تورطت فصائل قوى الاجماع الوطني بحماس شديد في منازعة حول الموقف من خارطة الطريق الافريقية حتى انقسمت فرقتين: الرافضة الذين يرون في خارطة الطريق خيانة ليس بعدها، فهي عين “الهبوط الناعم” سئ الذكر ومما لا يليق بقوى ثورية تريد الاطاحة بنظام المؤتمر الوطني عبر الانتفاضة الشعبية، والمؤتلفة مع قوى نداء السودان، المحاربة منها والمسالمة، التى أقرت خارطة الطريق بعد تردد وتنتظر أن تخرج من جولات التفاوض في أديس أبابا بما يخدم هدف التغيير السياسي في البلاد. تبادل الطرفان الاتهامات خاصة بعد أن أصدر روافض الاجماع الوطني قرارا بتجميد عضوية كل من قبل بخارطة الطريق، أي المؤتمر السوداني ومن في صفه. بل اتهمت قوى الاجماع بالداخل، أي المؤتمر السوداني والأمة القومي ومن في صفهما، قوى عروبية في الاجماع، أي البعث العربي الاشتراكي، بتفكيك المعارضة لهواجس عندها تجاه المجتمع الدولي زاد من حدتها انهيار شموليات البعث في الجوار العربي. عبرت قوى نداء السودان بالداخل عن أسفها على حال الحزب الشيوعي الذي انجر كما قالت إلى مناصرة “طواحين الهواء” في البعث العربي الاشتراكي حيث انعقد حلف غير معلن بين الشيوعي والبعث العربي الاشتراكي بعد صعود الخطيب إلى قيادة الأول، استقر وتعزز بما حقق الخطيب وكتلته في مؤتمر الحزب السادس، ثم أعلنت آخر الأمر اعتزالها حلف الاجماع الوطني بالكلية. قالت الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) من جانبها أنها صدمت من قرارات روافض الاجماع وزادت أن مجهوداتها ومجهودات القوى الوطنية في توحيد المعارضة اصطدمت بتيار ايديولوجي معاد لقضايا التنوع والهامش يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي لرئيسه علي الريح السنهوري الذي يتوارى في زعمها خلف ستار شعارات اسقاط النظام ومعاداة الامبريالية.
يمكن بيسر السخرية من الطرفين فنزاعهما على سمن سيأتي من لبن ليس لديهما إلى بقرته سبيل، لكن لا تنفع السخرية لوحدها في تقصي عظمة هذا النزاع على هزليته. بل ربما ساعد هذا النزاع على كشف دروب جديدة للتحرر لا تمر بنادي الصفوة السياسية، دروب تصل السياسة بمصالح الناس وفيها يلتقون لا على معارضة الانقاذ وكفى، بعون المجتمع الدولي أو برغمه، وإنما على الحياة المشتركة والنهضة الوطنية. من أعاد قراءة الفقرة أعلاه وجد منتهى الملاواة بين الطرفين حول الموقف من خارطة الطريق بعد أن اصبحت واقعا وانعقدت على أساسها جولة التفاوض السابقة في أديس أبابا في مساريها بين الحكومة والحركة الشعبية والحكومة وحركتي العدل والمساواة وتحرير السودان (مناوي). احتج البعث والشيوعي قبل ذلك على خارطة الطريق ورفضا التوقيع عليها بإسم قوى الاجماع لكن انهزمت خطوتهما بخروج المؤتمر السوداني على حلف الإثنين ومشاركته في اجتماعات نداء السودان التي انتهت إلى التوقيع على الخارطة، ثم انهزمت مرة أخرى بتواصل التفاوض بين الحكومة والقوى المسلحة على أساس خارطة الطريق. بذلك، أصبح احتجاج البعث والشيوعي الحالي على خارطة الطريق، وقرارهما تجميد عضوية كل من قبل بها من قوى الاجماع، قرارا غير ذي موضوع، فلا البعث ولا الشيوعي مناط بهما التفاوض مع الحكومة ولا بيدهما حيلة مباشرة في الصراع العسكري في المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الأزرق، ودارفور، وليس لهما أن يقررا في مواضيع التفاوض أو منتهاه نيابة عن القوى المسلحة. بذلك فإن اصرار البعث والشيوعي على خارطة الطريق كموضوع للاحتجاج يدخل الإثنين في تناقض المطالبة بالحل السلمي التفاوضي للنزاعات المسلحة في البلاد، كما تقول بذلك أدبيات الاجماع، ومعارضة الحل السلمي برفضهما الأساس الذي يقوم عليه التفاوض في واقع الحال. قد لا يستغرب هذا الموقف من حزب حربي الطباع كالبعث العربي الاشتراكي لكنه مستغرب من الحزب الشيوعي الذي رعى شعار الحل السلمي الديمقراطي للنزاعات المسلحة ذات الأساس القومي منذ خمسينات القرن الماضي وبشر بالحكم الذاتي وتقرير المصير دون تلكؤ وقت كانت دعوته التقدمية نشازا على لحن “أمة أصلها في العرب”.
