Friday, 23 February 2018

مع باديو: سبع سنوات والشعب يريد

آلان باديو، إعادة ولادة التاريخ: عصر العصيان والانتفاضات، دار فرسو، ٢٠١١
آلان باديو، الفرضية الشيوعية، دار فرسو، ٢٠١٠
آلان باديو، الفكرة الشيوعية، ضمن الفكرة الشيوعية (تحرير كوستاس دوزيناس وسلافو جيجيك)، دار فرسو، ٢٠١٠
مصر وتناقضات الليبرالية: الصفوة جزافية الليبرالية والديمقراطية المصرية (تحرير داليا فهمي ودانيش فاروقي)، دار ون ورلد، ٢٠١٧

التقت لندا هريرا ودينا الشرنوبي بالفيلسوف الفرنسي آلان باديو في باريس بمناسبة الذكرى السابعة للثورة المصرية (يناير ٢٠١١) لتقصي رأيه حول مآلات الثورة في العالم والعصر الذي نحن فيه. قال باديو أن الثورة المصرية شهدت ولادة نوع جديد من الحركة السياسية شغل موقعا بين المادي والرمزي، حركة استنفذت الهدف السلبي منها، أي الإطاحة بمبارك، لكنها لم تطرح على نفسها أو تعقّد عليها أن تطرح سؤال الهدف الإيجابي. عدَّ باديو الثورة المصرية في مؤلفه عن القضية ولادة جديدة للتاريخ، وقال أهميتها تتعدى مصر والشرق الأوسط إلى مجمل الحركة السياسية في العالم. قال باديو أن تعريف الهدف الإيجابي من الثورة كان معجزا لأن الإجابة الكلاسيكية، أي الاستيلاء على السلطة السياسية كما هي، لم تكن لتكفي الثوار ولم يكن ذلك هدفهم. بذا تطرح الثورة المصرية على العالم سؤال ما هي فكرة التغيير الحقيقي؟ أو ما هي الثورة اليوم؟، ما هي الرؤية السياسية اليوم؟
عند باديو، فيلسوف الحدث والحقيقة، هنالك وجهان للأزمة الكونية، وجه موضوعي هو أزمة الرأسمالية المتأخرة ووجه ذاتي هو انفلات أي نظم للحياة وللفكر و غلبة تصورات مشوشة وملتبسة للمستقبل. يواجه شابات وشباب اليوم مستقبلا غامضا، هل تستمر الأمور كما هي عليه أم هل بأمكاننا اجتراح حياة جديدة؟ هذا بينما يقدم السياسيون من كل الأصناف والتوجهات فكرة صمدية في صور شتى لا تعدو أن تكون الاستمرار في الذي سبق، أي تكرار الواقع. هذا بطبيعة الحال ليس المستقبل الذي ينشد شابات وشباب اليوم. أمام العجز عن التأثير الفعال في الوجه الموضوعي للأزمة الكونية يتبقى أن تقدم الفلسفة اليوم أفكارا جديدة، رؤى جديدة لتغيير العالم. 
يقترح باديو أن يبدأ هذا المستقبل بتعريف جديد للحرية، فالحرية في الممارسة المعاصرة هي حرية الشراء، حرية الامتلاك، حرية أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء متى تيسر لك المال. لذلك، يرى باديو ضرورة لتعريف جديد للحرية يصدر عن فعالية الخلق والإبداع لا فعالية الاستهلاك والاستمتاع في التخريج الرأسمالي. يشترط باديو للحرية الجديدة أدبا جديدا وفنونا جديدة ومخترعات جديدة وصيغ تنظيمية جديدة للعمل السياسي وفي خضم ذلك سياسة جديدة. وهو بذلك يبشر من موقع الفيلسوف المتفائل بدنيا جديدة وليس فقط بانتقال السلطة من فريق إلى فريق. لشرح مقصد باديو يجب إضافة التحذير الصحي أن باديو يرهن كل تجديد للحياة بما يسميه الفرضية الشيوعية وتعريفها الدقيق عنده القول بإمكانية تجاوز الملكية الفردية. ما عدا ذلك، كما يفصل في كتابه القصير بذات العنوان، استسلام لاقتصاد السوق والديمقراطية البرلمانية المرتبطة به كنهاية للتاريخ، أي تكرار للمكرر مع توقع نتائج مختلفة. 
في تشخيص باديو تمثل مفاهيم التحديث والإصلاحوكذا الديمقراطية والغرب والمجتمع الدولي وحقوق الإنسان والعولمة بل حتى العلمانية كما تتجلى في الممارسة الملموسة محاولات شتى لفرض أوضاع يمكن فيها للرأسمالية الكونية ولسدنتها من السياسيين استعادة شروط نشأتها الأولى: عقيدة الليبرالية الاقتصادية في أصفى صورها من منتصف القرن التاسع عشر والسلطة غير القابلة للمسائلة لصفوة رجال المال وخدعة حكومة برلمانية تتكون غلابا من سدنة رأس المال كما في تقدير ماركس. في هذا السبيل تجتهد الرأسمالية الكونية للإطاحة بكل مكتشفات ومنجزات الحركة العمالية والشعوب المقهورة وما اتصل بها منذ ١٨٦٠ وحتى ١٩٨٠ واستبدال ذلك بسيادة قيم الامبريالية الصمدية. على هذا الأساس يقارن باديو بين الثورة المصرية، باعتبارها مفتاح سلسلة تاريخية جديدة، وبين اختلاجات الحركة العمالية الأولى في ثورات أوروبا ضد البطش والاستبداد عام ١٨٤٨. في كل، أفلتت اللحظة السياسية من يد الثوار على نبل قضيتهم ليفوز بالجولة من يسيطرون على التنظيمات التي تدعي تمثيل القوى الشعبية، أحزاب برلمانية أو نقابات فاسدة، ثم من بعدهم قادة الثورة المضادة. 
