Friday, 30 August 2019

يا جركانة الموية: وجعلنا من الماء كل شئ حي

ابتدر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عهده بتصريح عن فجوة السودان المالية. قال رئيس الوزراء في مقابلة مع وكالة رويترز للأنباء أن البلاد بحاجة إلى ٨ مليارات دولار لتغطية حساب الواردات ووقف تدهور العملة خلال الأعوام الثلاثة القادمة و٢ مليار خلال الثلاثة أشهر المقبلة. كان الأستاذ فيصل محمد صالح قدم رئيس الوزراء الجديد للجمهور في مقابلة تلفزيونية دامت ساعة وبثتها قنوات التلفزة السودانية وبعض العربية يوم ٢٤ أغسطس الجاري. أفصح رئيس الوزراء عن كثير مما عن له من مصاعب الاقتصاد ومعضلاته لكن قليل عن الوسائل المتاحة لديه أو التي ينوي التصدي بها لهذه المعضلات. قال رئيس الوزراء نريد أن يتحول الاقتصاد السوداني من اقتصاد استهلاكي قائم على التوريد إلى اقتصاد إنتاجي، نريد أن يتوقف صادر المواد الأولية من الثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية ونريد استبداله بالسلع المصنعة. تحدث رئيس الوزراء عن الاقتصاد وصمت عن الاقتصاد السياسي المحيط بهذه الحقائق، صمت عن القوى الاجتماعية ذات المصلحة في تصدير المواد الأولية وموقعها من جهاز الدولة والعلاقات التي تربطها بالسلطة التنفيذية الجديدة وعن القوى الاجتماعية التي من مصلحتها التحول عن هذه الصيغة. 
صمت رئيس الوزراء كذلك، أو لم يسأله فيصل محمد صالح بما يكفي من التشديد، عن طبيعة ومقومات وحدود المساومة التي أوصلته إلى مقعد رئاسة الوزراء ومقتضيات التناقض بين الجهاز القسري للدولة، مثلث الجيش والأمن والمليشيا من جهة، وبين السلطة التنفيذية المدنية قيد التكوين من جهة أخرى، وكذلك عن التناقضات داخل كل من هذين الكتلتين. ربما جاز في هذا الخصوص الإحالة إلى النصوص الحاكمة للعلاقة بين اللجنة الأمنية التي تولت السلطة في انقلاب ١١ أبريل وقوى الحرية التغيير، أي الإعلانين السياسي والدستوري. لكن توفرت في تاريخنا الممتد والقريب ما يكفي من الشواهد على ثمالة النص في مقابل نصاح الوقائع حتى ندرك أن أي نص سياسي مهما بلغ حسنه، ودوننا اتفاقية السلام الشامل بتفاصيلها التي تخزي الشيطان، هو انعكاس لتوازن القوى في ساعة انعقاده، وتنفيذه من عدمه رهين بذبذبات أو تقلبات هذا التوازن وما يواتي أطرافه وما تفرضه المساومة المستمرة بينهما. فالتفاوض لا ينتهي بتوقيع الاتفاقيات وإنما يستمر كصيغة من العمل السياسي بين المتعاقدين وجمهورهما، بل قد تنسف تحولات في ميزان القوى أي اتفاق كان. 
تحدث رئيس الوزراء حمدوك بإعجاب عن نموذج "الدولة التنموية"، والعائد في تخريجه القريب إلى المرحوم الرئيس ملس زناوي في أثيوبيا بعد عهد اللجنة (الدرج). ما صمت عنه رئيس الوزراء أن نموذجا كالذي قام في أثيوبيا وتحققت بفضله معدلات نمو مذهلة يشترط بنص وممارسة الرئيس زناوي جهاز دولة مركزي قوي اليد تحت سلطة قوة سياسية مهيمنة على مدى طويل ويستطيع بموجب هذه السلطة وبقوتها السيطرة على الريوع الاقتصادية، أي الفوائض الناجمة عن أصول اقتصادية (أرض، رأس مال، قوة عمل، موارد طبيعية) بما يفوق ما هو ضروري اجتماعيا واقتصاديا، وكف يد المضاربين عن النشاط الريعي، ثم توجيهها لصالح أجندتها التنموية. لم يفصل رئيس الوزراء، ولم يلح عليه فيصل محمد صالح ليفعل، عن كيف سيتسنى لإدارته الانتقالية، بعمرها المحدود بثلاثة أعوام وثلاثة أشهر، والتي لا حول لها حتى الآن على الجهاز القسري للدولة وميزانياته وأصوله ولا ولاية انتخابية لها تحفظ لها الهيمنة، أن تقوم بمهام مثل التي يتطلب النموذج التنموي الأثيوبي. كما لم يذكر رئيس الوزراء على الإطلاق ما حكمه على الجمرة التسلطية في كل عقيدة تنموية، كان ذلك أثيوبيا زناوي أو رواندا كاغامي أو حتى سنغافورة لي كوان يو أو كوريا الجنوبية بارك جونغ-هي بل أم التنمية، كما في عبارة الاعتصام، الصين الشعبية. وهذه جمرة وصفها كاتب متعاطف حصيف العبارة بأنها تمثل "نظام سياسي مقيد لكنه شامل" وما حبذ الكاتب "شمولي". ضرورة هذه القبضة التسلطية عند المرحوم ملس زناوي هي منع انحراف الريوع الاقتصادية إلى تمويل شبكات المحسوبية السياسية. 