تشغل البعث والشيوعي البنود التي تتصل بالحوار الوطني، والتي تعترف بحوار الوثبة كبداية لعملية “الحوار الوطني السوداني” في عبارة الخارطة لكن تصفه بأنه لم يشمل جميع الأطراف، وتذكر تحديدا الأطراف الموقعة على الخارطة، كما تدعو لجنة ٧+٧ إلى اجتماع يلتئم في أديس أبابا مع فصائل خارطة الطريق للبحث في الخطوات اللازمة لتحقيق شمولية الحوار. انزعج البعث والشيوعي أيما انزعاج من ذكر حوار الوثبة في أي صيغة كانت بحجة أن خارطة الطريق تمهد لأن يلج الجميع قاعة الصداقة صاغرين، ومن ثم يفتح الباب واسعا لتحقيق خطة “الهبوط الناعم” المزعومة. وردت عبارة “الهبوط الناعم” هذه أول ما وردت على لسان المبعوث الصيني الخاص إلى دارفور، ليو غويجين،في اكتوبر ٢٠٠٨. وقتها، دعى المسؤول الصيني بعد سلسلة محادثات في باريس ولندن وواشنطن إلى “هبوط ناعم” يحول دون اصدار أمر إدانة ضد الرئيس عمر البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية. قفزت العبارة مرة أخرى إلى السطح في الفترة التي سبقت انتخابات ٢٠١٠. عبر مسؤولون في البيت الأبيض وقتها عن ضرورة تأمين “هبوط ناعم” للرئيس البشير والسودان الشمالي يحول دون أن تعرقل الخرطوم الاستفتاء المنتظر على مصير جنوب السودان. تكررت العبارة بذات المعنى على ألسن قادة كبار في الحركة الشعبية لتحرير السودان حينها أبرزهم ربما لوكا بيونق دينق، لكن لم تكتسب رنينها الحالي إلا بعد أن ضمتها مقدمة تقرير لمجموعة الأزمات الدولية صدر في مارس ٢٠١٥ حول مآلات الحوار الوطني. قالت مقدمة التقرير: “تتضاءل فرص نجاح الحوار الوطني الشامل الذى دعى إليه الرئيس البشير في يناير ٢٠١٤، ما يثير مزيدا من الشكوك في امكانية هبوط ناعم ينهي أزمات السودان. بذلك تأكدت مخاوف من حذروا من أن الحزب الحاكم غير راغب وغير قادر على القيام بالتنازلات المطلوبة”.
اقترح التقرير الذي سبق الانتخابات العامة في أبريل ٢٠١٥ جملة خطوات قال أنها يمكن أن تعزز فرص نجاح الحوار اختصارها الضغط على الحكومة والمعارضة للمشاركة في اجتماع تحضيري للحوار الوطني تشغل فيه لجنة أمبيكي دور الوسيط؛ تشجيع المعارضة والقوى المدنية الأخرى على صياغة موقف موحد بتيسير من دولة ثالثة محل ثقة الأطراف (المبادرة التي ترعاها ألمانيا)؛ دفع الحكومة والمعارضة إلى التعاطي الايجابي مع استراتيجية لجنة أمبيكي الداعية إلى عملية تفاوضية متوازية ذات مسارين، المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) ودارفور؛ اقناع الصين بتوجيه استثماراتها في السودان لمخاطبة عدم المساواة الاقليمية التي تغذي الحروب. إن كانت هذه تقنيات الهبوط الناعم وقد تضاءلت فرصه فقد فصلت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير نشرته في نوفمبر ٢٠١٢ بعنوان “السودان: اصلاح عميق أم مزيد من الحرب” رؤية للتحول السياسي في السودان لم ترد فيهاعبارة “هبوط ناعم” لكنها تعتبر القاعدة التي قامت عليها اقتراحاتها التالية. استعرض تقرير نوفمبر ٢٠١٢ توازن القوى آنذاك بين الحكومة والمعارضة، المسلحة التي اجتمعت في الجبهة الثورية