نُشرت هذه الكلمة في مجلة «أتر» ، العدد ٨ بتاريخ ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٣.
مقدمة
نشر الدكتور عبدي اسماعيل سمتار هذه الكلمة المُشفقة في ١٦ مايو الماضي في جريدة «ديلي مافرك»، جريدة أسبوعية تصدر في جنوب افريقيا. والدكتور نائب في البرلمان الصومالي الفدرالي، وأستاذ فوق العادة في قسم العلوم السياسية في جامعة بريتوريا (جنوب افريقيا) وأستاذ الجغرافية في جامعة منيسوتا (الولايات المتحدة الأميركية).
سمتار يعرف بالضبط ما يتحدث عنه، "حافظ لوحه تمام". فهو عالم مدقق صدر له في العام ١٩٨٩، قبل اندلاع الحرب الأهلية الصومالية في ١٩٩١، كتاب عمدة في الدراسات الصومالية بعنوان «الدولة والتحول في الريف في شمال الصومال ١٨٨٤-١٩٨٦»، عرفه صاحبه بأنه دراسة في منشأ التكوين الاجتماعي الصومالي كهامش رأسمالي. نظر سمتار في دراسته بصورة باطنية في كيفيات ارتباط ريف الصومال بالسوق العالمي والتحول من الرعي للكفاية المعيشية في المجتمع الصومالي ما قبل الاستعمار إلى الرعي النقدي التجاري في الصومال المستعمرة وما بعد الاستعمار. واتخذ سمتار هذا التحول النوعي في الرعي بابا للتعرف كذلك على التحولات في التكوينات الاجتماعية، فالقبيلة وقد ولغت السوق العالمي لم تعد القبيلة القديمة ولا الدولة هي التي كانت، بل عبرتا إلى فضاء جديد جرسه رنين المال.
من ضمن ما أراد سمتار في كتابه أن يحرر دراسة الصومال من "سواقة الخلا" التي تعد شقاء أهله كارثة طبيعية أصابت دواب بشرية ويدخل بهم رحاب التاريخ. كتب في مقدمة كتابه أن محاولات تفسير المشكلة الصومالية ظلت مقصورة على الطبيعيات أو ما شابهها في شأن البشر، يرد أصحاب الأقلام فاقة أهل الصومال إلى جفاف المناخ وقلة الأمطار وفقر الموارد ثم فساد القطاع العام، وحجة سمتار الطويلة في كتابه أن عوامل الطبيعة والفساد كوابح ثانوية أمام التنمية لكن لا تشكل هذه العوامل الكابحة بأي حال مضمونها، الله أكبر. وغرض كتاب سمتار بحسب صاحبه تجديد النظر في هذا المضمون، في أصول عجز التنمية في الصومال وفك العزلة عن الدراسات الصومالية بطلاقها من نظريات التحديث التقليدية وبعث عزائم الاقتصاد السياسي فيها بدراسة مصاب الصومال ضمن أزمة التنمية الرأسمالية في الهامش الكوني.
عليه تصدى سمتار لثلاث قضايا، قال عنها أمهات القضايا: (١) طبيعة المجتمع ما قبل الاستعمار، وتنظيم الإنتاج والتوزيع فيه عشية الاستعمار؛ (٢) أسس الدولة الاستعمارية ودولة ما بعد الاستعمار بما في ذلك نمو الاقتصاد الاستعماري، صيغ تدخل الدولة في الاقتصاد الريفي وتبعات هذه التدخلات؛ (٣) وبمعرفة تكوين الاقتصاد الاستعماري في الصومال أوان الاستقلال التعرف على الطبعات الاجتماعية التي ورثت الدولة (١٩٦٠-١٩٨٥) وتبعات استراتيجتها التنموية على الرعاة والفلاحين الذين يشكلون الغالبية العظمى من أهل الصومال.
تفجر التكوين الاجتماعي الذي كتب عنه سمتار بالحرب الأهلية التي اشتعلت في ١٩٩١، لكن تعود إرهاصاتها إلى بواكير الثمانينيات ضمن الصراع بين نظام سياد بري والقوى المعادية له، صراع تحول بآخر الثمانينيات إلى ميادين القتال، حيث اشتبكت القوات المسلحة الصومالية تحت إمرة سياد بري منذ العام ١٩٨٨ مع عدة مجموعات مسلحة مناطقية التكوين، الحركة الوطنية الصومالية في الشمال والشمال الشرقي، الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال في الشمال الشرقي والمؤتمر الصومالي الموحد في الجنوب.