اختصر الفريق أول محمد حمدان دقلو المأزق الماثل في المساومة الراهنه بعبارة سهلة ممتنعة صرح بها أمام جمع حاشد بعد أيام قليلة من انقلاب ١١ أبريل. قال الفريق محمد حمدان يحض الجمهور على ولاء الدعم السريع أن "التنمية نوعان، تنمية الدولة وتنمية الدعم السريع". سخر مراقبون من عبارة الفريق محمد حمدان، باعتبارها بعض من عقله الرعوي المزعوم، لكنها تشخيص ليس مثله لازدواج السلطة الراهن. أمام رئيس وزراء معضلة بينة، وهي أن جانب عظيم من الريوع الاقتصادية التي لا بد منها لتمويل "الدولة التنموية" التي زكاها طريقا اليوم بيد خصومه، أو قل شركائه بروح اتفاق كورنثيا، في القصر. اشتعلت في رأس رئيس الوزراء أفكارا ربما لم يفصح عنها جميعا ونال حسن ظن المجتمع الدولي وربما البنك والصندوق الدوليين لكن بيد حميدتي وحلقة الضباط من حوله وشبكة رجال الأعمال التي يتوسطها الجيوب المربحة في الاقتصاد، تجارة العنف بالدرجة الأولى، والتهريب العابر للحدود وتعدين الذهب وصادر الماشية. 
برزت حدود سلطة رئيس الوزراء وهو يتحدث في التلفزيونات بالدولة التنموية في النزاع الدموي الذي وقع في بورتسودان بين فئتين من المساكين علي حدود الإثنية، النوبة والبني عامر، حيث ارتفعت أصوات متهمة القوى الأمنية بمحاباة طرف على حساب الآخر والدماء تسيل. قال البوليس أن ١٦ شخص على الأقل سقطوا في دورة النزاع الأخيرة وقدر تجمع المهنيين العدد بضعف ذلك أو يزيد. أصدر مجلس السيادة برئاسة الفريق أول البرهان قرارا بفرض حالة الطوارئ في المدينة، القرار الذي يجب بحسب الإعلان الدستوري أن يصادق عليه برلمان لما ينعقد بعد، كما أعلن إقالة الوالي ومدير الأمن في الولاية. اتهم متحدث باسم المجلس جهات داخلية وخارجية لم يسمها بالتدخل و"تحميش" النزاع والعمل على توسيع خارطته، لكن صمت عن أسبابه ودوافعه إلا ربما "العين". 
بحسب الأخبار المبتورة من المدينة تعود الأسباب المباشرة للنزاع إلى خصومة مزمنة على أرض سكنية. ثارت هذه الخصومة في يونيو الماضي لتحصد أرواح الثلاثين أو يزيد. وقتها قيل أن قوات الدعم السريع زادت من وتيرة العسكرة بتجنيدها شباب البني عامر. مثل نزاع بورتسودان امتدادا لأحداث مشابهة وقعت في كسلا وخشم القربة وفي القضارف خلال الأشهر القليلة الماضية وتاريخ طويل من النزاع الاجتماعي يعود بعضه إلى ستينات القرن الماضي من ضمن تاريخه القريب مظالم ومظالم مضادة ما كان منها في سياق النزاع بين المهربين (وفيهم من البني عامر) والبوليس (وفيهم من النوبة) في كسلا في سبتمبر ٢٠١١ وفي القضارف في نوفمبر ٢٠١١ وكذلك نزاعات حول حيازات تعدين في ولاية القضارف في يوليو ٢٠١٣، سقط في جميعها قتلى بنار الدولة. 