في المقابل شدد باديو على بعث الفكرة بالتواز مع نهضة التاريخ في ميدان التحرير، الفكرة التي باستطاعتها مقارعة صيغة الديمقراطية الخالية من كل محتوى ذات الرايات الرأسمالية وكذلك العقائد العنصرية والقومية الشوفينية ذات الطابع الفاشي المبتذل التي احتلت مواقع اليسار القديم في الخارطة السياسية والاجتماعية. عند باديو، اسم هذه الفكرة ليس سوى الفرضية الشيوعية. يقر تلميذ ماو أن فكرة الشيوعية التي يطرح تصور مثالي وليس برامجي، لكنها في تقديره لا غنى عنها لتغيير العالم، بل يدعي باديو أن كل محاولة للثورة على الظلم وبسط العدالة والمساواة تنهل بصورة أو أخرى من الفرضية الشيوعية. كما نشأت الماركسية ذات الإسم عشية ثورات ١٨٤٨ على يد ماركس وانجلز في مسعى الصراع السياسي من أجل تنظيم جديد للمجتمع على قاعدة المساواة يتفاءل باديو بإعادة ولادة الفكرة الشيوعية في عصرنا الملتبس. 
باديو الفيلسوف منضبط العبارة كل الانضباط فالماركسية عنده معرفة، وكأي معرفة تتصدى لمصاعب لا بد على الدوام من تركيبها وإعادة تركيبها في كل تشكيل تاريخي وليس تكرار وصفاتها. باديو لا يرى الماركسية فرعا من فروع الاقتصاد باعتبارها نظرية لعلاقات الإنتاج أو فرعا من فروع علم الاجتماع باعتبارها تسعى لتوصيف موضوعي للأوضاع الاجتماعية كما أنها ليست فلسفة باعتبارها تطرح تصورا ديالكتيكيا للتناقضات بل هي في تعريفه معرفة منظمة بالوسائل السياسية اللازمة لتفكيك المجتمع القائم واجتراح تنظيم جديد للجماعة البشرية على أساس المساواة عنوانه الشيوعية. يقرر باديو في أكثر من موقع في كتبه أن العالم الذي نعيش هو تحقق شبه حرفي لاستقراءات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر حول الصيرورة الوحشية للرأسمالية فكأن العجوز كان يكتب رواية خيال علمي أصبحت واقعا. استسخف ماركس حكومات القرن التاسع عشر قائلا ما هي سوى إدارات لرأس المال ووصفه أصدق اليوم حيث تكاد تنعدم الفروقات بين اليسار واليمين في الحكم. يسأل باديو، ما الفرق يا جماعة بين ساركوزى وميركل في اليمين وزاباتيرو وأوباما في اليسار؟ بذا، يقول باديو، نحن شهود على تراجع مريع نحو جوهر الوحشية الرأسمالية بعد هزيمة آخر موجه للبعث الشيوعي الثوري يعتد بها في ستينات القرن العشرين. عند باديو، مثلت الثورة الثقافية في الصين (ويؤرخ لها بالنشاط الجماهيري بين نوفمبر ١٩٦٥ حتى يوليو ١٩٦٨) ختام السلسلة الثورية التي فتحت طريقها ماركسية لينين (لبيان حجج باديو في هذا الصدد أنظر مقالته الثورة الثقافية: آخر ثورة؟ في مجلة Positions ١٣:٣، ٢٠٠٥، دار جامعة ديوك للنشر). 
ماذا تمثل الثورة المصرية إذن؟، يرى باديو أنها افتتاح دورة جديدة للصراع الاجتماعي، ولا بد من دراسة كل تفاصيلها، الثورة والسلطة والثورة المضادة، لإدراك تركيب المصاعب التي يطرحها العصر على الماركسية أو قل علم الثورة. عد آصف بيات الثورة المصرية ثورة من غير ثوريين، والأدق إن اتبعنا قياس باديو أنها عصيان بغير رؤية، حققت هدفها السلبي، أي الإطاحة بمبارك واستنفذت نفسها. هذا عند باديو لا يقلل من أهميتها من حيث أنها بداية لنوع جديد من العصيان الجماعي، اخترقت أشكال التنظيم المعهودة وإن لم تخترع صيغا جديدا للتنظيم السياسي تمكن من ترجمة روحانيات الثورة إلى ممارسة سياسية تتصدى لمطالب الناس الذي اجتمعوا على وحي الميدان. 
