اختصرت الأستاذة هالة الكارب في كلمة احتجاجية من العام ٢٠٠٧ هذا الصراع في جملة قضايا تتصل ببعضها. كتبت الأستاذة هالة أن فاطمة هي صنيعة الذكورية السودانية لم تجابه هذه السلطة بصورة ثورية بل دجنت الحركة النسوية في حدود التقاليد المرعية لعرب السودان المسلمين. من ثم، خلصت هالة إلى أن منجزات الاتحاد النسائي تحت قيادة فاطمة لم تتحقق بدفع ثوري من الاتحاد بل كهبة من السياسيين اليساريين والليبراليين في ستينات القرن الماضي الذين استشعروا ضرورة هذه التغييرات ووجدوا في الاتحاد النسائي شريكا طيعا. بحسب هالة لم يسع الاتحاد النسائي نساء السودان بتنوعهن الإثني والديني وكان في أحسن أحواله واجهة لسيدات الوسط النيلي المحتشمات. استهجنت هالة في كلمتها طهرانية فاطمة وتشديدها على السلوك المحافظ، الأمر الذي انسحب بدوره على الاتحاد النسائي، وأضافت أن فاطمة اتخذت من السلوكيات الشخصية مادة للتصدي للخصوم. خلاف ما جاءت به هالة، أخذت نسويات أخريات على الاتحاد النسائي في عهد أفوله إهماله للقضايا النسوية المباشرة وانشغاله بالصراع السياسي في حلف الحزب الشيوعي.
خلاصة هذه الانتقادات أن الاتحاد على خطة فاطمة كان ناقص النسوية أو عديمها بالكلية ساهم في تعزيز الذكورية وتأكيد سيادة القيم التي تفرضها على النساء بدلا عن مقاومتها كما عجز عن تجاوز الحجاب العرقي والطبقي الذي يفصل بين سيدات الوسط النيلي المحتشمات وبين نساء السودان من قوميات أخرى. إذا صحت هذه التقديرات يصح أيضا التساؤل عن نجاعة الخطة أو الخطط البديلة التي انتهجتها النسويات السودانيات للتصدي لقضايا النساء ما بعد فاطمة، أي دروب سلكن وماذا كان كسبهن حيث تقاصر طريق فاطمة؟ لا يمكن الإحاطة بهذه الأسئلة بغير شغل ميداني لذا ستقتصر المناقشة فيمايلي علي تجويدها وترتيب سياقها.
ميزت البروفسورة بلقيس بدري في مسحها لصيغ النسوية في السودان (٢٠٠٦) بين أربع تشكيلات، أولها النسوية الأكاديمية وهذه في تقديرها مشغولة بضخ معارف نقدية نسوية في المجال العام، تطور من موقعها الجامعي أطرا أو أدوات نظرية لتحليل علاقات القوى الجندرية تاريخا وحاضرا وتدفع بهذه المعارف للناشطات النسويات في المجتمع المدني ومنظماته. هؤلاء يمثلن في تقدير البروفسورة بدري التشكيلة الثانية وتتجلى فيهن بعبارتها ”حيوية المجتمع المدني بجميع تناقضاته وصراعاته“. أما التشكيلة الثالثة فتشمل النسويات في هيئات اتخاذ القرار في الحكومة والأمم المتحدة والمنظمات الدولية والرابعة تضم الأفراد، نساء ورجالا، من الحريصات على ترجمة النسوية إلى تحولات في حياتهن الشخصية والأسرية.
تعود البروفسورة بدري في موقع آخر من مسحها لتفرق على مستوى المجتمع المدني بين النسويات الإسلاميات والعلمانيات. بخصوص المجموعة الأولى تقترح البروفسورة بدري تصنيفا آيديولوجيا بين الإسلاميات المناصرات للحكم القائم اللواتي يقدمن قضايا تمكين النساء في المجال العام على قضايا التمييز ضد المرأة في المجال الأسري والخاص متفادين بذلك أي تصادم مع العقائد الذكورية ذات المشروعية الدينية وبين السلفيات المعاديات للنسوية علي إطلاقها وبين صف ثالث من الإسلاميات يعتقدن في وجود فرصة لإعادة تفسير المقولات العقدية لفض الاشتباك بين الإسلام كدين والنسوية المعاصرة. فضلت البروفسورة بدري في وصفها مجموعة النسويات العلمانيات على سواها فهي في تقديرها تضم نساء ورجالا وتتسع لتشمل نسويات في أنحاء البلاد تجمع بينهن خطة للتحرر على أساس الأجندة النسوية الدولية أي مواثيق الأمم المتحدة ومقترحات المؤتمرات النسوية الدولية، وهذه في تقييمهن خلاصة تراث كوني وليست بالضرورة ”غربية“ المنشأ.