استعجلت قيادات من الحرية والتغيير تعميد النزاع في بورتسودان كما جرى في القضارف نزاعا قبليا واتهمت عناصر غامضة من دولة البشير بتأجيجه ضمن خطة للثورة المضادة، وربما صح زعمها، ثم جددت الدعوة إلى الوحدة الوطنية عبر وساطة يقوم عليها زعماء من الإدارة الأهلية. لكن خارت الوساطة واستمر النزاع حتى دخلت وحدات من الدعم السريع بورتسودان دخول الفاتحين تبشر بهم أصوات زعماء الإدارة الأهلية من البني عامر. لكن، أليست وقائع بورتسودان والقضارف وكسلا، على الأقل ما بلغ منها الإعلام لدمويتها، بعض أعراض مزيج متفجر من تدهور الاقتصادي الريفي، حيث بز التهريب الإنتاج الزراعي ربحية في أقاليم السودان الحدودية، ومرافقه الإفقار الحضري لقوى عمل عاطلة عن الإنتاج ضاقت بها الأرياف الواسعة وازدحمت بها الحواضر دونما بنية تحتية لموجبات البقاء أو وقاية اجتماعية.  
كانت فاتحة العنف في القضارف في مايو ٢٠١٩ بحسب النقل الصحفي مجابهة يومية بين سيدة من النوبة وبائع مياه من البني عامر حول سعر الجركانة، أي مجابهة في السوق حول هامش الربح. استقرت مجموعات من المواطنين النوبة في حزام الزراعة الآلية وقلبه القضارف كعمالة موسمية التشغيل دائمة الوجود وهو انتقال مركب، مكاني وثقافي واقتصادي، من موقع الفلاحة صاحبة الأرض الأصيلة الساكنة في لغة وثقافة موروثة وعالم فيزيائي وروحي متسق المعاني إلى موقع بائعة العمل في سوق الله أكبر منزوع المعنى سوى ما كان نقدا في غربة عن الأرض وعن وسائل الإنتاج وعن الجغرافية والثقافة. في هذا العالم منزوع البركة يجابه النوبة والبني عامر الاقتصاد النقدي كل على طريقته ووفق شروط لم يختارها أي منهم وفرضتها وقائع سابقة لوجودهم الفردي، أورطة البوليس وفريق التهريب وعصابة السطو والعمل الزراعي الموسمي ومالك الأرض الزراعية وسوى ذلك. تصديق كل ذلك ما صدر قبل أيام عن ممثلين لمزارعين في القضارف وسنار اشتكوا مر الشكوى من عجز البنك الزراعي عن تمويل "الكديب" كثيف العمالة. لا غرو إذن أن فاق سعر جركانة الماء في سوق القضارف قدرة سيدة من النوبة على الشراء، قضت في نزاع على هامش الربح وليس في صراع قبلي.

Thursday, 1 August 2019

يا جيش: أرفع يدك فوق التفتيش بالذوق

أثار انتكاس انقلاب الفريق هاشم عبد المطلب، رئيس الأركان المشتركة وهو القيم على القوات المسلحة بحكم منصبه، ردود أفعال شتى وافقت في أغلبها الرواية الرسمية للمجلس العسكري، أن الانقلاب من تدبير طرف من الحركة الإسلامية يهدف إلى استعادة توازن القوى السابق لانقلاب اللجنة الأمنية في ١١ أبريل على عمر البشير تحت ضغط القوى الجماهيرية. لذا استقبل قسط من الرأي العام خبر الانقلاب الفاشل باشمئزاز مبرر، فقدر البعض أن الانقلاب يدخل في باب سياسة "أبو القدح بيعرف محل يعضي أخو" والخير الذي ساقه الله ما دامت تداعياته الاعتقالات التي طالت قيادات عسكرية وأخرى من راية الحركة الإسلامية. طغت في كل حال المغصة المزمنة مع "الكيزان" وسارع المجلس العسكري إلى التسويق لهذه الرواية لأمر في نفسه وهو المتهم كذلك بمهادنة الإسلاميين، فبطش المجلس بالإسلاميين بالقوة العارية صار له شهادة تزكية ومدخل للقبول الشعبي وهو الوالغ في دم الثوار حتى قال بعضهم أن نصرة قائد المليشيا حميدتي في هذه الواقعة فطنة سياسية ما دام العدو مشترك. جاء آخرون بعقيدة المراحل فحلف اليوم مع حميدتي تبرره المصلحة المشتركة في كسر شوكة الإسلاميين ومتى جاء الغد الخالي منهم تيسر هزيمة الأخير بضربة أخرى للثورة وماشين في السكة نمد. اختصرت هذا الاشمئزاز الدكتورة مروة بابكر بجمع مدردم الجيش والأمن والمليشيا والإسلاميين في ليمون واحد عمدته "الجنجكوز" وكفى. 
