة غير واضحة في النص الأصلي] (كان يفترض أن يكون منطقا جديدا) بحيث تعذر على استعادة زمامه مجددا. هذا هو طفلي الأعز، رعيته بضوء القمر، وحملني كإنذار كاذب إلى حرز العدو. 

فقدت القدرة على التفكير لعدة أيام لشدة الضيق، وجلت في الحديقة كالمعتوه عند ماء نهر السبريه القذر، الماء الذي "يغسل النفس ويصفي العكر" أو كما قال. بل انضممت إلى فريق صيد مع مالك الدار، ثم أسرعت إلى برلين وفي بالي أن أحضن كل من ألتقي في طرف الشارع. 

خضت بعدها بوقت قصير في دراسات مفيدة، درست "الملكية" لسافني، ثم القانون الجنائي لكل من فيورباخ وغرولمان، "معاني الكلمات" لفون كرامر، الفقه القانوني الروماني لصاحبه فينينغ-انغنهايم والعقيدة الفقهية الرومانية لصاحبه موهلنبروخ، وما زلت منكب عليها، كما قرأت متفرقات للسيد لاوترباخ، ثم الإجراءات المدنية وفوق ذلك القانون الكنسي. وقد اقتربت من إكمال دراسة "الجامع في القانون" لفون غراتيان ونقلت عنه ملخصات. كذلك أكملت قراءة الملحق و"المؤسسات" من لانسلوتي. من ثم ترجمت قسطا من بلاغة أرسطو وقرأت "الحجج العلمية" للسيد بيكون من فيرلام ذائع السيط، وانشغلت كذلك بكتاب ريماريس "حول الغرائز الفنية للحيوانات، والذي أطلت فيه التفكير بمتعة. كذلك خضت في القانون الألماني، لكن فقط إلى حدود المرور على وثائق الاستسلام للملوك الفرانكيين والخطابات البابوية إليهم. اعتللت كما سبق وكتبت لك والدي العزيز لشدة انزعاجي من مرض جني ومن هدر مجهوداتي الفكرية التي لا طائل منها ثم بسبب الضيق الشديد كوني جعلت وجهة نظر مقيتة بالنسبة لي مثلا يحتذى. ثم ما إن تعافيت حتى أحرقت كل القصائد التي كتبت وكل خطط القصص الخ وذلك بأثر توهمي أن في مقدرتي اعتزال كل ذلك، ولما أقدم حتى الساعة دليلا على عكس ذلك.  

تعرفت خلال فترة اعتلال صحتي على هيغل من البداية إلى النهاية كما تعرفت على طلابه. واستطعت من خلال عدة لقاءات مع أصدقاء في شترالوف أن أدخل ناديا للدكاترة يضم عددا من المحاضرين وأقرب أصدقائي في برلين، الدكتور روتنبرغ. تعرفت في الحجاج والنقاش الذي دار في النادي على العديد من وجهات النظر المتعارضة، وأسرت نفسي بذلك بسلاسل الفلسفة المعاصرة التي رمت الإفلات منها. صمتت الأصوات الرنانة من حولي وسيطرت علي لوثة تهكم، وكيف لا بعد كل ما جرى من نفي لمجهوداتي وتمحيص، أضف إلى ذلك انقطاع جني، فلم أجد موئلا حتى حققت بعضا من الحداثة والموقف العلمي المعاصر عبر إنتاج متهافت مثل "الزيارة".. الخ 

اعذرني والدي الغالي إن لم أستطع في هذه السطور رصد كل ما وقع في الفصل الدراسي الأخير بوضوح وتفصيل وغمضت بعض الجوانب فذلك من شدة شوقي أن أتحدث عن الحاضر.  

أرسل إلى السيد شاميسو إشارة غير مهمة على الإطلاق، يخبرني فيها أنه "يؤسفه القول إن المجلة لا يمكنها الاستفادة من مساهماتي وقد صدرت طبعتها منذ فترة طويلة." ابتلعت القصاصة من شدة الضيق. أما بائع الكتب فيغاند فقد أرسل مسودتي إلى الدكتور شميدت، صاحب دار نشر المخزن العجيب للجبن الطيب والأدب العَيّب، تجد خطابه مرفقا، لكن لم يرد الأخير حتى الآن. وعلى كل، لن أتنازل عن هذه المسودة أبدا، خاصة وقد وعد بعض مشاهير الفن من المدرسة الهيغلية بوساطة من الأستاذ الجامعي باور، صاحب الموقع المقدم وسطهم، وكذلك زميلي الدكتور روتنبرغ، تعاونهم في المسألة. 