والسلمية الحزبية، وخلص إلى أن ميزان القوى لا يسمح لأي من الأطراف بتحقيق مطالبه القصوى، ومن ثم زكى تسوية ما بصيغة تحقق تحول سياسي مقبول وتحول دون انتشار الحرب. في هذا السبيل اقترح التقرير على حكومة السودان أن تدعو المؤتمر الوطني الحاكم والقوى المعارضة إلى صيغة حكم مؤقتة بمواقيت محددة وعلى أساس مبادئ متفق عليها بهدف الوصول إلي وقف شامل لاطلاق النار وايصال المساعدات الانسانية إلي مناطق النزاعات إلي جانب صياغة خارطة طريق تنتهي بالوصول إلي سلام شامل؛ اطلاق عملية سياسية تجمع قوى المعارضة المسلحة والمدنية بهدف الاتفاق على نظام للحكم ينهي الصراعات المسلحة في البلاد ويؤدي إلى صياغة دستور دائم للبلاد؛ تنفيذ جملة من الاصلاحات القانونية والقضائية من ضمنها تعيين قضاة مستقلين بما ذلك في المحاكم الخاصة، ضمان استقلال القضاء ومراجعة اجراءات التحقيق والنيابة وسلطات التوقيف الشرطية والأمنية؛ محاسبة القوى النظامية على انتهاكاتها للقانون الدولي الانساني؛ تعديل بنود القانون التي تؤمن الحصانات لأفراد الشرطة والأمن. اقترح التقرير على أعضاء الجبهة الثورية كبح مصالحهم الخاصة لصالح التوصل إلى رؤية سياسية مشتركة تشكل اطارا للتحول السياسي والعمل على توسعة القاعدة الشعبية للمعارضة والدعم الشعبي للتحول السياسي. من جهة أخرى اقترح تقرير نوفمبر ٢٠١٢ على حكومة جنوب السودان تشجيع الجبهة الثورية وقوى المعارضة السودانية الأخرى على ادراك أن تحولا حسن الادارة أجدى من خطة الانقلاب أو التحول السياسي العنيف بما قد يصاحبهما من فوضى.
وجهت مجموعة الأزمات الدولية اقتراحاتها الأهم إلى الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم والأمن الافريقي والجامعة العربية، وهي الاقتراحات التي تشكل عقدة “الهبوط الناعم” إذا جاز التعبير: العمل على حل موحد وشامل لنزاعات السودان المتعددة؛ عرض جملة من المحفزات على الرئيس عمر البشير وصفوة الحكم في المؤتمر الوطني لتشكيل حكومة انتقالية ووضع السودان بحزم في سكة التحول السياسي من ضمنها المساعدة في استقرار الاقتصاد، رفع العقوبات، التسريع باستفادة السودان من مبادرة الدول الفقيرة الأعلى مديونية واجراءات أخرى لاعفاء السودان من الديون بشرط تحقيق واجبات خارطة طريق التحول السياسي وتحقيق تقدم في المحادثات مع جنوب السودان حول قضايا ما بعد الانفصال، توجيه طلب إلى مجلس الأمن باستغلال المادة ١٦ من نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية لتأجيل اجراءات مقاضاة الرئيس البشير لمدة عام ذلك بشرط أن تتخذ الحكومة اجراءات ملموسة في اتجاه الانتقال السياسي ومتى ما ظهر أن طلب توقيف الرئيس البشير يمثل عقبة حقيقية تمنع الانتقال السياسي، هذا دون الزام المجلس بتجديد هذا التأجيل إن تراجع الرئيس البشير عن التزاماته؛ دعم عملية الانتقال السياسي من خلال التدريب وبناء القدرات بما يمكن من تكوين ونمو أحزاب قائمة على القضايا تمثل مهمشي السودان وتعبر عن مطالبهم بما في ذلك سكان المناطق النائية والشباب والنساء وفقراء الريف والحضر.