في هذا السياق لم يفز الفريق هاشم بأذن تسمع مقاله وأحرجته ستارة الماركازيت شبه الشفافة المعلقة على الشباك خلف مقعده وضوء عمود النور الأصفر الذي تسرب عبرها أكثر. خاب معاونو هاشم في صناعة الصورة في عصر المشهدية هذا وقد صارت مقياسا للفضل لا العبارة. برر هاشم انقلابه بتلكؤ المجلس العسكري برئاسة زميله عبد الفتاح البرهان في تحقيق أجندة ثورة ديسمبر التي انحازت إليها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وفق ما جاء في بيانه. ووعد بتصحيح هذا المسار الذي كاد يعصف بالسلم الاجتماعي في عبارته بخطوات تبدأ بتولي القوات المسلحة مقاليد الحكم وحل المجلس العسكري الانتقالي برئاسة البرهان وتكوين عسكري انتقالي جديد يحل مكانه ومجلس تشريعي يضم حكماء البلاد وشباب الثورة يشاركه الحكم عدا "مكون النظام البائد". وعد هاشم بحل المؤتمر الوطني وأيلولة دوره وماله لجهاز الدولة وأعلن في فقرة منفصلة "لا إقصاء أو عزل سياسي أو فكري أو عقائدي أو إثني لأحد إلا ما تقتضيه إجراءات العدالة والمصلحة العليا للوطن" كما وعد ضمن قائمة طويلة مأخوذة من الخير والإيمان السياسي بإعادة هيكلة جهاز الأمن الوطني والمخابرات ومراجعة كافة القوانين المقيدة للحريات بما في ذلك قانون الجهاز وتحقيق السلام مع الحركات المسلحة وإرساء دعائم الدولة المدنية وتحقيق التنمية المتوازنة إلى آخر القائمة التي طابقت أدب معارضة الإنقاذ من لدن مواثيق أسمره. غابت عن القائمة الورعة مقاصد الشريعة والذي منه، مفاهيم أطاحت بها ممارسة الحركة الإسلامية مبنى ومعنى وصارت في الوعي العام صنو الفساد والاستبداد الذي يقع وزره على "الكوز" في أي عباءة جاء. 
سربت قوى الحكم للرأي العام مشهدا من مساءلة دارت بين الفريق هاشم ومحقق محجوب الصورة، عرف الناس من صوته أنا غالبا قائد المليشيا حميدتي، في مكتب الأول كما يبدو. حلل الفريق هاشم بالقسم الغليظ قيادات في الحركة الإسلامية من مسؤولية الانقلاب وذكر منهم علي كرتي والزبير محمد الحسن ونافع علي نافع. قال بلغهم خبر الانقلاب و"ضربوا لي" يصرفونني عنه لخطره والدم الذي قد يسيل من جراءه. قال هاشم عن نفسه في التسريب أنه "حالف" حركة إسلامية منذ أن كان ملازما، وانتهى ما لزم الجمهور هنا من المقابلة. لم يشرح المجلس العسكري للرأي العام كيف أتيح لمن هم في حبس كوبر الإلمام ببواطن الصراع في الثكنات ثم الاتصال برموزه لإثنائهم عن سكة المغامرة الخطرة. تصب كل هذه الدلائل المنتقاة في التفسير الكيزاني للتاريخ فالصراعات داخل الجيش والأجهزة الأمنية بهذا التقدير استمرار لديالكتيك الرئيس والحبيس و"مفاصلة" تلو الأخرى في تراكيب أميبية مبهمة لا طائل من فضها والأحسن أن تعصف بأطرافها جميعا داهية واحدة والسلام. الوجه الآخر لهذا التفسير الأحادي هو أسطورة المدفعية عطبرة، وجوهرها الأمل في كتلة من الضباط الأفذاذ لا بد من وجودها، ينهضون في ساعة الحارة كما الأولياء لمهام الفداء. لكن المدفعية عطبرة كما حملة إنقاذ الجنرال غردون تأتي ولا تأتي، وإن أتت، متأخرة، وترتد على عقبيها. أراد الفريق هاشم ربما أن تتحقق تحت قيادته الأسطورة وتعيش بعدها البلاد في ثبات ونبات. أليس هذا هو وعد كل انقلاب بما في ذلك انقلاب البشير نفسه ثم انقلاب اللجنة الأمنية التي أطاحت به وبينهما انقلاب ود إبراهيم في ٢٠١٢؟ 