طرح الممثلون السياسيون للميدان، وهم، باستثناء الاشتراكيين الثوريين، من الصفوة الليبرالية المصرية، على جمهورهم مفاهيم الإصلاح والتحديث والديمقراطية وحقوق الإنسان كما في هي في تخريجها الامبريالي المعاصر بغير جرح وتعديل ثوري. لما جاءت أصبح الصبح وجد غالب الناس في المعاني البديلة التي استخرجها الأخوان المسلمون من صراعهم الطويل ضد السلطة في مصر مهربا أكثر أمنا من حدوتة التحديث التي طالما تغنى بها حتى الحزب الوطني. شاهد ذلك أن الناخبة المصرية فاقت لنفسها في صباح اليوم التالي للثورة بين اختيار أحمد شفيق، رئيس وزراء مبارك، وبين محمد مرسي، مرشح الأخوان المسلمين للرئاسة بينما انسحب الليبراليون المصريون من ساحة التنظيم السياسي في انتظار جودو الديمقراطية.  
ماذا يعني انتصار الأخوان المسلمين الانتخابي إذن؟ التقدم نحو هذا السؤال يستدعي العودة إلى ساعة ولادة النسخة الثورية من الإسلام السياسي. زار ميشيل فوكو إيران عشية الثورة عامي ١٩٧٨ و١٩٧٩ وعاد منها شاهقا بما شهد، شغف عبر عنه في مقالات قصيرة منها المنشورة في لو نوفيل اوبزرفاتور ١٦-٢٢ أكتوبر ١٩٧٨. أعاد جانيت آفري وكيفن آندزسون نشر كلمة فوكو بماذا يحلم الإيرانيون؟ في ملحق كتابهما الصادر في ٢٠٠٥ بعنوان فوكو والثورة الإيرانية: الجندر وإغواء الإسلام السياسي. يطرح فوكو في كلمته القصيرة فحوى الإسلام السياسي بطريقة تستحق إعادة الاعتبار اليوم بعد أن كال له المثقفون الليبراليون التهم، فهو عند من أحسن الظن مغفل نافع لحس الملالي الإيرانيون عقله وعند من ساءه مسحور بفارس كثيفة اللذات كما كل مستشرق. لكن، لفوكو ملاحظات دقيقة حول إيران الثورة، منها أن فشل التنمية الاقتصادية، أو قل تناقضات الرأسمالية تحت شروط كولونيالية، حالت دون استقرار قواعد حكم ليبرالي غربي. منها كذلك أن الملايين الذين ثاروا ضد الشاه جمعهم هدف سالب، أي الإطاحة بنظام الحكم، وأن الصفوة الليبرالية في إيران إما فقدت كل مشروعية باصطفافها خلف الشاه أو استسهلت تحدي الإسلام كقوة سياسية ظنا منها أنه متى سقط الملك وعادت عجلات السياسة التقليدية للدوران سينحسر لا بد ظل الخميني الطويل. 
قال فوكو أن السؤال الذي يظل يشغله طوال إقامته في إيران كان ماذا تريدون؟ وظلت الإجابة التي يتلقاها هي حكومة إسلامية في تكرار للشعار الذي طرحه الخميني للثوار من منفاه في إحدى ضواحي باريس. لم ينشغل فوكو بالتعريف الوظيفي للحكومة الإسلامية المنتظره فقد كفاه بعض من التقاهم بأنهم يقصدون اليوتوبيا أو المثال، ثم شرح له شارح الممارسة التي تغذي المثال المنشود. برواية فوكو، ألمت بمدينة فردوس الإيرانية حوالي عشرة أعوام قبل الثورة فاجعة مريعة. حطم زلزال قاهر كامل المدينة فلم يبق منها شيئا على عَمَد. أعدت السلطات خطة لإعادة الإعمار دون استشارة أهل البلد من الفلاحين وصغار الصناع لكن لم توافق طموحاتهم فرفضوها. بدلا عن الخطة الحكومية تآزر هؤلاء تحت قيادة رجل دين محلي فأنشأوا بلدة بديلة في موقع قريب. جمع المواطنون التبرعات وأقاموا بالعون الذاتي شبكة مياه وأنشأوا مجموعات تعاونية للبناء وللمواد الاستهلاكية. أطلق مواطنو فردوس السابقين على بلدتهم الجديدة إسم إسلامية في احتفاء بالقيم الجماعية التي مكنتهم من حشد قواهم لهذا العمل. 
في تقدير فوكو كان الزلزال الذي أصاب فردوس مناسبة للاستفادة من البنى الدينية كبؤر للمقاومة وكموارد للإبداع السياسي. هذا إذن ما يحلم به غمار الناس، ومنهم قتلى كثر في رابعة العدوية، حين يحدثون أنفسهم بالحكومة الإسلامية. على هذا الأساس قضى فوكو أن الحكومة الإسلامية ليست فكرة بالمعني الدقيق وليست مثالا بل هي إرادة سياسية كمثل الإرادة التي ساقت المئات في رابعة والنهضة إلى عزيز كريم. جاء المرحوم عبد الخالق محجوب على معنى مماثل في كتابه آراء وأفكار حول فلسفة الأخوان المسلمين حيث أشار إلى أن المساواة وعدالة توزيع عائدات الإنتاج شكلتا روح الدعوة الإسلامية في نهضتها الأولى. هذه المساواة وتلك العدالة تلحان في التطبيق في ظروف نمت فيها الثروة الاجتماعية وتزايدت قدرات الناس على انتزاع طيبات الحياة وخيراتها من مادتها الخام. نبّه المرحوم عبد الخالق محجوب إلى ضرورة أن تمتد اليد المنافحة عن العلمانية إلى جوهر القضية الدينية لدرء التواء السياسة بالدين لا أن تكتفي بالمدافعة عن مواقعها. 