يبدو من قرائن الأحوال أن قوى الحكم اهتبلت الفرصة المعروضة عليها فخرج البشير في خطاب الوثبة بما يعتبر شكلا صيغة للحوار الوطني، يحفزها تحذير الغضب الشعبي في سبتمبر ٢٠١٣. جذبت هذه الصيغة أول الأمر القسط الأكبر من قوى المعارضة الحزبية بمشاركة حزب الأمة، لكن سارت الأمور على غير ما يشتهي الصادق المهدي إذ أصرت الحكومة على مقعد القيادة في الحوار الوطني وتلكأت خطواتها فيه تنتظر جزرة المجتمع الدولي التي لم تعدو حتى الآن حد “الضواقة”. أصرت الحكومة في رعشة ديمقراطية على مساواة المشاركين في الحوار، من في صفها كمعارضيها كأسنان المشط، كل من آنس في نفسه كفاءة الحزب استحق صوتا، فرفضت صيغة الصادق المهدي القائمة على أفضلية “الأحزاب التاريخية” وتجريد أحزاب “الفكة” في عبارته من مواقعها. تصديقا لمطلوبات “الهبوط الناعم” سئ الذكر ائتلفت أطراف الجبهة الثورية وحزب الأمة وأحزاب الاجماع الوطني وقوى المجتمع المدني تحت لواء نداء السودان، فهي أيضا لم تملك سوى مسايرة المجتمع الدولي في الذي طلب أملا في التغيير. إن استعدت الحكومة لاستحقاق الحوار بتوسيع ساحة المناورة عدمت المعارضة الحزبية السبل لتجنيد القوى الجماهيرية خلف مطالبها، فوقفت في سبتمبر ٢٠١٣ موقف المتفرج ثم ما لبثت أن استكانت كلية إلى الخطة التي يسبها البعث والشيوعي اليوم باعتبارها مؤامرة امبريالية، تدعو إلى الحوار وتأنف منه وتدعو إلى الانتفاضة الشعبية ثم “تنط” كما فعلت حين جاءها تلاميذ المدارس بقمصانهم الدموية.
لماذا يخاتل البعث والشيوعي الآن بالثورة، وقد كانا ضمن قوى الاجماع الوطني طرفا في نداء السودان وشاركا في اجتماعات برلين وباريس التي دارت في عمومها حول خطة الانتقال التي بشرت بها تقارير الأزمات الدولية والتقى ممثليهم ومنهم الخطيب، سكرتير الحزب الشيوعي، ولا بد بالوسطاء الدوليين الذين تركزت مهمتهم في تسويق هذه الخطة وتحفيز القوى السياسية على القبول بها وقد عدموا سواها؟ لماذا بدت لهم عيوب هذه الخطة فقط في منعرج خارطة الطريق الافريقية؟ ألم تكن هذه العيوب ظاهرة للعيان منذ اجتماعات برلين ومن قبلها؟ الجواب الأكثر تفاؤلا ما قال المرحوم عبد الخالق محجوب وهو يراقب القوى الوطنية المناهضة للاستعمار في متاهتها القاهرية، قال عدمت النظرية التي تقابل بها التحدي الاستعماري فلم تر فيه سوى المقابلة بين الأجنبي والوطني وما تبع ذلك من ظلال دينية عقدية أو قومية، وكذلك قوى المعارضة الحزبية اليوم، بما فيها البعث والشيوعي، تناكف المؤتمر الوطني بالغبينة والغيظ تنتظر منه أن يتداعى من تلقاء نفسه بتكاثر الخطوب والعلل أو يصحو من سكرته السلطوية ليفشي الديمقراطية هكذا صدقة وكفارة ويسلم السلطة لمن صبر أطول في انتظارها. جارى كل من البعث والشيوعي خطة “الهبوط الناعم” ثم تحولا عنها تقية، وهذا الجواب الأكثر تشاؤما، وقتما برزت الفوائد المستفادة من التشنيع بها في حسابات الصراع الحزبي الداخلي. يذكر أن قيادة الحزب الشيوعي الحالية اتهمت الشفيع خضر بتسويق “الهبوط الناعم”، وهو الذي فصل نقدا مقروءا لحيثياته ودعى إلى توطين المعارضة في القوى الجماهيرية وصياغة استراتيجية فعالة للتعامل مع المجتمع الدولي لا تنتهي عند ردود الأفعال، إما الإذعان أو الحردان، بل جعلت هذا الاتهام في مقدمة الأسباب التي سوقتها بين عضوية المؤتمر السادس للحزب لفصله. وقتها، أعلنت هذه القيادة الانتصار على “الهبوط الناعم” وجددت رفضها له مرة بعد أخرى بما في ذلك في خطاب سكرتير الحزب في جلسة المؤتمر العلنية، ذات الرجل الذي تولى مهمة تمثيل الحزب الشيوعي في اجتماع برلين “الناعم” وليس الشفيع.