على سلامة كثير من حيثيات التفسير الكيزاني التاريخ قد لا تكفينا بمفردها في فهم المسارات التي اتخذتها "بولتيكا الثكنات" بعبارة الدكتور عبد الله علي إبراهيم وقد أفرخت فينا المليشيا كحقيقة اجتماعية وسياسية وعسكرية. صح استنكار هذه الحقيقة وقد حاصرت المليشيا المدينة الثائرة وقابلتها بالرصاص لكن ليست مما يزول بالأماني على طريقة انقلاب جنجكوز على آخر كما قالت الشاعرة والحصيلة المرجوة صفر السلامة. ليست مليشيا حميدتي هي الأولى لكنها الأعظم والأكثر نجاحا والتي استطاعت اختراق الدولة المركزية حيث فشلت قوى متمردة على سلطة الخرطوم. أوكل ضباط عظام مثل هاشم منذ ثمانينات القرن الماضي القتال ضد القوى المسلحة التي خرجت على الدولة لمجندين جاءت بهم ضرورات البقاء وتناقضات الاقتصاد السياسي للريف الحربي إلى الجندية بالمشاهرة. من ذلك القوات الصديقة من النوير التي جندها ضباط نميري لقتال الحركة الشعبية لتحرير السودان في أعالي النيل والتكوينات القتالية التي نشأت بين المسيرية في منتصف الثمانينات ردا على هجوم الحركة الشعبية على القردود في جنوب كردفان وكذلك بين الرزيقات في جنوب دارفور ثم توسعت بتمويل وتسليح من حكومة الصادق المهدي وضمها الدفاع الشعبي تحت السلطة الجديدة بعد انقلاب ١٩٨٩والجيوش المضادة للحركة الشعبية لتحرير السودان، مليشيا الفراتيت بقيادة التوم نور دلدوم التي تولت تأمين واو ومدن شمال بحر الغزال على أساس ميثاق مع القوات المسلحة أجازته الجمعية التأسيسية في ١٩٨٧  والمنداري الذي حرسوا شريط النيل لضمان سلامة البوارج بين بور وجوبا. 
سلف حميدتي الأقرب بهذا التقدير هو جنرال الخلا باولينو ماتيب، قائد قوة دفاع جنوب السودان، التي تولت عن القوات المسلحة حربها ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان و"إخلاء" مناطق أعالي النيل الغنية بالبترول من السكان بعمليات "الأرض المحروقة" الممنهجة. بينما كان ماتيب طرفا أساسيا في الحرب لم يجد مكانا في طاولة المفاوضات التي وسعت فقط حكومة السودان والحركة الشعبية لكن اندرج لاحقا في رابط خصمه الجيش الشعبي عبر إعلان جوبا عام ٢٠٠٦. مثل إعلان جوبا المقتضب في واقع الأمر قاعدة السلام الموؤد في جنوب السودان حتى انفجر الحلف بين طرفيه مرة أخرى في الحرب الأهلية الجنوب-سودانية في ديسمبر ٢٠١٣، حرب الثكنات بعبارة الدكتور محمود مامداني. تمكنت الخرطوم بفضل استقلال جنوب السودان من التخلص من عبء المليشيات الجنوبية التي ترعرت تحت إمرتها لتنافس ما استطاعت على السلطة في الدولة الجديدة.
في مقابل ذلك، انتصرت مليشيا حميدتي في حربها ضد الحركات المسلحة في دارفور وكالة عن ضباط الخرطوم وقد استوعبت الدرس الماثل في مصير سابقاتها وأطاح حميدتي بمنافسه موسى هلال لتستقر لديه والحاشية الأسرية المحيطة به القيادة. فوق ذلك، استطاعت مليشيا حميدتي بفضل حرب اليمن اكتساب زبائن اقليميين جدد وانفتحت لها خزائن المال الخليجي بعدما شح ريع البترول في الخرطوم بانفصال جنوب السودان. فوق ذلك، وضعت المليشيا يدها على الجيوب الربحية في الاقتصاد الريفي البالي الذي تهاوت قطاعاته الإنتاجية جراء الإهمال المتطاول ثم الصراع المسلح، ما تعارفنا عليه باختصار التهميش، وحل محلها النشاط الريعي، بالدرجة الأولى تعدين الذهب. كما صار لها احتكار الابتزاز المسلح بمد سيطرتها على خطوط التجارة العابرة للحدود ومسارات تصدير الماشية من كردفان ودارفور إلى الجوار الإقليمي. مثلت هذه التحولات في الاقتصاد الريفي، ربما، الأساس المادي لعلاقات الاعتماد التي نشأت بين المليشيا وفئات من التجار خلف الستار السياسي للزعامة الأهلية ومن دخل حلفهم من المثقفين والمحترفين السياسيين. تقف هذه الكتلة اليوم في مقابل طبقة الحكم القديمة في الخرطوم، من ورثوا الدولة الاستعمارية بفضل رأس مالهم الرمزي والحلف السابق مع الرأسمالية الزراعية على عهد الحزبين الكبيرين ثم الرأسمالية التجارية في دولة البشير. 