أطاح جنود المؤتمر الصومالي الموحد آخر الأمر بنظام سياد بري بعد معارك عزلوا فيها مقديشو عن محيطها ثم سيطروا على المدينة وتفرق الجيش الصومالي بين الفصائل. لكن انقدحت منافسة شرسة بين قادة المؤتمر الصومالي أنفسهم، بالدرجة الأولى بين محمد فرح عيديد وعلي مهدي محمد، على غنيمة العاصمة، فدمروها دون أن يفوز أحدهم بها. هذا بينما رفضت الفصائل المسلحة الأخرى التعاون مع المؤتمر وتسارع تناسلها، تخرج هذه من تلك، الحركة الوطنية الصومالية والتجمع الديمقراطي الصومالي، ثم جيش رحانوين للمقاومة في الجنوب وجبهة صوماليا الموحدة والجبهة الديمقراطية الصومالية والحزب الصومالي الموحد إلى جانب الحركة الوطنية الصومالية في الشمال الذي أعلن الاستقلال.
يعرف الصوماليون الفترة ديسمبر ١٩٩١ – مارس ١٩٩٢ باصطلاح "بُرْبُرْ" أو المصيبة، إذ قضى خلال أربعة أشهر من القتال في مقديشو ٢٥ ألف شخص، ونهبت الفصائل المسلحة المنقسمة على نفسها جهاز الدولة والمدينة الأولى في البلاد. هرب المليون ونصف صومالي إلى خارج البلاد خلال هذه الفترة القصيرة ودفعت المعارك ٢ مليون آخرين إلى معسكرات النزوح. ساهمت في هذا الانفجار عوامل بعضها فوق إرادة الصوماليين، منها تركة الاستعمار الذي قسم الشعب الصومالي إلى خمس دويلات، وتركة مُعامل الحرب الباردة الذي يسر بقاء دولة "نهب مصلح" ثم الآثار التراكمية للحروب مع دول الجوار، بالدرجة الأولى حرب الأوغادين (١٩٧٧-١٩٧٨) ضد اثيوبيا، وفي داخل الصومال التناقض ما بين جهاز الدولة المركزي والأطراف.
عاد سمتار بما كسب من معارف بعد اندلاع الحرب الأهلية في الصومال ليرد عن أهله المقولات الفاسدة عن شر ساكن وجوهري فيهم بعلم مبروك مثل ورقته «تدمير الدولة والمجتمع في الصومال: ما هو أشفى من الاصطلاح القبلي» (مجلة الدراسات الإفريقية الحديثة، دار جامعة كمبردج للنشر، مجلد ٣٠، العدد الرابع، ديسمبر ١٩٩٢)، جاء في فلسفتها أن "إدراك وضع ما لا يتساوى ومعايشته، فعناصر تجربة بعينها هي بالأحرى إشارات إلى أن عوامل أخرى أخفى تفعل فعلها". عاب فيها سمتار على معارضي نظام سياد برى رفضهم النظر أبعد من الجنرال وبطانته وبذلك غاب عنهم العدو وقعدوا في واقع الأمر فراجة وبلادهم تفلت من بين أيديهم. حكموا برفضهم الخوض في أي تحليل جاد قاس وعداءهم للعلم النقدي على الشعب الذي أرادوا تحريره بالهلاك، فمن يا ترى القاضي؟
///
ترجمة كلمة الدكتور عبدي اسماعيل سمتار في العربية.
الحرب العبثية في السودان نسخة من الجنون الذي لا طائل منه الذي طرد ثلاثة أجيال من الصومال – وليس من نهاية في الأفق. خارطة طريق المستقبل في السودان إذا ما استمر هذا الخبال هو ما حاق بالصومال.
الصومال أكثر دول افريقيا تجانسا من حيث الثقافة والاجتماع. ما يقارب ١٠٠٪ من السكان مسلمون ويتكلمون ذات اللغة. وهذا التجانس الثقافي ربما هو الذي ألهم النضال ضد الحكم الاستعماري ومثل زخما لأكثر الجمهوريات ديمقراطية في ستينيات القرن الماضي.
كانت قناعة الآباء المؤسسين للصومال أن سكان البلاد سيطورون مع الزمن هوية سياسية مدنية متماسكة تعمق ما وفرته لهم القاعدة الثقافية الباهرة. كان لفئات انتهازية من الطبقة السياسية أجندات مغايرة ووجدوا في دولة ما بعض الاستعمار وسيلة للاستغلال الطائفي لموارد البلاد الشحيحة.