ها هي ذات القيادة، وقد استقرت في حجر البعث العربي الاشتراكي، تفصل حلفاء الحد الأدنى في قوى الاجماع الوطني بدعوى مجاراتهم للخطة الدولية فماذا حققت؟ انفصلت هي عن غالب القوى المعارضة التي قبلت، بعد لأي أو بغيره، بخارطة الطريق الافريقية، قاعدة التفاوض الجاري، وعزلت نفسها عن الصراع السياسي في صيغته المرعية دبلوماسيا، ورب ضارة نافعة. يمثل هذا التفكك الهزلي لحلف المعارضة، الجبهة الثورية جبهتين، وقوى الاجماع الوطني اجماعين، فرصة لتجاوز تراكيب المعارضة الحالية وقد انقطعت بها السبل. لكن، لم يفتر الناس خارج عالم “زادنا” و”زين” من ابتكار مواعين وطرائق للتعبير عن مناهضتهم للجوهر الرأسمالي لنظام الحكم، تحت قيادة المؤتمر الوطني ورئيسه أو سواهم. كفانا المسطول في النكته السارية تعريف خط الصراع الاجتماعي حين سئل “عايز تعيش وين”، فرد قائلا “في عالم زادنا”، العالم الذي يراه على الشاشات، حلو عامر مبهج نظيف مرطب، وينظر حوله فلا يطيق إليه وصولا. ما قوى سبتمبر ٢٠١٣ التي نهضت للمقاومة وتلكأت الأحزاب إلا مقدمة باكرة للحلف الجماهيري الذي متى استقام وبرز التنظيم السياسي الذي يعبر عن مصالحه الطبقية بقادر على شد ميزان القوى لصالح “فقراء الريف والحضر” في عبارة تقرير مجموعة الأزمات الدولية الساهية. ظلت العقبة التي تلازم عمل المعارضة لعقود التناقض القائم بين القوى الحزبية المدنية والقوى المسلحة، وهو تعبير ملح عن التناقض بين الحضر والريف أو المركز والهامش، ولكل تكنولوجيا خاصة يرجو بها إعادة تركيب السلطة، الانقلاب والحرب الريفية. اجتمعت لشعبنا من التجربة السياسية مع الإثنين ما يزكي الطريق الثالث المهمل، الطريق الذي انقطع مرة وأخرى بجذب الانقلاب بعد ما حاق بقوى اكتوبر تحت قيادة البرجوازية الصغيرة الحضرية، وبجذب العمل المسلح بعد ما برزت ميزاته للبرجوازية الصغيرة الريفية تحت تأثير الحركة الشعبية لتحرير السودان، ذات الطريق الذي بشر به المرحوم عبد الخالق محجوب داعيا إلى العمل الصبور الدؤوب وسط الجماهير ومزاوجة الديمقراطية الليبرالية بالنشاط الثوري للقوى الشعبية.
كما شهدت التجربة بكساد خطة الانقلاب شهدت كذلك بأن الطريق الحربي إلى الخرطوم قد ينتهي عند كراسي القصر القديم والوزارة مرورا بعاصمة أو أخرى لكنه لا يكاد يهدد تركيب السلطة السياسية والاقتصادية القائمة، سلطة “الصفوة البيروقراطية المتبرجزة” بعبارة المرحوم جون قرنق وإن كان الثمن التقسيم. ذلك لنقص في السياسة الجماهيرية، السياسة التي تحشد القوى الشعبية وتنظمها بما يتفوق على التناقضات الإثنية والمناطقية، أصالة عن نفسها وليس بوكيل حربي. لذا، فأن تسوية قصيرة أو متوسطة المدى للنزاعات الحربية في أرياف البلاد المضطهدة تشكل شرطا لانفتاح الطريق الطويل نحو اعادة تركيب السلطة عبر تحول في ميزان القوى الاجتماعية. إذ لا يمكن تحت شرط الحرب الأهلية الدائرة على رحى التناقضات بين الريف والمدينة مد الجسور اللازمة بين الخاسرين من الطرفين، المضطهدين في الريف والحضر، حيث تظل نضالاتهم المشتركة في جوهرها حبيسة التناقضات الإثنية التي لا تملك القوى المحاربة، إن كان قوى الحكم أو المعارضة، سوى تجذيرها لحشد الدعم الشعبي. تصديق ذلك ما أصاب القوى العسكرية للجبهة الثورية من خسائر عندما حاولت توسيع دائرة الحرب خارج حواضنها الإثنية، وطبيعة القوات التي وجهها جهاز الحكم لقمع المتظاهرين في سبتمبر ٢٠١٣ ثم أصبحت قوة الردع متعددة المهام التي يستند إليها. من هذا المنظور تبدو دعوة البعث والشيوعي المتكررة للانتفاضة في الخرطوم صورة كاريكاتورية عن عملية سياسية معقدة لن يكتب لها النجاح إلا بمزاوجة هذه التناقضات الثانوية على مستوى التناقض الأولي الذي تفضل المسطول برسم خطه الفاصل، وذلك حلف المساكين الذي جاءت ساعته وغاب سايسه.
No comments:
Post a Comment