ليس حميدتي بهذا فريق خلا والسلام بل علم لتحولات في الاقتصاد والاجتماع فاقت قدرة ضباط الجيش على الهندسة الاجتماعية وقد كان اعتمادهم الأساس في ذلك على عقيدة صمدية في مبدأ "فرق تسد".  تفوق الضباط على أنفسهم في هذا السبيل حتى تفرقوا هم وزالت سطوتهم سوى النشيد السمج بقومية القوات المسلحة ولم يرعوها حتى بلغت أزمة التجنيد مبلغا جعلت وزير الدفاع الأسبق، عبد الرحيم محمد حسين، يشكو إلى البرلمان تسرب الجنود إلى مناطق التعدين. قال الوزير في مايو ٢٠١٤ أن القوات المسلحة اضطرت لسد النقص في صفوف الضباط والأفراد في القوات المسلحة من قوات الدفاع الشعبي مقرا بعجز في التجنيد بسبب ضعف أجور الجنود وجذب التعدين. ما لم يقله الوزير وقتها أن لأزمة التجنيد جذر سياسي واجتماعي في الحروب الأهلية المتطاولة فالجندي مطالب على الدوام بالبطش بأهله في مناطق النزاع المسلح. كما لم يذكر أن المليشيا، وكيلا عن الحكومة كانت أو في معارضتها، تطرح على المقاتل علاقات عمل تبز القوات المسلحة درجات، أول ذلك ربما المشاهرة المرنة والموسمية التي تسمح بالجمع بين سبل شتى لكسب العيش والمساومة المستمرة على ثمن كل مهمة وشروطها. امتنع الوزير وقتها عن تقديم نسخة من بيانه لنواب المجلس وبرر ذلك بحساسية الشؤون الدفاعية وتخوفه من تسرب معلومات أمنية وعسكرية. 
يسهل بطبيعة الحال تسفيه المليشيا كملوث دموي للحياة الحضرية وردها إلى ريف فقد رشده وسكن العنف عقله الجمعي. لكن هذا التقدير الرائج يحجب الحقيقة الاجتماعية للمليشيا ونشأتها في التحول السكاني العنيف من الريف إلى الحضر. مثال ذلك سيرة محمد حمدان حميدتي نفسه. انتقل محمد الصغير في معية أسرته من بادية أهله المهارية ناحية كتم إلى نيالا بدفع انهيار الاقتصاد المعيشي في شمال دارفور جراء المجاعة التي ضربت كردفان ودارفور وشرق السودان منتصف الثمانينات ضمن موجة الجفاف التي أصابت الساحل الافريقي والتمدد الجارح للاقتصاد السلعي. تحولت فئات واسعة من المهارية من الرعي المعيشي إلى زراعة الدخن في نواحي مليط كما انتشرت فئات أخرى في دول الجوار، بخاصة ليبيا وتشاد، تسعى الوسائل للاندماج في الاقتصاد السلعي من خلال التجارة والعمل المأجور والإنتاج الصغير، ومنهم حميدتي نفسه. تقول تقديرات أولية أن ٤ من كل ١٠ بيوت في مليط صدرت أحد أفرادها الذكور للعمل في ليبيا. اخترق التسليع الاقتصاد المعيشي للمهارية وعالمهم الاجتماعي وأصبح رواد هذا الاقتصاد الجديد بينهم تجار ماشية عابرين للحدود الدولية، ومن هؤلاء أيضا حميدتي الشاب. بذلك ليس من الدقة رد حميدتي إلى بادية المهارية وكفى، والأقرب أنه من شحم نيالا المدينة والسوق الدولي التي صارت بحسب الإحصاء السكاني الأخير ثاني أكبر مركز حضري في البلاد بعد العاصمة الخرطوم. لا غرو إذن أن صعد نجم حميدتي السياسي أول ما صعد في مدينته نيالا وفيها جند عام ٢٠٠٣ طلائع المليشيا الخاصة به. 