لا عجب إذن إن كان الإسم الثاني الذي عبأ الفضاء الثوري في إيران بعد الخميني هو علي شريعتي. كانت رسالة شريعتي الرئيسة أن المعني العميق للإسلام ليس في التفاسير الدينية الموروثة والمحنطة منذ قرون بل في تعاليم المساواة والعدالة الاجتماعية التي بشر بها النبي الكريم والإمام الأول علي. نهل شريعتي من موارد عدة وزاوج بينها فخصص جل جهده للملائمة بين الإسلام الشيعي وبين النداء الثوري للماركسية. اهتم شريعتي كذلك بالعلاقة الديالكتيكية بين النظرية والممارسة، وهي قضية همّ لها من باب تمحيصه لميلاد وصعود ثم جمود وتدهور الحركات الدينية الثورية. بهذا المدخل اعتقد شريعتي المؤمن جازما أن الإسلام الشيعي لجوهر ثوري فيه لن يقع عليه قانون الجمود والتدهور كسواه. 
لكن، لم ينعقد لواء للإخوان المسلمين في مصر كما انعقد للخميني المنتصر وتسارعت دورة الثورة المضادة التي نشد الأخوان المسلمون حلف قادتها أملا أوتقية أو قلة حيلة أو بأي دافع كان حتى اكتملت بانقلاب السيسي في ٣ يوليو ٢٠١٣. يدعو باديو إلى تدبر هذه الصيرورة واستخلاص دروسها باعتبارها مثال أول للمعضلات التي ستواجه أي نهوض ثوري في المستقبل، مشت الديمقراطية أو جات! بعض ذلك مما يجده القارئ في فصول مصر وتناقضات الليبرالية. يتصدي الباحثون في هذ الكتاب للإجابة على سؤال ربما عَنَّ لباديو: لماذا وكيف وأدارت الصفوة الليبرالية المصرية ظهرها للديمقراطية الوليدة واستقبلت السيسي بطل الثورة المضادة استقبال الفاتحين. 
الحجة المركزية في الكتاب تتصل برأي بانكاج ميشرا أن الليبرالية الغربية شُقَّت من ضلع امبريالي ومن تناقضاتها العقيدة المنشرة بين الليبراليين أن الشعوب المتخلفة خارج الفضاء الأوروبي متى ما اختارت ديمقراطيا أخطأت كمثل ما أخطأ المصريون باختيار الأخوان المسلمين وأخطأ الإيرانيون قبلهم بجذب الخميني ولا بد أن تساق إلى الليبرالية الحقَّة بالحديد والنار. يذهب ميشرا أبعد من ذلك فيقول أن هذه التناقضات تتعدى المشروع الامبريالي واستمرت فاعلة خلال الحرب الباردة وبعدها. يقرر ميشرا أن ذات اليبراليين الغربيين الذين ينادون بالسوق الحرة والمساواة بين الناس هم المستفيدون الأول من تاريخ طويل من الحمائية التجارية ومن العنصرية المتجذرة في بلدانهم. إلى ذلك كانت الحمى المضادة للشيوعية عرضا لجزافية الليبرالية الغربية وتحورت مجددا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في هيئة الليبرالية الجديدة ذات الأنياب الحادة. عند ميشرا لا تمثل هذه التناقضات سمات عرضية لليبرالية الغربية بل هي نتاج مباشر لافتراضات عقيدة التقدم االتاريخي من القرن التاسع عشر. 
أخذ خالد أبو الفضل في الفصل الثامن من الكتاب بجانب من حجة ميشرا في تحليله لعلاقة الصفوة المصرية بجهاز الدولة. يشرح أبو الفضل كيف نصَّبَت الصفوة الليبرالية المصرية نفسها طليعة لشعبها منذ العهد الاستعماري مُسلحة حصرا بأطر معرفية غربية واختارت أن تكون خادما لجهاز الدولة القابض. لذلك قال أصبح أغلب اعتمادها على آلة الدولة القهرية للحفاظ على موقعها المتميز في المجتمع المصري ولدفع أي تهديد شعبوي محتمل بما في ذلك النمس الإسلامي. عند أبو الفضل، يمثل احتماء الصفوة الليبرالية المصرية بالسيسي إلا من رحم ربي ساعة أتاهم الأخوان عبر الصندوق الذي طالما بشروا به شاهد جديد على هذا القانون الثابت، قانون الثورة المضادة! 
