كمال الجزولي ١٩٤٧-٢٠٢٣ |
ترك المرحوم كمال الجزولي، الذي لبَّى نداء ربه إلى فسحة الأبدية في مساء ٥ نوفمبر الجاري بمدينة القاهرة في عمر السادسة والسبعين، إرثاً سخياً لا يجتمع لنفس واحدة سوى بشقاء عظيم. شقاؤه المعلوم مع الأدب والفكر والثقافة والنضال الذي لا ينقطع؛ وشقاؤه مع تزكية النفس المناضلة؛ وغير ذلك أوجه أخرى لحياة الإنسان يعرفها عنه أصدقاؤه وأحبابه، من ذلك صداقاته الواسعة وإخوانياته وحُبُّه الناس في كل صور اجتماعهم. وبعضُ ترجمة هذا الحب عند المرحوم كمال الجزولي نكتةٌ لاذعةٌ وسخريةٌ غير متوقعة وتفكُّهٌ في الأقدار والمصائر، قد يحسبها الجاهل بفضله "طَنْقَعة". وحاشاه حاشاه، فهو في واقع الأمر مُحِبٌّ، أذاع حُبَّهُ للناس أدباً فصيحاً وعلماً نافعاً ورأياً ساطعاً ونضالاً جسوراً وخُوّةً صادقة، وكذلك عداءً بيّناً لا مراء ولا مداهنة فيه.
لا تنبئ السيرة الذاتية المسيخة التي يحيط بها جدولٌ عن وظيفة كمال الجزولي الحقَّة. وكان في كل أحواله «مثقفاً عاماً» مثله كمثل محمود درويش أو إدوارد سعيد أو جان بول سارتر، المثقف الذي يقف عند ناصية مبادئ وقضايا كونية لا يحول عنها منافحاً ومدافعاً ومرافعاً في كل جبهة. ولقد انشغل بهذه الوظيفة وملأت عليه شغاف نفسه. وكان تخوفه الأكبر أن ينزلق عن هذه الوظيفة أو يرتبك في امتحانها الطويل أو "ينسخط" لسعي سواها بأي دافع كان. تكرر نطق كمال بهذا المعنى في أكثر من موقع، وقصيدته الجليلة "هسيس" بنت هذا الشاغل بتزكية النفس المناضلة في الوفاء لمعنى وتطابق ذلك مع المبنى والمسعى، فها هو يزجر خوفه، وهو في قبضة السلطان يهدده الفناء لسان حاله: مالي أراكِ تكرهين جنة البرّ بالحقيقة:
(١)
ليسَ القتلُ ما أخافُهُ،
ليسَت
المِيتةُ المُفجِعَةْ،
ليسَ انفجارُ هذا البابِ، فجأةً، أو دخولُهم،
عندَ منتصفِ الليلِ، بالأسلحةِ الُمشرَعَةْ،
لا..
ليسَ دَمِي الذي يسـبحُ في قيحِـهِ،
ولا جُمْجُمَتي التي تتشظَّى على..
الجِدارْ،
لكنما أخوَفُ ما أخافهُ..
هوَ الخوفُ ذاتُهُ،
ذاكَ الذي.. إذا غفِلتُ عنهُ،
لحظةً،
سَرَى إلى مسـامِ الرُّوحِ،
ناقـلاً.. وساوسَ المعاذيرِ الُمنَمنَمَاتِ في..
هسيسِ
الانكسارْ، ذاكَ الأنيقُ، السَّاحرُ، الذي يجـعلُني..
أرامقُ..
اختِضاضَ نصـلِهِ الماسِّـيِّ،
ريثما أعشُو..
لبُرهةٍ أو..
بُرهَتَينْ،
لحظتَها
ينهَلُّ، بغتَةً، فيشطِرُني..
إلى نصفَينْ،
نصفٌ هُناكَ، في ملكوتِ وهمِهِ،
يموتُ
مرَّتينْ ونصفٌ هُنا
يموتُ بَينَ.. بَينْ!