اعتمدت البروفسورة بدري في مسحها الشارة الآيديولوجية، علماني وإسلامي، لتصنيف التيارات النسوية مع تقرير تراتب بين صف أعلى أكاديمي مهمته التنظير وصف حركي مهمته التنفيذ لكن ذكرت في معرض وصفها أن النسويات، إسلاميات وعلمانيات على السواء، يمثلن صفوة الطبقات الاجتماعية العليا والوسطى دون إسهاب في دلالة هذا الموقع الاجتماعي على تصور الحركة النسوية لنفسها ولمجالات نشاطها ولأهدافها. تعود مقولة حركتين نسويتين، علمانية وإسلامية، إلى مقارنة سوندرا هيل بين الاتحاد النسائي، التي عدته فرع مرأة في الحزب الشيوعي وبين نساء التيار الإسلامي. حكمت هيل على الإثنين بنقص النسوية وقالت كل أهدر سؤال المرأة بطريقته، الأول بإخضاعه تحرير المرأة لأولوية الصراع السياسي والثاني بتصوير المرأة آيقونة ثقافية، هذا بينما قبلت بنسوية الإسلاميات فرادى. علقت هيل على جاذبية وعد تحرير المرأة من موقع إسلامي وجاءت مستحسنة برأي المرحوم حسن الترابي أن اضطهاد المرأة خصيصة للذكورية العربية ولا شأن للإسلام بها على لسانه وعلى لسان سيدات من الصف الإسلامي قالت بصفاء نسويتهن ولو إسلامية. أجرت هيل مقابلاتها مع وصال المهدي وسعاد الفاتح في ١٩٨٨، قامت منذها للإسلاميين والإسلاميات دولة وسقطت. في المقابل، انحبست النسوية العلمانية كما في تقرير البروفسورة بدري في لعب دور الوكيل المحلي لبيروقراطية نسوية دولية موقعها مكاتب الأمم المتحدة.
عابت الأستاذة هالة الكارب على فاطمة الحساسية الثقافية التي أصبحت في صيغة هجومية موردا للنسوية الإسلامية تفوقت به على منافستها العلمانية، إن كانت على خطة فاطمة أو على خطة البروفسورة بلقيس بدري. فوق ذلك، مثل وعد التحرير على ”سنة الله ورسوله“ معبر النسوية الإسلامية لاختراق الأرياف المسلمة حيث تضئ تقدمية الشريعة بإزاء رجعية الأعراف الأهلية. لم تتدارك التيارات النسوية العلمانية ما بعد فاطمة هذه التناقضات من موقع إيجابي مشغول بتوطين ثقافي لتحرير المرأة أو تحرير المرأة وتحرير الثقافة معا وكان أغلب جهدها حقوقي الطابع يترصد مواقع التعارض بين الشريعة كقانون مطبق في السودان وبين المواثيق والشرائع الدولية. أعمت هذه النظرة الحقوقية النسويات ما بعد فاطمة عن تناقض حيوي في صلب التصور الإسلامي للمرأة. كتبت مي غصوب في ١٩٨٧: ”بصورة من الصور لم يقلل الإسلام من شأن المرأة على الإطلاق بينما يفضح التراث الإسلامي رهابا من المرأة ومن قوة رغباتها ومطالبها وقدراتها“.
نفت غصوب عن الإسلام الصيغة المسيحية لدونية المرأة وقالت اعتبرها ”فتنة“، جميلة آسرة نافرة وثائرة، ومن ثم جند التراث الإسلامي الموارد الذكورية للسيطرة عليها. ردت غصوب الفكرة الإسلامية عن المرأة ككائن نشط اجتماعيا وجنسيا إلى أصل في مجتمعات العرب البدوية ما قبل الإسلام وقالت ورث هذه الفكرة وأعاد تركيبها فمن ناحية أقر بحق المرأة في إدارة شؤونها الاقتصادية باستقلال واعترف بملكيتها كما أجاز فعالية رغباتها في تصوره للجنس ومن ناحية أخرى أطبق على المرأة بقواعد الحجاب والفصل بين الجنسين بسبب التهديد الذي تمثله هذه الحيوية لأمن الرجال.نقلت غصوب عن فاطمة المرنيسي أن الإسلام لا يعتمد فرضية دونية المرأة بل على العكس يقر إمكانية المساواة بين الجنسين. بذا فأن عدم المساواة المعاش في المجتمعات المسلمة لا يقوم على تصور بيولوجي أو آيديولوجي لدونية المرأة بل هو نتاج مؤسسات اجتماعية قامت للجم قوتها. تخلص غصوب مع المرنيسي إلى أن العقيدة في إمكانيات النساء حسب التصور الإسلامي تعد بتطور العلاقات بين النساء والرجال في السياقات الإسلامية في اتجاهات مختلفة جدا عن السياق الغربي. يتردد طرف من هذه المعاني في صيغ أخرى عند االنسويات الإسلاميات. ترد وصال المهدي على سبيل المثال مظالم المرأة المسلمة في السودان إلى تصورات ذكورية عربية عن المرأة وليست بالضرورة إسلامية وتقول إحسان الغبشاوي أن الفقهاء الرجال هم من فسروا النصوص الدينية بما يوافق هواهم.