الآن والدي العزيز بخصوص السؤال عن مسار مهني في الإدارة، فقد تعرفت منذ وقت قصير على مراقب [ضريبي] اسمه شميدتهينر، ونصحني بالتحويل إلى هذا المسار كقانوني بعد امتحان الإجازة الثالث. والحق، وافقني هذا الرأي، فأنا أفضل القانون على كل علوم الإدارة. قال لي هذا الرجل أنه وغيره من دائرة القضاء البلدية في مونستر صاروا مستشارين بعد ثلاثة أعوام. وليس الأمر صعبا، بطبيعة الحال مع العمل الجاد، فالدرجات الوظيفية هنا ليست كما في برلين أو في أماكن أخرى ثابتة لا تتزحزح. وتنفتح إذا استطاع المرء لاحقا من موقع المستشار تحصيل درجة الدكتوراة فرص أيسر، من ذلك التعيين كأستاذ فوق العادة كما السيد غيرتنر في بون، والذي كتب كتابا متواضعا حول نظم القوانين الإقليمية ولم يعرف عنه سوى أنه من مدرسة القانونيين الهيغلية. لكن والدي العزيز الغالي ألا يمكن مناقشة كل ذلك معك شخصيا. يدفعني حال إدوارد وحال أمي ومعاناتها وتوعكك، مع دعائي أن يكون أمرا عارضا، إلى الأمل في الإسراع إليكم، بل الإسراع إليكم ضرورة. لو لا شكوكي في أنك قد تحجب موافقتك على سفري هذا لكنت بينكم الآن. 

صدقني، والدي العزيز المحبوب، لا تحثني أي مصلحة ذاتية (مع أني سأسعد كل السعادة برؤية جني مجددا)، لكن تشغلني فكرة لا يجوز أن أفصح عنها. حقيقة الأمر سيكون سفري أمرا صعبا علي، لكن كما تقول وحيدتي جني الحلوة تتهافت هذه الاعتبارات أمام الإيفاء بواجبات مقدسة.  

من فضلك والدي الغالي، ومهما كان قرارك لا تعرض هذا الخطاب أو على الأقل هذه الصفحة منه على أمي الملاك. ربما استعادت هذه المرأة العظيمة عافيتها وقامت إلى شأنها إذا وصلت بغير سابق إنذار.  

كتبت الخطاب إلى أمي قبل فترة طويلة من وصول خطاب جني الحبيبة، وربما كتبت لذلك بغير وعي مني عن كثير من الأمور غير المناسبة. 

أملي أن ينقشع الغمام الذي تراكم في سماء أسرتنا عن قريب، وأن أصيب فضل أن أعاني معكم وأبكي معكم وربما أن أثبت من موقع القرب منكم الحب اللامتناهي والعميق الساكن الذي أكنه لكم دون أن أوفق في التعبير عنه. وأملي يا والدي العزيز المحبوب أبدا أن تغفر لي حيث أخطأ قلبي كما يبدو مرارا وتكرارا وقد أذهله الروح المكابد، آخذا في الاعتبار تحولات نفسي وتقلباتها، وأملى أن تبلغ عن قريب تمام العافية، وعندها أستطيع أضمك إلى قلبي وأفصح لك عن كل ما يجيش بخاطري. 

 

ابنك المحب أبدا كارل. 

 

اعذرني والدي الغالي على خطي غير المقروء وأسلوبي الركيك، اقتربت الساعة من الرابعة صباحا، واحترقت الشمعة كلها إلا قليل وعيناي كأن بهما غشاوة. استبد بي القلق ولا أظن بمقدوري تهدئة هذه الأرواح الهائجة حتى لقاءكم الحبيب.  

استحلفتك، وصل سلامي لجني، حبيبتي الحلوة الباهرة. قرأت خطابها للمرة الثانية عشر واكتشف في كل مرة محاسن جديدة. وهو بأي اعتبار نظرت، بما في ذلك الأسلوب، أجمل خطاب من امرأة يمكن أن يخطر لي على بال. 

///

الخطاب من كارل ماركس وفردريك انجلز الأعمال الكاملة. المجلد ٤٠. دار كارل ديتز للنشر. برلين. ١٩٧٣. ص ٣-١٠. اعتمدت في كتابة المقدمة على سيرتين لكارل ماركس: كتاب ازايا برلين "كارل ماركس: حياته وبيئته (صدرت طبعته الأولى في ١٩٣٩) وكتاب ديفيد مكليلان "كارل ماركس: سيرة" (صدرت طبعته الأولى في ١٩٧٣)، بالإضافة إلى سيرة اليانور ماركس، ابنة كارل ماركس الصغرى، بقلم يفون كاب (صدرت طبعته الأولى في ١٩٧٢). 


 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.