لم تهد سنين من العسف العسكري في السودان بعض أصفى الليبراليين فيه، مخضرمين ومحدثين، إلى هذا القانون، سمعنا منهم شماتة فظة حين حصد السيسي أرواح الغلابة في النهضة ورابعة، طارت الديمقراطية من رؤوسهم ببعبع الإسلاميين كما طارت من رؤوس أقرانهم المصريين. نسألهم مع باديو. ما هي فكرة التغيير الحقيقي؟ أو ما هي الثورة اليوم؟ وأي مفهوم للحرية ينشدون؟ ونسألهم مع لينين حرية من ولفعل ماذا؟!

Tuesday, 13 February 2018

What to do with Salah?

In a flattering piece from 1973 the New York Times picked up one of Jafaar Nimayri’s nicknames. Sudan's president from 1969 to 1985 was known as “Sartana”, the hero of a series of Italian-made Westerns, dismissively known as spaghetti Westerns, once popular in Sudan’s cinemas. A Sudanese quoted in the Times piece said Italians, unlike the Americans, make no moral distinctions between good guys and bad guys in their Westerns: They like their heroes tough and mean. Sartana always comes back, bouncing alive from every encounter. “If You Meet Sartana Pray for Your Death” and “Sartana Does Not Forgive” were memorable titles. When President Bashir issued a decision on 11 February bringing back Salah Abdalla Gosh, the dishonoured former spy chief, to his position as director of Sudan’s National Intelligence and Security Service (NISS), the gist of the matter was immediately captured by Sudanese satire in a “Sartana” title “Light the Fuse…Sartana is coming”!
Cynicism in this situation is arguably a better frame of reference than grim political analysis. For certain individuals in Sudan’s political scene the situation is not at all funny. The editor of a prominent Sudanese daily immediately went to work when he heard the news I suppose and wrote a 600 words or so piece for the next morning to clear his tainted slate. In keeping with the tunes of power, the editor had hurled insults at Salah Gosh at the moment of his demise, when the former NISS director was accused of involvement in a coup plot back in November 2012 and thrown for eight months into a prison outside Omdurman that he had ordered built himself as spy chief and aptly named al-Huda (arab. guidance) Prison. This time around, the obviously overwhelmed editor claimed that he had been advocating for the return of the ruling National Congress Party (NCP) old guard to power all along. He specifically named three individuals: Ali Osman Mohamed Taha, the long time vice president replaced by Bakri Hassan Salih in December 2013, Salah Abdalla Gosh, the security strongman, and Awad Ahmed al-Jaz, the veteran oil minister who vacated his post together with Taha and others in December 2013 but was kept in the proximity of the president as assistant and official for the China and Russia dossiers. The editor intentionally avoided one name, Nafie Ali Nafie, the former senior presidential assistant and deputy chairman of the NCP, and for good reason. 
Salah Gosh had been party to a power struggle between Ali Osman Mohamed Taha and Nafie Ali Nafie on the side of the former that unfolded in full following the independence of South Sudan in 2011. Nafie calculated at the time that the opportunity was his to grab given the public perception that Ali Osman Mohamed Taha was primarily to blame for the outcome of the Comprehensive Peace Agreement (2005) that the vice president had negotiated eventually singlehandedly with the late Sudan People’s Liberation Army/Movement (SPLA/M) chief, John Garang. In an attempt to outbid Nafie, Taha announced a second Sudanese republic promising a new era of national reconciliation crowned by rapprochement with the US. Salah Gosh, the spy chief, played a pivotal role in this effort as the frontman in talks and active cooperation with the US security establishment. The security boss assumed a political profile of his own. His demotion from spy chief to presidential advisor for security affairs and eventually his public humiliation as coup plot suspect and inmate was in part the product of plotting by Nafie and co-conspirators. The matter was settled temporarily by the departure of both Taha and Nafie from the immediate orbit of power in December 2013. Taha went home and started a food bank and Nafie carried on a minor role as secretary general of his self-made Council of African Political Parties with headquarters in Khartoum. Out of prison, Gosh became a businessman with an itinerary that featured foremost Dubai. The three men, Nafie, Taha and Gosh, retained their seats in parliament and the first two remained engaged in the NCP kitchen. Significantly, Nafie continued to entertain a coterie of supporters with a literally ‘open door’ policy. His residence became a second Manshiyya as it were. The reference is to Manshiyya, the Khartoum neighbourhood where the late Hassan al-Turabi used to live. A continuous stream of followers, admirers and visitors were a constant presence in the sheikh’s residence as they are today in Nafie’s. 
In any case, Nafie cultivated loyal followers in the NCP, loyal enough as to pursue the idea of naming the former security chief, presidential assistant and deputy NCP chairman for leadership of the party and it follows as its presidential candidate in the 2020 elections. In 2015, Nafie’s ambitions were cut short by Ali Osman Mohamed Taha’s dramatic intervention in a decisive meeting of the ruling party Shura Council. Taha delivered a passionate plea in favour of President Bashir arguing that the president was the only credible guarantor of the alliance between the army officers and Islamist civilians that constitutes the backbone of the regime. President Bashir carried the day with a slim margin of six votes ahead of Nafie Ali Nafie. Today, the NCP seems to be bracing for a replay of the same dynamic in the run up to the 2020 elections. NCP veterans of stature are publicly advocating for a Bashir exit. Even the notoriously complacent speaker of parliament, Ibrahim Ahmed Omer, is tired of Omer but who isn’t? To counteract the unreliable Shura Council, Ali Osman Mohamed Taha and others launched in December 2017 a NCP-extraneous bid to nominate President Bashir in 2020 for another 5 years in office. Taha is apparently the not so discreet hand behind the ‘Initiative for Youth around the President’, a Sisi-style platform to promote the top man. 