(٢)
إنَّكَ ميِّتٌ،
وإنَّهم ميِّتونَ،
ولا فَكاكْ،
فاجهَرٌ، إذن، برفضِكَ الأبيِّ ههُنا،
تجهَر بهِ هناك،
ومُتْ
هُنا،
تحيا.. هُناكٌ !
عبّر كمال في ذات الموضوع من جهة أخرى، عن سقم المثقف منزوع البركة، الذي يدور في حلقة نفسه لا يفارقها إلا ليعود إليها، في "القصيدة الجبلية":
قالوا له: الحريق في البلد
هل مس، قال: في شارعنا أحد
قالوا النيران في شارعكم تلتهم الأشجار والحجارة.
أطارت، قال، منها
نحو بيتنا شرارة
قالوا له: رماداً صار بيتك
هذا المساء
صاح: غرفتي
وأجهش بالبكاء.
وقف كمال في كل حال لهذا الوسواس الذاتي بالمرصاد، يُبطلُ مفاعلاته بانغماسه المطرد في شغل الحرية الجماعي. فهو وإن بلغ فردانية يُشار إليها بالبنان، في مزاج وطابع كتابته التي يتعرَّف عليها القارئ بيسر كماركة مسجلة، وفي خصاله الشخصية، بل حتى في لباسه وهيئته، التزم على الدوام العمل الجماعي، في جماعة سبقته إلى الوجود أو أخرى بادر بخياله التنظيمي ودأبه المعلوم بإطلاقها من العدم. وشُغْلُ كمال بهذا المعنى واحدٌ وتاريخ التنظيمات الديمقراطية، تجده بارزاً في محاضرها وصاعداً على منابرها وسخياً كريماً في تأمين متطلباتها مالاً وعيناً ودياراً وترحيلاً. سكَنَتْ بعض هذه التنظيمات في واقع الأمر مكتبه وداره، وشُغِلَتْ باستقبالاتها ومآدبها أسرته الكريمة. ووقف كمال الجزولي المحامي في المحاكم ينافح عن شخصياتها الاعتبارية والأفراد من عضويتها، حتى صار هذا أمراً من طبائع الأشياء، وأخذ البعض حتى يستنكف تأخر الأستاذ عنهم في سوح القضاء ولو لعلة مرضية. لهذه الأسباب كان كمال بصورة وأخرى تربويّاً صاحب سنن حسنة تطابقت فعلاً وقولاً.
ماذا ترك إذن هذا المثقف العام من إرث؟
أعظم كسب كمال ربما هو خدمته الطويلة المبدعة للغة العربية كحامل للفكر. واللغة حوض التفكير ومورده، ولا يقوم سوى من داخلها. أحسن كمال الاحتطاب في قواميس العربية والظعن في مصادر الثقافة العربية الإسلامية، سواء كان ذلك من حواضرها التقليدية أو في تخومها السودانية، لينطق بقضايا العصر في سلاسة وقبول. وجعل ذلك ديدنه في مواجهة تيارات حبس العربية في الفكر الديني وصيغ الإسلام السياسي. وكان لهذا الاحتطاب عظيم الأثر في تحرير العربية للكُتّاب من معاصريه واللاحقين لتقول: "حاء حقوق ديمقراطية وعين عدالة اجتماعية وصاد صراع ودال ديالكتيك من واقعنا ما من أكتر". ووطَّنَ بذلك هذه وسواها من المفاهيم، الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية والتعددية، في حوض لغوي وثقافي تنهل منه قارئة الصحيفة اليومية، فلم تعد بذلك طنين غريب بحرف عربي من جنس "التقاطعية" وهلم جرّاً.
خدم كمال بذلك الثقافة التحرّرية أكثر من خدمته السياسة في معنى التدافع على طلب السلطان، صدقة جارية بلغ بها عقولاً وأفئدةً كانت بغير خدمته مغلقة على "ما يُستفاد من الحديث". وأشاع تعريفاً بالكِتَابِ وذوقاً له بإصراره على إثبات مصادره في المقال الصحفي، فهو يُغرِي القارئة التي تطلب المزيد: علينا جاي. لذلك لا يقتصر أثر كمال على دوائر المشايعين بصورة أو أخرى، الديمقراطيين بعبارة الحزب الشيوعي، بل رفع للثقافة الديمقراطية بعبارة برنامج الحزب الشيوعي راياتٍ في قلاع للرجعية بعبارة عصر آخر: جَذِبْ جَد! وبعضُ شاهدِ هذه الراياتِ ظلُّ كمال الطويلُ في أدب حزب الأمة، كان ذلك في كثير من أدب المرحوم الإمام الصادق المهدي المتأخر أو في أدب كريماته الصحفيات والسياسيات.