كما اغتربت النسوية العلمانية عن هذه الموارد الثقافية لنصرة المرأة منعها الانشغال بالصراع الحقوقي ضد الإسلاميين ودولتهم عن النفاذ إلى الجوهر العلماني في التجربة الإسلامية. جر الإسلاميون الدين إلى الحلبة السياسية معتقدين أن الدين سيضمن صلاح السياسة بينما كانت النتيجة إخضاع الدين لصراع القوى التقليدي في المجال السياسي وإفراغ المجال الديني وقت تطابق مع قوة السلطان من محتواه كمقاطعة للمعاني الروحية وملجأ من المظالم الاجتماعية ومنبر للاحتجاج. بذلك تتواضع فعالية التمييز الذي اعتمدته كل من هيل وبدري بين النسوية العلمانية وقرينتها الإسلامية فهو يصلح لرسم حدود الصراع السياسي لكن تتضاءل كفاءته متى استقام السؤال عن تحرر المرأة وليس فقط مصالح سيدات الوسط النيلي المحتشمات كما في تبكيت هالة الكارب على فاطمة.
إلى ذلك، يثير التقسيم بين علماني وإسلامي غبارا كثيفا يطمس الوحدة الطبقية بين الإثنين، وهذا مما جاءت به ليف تونيسون التي عابت على الطرفين التلاعن بالنصوص، ومثلت لذلك بالصراع حول المصادقة على ”اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة“ المعروفة اختصارا باتفاقية ”سيداو“. بشرت النسوية العلمانية بالاتفاقية باعتبارها استحقاقا كونيا ورفضتها النسوية الإسلامية من موقع النسبية الثقافية مشيرة بدلا منها إلى النصوص الإسلامية التي تعلي من شأن المرأة، وفي كل غاب التحليل الملموس للواقع الملموس بعبارة لينين. شرحت رجاء حسن خليفة لتونسون مفهوم القوامة في الإسلام كما تراه بمثال من موقعها الاجتماعي. قالت: بواب هذا المبنى - تقصد مقر الاتحاد العام للمرأة السودانية - مسؤول ماليا عن زوجته وأسرته لكني هنا المسؤولة، أنا في قمة الهرم وعليه أن يقوم بفعل كل ما أقرره عليه. تصور النسويات الإسلاميات هذا التناقض بين المساواة أمام القانون في المجال العام والقوامة وحق النفقة في المجال الأسري باعتباره ميزة إيجابية للمرأة المسلمة فالمرأة المسلمة يمكن نظريا أن تتسنم المنصب الأعلى في الدولة لكن زوجها يظل مسؤولا عنها ماليا في المجال الأسري. لا تكتسب هذه الميزة معنى يذكر سوى في حيوات ”بنات الناس“ من سيدات الطبقات العليا والوسطى المحتشمات. كانت رجاء تنظر إلى عقدة القوامة والنفقة من نافذة عليا في مبنى خرطومي متعدد الطوابق وغابت عن ناظرها حيوات النساء العاملات في السودان الزراعي الرعوي بل وتقرحات الحياة الحضرية حيث النفقة مادة للصراع القضائي ضد أزواج هاربين.