Arguably, a critical mass of army officers perceive President Bashir as the custodian of their interests. It is to these men that he reached out on Friday 2 February as a wave of protests against sharp increases in living costs on the background of a free fall of the value of the Sudanese pound, seemed to upset the status quo. President Bashir briefed army officers on the situation in the country and reportedly complained bitterly of his civilian allies blaming them for the current state of affairs. Creative reports claimed the president shed tears as he recalled fallen ‘brothers’, his former deputy al-Zubeir Mohamed Salih and trusted captain Ibrahim Shams Eldin (so trusted that Bashir picked his widow Widad as second wife igniting a salvo of second marriages in the men’s club of the ruling establishment). It is not entirely clear how the officers received Bashir’s emotional appeal. Nobody was allowed to speak. They listened and cheered, it was reported. 
With the economy in disarray and the Sudanese pounds an almost worthless figment of financial imagination, President Bashir was obliged to screen his base of support for warning signs. He attended on 4 February a function of the Popular Defense Forces (PDF) in Khartoum. The mujahideen of old, long eclipsed in force and influence by the faith-deficient but militarily more effective Rapid Support Forces (RSF), were apparently enthused to see their commander in chief. The President asked them to prepare for the longer struggle, economic jihad to increase production and electronic jihad to counter the dominant public opinion against the government online. The President told the mujahideen that he fully trusted his ‘brothers’ in the Islamic Movement and the NCP and that he is not at all concerned with the 2020 elections. Trust aside, the president made it clear how he understands power. Rule is a divine call, he paraphrased the Quran, in his address to the PDF. The precise Quranic verse translates as: “O Allah, Owner of the Kingdom. You give the kingdom to whom You will, and take it away from whom You will, You exalt whom You will and abase whom You will”. The obvious message to Sudanese ears is: I am not going anywhere, inshallah! 
With almost 30 years in his record and counting, Omer al-Bashir is Sudan’s longest serving sovereign since the age of Sennar, a longevity sustained by an ability to delicately calibrate repression, concession and cooptation. As the alliances that have sustained him so long seem to be suffering the strain of impending bankruptcy, Khartoum’s political class is loudly whispering ‘boo..boo…coup’, the favoured technology for the transfer of power for an opportunistic elite. Bashir understands well the industry of coups and hopes to guard himself against innovation. His manoeuvring space is however embarrassingly restricted. Short of trusted partners and money, the President is obliged to reinvent the wheel of his alliances. Ali Osman Mohamed Taha appealed to the bloated presidential ego by championing the cause of Bashir’s reelection in 2020. The gesture did not go unnoticed. On 7 February President Bashir inaugurated a factory for iodised salt in Port Sudan. Ali Osman Taha is the chairman of the board of directors of the mother company that runs the factory, an extension of his Food Bank enterprise. Taha for the first time since his exit from office in 2013 was on camera jovially gesticulating alongside President Bashir. Immediately, Khartoum’s rumour machine sounded the claim that Taha might soon assume the role of prime minister replacing Bakri Hassan Salih who would nevertheless maintain his position as First Vice President.
What has materialised though is the return of Salah Gosh to office, possibly on direct advice from Taha. The spy chief is arguably expected to accomplish missions worthy of “Sartana”: discipline the currency traders of Khartoum, curb the increasing public appetite for protests, bolster the ruling alliance with new partners, find a settlement with the insurgents of South Kordofan and the Blue Nile, manage the RSF and their commander Himeidti more effectively in order to address the army’s concerns in this regard, secure NCP support for Bashir’s 2020 candidacy, address the dispute with Cairo in order to suppress alleged Egyptian machinations towards a Sisi-style change of guard in Khartoum, handle Saudi and Emirati concerns about Khartoum’s trustworthiness, find a formula for accelerating the pace of the Sudanese-US rapprochement currently on ice, or simply put save the day. On his first morning back to work, Salah Gosh joined a committee chaired by President Bashir tasked with implementing measures to control the exchange rate. Whether Gosh can achieve all these tasks and in whose interest is obviously a ‘divine call’ to paraphrase Bashir the fagih but so is the throne!