وعلى ذكر الديمقراطية، جَمَّر كمال "الديموقراطية" كما كان يكتبها، الديمقراطية البرلمانية، للشيوعيين بعزيمة نقدية غير اعتذارية، وقد تهاوى صرح الاتحاد السوفييتي وأسنت سمعة الديمقراطيات الشعبية بما كسبت. بلغ كمال بهذا النقد في «الشيوعيون السودانيون والديموقراطية» (دار عزة للنشر، الخرطوم، ٢٠٠٣) محطات لم تكن لتتأتى للمرحوم محمد إبراهيم نقد ورفاقه في "وثيقة الديمقراطية مفتاح الحل للأزمة السياسية – جبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن" (دورة اللجنة المركزية أغسطس ١٩٧٧). ساهم كمال بذلك مع غيره في تهيئة الشيوعيين لعالم "نهاية التاريخ" المزعوم، ولم يعد للحزب الشيوعي ولقضاياه تكأة في الذي تحقق أو لم يتحقق على يد الرفاق السوفييت. وكرّس جهداً عظيماً لفضِّ الوحدة الميكانيكية بين الديمقراطية البرلمانية وعقيدة الخصخصة و"السوق أم فَكّو"، فسحةً في الفكر والخيال، بل وأملاً، لمن أراد تغيير العالم وهز ثوابت نهاية التاريخ بنصل جماهيري.
كرَّس المرحوم كمال الجزولي بذات العزيمة النقدية جهداً عظيماً لتحرير الحقوق الديمقراطية في داخل سياق الثقافة العربية الإسلامية، واستعد لذلك بفقه واسع في «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين» (دار مدارك، القاهرة، ٢٠١٠). كان سبيل كمال إلى ذلك جوّاني لا برّاني. لم يقف بطوبه يفلق الثقافة العربية الإسلامية "صَمْ لَمْ" من خارج أسوارها، وإنما جاء على منهج المرحوم عبد الخالق محجوب في «آراء وأفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين» و«كيف ولد شعار الدستور الإسلامي»، يحرث بمعاول جديدة في تربة هذه الثقافة، يكشف عورة الدولة الدينية في التجربة الماثلة، ويزكي من مواردها وتاريخها ما يزهر حقوقاً ديمقراطية وعناصر للمواطنة كأسنان المشط، وهو ذات المسعى الذي وجد ترجمة أخرى في «الآخر» (داري علوم وتراث، القاهرة، ٢٠٠٩). صان كمال بذلك الثقافة العربية الإسلامية في السودان على هدى، واشمأز أن ينطلق فيها الريح الفاشي دون مقاومة.
هذا بعض من كسب المرحوم كمال الجزولي وإرثه؛ وقف على هذه القضايا بالخدمة مُتحزّماً ومتلزّماً، خدمة دخل بها حبس المعتقلات مرة بعد الأخرى في عنفوان الصبا وفي مغيب العمر كذلك. لم ينقطع خطره في نظر أصحاب السلطان حتى وهو قد تجاوز السبعين وفي القلب قسطرة. ها هو أغفى إغفاءته الأخيرة بعد أن أكمل دورة حياته كما أحب واختار، مثقفاً مناضلاً، وقد انهدَّ مسرح نضاله بالبربرية الجاهزية. أخذ كمال الكتاب بقوة، قوة مناضل من جنس الذين قال عنهم برتولت برشت إنهم لا غنى عنهم:
لا يناضل الضعفاء
يناضل الأقوى ساعة ربما
ويناضل الأكثر قوة منهم لسنين عدداً
أما الأقوى فيناضلون العمر كله
هؤلاء لا غنى عنهم ولا عوض.
No comments:
Post a Comment