من جهة آخرى، لم تسعف الوثائق الدولية على حسن صياغتها وشمول معانيها النسوية العلمانية كثيرا في مجابهة القضايا التي قالت هالة الكارب أن الاتحاد النسائي على خطة فاطمة لم يتسع لها. انتقدت هالة الكارب جغرافية الاتحاد النسائي على خطة فاطمة وقالت ضاقت بتنوع نساء السودان وتعددهن. لكن لم تجترح القوى النسوية التي خلفت اتحاد فاطمة خطة لتجاوز الحواجز العرقية والدينية والثقافية التي قعدت بصاحبات الثياب البيض في الاتحاد النسائي واستمر حرثها في دوائر ”الوعي“ من الطبقات الوسطى والعليا. بطبيعة الحال، سعت هذه القوى إلى تجنيد سيدات من ”الهامش“ لكن ظل نشاطهن في الحلقات النسوية الخرطومية في مقام الاستثناء الذي يثبت القاعدة. علة ذلك ربما أن هذه الحلقات تعسر عليها النمو المحلي بما يفوق لعب دور الوكيل لنسوية دولية عابرة للقارات منجزاتها سلسلة من المؤتمرات الدولية والوثائق وأوراق العمل الأكاديمية وشبه الأكاديمية والحملات الدولية بحيث يتطلب الاندراج فيها مقدرات لغوية وعملية ومهنية لا تتأتى لمن تكابد من أجل الفوز بالنفقة في محكمة ريفية.
بين هذه النسوية الدولية وبين النساء واقعا أو في لغو المجتمع المدني ال(grassroots) ساحات من الصراع التحرري ولجنها النساء بالمبادرة الفردية وصيغ التضامن المحلية بلا وثيقة. لكن، أليست مهمة النسوية الأكاديمية، كما تقول البروفسورة بدري، الفكر، والممارسة محلها المنظمات النسوية المنبثة في المجتمع المدني؟ لا يعفي تقسيم العمل المقترح هذا عن التساؤل حول نجاعة الممارسة النسوية في صيغها الجديدة، منظمة ومركز دراسات ومبادرة، بل ربما يعضد أهمية هذا التساؤل ما دامت تفرغت صفوة نسوية أكاديمية لتحصن الممارسة بالفكر والتخطيط. هل انغرست للنسوية الجديدة جذور ”شعبية“ وتحققت للنساء السودانيات بتنوعن وتعددهن كما في دعوة الأستاذة هالة الكارب شوكة ترد عنهن مظالم التمييز وتحقق لهن المساواة في المجالين العام والخاص؟ هل غذت هذه الممارسة النسوية نضالات النساء بصيغ فعالة من التنظيم والعمل؟ هل استطاعت هذه الممارسة أن تحتل جغرافية ممتدة للتضامن تفوق حصرية سيدات الوسط النيلي من الطبقات الوسطى والعليا؟ أم بالجهة المقابلة استحالت إلى أجهزة إرسال واستقبال لبيروقراطية نسوية دولية، فروع عن أصل مهمتها في أفضل الأحوال المرابطة عند المساحة بين الدولة ومواطناتها في انتظار جناية حقوقية تلو الأخرى؟ كيف ولما غاب عنها الجوهر الطبقي لهذه المظالم وما يتصل بها من تحولات في هيكل الاقتصاد السياسي الناشب بأظفاره في أجساد النساء اللواتي أجبن بعبارة ”يا ريت“ عندما سئلن عن القوامة والنفقة؟
استفدت في هذه الكلمة من:
- Balghis Badri (2006) Feminist Perspectives in Sudan, Free University Berlin.
- Sondra Hale (1997) Ideology and Identity: Islamism, Gender and the State in Sudan in Judy Brink and Joan Mencher (eds.) Mixed Blessings: Gender and Religious Fundamentalisms Cross Culturally, Routledge, London.
- Balghis Badri (n.d.) Sudanese Women and Sharia Law, Ahfad University for Women.
- Ruediger Seesemann (2005) Islamism and the Paradox of Secularization: The Case of Islamist Ideas on Women in the Sudan, Sociologus 55.
- Carolyn Fluehr-Lobban (1987) Islamic Law and Society in the Sudan, Frank Cass, London.
- Mai Ghoussoub (1987) Feminism-or the eternal masculine-in the Arab world, New Left Review 161.
- Fatima Mernissi (1975) Beyond the Veil: Male-Female Dynamics in Muslim Societies, Schenkman, Cambridge, Massachusetts.
- Liv Tønnessen (2011) Feminist Interlegalities and Gender Justice in Sudan: the Debate on CEDAW and Islam, Religion and Human Rights 6.
- Salma Ahmed Nageeb (2004) New Spaces and Old Frontiers: Women, Social Space and Islamization in Sudan, Lexington Books, Oxford.
- Amal Hassan Fadlalla (2011) State of Vulnerability and Humanitarian Visibility on the Verge of Sudan’s Secession: Lubna’s Pants and the Transnational Politics of Rights and Dissent, Signs 37.
- محمد ابراهيم نقد، المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول إلى شاهد زور، البيان الإماراتية ١٤ مايو ٢٠٠٣.