Thursday, 1 February 2018

بابا قاسم ولا ضير

(1)
تعرَّض البروفسير قاسم بدري لهجمة شرسة من نفر من المثقفين وأصحاب الرأي والمعلقين في وسائط التواصل الاجتماعي، بعد أن انتشر مقطع يظهر فيه هذا المعلم في موضع العنف. صفع البروفيسور طالبة من طالباته في جامعة الأحفاد في جمع منهن، كما يبدو في المقطع، وذلك في ملابسات احتجاج الطالبات على زيادة أسعار المأكولات في بوفيه الجامعة بعد زيادة سعر العيشة أول هذا العام. همت الطالبات، كما ورد في التغطية الصحفية، بالخروج في مظاهرة احتجاجاً على زيادة الأسعار واتجهن نحو بوابة الجامعة. وقف البروفيسور قاسم بدري، كما يبدو، بين الطالبات ومطلبهن ولما رفضن الإذعان أخذهن بالشدة كما يظهر في المقطع المصور. عندما استسهلَ الناس سبّ البروفيسور ورموه بالألقاب من قاموس "انتهاكات حقوق الإنسان" نهضت طالبات من الأحفاد بواجب الاعتذار وسوَّرن مكتبه في حرم الجامعة باللافتات يطلبنَ السماح. أجازت الطالبات  لبروفيسور قاسم ما فعل كونه الأب المعلوم حبه لبناته. زاد هذا الموقف من غضب المعلقين فرموا طالبات الأحفاد بعقدة "ستوكهولم" تفسيراً لقبولهنَّ ما بدر من البروفيسور قاسم بدري. 
(2)
بجانب مشانق الأخلاق الديموقراطية التي نَصَبَها المعلقون للبروفيسور قاسم بدري، وفيهم الأستاذ عادل عبد العاطي، المرشح المرتقب لرئاسة الجمهورية؛ كتبت الأستاذة ولاء صلاح كلمة شَرَحت فيها ما تراه أصلاً للعنف المادي والمعنوي ضد المرأة في جامعة الأحفاد. قالت ولاء إن قضية المرأة -بالنسبة لجامعة الأحفاد- هي في واقع الأمر استراتيجية تسويق، تجد من عبرها الجامعة منفذاً مدراراً للتمويل والرعاية من جهات دولية. قالت ولاء إن جامعة الأحفاد، في نهاية المطاف، شركة عائلية تُحَقِّق أرباحاً وامتيازات وفيرة لآل بدري وعشيرتهم وأصدقائهم من خلال تسويق نفسها كمؤسسة خيرية. انتقدت ولاء، في هذا الباب، توزيع المنح الدراسية في الجامعة فقالت إنه يتم توزيعها عن طريق الواسطات والمحسوبية والعلاقات الأسرية، وأضافت أنها تحولت، بذلك، إلى مشروع صَدَقة جارية. ختمت ولاء صلاح كلمتها ببيان الامتيازات التي يحوز البروفيسور قاسم بدري ووفَّرت له بذلك غطاءً لما فَعَل بحيث لا يستطيع أحد محاسبته، قالت عنه ذَكَر، ثري، صاحب حَسَب ونَسَب من قومٍ لم يقع عليهم ثقل الاسترقاق في سودان القرن التاسع عشر، ونالت أسرته الشهرة وصفَى لها الفضل الاستعماري. في كلمة ناقدة أخرى، قال عمر القراي، وهو حتى آخر عهدي بالأحفاد أستاذ فيها، بعد أن شرح تورط البروفيسور قاسم بدري في العنف، قال إن رئيس الأحفاد يدير الجامعة باعتبارها إقطاعية أسرية، وقال عن الجامعة إنها تنقصها المؤسسية وتغيب عنها الديموقراطية. 
(3)
التمس البروفيسور قاسم من طالباته العذر وانتقد نفسه في رسالة منشورة مؤكداً التزام جامعته قضية المرأة في كل شؤونها. لم يخفف ذلك من وطأة الهجمة عليه، بل ربما زادت حتى انشغل الناس بقضية غيرها، بعضهم بمظاهرة الحزب الشيوعي ومعتقليها والبعض الآخر بهجاء المغنية "ناس دبي ناس سواطة". بعض الناس فضل التمييز بين البروفيسور قاسم بدري والأحفاد فقالوا: (أخرجوه منها وحاكموه)، وبعضهم قال: (ابعثوا الرسائل إلى شركاء الجامعة الدوليين حتى يجف عنها المدد)، والجميع خرج له بلسانٍ طويل. الطريف أن طالبات الأحفاد غبنَ عن هذه المناقشة الحامية. سفَّه المناقشون والمعترضون شفاعتهنَّ للبروفيسور قاسم بدري وردوا قولهنَّ "بابا" على عجلة شديدة إلى "الأبوية" المكروهة!. سفَّهوا كذلك التاريخ الذي نشأت ضمنه الأحفاد، المدارس والجامعة، وقالوا عنها صنعة استعمارية دون تحقُّق، والواقع أنها من الذكاء المضاد للاستعمار ومن شطارة شعبنا في الابتلاء بالحداثة. استقبلت مدارس الأحفاد المناضلين المناوئين للاستعمار طلاباً وأساتذة من لدن التجاني الطيب ومصطفى خوجلي، واحتوت الجامعة المنفيين من الخدمة الميري. فوق ذلك خرج نساء ورجال الأحفاد لبلادهم بجامعة من دون صدأ الاستعمار العنيد، لا تُكبِّل مناهجها ولا مدارسها العباية الاستعمارية وفيها فرصة لمن استطاع أن يجعل من قاعات الدرس منابر للحرية الأكاديمية ومن مدراس الجامعة مواقع للبحث في أولويات محلية. شاهد ذلك منشورات الأحفاد البحثية في مجلّتها الراتبة وفي المجلات المحكمة وكذلك استقرار واستمرار مشاريعها في أكثر من مجال؛ كمثل بحوث البروفيسور معتمد أمين في البلهارسيا والبروفيسورة بلقيس بدري في قضايا المرأة والنوع ونشاط الأحفاد المستمر في قضية الختان.