لم يكتشف حميدتي المليشيا كصيغة ربحية لتنظيم العمالة المسلحة في جغرافية دارفور الحربية فقد سبقه إلى ذلك غريمه موسى هلال وبطبيعة الحال الحركات المسلحة المناوئة للسلطة المركزية في الخرطوم. لكنه استطاع بمهارة المساومة في السوق السياسي، مفهوم اجترحه آلكس دو فال لتمييز الزبائنية الحربية، وبحاسة المستثمر أن يستخلص من محاولات سابقيه، الصيغة الأصفى للمليشيا المدرة للدخل متعددة الأغراض والزبائن في بيئة جيوسياسية أصبحت فيها القوات المسلحة شريكة للمليشيا وليس قوة مهيمنة عليها. لم تكن مواجهة حميدتي مع الفريق هاشم في القيادة العامة بدعة في سيرته، ميزتها أن تناقلتها الشاشات، فقد وقف ندا لضباط عظام من قبل وعركهم. واجه ابن عوف وقت كان قائدا للاستخبارات يطلب رتب القوات المسلحة وهيكلها الراتبي لجنوده، وواجه عمر البشير يطلب قسطا من السلطة يوازي ما نالت حركة مناوي في ٢٠٠٦. ثم كاد أن يتمرد عندما تلكأ القصر وعسكر بجنده في محيط نيالا معتزلا القتال حتى عاد بشروطه في حصار حركة العدل والمساواة للفاشر عام ٢٠٠٨ وكان وقتها عماد الدين عدوي قائدا لحاميتها. 
انعكست هذه الندية في تركيب اللجنة الأمنية، اختراع حكومة عمر البشير لتنسيق عمل الأجهزة القسرية، وهي هيكل هرمي من قيادات القوات النظامية من مركز السلطة حتى أدنى مستوياتها المحلية، وعبرها تجري عمليات اتخاذ القرار بخصوص الأمن الداخلي، كان يرأسها في قمة الهرم البشير وفي كل ولاية الوالي وفي المحلية المعتمد. بدخول قادة الدعم السريع اللجان الأمنية نفذت المليشيا إلى هيكل الدولة القسري وانكشف لها المستور الذي فضل الوزير عبد الرحيم أن يحجبه عن برلمان "الملكية". جيرت اللجنة الأمنية منذ عهد البشير الحزب الحاكم فصار لها فرعا للتوجيه المعنوي في أفضل الأحوال ومخزنا للسياسيين ثم لفظته وتنكرت في انقلاب ١١ أبريل ترمي عليه كل رذائل الإنقاذ إلا اللمم القليل من شاكلة "حدس ما حدس". على كل، يبدو من تصريحات رجال اللجنة الأمنية الذين اهتبلوا السلطة أن خطتهم تطويع قوى الحرية والتغيير لتلعب ذات الدور الذي كان يلعبه المؤتمر الوطني تحت قبة السيادة الأمنية. في هذا الخصوص أبدى الفريق البرهان على سنة سلفه الضباط الحكام من لدن الحاكم العام تأففا من الحكم البرلماني الذي اعتبره ردة إلى ماض من الصراعات الحزبية غير ذات الطائل. 