أطاح العسكريون بالنظام الديمقراطي العزيز في العام ١٩٦٩. استمرت الديكتاتورية العسكرية القاسية لواحد وعشرين عام ثم بعثت الفصائل الطائفية المتعددة حربا أهلية فظيعة قتلت مئات الآلاف من الناس، وشردت الملايين غيرهم ما خلق بيئة كقطعة من جهنم للشباب وجرف ما تبقى من الهوية القومية المدنية المشتركة.
مرت ٣٢ عام منذ انهيار الحكومة القومية في الصومال. سادت الساحة السياسية منذئذ أقاليم ذات قاعدة عشائرية وتفرقت مجتمعات الصومال إلى طوائف سياسية حصرية العضوية.
الحكومة الصومالية الفدرالية اسما لا أمل فيها لفسادها وعدم كفاءتها. أساس التعيينات الوزارية صلة الرحم، وأساس التعيين والترقية في الخدمة المدنية وقوى الأمن الهوية الإثنية لا المؤهلات ولا الجدارة ولا الشخصية.
تعد منظمة الشفافية الدولية الصومال بين أكثر البلدان فسادا في العالم لعقد مضى، وربما جاز للمرء أن يضيف أن النظام السياسي في الصومال بين أكثر النظم طائفية في الأرض.
قطعة من الجحيم
نجمت عن هذه الفوضى السياسية الأزمة الإنسانية والاجتماعية المفزعة والمستمرة في الصومال لثلاثة عقود. يرزح السكان تحت أوضاع معيشية مريعة. تحول أكثر من ثلاثة ملايين صومالي إلى نازحين يعيشون في معسكرات فظيعة. هوى متوسط الأعمار أول الحرب الأهلية إلى ما بين الثلاثين والأربعين ثم تصاعد رويدا، لكنه يبقى بين الأدنى في العالم. ضاع التماسك الاجتماعي وذبلت الثقة بين الناس.
دفعت النساء بالذات الثمن الأعظم لفوضى الإثنين وثلاثين عام الماضية. وقع عليهن عبء إبقاء الأسرة على قيد الحياة اقتصاديا بالإضافة إلى دورهن التقليدي في خدمة البيوت وما يتعلق بذلك من مسؤوليات.
ثانيا، تزايدت الجرائم ضد النساء بصورة درامية لا سابقة لها في تاريخ الشعب الصومالي. وثالثا، طاحت المكاسب التعليمية التي حققنها البنات الصوماليات خلال العقدين السابقين للحرب الأهلية. كذلك تقلصت المنجزات التعليمية للأولاد بحدة ولكن بدرجة أقل من البنات.
مستقبل الشباب، غض النظر عن فوارق الذكور والإناث، هو الذي تبضع وقد أصبح انعدام الأمن حياتيا واجتماعيا أمرا مزمنا. خلقت عوامل التعليم الضعيف والمحدود، الفساد السياسي والقبلية السياسية ومعدلات البطالة والجريمة والإرهاب المفرطة ظروفا مروعة تثمر القنوط.
لمحات من اليأس والأمل
خلقت البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية الفوضوية ظروفا معيشيا لا يمكن احتمالها لمعظم الصوماليين. دمرت هذه الظروف الفظيعة حيوات وأرزاق كما تشهد وتبين اللمحات التالية من حياة بعض سكان العاصمة مقديشو، مشاهد تفطر القلوب.
البقاء في العشوائيات المعدمة
تعيش هذه الأسرة المكونة من سبعة أشخاص في أحد عشوائيات مقديشو. الوالد في عمر السبعين والوالدة تصغره بعشرين عام. للإثنين خمسة أطفال، لم ينل أي منهم أي قسط من التعليم فالحكومة الصومالية ليس بوسعها توفير تعليم بدائي مجاني أو أي نوع من العون العام للسكان في العاصمة.
كان الأب جاما عاملا طوال حياته، ودخله بالكاد يقيم أود الأسرة. أخذ الأب يتعاطى الحشيش ثم الكحول القاتل محلي التصنيع وقد أرهقته سنين من العمل المضني. زاد هذا من العسر الواقع على الأسرة وبالنتيجة انضم الابن إلى أبيه في تعاطي المخدرات. هدم إدمان الرجلين ما بتقى من مبنى الأسرة، والأم مرعوبة كل الرعب من المصير الذي ينتظر أفراد أسرتها متى ماتت.