(4)
الأهم أن الأحفاد -ببعض آل بدري- استقرت كمؤسسة وتطورت حتى بلغت الصيغة التي هي عليها اليوم، وقد خالفت الأستاذة ولاء صلاح الحقيقة بقولها إنها شركة أسرية، رغم الشبهة الظاهرة. الواقع أن الأحفاد نشأت -أول عهدها- باجتماع تبرعات كبار التجار في أم درمان بالدرجة الأولى، وما زالت هذه الصيغة التمويلية "الأهلية" -على غرابتها بالقياس الغربي الذي اتخذته ولاء- فاعلة. الأحفاد اليوم، بخلاف التمويل الأوروبي والأمريكي الظاهر في بعض منشآتها ومشاريعها، تموّلها، عبر التبرعات والهبات، الرأسمالية السودانية. يظهر هذا التمويل السوداني القديم والجديد في مجلس إدارتها الذي يضم ضمن آخرين ممثلين لأسر من صفوة الرأسمالية السودانية وكبار التجار. افترضت الأستاذة ولاء عمى غربي عن حقيقة الأحفاد فقالت إن التمويل يأتيها بسبب نجاعة تسويقها نفسها كمؤسسة خيرية، بينما هي، في الواقع، شركة أسرية. لم يرد في اعتبار الأستاذة ولاء أن هذه التوليفة، إن افترضنا أن الأحفاد فعلاً شركة أسرية، ربما هي التي تجذب الممولين الغربيين لا بلاهتهم!. علة ذلك، ربما، أن الأحفاد، بخلاف هيئات أخرى نشأت على يد أنصار الديموقراطية الذين هبّوا في وجه البروفيسور قاسم بدري؛ نجحت في أن تستمر في العمل وتتطور وأصبحت محلاً للثقة، بما في ذلك الثقة المالية. لم تتدهور إلى دوائر متنازعة ولم يفسد التمويل الغربي ذمتها. لو نَظَرت ولاء حولها لرأت أكثر من هيئة وجهة تحمل لافتة "منظمة مجتمع مدني" أو "منظمة غير حكومية"، لم يدم يومها لغدها، ليس بسبب الشدة الحكومية فقط، وبعض ذلك واقع على الأحفاد، لكن بسبب فشل أصحابها في إدارتها وصراعهم على الغنائم. من ذلك ما عرضه متنازعون في شاشات التلفزيون وفي مانشيتات الصحف، كلٌّ يكيل لرفيقه من العيار الثقيل. 
(5)
افتخر المرحوم عبد الخالق محجوب بالحزب الشيوعي فقال "نشأت في وسط أبناء الزبير باشا منظمة تقدمية حديثة". مفخرة الحزب الشيوعي كانت أنه اخترع رابطةً سوى العرق والدين تربط الكادحين بعضهم ببعض. لا ينطبق هذا التقدير كما هو على الأحفاد، فليس من بين أهدافها نصرة المستصعفين بذراعٍ سياسيّ، لكن يصحّ منه أن في الأحفاد استجابة وطنية لابتلاء الحداثة بصيغة منظمة وجماعية، وفيها جذر تقدمي لا يمكن إنكاره ولا يجوز تبخيسه، هكذا بدون إحكام القياس. ما المستفاد من يوم ١٢ يناير في الأحفاد إذن؟ بطبيعة الحال ليست الأحفاد بمعزل عن النقد، والواجب نصرتها بالنقد الفعَّال بما في ذلك نقد الروح الأبوية التي تَسِمُ علاقة إدارة الجامعة بطالباتها. الأحفاد التي تغذّي، منهجياً، روح الاستقلال في طالباتها تحصد هذا الغرس في صورة تمرّد الطالبات على البالي من تقاليدها حتى اعتذرَ لهنُّ رئيس الجامعة. واقع الأمر أن التغييرات التي طرأت على الجامعة، من حيث التوسّع في القبول والتعدد في المدارس، تفرض، بالضرورة، تحوُّلات في الإدارة ومناهج التدريس، وكذلك صيغ التمويل تتجاوز ما كان متعارف عليه في الأحفاد المدرسة الثانوية أو الأحفاد الكلية الجامعية. اختبار الأحفاد المعاصر هو ما إذا كان باستطاعتها أن تستجيب لهذه التحولات كما فعلت رداً على تحوّلات سبقتها، وطالباتها، كما هو بيِّن من مقطع الأب قاسم وبناته، هنَّ في ريادة هذه التغييرات بوعيٍّ منهنُّ وبإرادة، لسنَ محض ضحايا ولسن قاصرات يصارعنه ويصرعنه ويعتذرن ويعتذر. 

 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.