لكن أليست لجنة البرهان الأمنية أو مجلسه العسكري الانتقالي ذات صيغة الحكم التي أفرخت انقلابا تلو الآخر بما في ذلك انقلاب الفريق هاشم وأليست هي ذاتها الصيغة التي أنجبت المحاصصات الإثنية والقبلية تحت حكم البشير وأليست هي التي أفرخت المليشيا كتكنولوجيا لإدارة قوى العمل الفائضة في الاقتصاد الريفي المتهاوي؟ وأليست هي المسؤولة عن تزكية الحلول الأمنية لكل أوجه الصراع الاجتماعي في البلاد بما في ذلك مظاهرات تلاميذ المدارس في الأبيض هذا الأسبوع وأليست هي التي أحلت دم مواطنيها في الريف والحضر متى خالفوا لها أمرا، فالرباط الذين بين الدولة والمواطن عندها ينعقد وينحل بالرصاص. اتخذ الفريق هاشم في واقع الأمر ذات طريق البرهان ومن قبله البشير فوعده الذي لم يحسن التعبير عنه هو التحرير من المليشيا التي لم يأت على ذكرها حين عرف سلطته المأمولة. قال الفريق هاشم في بيانه أن القوات المسلحة، دون غيرها من أطراف اللجنة الأمنية، هي التي استلمت السلطة بالانقلاب الرقمي الذي قاده واندحر. لكن، أيمكن هيكليا التحرر من سلطة اللجنة الأمنية، أو قل جهاز الدولة القسري، بموالاة طرف على آخر أو بنصرة ضباط الكلية على ضباط الخلا أو ضباط الحركة الإسلامية على ضباط "المدفعية عطبرة" الأسطوريين؟ إذا كان القياس رابطة النطفة والعلقة ربما جاز تفضيل ياسر العطا على عبد الرحيم دقلو باعتبار الأول من رحم هاشم سيد الاسم والثاني من فصيل "العقل الرعوي" بعبارة النور حمد. لكن أليس هذا قياس مؤتمر الخريجين الذي أورثنا طريق الآلام من لدن "السودنة" وما اكتفى فعاد اليوم والحال ثورة على البالي والقديم ينادي بالكفاءة لا السياسة؟  
إن عبرة التجربة مع سلطة الجهاز القسري للدولة في تخريجاته المختلفة أنه معاد للحرية ولو كان بابها ضيقا مثل الذي نفذن منه تلميذات الأبيض؛ وأنه معاد للوطنية التي صدح بها الآلاف في الشوارع فقابلهم بالمدافع الرشاشة؛ وأن قراره رهين بالقوى الدولية التي تمد له وتصون كيانه بالتمويل والتسليح، أكانت الولايات المتحدة ومصر على عهد النميري، أو كشكول تحالفات البشير أو السعودية والإمارات في عصر البرهان/حميدتي الراهن؛ وأنه مكمن للفساد المالي ومعمل لشراء الذمم كما تشهد عليه تقارير المراجع العام لسنوات مضت متى حضر فيها ومتى غاب بتمنعه على التدقيق وكما تشهد عليه قوائم الشركات المنتفخة بالعقود الحكومية التي كلما طردها من الباب قرار سياسي عادت بالشباك أكثر عددا تناسل منشطرة ومنقسمة الواحدة عن الأخرى؛ وأنه غير مؤتمن على حفظ حياة الناس ومعاشهم يواجه كل خلجة، ولو نملة احتجاج في شارع طرفي في حي قصي، بفأس العنف المميت ليس لديه سواه؛ وأن مكوناته ولو تنافرت تتماسك الحزز متى طال التهديد احتكارها السلطة ووسمها اليوم "السيادة". 
لربما أدرك الفريق هاشم ورفاقه وقد دارت عليهم الأيام فقام عليهم فريق خلا يأمر وينهى ويقيل ويعين ويعتقل وثار عليهم الجند مفضلين المليشيا الخصوصي وحوافزها على الميري العمومي وقواعده أن الضباط قد أفسدوا مهنتهم. تسرب من بين أيديهم احتكار العنف والسلاح وزال عنهم "شرف الكاكي" بل تدهورت حتى رتبهم وازبليطاتهم وما إلى ذلك، فالفريق منهم اليوم في مرآة الرأي العام شاويش الأمس يزيد أو ينقص، كبرت المكاتب وتواضعت المراتب. إن أراد ضباط الجيش الانتصار لأنفسهم فالطريق لا يمر بالقصر وكبرى الانقلاب وإنما بالشعب وشارع الحرية، عليهم الاستماع إلى النشيد المدوي الذي يتردد في كل شارع أمس واليوم وفي غد، "مدنياااااو" ونصرته؛ عليهم شفاء ما بهم بانتشال مهنتهم من سخام السياسة السلطوية والوصاية على شعب حر صاحب قرار فحريتهم من حرية شعبهم؛ عليهم الانقياد للإرادة الديمقراطية التي تتجلى بالمدافعة في ميدان السياسة وتحت رقابة الرأي العام وليس في حجاب الثكنات. صلاح القوات المسلحة، إن كان من عبرة تستقى من ورطة ضباطها، في فتح الثكنات وملفاتها ودفاتر حساباتها إن وجدت واتفاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية لضوء التداول الديمقراطي الكاشف وليس في "ممنوع الاقتراب والتصوير". لقد انكشفت البخرة وانتهى الامتحان فيا جيش: أرفع يدك فوق التفتيش بالذوق! 
 
Creative Commons Licence
This work by Magdi El Gizouli is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.