لا يستطيع حتى الشطار الهرب
نشأ عبده في أسرة ميسورة الحال نسبيا في مقديشو ودرس الطب في أحد جامعاتها. تدرب في المستشفيات المحلية وسرعات ما صعد السلم الوظيفي. تزوج الطبيب واستطاع مجابهة أعباء أسرته الصغيرة. أتخذ الطبيب الشاب، في غياب مجال معافى للنشاط الاجتماعي والترفيه في المدينة التي مزقتها الحرب، يخالط جماعات على الساحل حيث الحشيش والمخدرات والكحول مع زملاء له من الناجحين مهنيا. تضررت حياته الأسرية والعملية في المحصلة وفشل في مزاولة عمله وفي رعاية نفسه. لجأ والداه بابنهما إلى مركز لعلاج الإدمان، لكن تأخر هذا المجهود ولم يعد يجدي نفعا لأسرته كسيرة القلب.
المغتربون العائدون يفسدون صبية بريئة
تبلغ عائشة من العمر ٢٥ عام ولها عدة أخوان وأخوات. والدتها سيدة أعمال ووالدها مدرس. تعلمت عائشة في المدارس المحلية لكن لزمت الدار. التقت هذه المرأة شابة في عمرها عادت للتو من الإمارات العربية المتحدة، بدت لها ودودة وراقية وظريفة. دعت الصديقة الجديدة عائشة إلى "مرقات"، أولا في المقاهي ولاحقا في أندية حي ليدو حيث تنتشر المخدرات. صارت عائشة ورفيقاتها الجديدات زبونات معتمدات في المنطقة طارت المخدرات بألبابهن. لم يعرف والدي عائشة بما لحق بالبنت حتى مرضت وسارعا بها إلى المستشفى. أجرى الأطباء فحوصات الدم التي أظهرت لاحقا إصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسب (HIV). أهدرت بذلك حياة شابة واعدة في غابة المخدرات في مقديشو وهباءً صار عناء الوالدين الطويل.
الهروب الكبير
هربت أسرة محمد من مقديشو إلى مقديشو بعد ولادته مباشرة، ذلك خلال المجاعة التي كان مركزها مدينة بيدوا في العام ١٩٩٢. وقعت الكارثة عندما أصيب والد الأسرة برصاصة طائشة ولم بعد منذئذ قادرا على مزاولة عمل اليومية الذي كان يمتهنه. انتقلت مسؤوليات الوالد إلى محمد في عمر الثامنة، شغله "التلاقيط".
أصابت الأسرة حظا عندا مد موظف في منظمة غير حكومية صغيرة والدة محمد بقرض صغير لتنشئ عملا تجاريا وترسل الولد إلى المدرسة. يسر هذا القرض حياة محمد وأسرته ومكنه من إكمال المدرسة الثانوية ثم درجة جامعية في الإدارة العامة. فوق ذلك، تدرب محمد في المنظمة ثم التحق بها موظفا بدوام كامل. تزوج محمد وله عدة أطفال وأمله أن يكمل درجة عليا في مجاله.
مستقبل مظلم
تستمر معاناة غالب الشعب الصومالي غير المحدودة بعد ٣٢ عام من بداية الحرب الأهلية في البلاد وانهيار الدولة. بذلت بعض المنظمات غير الحكومية والإنسانية جهودا يحتذى بها للحفاظ على الحياة في البلاد، لكن تظل هذه الجهود غير كافية في مقابل حجم المشكلة. لم يقلص إعادة تكوين حكومة مركزية وحكومات محلية من مدى معاناة الناس، فالحكومة في المستويين قعد بها الفساد والقبلية وعدم الكفاءة. يستحق عمل بعض المنظمات كل إعجاب وقد غير من مصير أسر صومالية كثيرة. لكن، لا تستطيع المنظمات تحمل أعباء الحكومات المركزية والمحلية مثل توفير التعليم والدفع بالتنمية الاقتصادية وكبح المخدرات والإدمان.
سيستمر الإفقار والعنت الجماعي لا محالة حتى تستطيع الصومال ترتيب شؤونها السياسية. يواجه السودان ذات المصير ما لم تتراجع الفصائل المختلفة على وجه السرعة من حافة الهاوية الإنسانية.
No comments:
Post a Comment